محمد رحيم.. رحيل درامى لـ«مبدع الألفية» الذى عانى التهميش
تاريخ النشر: 1st, December 2024 GMT
مشوار فنى عظيم، نجاحات متتالية، شخصية هادئة ورحيل مفاجئ وصادم، هو ملخص حياة الملحن والمطرب محمد رحيم، الذى فجع الوسط الفنى برحيله الدرامى دون أى مقدمات، الحزن والصدمة كانا العنوان للأيام القليلة الماضية بعد وفاة «رحيم».
رحيم بدأ مشواره الفنى «كبيرا» فى النجاح، ففى نهاية التسعينيات وتحديدا فى صيف عام ١٩٩٨، أطلق أول أغنية من ألحانه لعمرو دياب وهى أغنية «وغلاوتك» والتى بالصدفة تصدرت «التريند» بعد ٢٦ عامًا من إطلاقها وقبل أيام قليلة من وفاته، وكان لأغنية «غلاوتك» قصة، حيث إنه تعرف هو وصديقه محمد رفاعى على الفنان حميد الشاعرى فى كلية التربية الموسيقية حيث كان يدرس، وذهب «رحيم» مع «الشاعرى» للاستوديو وكان عمرو دياب هناك واختار «وغلاوتك» ضمن أعمال اسمعها «رحيم» للشاعرى وقتها، وكان يبلغ من العمر ١٨ فقط، ومن بعدها فى بداية الألفينيات فى ٢٠٠٠ و٢٠٠١ قدم «رحيم» عددًا كبيرًا من الأغنيات الناجحة، وكانت بداية نجاحاته مع النجوم العرب، حيث لحن «الليالى»، و«نجوم السما» لنوال الزغبى، واخبارك إيه» لمايا نصرى، «يانى من غرامه» باسكال مشعلانى، وغيرها من الأغنيات التى كانت دليلًا على تعاون ونجاح «رحيم» مع نجوم العرب وليس المصريين فقط.
وفى عام ٢٠٠٢ كانت النقلة فى مشوار «رحيم» التلحينى بعد أغنية «أجمل إحساس» للمطربة اللبنانية اليسا، ومنذ هذا الوقت وحتى وفاته كان من أكثر الملحنين نجاحا فى الوسط الغنائى إن لم يكن أنجحهم على الإطلاق، خاصة أنه لم يشتهر بلون واحد فقط فى التلحين كعدد كبير من أبناء جيله من الملحنين، بل كان يقدم جميع الألوان الغنائية سواء طربًا شرقيًا، رومانسيًا، حزينًا، مقسومًا، شعبيًا، دينيًا وغيرها من أنواع الألحان، بل نجح أيضا فى تقديم الأغنيات «التجارية» بشكل جديد، وأبرز هذه الأغنيات كانت «ليه بيدارى كده» لروبى، و«إلعب» لبنانية ماريا وكانت سببًا فى نجاح وشهرة كل منهما، وفى اللون الشعبى قدم «رحيم» أنجح أغنيات «حكيم» وأشهرهم «إيه ده بقى»، «أه من حلاوته» و«تيجو تيجو».
«رحيم» اتجه للغناء ونجح فيه بشكل كبير وقدم عددًا من الأغنيات كمطرب وأبرزها «عارفة»، «ارجع يلا»، «حبيبة حبيبك»، «وأنا مالى»، «أجمل ما شافت عين»، والأغنية الدينية «يا ليتنى براقا»، محمد رحيم هو المحلن الوحيد وسط أبناء جيله الذى كان سببًا فى انطلاقة وشهرة عدد كبير من نجوم العرب بأغنياته التى قدمها لهم كملحن، وعلى الرغم من كل هذه النجاحات التى استمرت لأكثر من ربع قرن، الا أن محمد رحيم فجأة فى أوائل عام ٢٠٢٤ وتحديدا فى شهر فبراير الماضى، أعلن اعتزاله بهذه الكلمات: «تعليق كل نشاطاتى الفنية لأجل غير مسمى حتى إشعار آخر مع احتمالية اعتزال المهنة والسفر خارج البلاد» وهو ما شكل صدمة لجمهوره وزملائه، وكان ذلك القرار بسبب إحساس «رحيم» بعدم التقدير نظرا لعدم دعوته لحضور حفل «ليالى سعودية مصرية» الذى أقيم فى دار الأوبرا المصرية، وأعلن استنكاره بعد دعوة عدد كبير جدا من صناع الموسيقى، كما أن عددًا كبيرًا من الأغنيات التى تم غناؤها على المسرح من ألحانه، وهو ما سبب له حالة نفسية سيئة.
ولكن سرعان ما تراجع «رحيم» عن قراره بالاعتزال، فبعد أسبوعين، قرر الرجوع مرة أخرى بسبب مطالبات ورسائل الجمهور له، والتى وصفها «رحيم» باكيا فى إحدى الندوات بأنها السبب فى رجوعه عن هذا القرار، وتأثر «رحيم» كثيرا بسبب كلام جمهوره والذى كان أبرزه أن صوته وأغنياته بمثابة العلاج النفسى لهم.
«رحيم» على المستوى الشخصى كان شخصًا «متواضعًا» على الرغم من نجاحاته الكبيرة عكس غيره من صناع الموسيقى، لم يدخل فى صراعات أو مشكلات مع أحد من زملائه، ولم نشهده إلا طيب السيرة طوال سنوات عمله الفنى، حتى فى خلافه الوحيد لم يعرف إلا بعد رحيله، حيث أعلن المطرب «فارس»، أنهما تخاصما لمدة عشر سنوات، وطوال العشر سنوات أكد «فارس» أن «رحيم» لم يذكره بأى سوء على الرغم من خلافهما. وعلى الرغم من هدوء «رحيم» فى مشواره الفنى والشخصى، إلا أن رحيله لم يكن بهذا الهدوء، حيث إن وفاته فجأة عن عمر، ٤٥ عاما، أثارت حالة من الجدل والشكوك حول سبب الوفاة، بعد إعلان شقيقه طاهر رحيم، تأجيل الجنازة لحين إشعار آخر، لوجود خدوش فى جثته.
وأمرت النيابة بإجراء الكشف الطبى الظاهرى على الجثمان. ولكن الوفاة كانت طبيعية وبحسب تقرير الصحة فإن الوفاة مر عليها أكثر من ٢٤ ساعة وهو ما تسبب فى وجود انتفاخ فى البطن، بالإضافة للاشتباه فى وجود خدوش وجروح بمنطقة الساقين والقدمين، مما دفع النيابة لفتح تحقيق فى الوفاة وتأجيل تصريح الدفن، واستدعاء السائق وحارس العقار لأخذ أقوالهما بشكل رسمى.
وبعد التحقيقات أصدرت النيابة المصرية بيانا قالت فيه إن وفاة محمد رحيم «كانت طبيعية»، وأن الفحوصات الأولية التى أجراها مفتش الصحة، أكدت أن الإصابات التى ظهرت على الفم واليد والساق سطحية وظاهرية ولا تدل على وجود شبهة جنائية. وأثناء دفن جثمانه، كان هناك خلاف كبير بين زوجته «أنوسة كوتة» مدربة الأسود، وبين شقيق وعائلة «رحيم»، وأصابها حالة من الانهيار التام، وكانت تردد كلمة واحدة لشقيقه «أنت اللى موته»، مما آثار جدلا كبيرًا.
وعلى الرغم من كل هذه الاحداث، لا نستطيع إلا أن نقول إن «رحيم» حفر لنفسه اسمه فى التاريخ، وسيظل واحدًا من أعظم الملحنين الذين كانوا سببًا فى خروج جيل كامل من المطربين الجدد الذين أصبحوا من أهم نجوم الغناء حاليا.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: محمد رحيم الملحن محمد رحيم وفاة محمد رحيم رحيل مفاجئ مسيرة فنية ألحان محمد رحيم اغانى عمرو دياب اغنية وغلاوتك أغاني نوال الزغبي اغاني اليسا النجاح الفني اغاني حكيم موسيقى عربية صدمة وفاته إعتزال محمد رحيم مشاكل فنية قرار الاعتزال جمهور محمد رحيم الوفاة المفاجئة علاقات شخصية أنوسة كوتة خيانة الطب الشرعي ا من الأغنیات على الرغم من محمد رحیم
إقرأ أيضاً:
50 مليار دولار تُسرق من أجور العاملين في أمريكا سنويا (الحلقة الثالثة)
على ما يبدو، فإن الواقع الاقتصادى الأمريكى على الأرض قد صار أكثر سواداً مما نظن.
هذا هو الانطباع الذى يخرج به من يقرأ كتاباً أمريكياً جديداً «ضرب» الأسواق فى الشهر الماضى، محطّماً خيالات وردية بناها كثيرون حول الرفاهية الأمريكية.
هؤلاء الذين يرون أن الطريقة التى يُدار بها الاقتصاد الأمريكى هى النموذج أو المثال الأعلى الذى ينبغى أن يسير عليه كل اقتصاد يسعى للنجاح. حمل الكتاب عنوان: «ادفعوا للناس!»، وأعلن دفاعه المستميت عن قضايا مثل الأجور العادلة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وقبلهما زيادة الضرائب على الأثرياء وإصلاح السياسات الاقتصادية التى يتبنّاها صنّاع التشريعات الأمريكية فى الكونجرس، والتى تصب فى نهاية المطاف فى صالح الفئات الأكثر ثراءً فى الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يأتِ هذا الكلام، كما اعتدنا أن نرى، من أشخاص فشلوا فى الاستفادة من النموذج الاقتصادى الأمريكى.. من مجموعة مهمّشة وغاضبة تشعر بأن «قطار» الرفاهية قد فاتها وصارت عاجزة حتى عن التمرّغ فى ترابه! تلك الأصوات التى تعلو عادة للهجوم على الأثرياء ثم تصمت بمجرد أن تُباع كتبها وتحقّق أرباحاً كافية لانضمامها إلى هؤلاء الأثرياء! لقد جاء الكتاب من قمة الرفاهية الأمريكية، بأقلام المليونيرات والمليارديرات الذين وُلدوا فى قلب الرأسمالية الأمريكية، وصعدوا بجهودهم ومهاراتهم المالية حتى وصلوا إلى رأسها. ثم عرفوا، بالتجربة المباشرة، كيف يُدار هذا الرأس.. وكيف يدور. وما الذى يساعده على التوازن.. وما الذى يؤدى به إلى الجنون والخلل؟
كلماتهم مسموعة لأنها كلمات «شهود» يرون الواقع بأعينهم ويحتكون به فى تعاملاتهم، لأنهم رجال «أعمال» يراهنون فعلياً بأموالهم على رؤيتهم لهذا الواقع.
ليسوا حالمين.. ولا ناقمين. ليسوا «غرباء» يرون الواقع الأمريكى على شاشات التواصل والتلفزة، ولا «جهلاء» يدّعون فهمهم لما لا يعرفون أمام متابعيهم الأكثر جهلاً!
هم هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم «المليونيرات الوطنيين»، وهى المجموعة التى تكوّنت فى الولايات المتحدة منذ عام ٢٠١٠ حتى وصل عدد أعضائها حالياً إلى ما يقرب من ألف مليونير أمريكى.
يترأسهم أحد مؤلفي الكتاب، المليونير الأمريكي «موريس بيرل»، الذى شغل من قبل منصب المدير العام لمؤسسة «بلاك روك»، أكبر شركة لإدارة الأصول فى العالم، وشاركه فى تأليف الكتاب مليونير آخر هو «جون دريسكول»، الذى كان يترأس شركة كبرى للرعاية الصحية فى الولايات المتحدة، وله فيها تجربة رائدة، ضاعف فيها حجمها أربع مرات فى عشر سنوات، دون أن يخل بسياسات الأجور العادلة، التى يطالب بها «المليونيرات الوطنيون» بأفعالهم قبل أقوالهم.
ثلاثة أرباع الأمريكان سيختبرون الحياة تحت خط الفقر لمدة عام على الأقل.. والانهيار المالى يمكن أن يتعرّض له أى شخص الآنتلك المجموعة من «المليونيرات الوطنيين» صاغ أصحابها شعاراً يقول إن «بلادهم أهم من أموالهم»، وإن ترك السياسات الاقتصادية على ما هى عليه حالياً فى الولايات المتحدة هو أمر لا يستفيد منه سوى الأكثر ثراءً، لكى يزدادوا ثراءً، بينما يتركون الفقراء ليزدادوا فقراً، وتنهار الطبقة الوسطى الأمريكية بما يُهدّد انهيار البناء الاقتصادى كله من القلب إلى القمة.
هى الفكرة التى يوضّحها كتاب «ادفعوا للناس» الأمريكى، قائلاً: «إنه لم يعد هناك مجال الآن لإنكار أن التركيبة الحالية للاقتصاد الأمريكى لا تخدم سوى مجموعة صغيرة من الأشخاص الذى يتربّعون على القمة، بينما تترك مجموعات كبيرة من الأفراد يصارعون فقط من أجل البقاء.
هناك ملايين الأمريكان الذى يعملون فى وظائف بدوام كامل وما زالوا عاجزين عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأنفسهم وأسرهم. إن الحد الأدنى للأجور الذى تحدّده اللوائح الفيدرالية الأمريكية لا يكفى لذلك، وبسببه لم يهبط خط الفقر إلى الحد الأدنى له، ليصبح فى الأرض، وإنما صار تحت الأرض!».
ويتابع: «صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية هى أغنى دولة فى العالم حالياً، إلا أن فيها أيضاً انتشاراً كبيراً للفقر المدقع مقارنة بباقى بلدان العالم المتقدم والحديث. ربما كان هذا أمراً سيئاً كما هو واضح بالنسبة لملايين الأشخاص الذين يعيشون فى هذا الفقر المدقع، إلا أن الواقع أننا جميعاً ندفع الثمن. مثل تلك الأرضية المنخفضة والهشّة التى يستند إليها المجتمع تعنى أن الأشخاص العالقين فى المنتصف، مشكلين الطبقة الوسطى الأمريكية، ومعهم حتى بعض الأشخاص على قمة المجتمع، يعيشون كلهم فى وضع من عدم الاستقرار».
الأسر الأمريكية التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى «المستريحة» حالياً لا تفصلها سوى أزمة واحدة عن الانهيار المالى التام.. وأفرادها يعانون من قلق مكتوم ومستمرأكثر من ٤٫٥ مليون عامل أمريكى يتعرّضون لسرقة أجورهم على يد صاحب العمل
و٣٠٠ ألف موظف يقعون تحت خط الفقر سنوياً بسببها مواطن أمريكى يحمل لافتة «احموا الطبقة الوسطى» التى تحيا فى قلق مستمر
كثير من الموظفين لا يعرفون أنهم يتعرّضون للاستغلال والسرقة والجرائم تتم على يد الفئات الأكثر قوة ضد الفئات الأكثر ضعفاًهذه الحالة من عدم استقرار الطبقة الوسطى بسبب تزايد نسبة الفقراء الذين هبطوا كثيراً تحت خط الفقر إلى «ما تحت الأرض»، على حد وصف الكتاب الأمريكى، يرصدها الكتاب قائلاً: «إنه حتى الأسر التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى «المستريحة» حالياً، لا تفصلها عادة سوى أزمة واحدة عن الانهيار المالى التام. أزمة واحدة تمر بها تلك الأسرة تكفى لنقلها إلى حالة من الانهيار الاقتصادى، والأصعب أن أفرادها يدركون ذلك الأمر جيداً.
هناك ملايين الموظفين والعاملين الذين يعيشون فى حالة من القلق المتواصل الذى يكتمونه فى أنفسهم ولا يسيطرون عليه إلا بالكاد. يحاولون أن يعيشوا حياة هادئة رغم المخاوف التى تغلى تحت السطح، مثلهم كمن يقف على حافة هاوية يمكن أن يسقط فيها فى أى لحظة».
ويتابع: «هذه الوضعية من الأمان الهشّ صارت واقعاً ملموساً ومحسوساً بشكل يفوق ما قد يتصوره البعض». يقول «مارك رانك»، الأستاذ المتخصّص فى مجال الرعاية الاجتماعية فى جامعة «واشنطن»، وأحد كبار الخبراء الأمريكان المتخصّصين فى مجال الفقر، فى مقابلة عام ٢٠٢٣ مع مجلة «نيوزويك» الأمريكية: «إن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكان سوف يختبرون الحياة تحت خط الفقر لمدة عام واحد على الأقل».
ربما كان من المريح بالنسبة للبعض أن يتصوروا أن فقراء أمريكا قد صاروا إلى هذا الحال بسبب خطأ ما فيهم. لكن الواقع أن الفقر أصبح أمراً يمكن أن يتعرّض له أى أحد.
الخوف من الفقر فى السنوات الأخيرة فى أمريكا جعل الكل يعيش على الحافة.. كل شخص أصبح أسوأ قليلاً مما كان عليه وأقل قدرة على إظهار التقدير للآخرينيرى الكتاب الأمريكى أنه عندما يحوم شبح الفقر أمام الأعين بهذا الشكل، فإن هذا الأمر يُمثل بالنسبة لصاحبه عبئاً نفسياً هائلاً. لقد صار الخوف من الوقوع تحت خط الفقر يمثل قلقاً مزمناً مكتوماً ومكبوتاً لملايين العاملين الذين يشعرون بأنهم صاروا أقرب إلى الوقوع فى هاوية الفقر بشكل أسرع مما كانوا يتخيلون.
الأمر الذى يؤثر على إنتاجيتهم فى العمل، وعلى قدرتهم على أن يكونوا أفراداً مساهمين فى مجتمعهم، أو آباءً جيدين فى بيوتهم، أو حتى مواطنين صالحين فى وطنهم. يقول الكتاب: «لقد أصبح الكل وكأنه يعيش على الحافة، وأن مجتمعنا قد بدأ يتفكك نتيجة لذلك. فى السنوات الأخيرة، يبدو الأمر وكأن كل شخص قد أصبح أسوأ قليلاً مما كان عليه من قبل، وأقل قدرة على إظهار التقدير للآخرين، وربما كان الحال كذلك فعلاً.
خاصة عندما يتعلق الأمر بالعاملين الذين لا يتلقون سوى الحد الأدنى للأجور، ويتهاوى كثير منهم عاجزين عن اللحاق بالتسارع المتزايد لتكاليف المعيشة.
بعضهم تحقّقت أسوأ كوابيسه بالفعل، والبعض الآخر رأى أن تلك الكوابيس تزداد سوءاً.
الأمر الذى يضع بصمته بوضوح على كل التعاملات الاجتماعية، ويجعل الناس ينفجرون فى وجه بعضهم لأدنى سبب، من أبسط المواقف فى الحياة اليومية إلى أكثرها تعقيداً».
من أجل ذلك، شعر «المليونيرات الوطنيون» الذين قاموا بتأليف الكتاب، أن الوضع الآن قد أصبح أكثر هشاشة وخطراً عن أى وقت مضى.
وبالتالى أصبح من الضرورى عليهم أن يواصلوا الضغط لتحقيق هدف كتابهم: «ادفعوا للناس»، من خلال إقرار قانون يزيد من الحد الأدنى للأجور فى أمريكا، ويضمن وصول أجور عادلة للعاملين.
يقول الكتاب الأمريكى: «لا يمكننا أن نضمن نجاح كل الناس فى أمريكا طوال حياتهم. لكن ما يمكننا أن نسعى لفعله، هو رفع الأرضية المالية، التى يمثلها الحد الأدنى للأجور، بحيث يشعر كل من يقف عليها بأنه يضع قدمه على قاعدة أكثر صلابة. زيادة أجور العاملين وتقويتها سوف تساعد حتماً من هم فى أسفل المجتمع، لكنها سوف تُقلل أيضاً من التوترات التى يعانيها من يقعون فى الطبقات الوسطى والعليا».
وهو كلام يبدو منطقياً، لكنه لا يحظى كما هو واضح بإجماع ولا بتأييد كثيرين ممن يريدون بقاء الوضع الاقتصادى فى أمريكا على ما هو عليه. ربما كان «المليونيرات الوطنيون» يملكون ضميراً يقظاً وحساً مجتمعياً راقياً، إلا أن مطالباتهم برفع الحد الأدنى للأجور تواجه معارضة من مليونيرات آخرين غيرهم، ومن أصحاب أعمال لا يرون فى منح أجور عادلة لموظفيهم أكثر من تكلفة زائدة على الورق، حتى إن كانت تعنى حياة وأماناً أفضل للجميع على الأرض.
يقول الكتاب الأمريكى: «إنه فى كل مرة يظهر فيها من يطالب برفع الحد الأدنى القانونى لأجور العاملين فى أمريكا، يجد فى وجهه فوراً مجموعة جاهزة من أصحاب المليارات، والمديرين التنفيذيين ورؤساء الشركات و«الخبراء» الماليين الذين يؤكدون أن زيادة أجور العاملين سوف تؤدى إلى انهيار الأعمال وتسريح العاملين والإضرار بالاقتصاد. ربما كان بعضهم يعتقد ذلك حقاً، لكن الأرجح أن كثيراً منهم لا يعنيه أمر الاقتصاد، وليس لديه أدنى اهتمام بحماية أصحاب الوظائف والمهن الصغيرة. هم يريدون حماية نماذج أعمال غير ناجحة وتكديس مزيد من الأرباح على المدى القصير، إذ إن هؤلاء المليارديرات يعتقدون أن دفع مزيد من المال للعاملين سوف يؤدى مباشرة إلى حصولهم على مكاسب أقل. وبالتالى فإن معركة أصحاب الأعمال الكبار ضد رفع الحد الأدنى للأجور لا يحركها ببساطة سوى الجشع».
لا ينكر الكتاب الأمريكى واقع أن أى رجل أعمال تحرّكه المصلحة، وأن قراراته يحكمها منطق الربح والخسارة. لكنه يواصل القول: «إن هذا الموقف القائم على دفع أجور زهيدة للموظفين هو موقف قصير النظر، بل إنه سيُؤدى فى النهاية لأن يصبح أصحاب الأعمال أكثر فقراً، وأن يصبح الاقتصاد أكثر ضعفاً. إن إدارة عمل يُدر أرباحاً على صاحبه لا