يا لهول العنف الواقع على كاهل المرأة في بلاد تشهد أكبر كارثة إنسانية، حيث أصبحت أجسادهن مسرحاً لمعارك بطولاتها المتوهمة وخساراتها المبينة! تُستهدف النساء والفتيات كأدوات ضغط ميداني وإعلامي، بينما تحتفل الأمم المتحدة بحملة "16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة" تحت شعار "لا عذر" في الوقت ذاته، يجتهد المتقاتلون في السودان لاختلاق الأعذار لاستمرار الحرب تحت دعاوى "الكرامة"، التي يبدو أنها تخص الجنرالات وطلاب السلطة وحدهم، إذ لا كرامة للمرأة فيها.
لم تجد النساء خياراً سوى الفرار من مناطق سيطرة وحواضن مليشيات الدعم السريع، التي ولغت في الانتهاكات الإنسانية، من اغتصاب وعنف وتشريد ونهب وتهجير. كيف لا؟ وهناك تاريخ طويل لاستخدام سلاح الاغتصاب لحسم المعارك وإذلال الرجال عبر إذلال نسائهم. كانت نساء دارفور أول ضحايا هذه الظاهرة، وما كانت نساء المركز بمأمن من هذا العنف. فقد شاطر الجنرالات - أشقاء الأمس وخصوم اليوم - أدوات القمع ذاتها، ملاحقين النساء بسبب مطالبتهن بالحقوق، ورفع التمييز، والدفاع عن المهمشات والمستضعفات، مثل بائعات الشاي والنازحات من مناطق النزاعات.
أثناء الحرب، تصاعد مدّ عسكرة الدولة وويلات العنف الجنسي، ما دفع الأمهات للتضحية بأنفسهن لحماية بناتهن من الاغتصاب، واختيار الموت على وصمة العار المجتمعي التي لا ترحم الناجيات. فررن بحثاً عن الأمان لهن ولأطفالهن، مشياً على الأقدام لأيام، محفوفات بالرعب والمجهول وخطر الاختطاف. تشتتت الأسر وانقطعت السبل، كأنهن في يوم الحشر: (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه) سورة عبس: 34-36
ما إن يحططن الرحال في مكان اعتقاداً منهن بأنه آمن، حتى تطاردهن المليشيات بلا رحمة من قرية إلى أخرى، فلا يجدن بدًّا من مواصلة الهروب. وبينما يُقدر لبعضهن اللجوء خارج البلاد، فإنهن يواجهن هناك شقاءً آخر، بلا دعم مادي أو معنوي، ما اضطر الكثيرات منهن إلى التسول في شوارع عواصم الغربة، بعدما دفعتهن حرب "الكرامة"، وهن الكريمات، إلى هذه المهانة.
أما المواطنات اللواتي لجأن إلى مناطق الجيش بحثاً عن الأمان، فقد واجهن قدراً لا يقل قسوة. استُقبلن بالشكوك والاتهامات من مليشيات الجيش والفلول وأجهزة الاستخبارات، التي مارست عليهن قانون "الوجوه الغريبة" والانتماء القبلي، موجهة إليهن تهماً واهية بالخيانة الوطنية لمجرد صور أو تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تخص معارك الدعم السريع أو قياداته. وُضعن في السجون ليواجهن أحكاماً بالإعدام، بينما يُطلق سراح قادة الدعم السريع ويُستقبلون كفاتحين في مؤسسات الجيش. استبدلت هؤلاء النساء رعب القصف الجوي بأزيز الطائرات المسيرة، مجهولة المصدر.
حتى المدافعات عن حقوق الإنسان والقانونيات لم يسلمْنَ من الاختطاف والضرب والتهديد في مناطق سيطرة الجيش، بسبب دفاعهن عن المظلومين المسجونين بتهم واهية كالخيانة الوطنية فقط لانتمائهم العرقي. وفي محاكم بورتسودان، تنحاز السلطة القضائية الفاسدة إلى منطق القوة، مغلقة أعينها عن إقامة العدالة.
أعباء الحرب على النساء
أولئك الذين يروجون لاستمرار الحرب، ويستخدمون النساء كأدوات إرهاب، لا يكترثون لمعاناتهن. هؤلاء النساء يتحملن بشجاعة كلفة الحياة الباهظة، ويحافظن على أبنائهن، حتى وهن يقفن لساعات في صفوف "التكية" ومطابخ الدعم للحصول على وجبة قد تنقطع قبل أن يصل دورهن. في معسكرات اللاجئين، لا يجدن إلا انتهاكات إضافية لإنسانيتهن، في ظروف تفتقر لأدنى مقومات العيش الكريم. يواجهن الجوع، والأوبئة مثل الكوليرا وحمى الضنك، في غياب الرعاية الصحية والنفسية التي لا تتوفر إلا في ظل سلام يعيد لهن جزءاً من كرامتهن ويتيح التعافي من تلك الانتهاكات المريرة.
النساء عماد التغيير
رغم هذه المآسي، فإن النساء السودانيات يمتلكن تاريخاً مشرفاً من النضال النسوي، مقارنة بنظيراتهن في دول الإقليم. لديهن رصيد ضخم من التجارب في العمل المدني والتوعوي، ما يؤهلهن لقيادة مسيرة التغيير وانتزاع الحقوق، مستندات إلى ثقافاتهن وأديانهن وعاداتهن. لهن دور مشهود في فض النزاعات وتحقيق السلم والتعايش المجتمعي، إذ أنهن، في جوهرهن، داعيات للحياة ومبدعات في صنع واقع جديد، مهما كان المحيط قاسياً.
بالرغم من كل المعوقات، تعرف السودانيات جيداً كيفية تحقيق أهدافهن. لن تعجزهن الحروب عن الوقوف مجدداً كـ"كنداكات" لهزيمة القبح والمساهمة في إعادة إعمار هذا الوطن، إذا حافظ أبناؤه على وحدته وأعلوا قيمة السلام!
tina.terwis@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن
اليوم أعلن ترمب الحرب الأقتصادية علي جميع دول العالم وفرض جمارك باهظة علي صادراتها للولايات المتحدة، وهي أكبر سوق في العالم. هذه الجمارك تهز الأقتصاد العالمي، وتربك سلاسل الإمداد وتضرب أسواق أمال العالمية. واهم من ذلك إنها تهدد بتدمير معمار النظام الإقتصادي العالمي الذى ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكل هذا ستترتب عليه تحولات جيوسياسية جديدة وتسريع لديناميات أخري ولدت قبل إعلان ترمب الحرب الأقتصادية علي الجميع.
ولكن سياسات ترمب أيضا سيكون لها أثار سلبية باهظة علي الإقتصاد الأمريكي مثل إرتفاع معدلات التضخم، وازدياد العزلة الدولية لأمريكا وتراجع أهمية الدولار حول العالم.
فيما يختص بالسودان، قرارات ترمب لا تاثير لها لانه فرض جمارك علي صادرات السودان جمارك بنسبة ١٠% ولن تؤثر هذه النسبة لا في حجم الصادرات ولا علي أسعارها لان تلك الصادرات أصلا قليلة القيمة في حدود ١٣،٤ مليون دولار في العام السابق، أكثر من ٩٠% منها صمغ لا بديل له والباقي حرابيش حبوب زيتية . كما أن السلع المصدرة لا توجد بدائل لها بسعر أرخص إذ أنها أصلا رخيصة ولا تتمتع بمرونة في السعر ولا الطلب.
كما أن إهتزاز أسواق المال والبورصات وقنوات التمويل الدولي لا تاثير لهم علي السودان لانه أصلا خارج هذه الأسواق وخارج سوق المعونات.
ولكن هذه ليست نهاية القصة لان توجهات ترمب الأقتصادية والسياسية تدفن النظام العالمي القديم وتسرع من وتائر تحولات جديدة في غاية الأهمية. وبلا شك فان موت النظام القديم وميلاد نظام جديد وفوضى الإنتقال سيكون لها تاثير سياسي وإقتصادي علي السودان بسبب تبدل البيئة الدولية التي يعمل فيها السودان السياسي والاقتصادي. ولكن هذه التحولات المضرة لن يتأذى منها السودان مباشرة بل ربما يستفيد منها لو أحسن قادته.
علي سبيل المثال النظام الجديد سيكون متعدد الأقطاب وستنتهي فيه الهيمنة الغربية الأحادية وستزداد مجموعة البريكس أهمية وستزداد أهمية تكتلات أقتصادية أخري أخري في الجنوب العالمي مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وفي أمريكا اللاتينية السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور)، وفي المستقبل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية . وجود كل هذه البدائل كشركاء أقتصاديين/تجاريين/سياسيين محتملين يتيح للسودان هامش للمناورة وإمكانية الحصول علي شروط أفضل في تعاطيه الأقتصادي والسياسي مع العالم الخارجي.
ولكن الإستفادة من هذه التحولات يحتاج لرجال ونساء يجيدون صنعة الدولة ولا يقعون في فخاخ ألحس كوعك علي سنة البشير ولا الانبطاح غير المشروط كما حدث في الفترة الإنتقالية التي أعقبت سقوط نظام البشير.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب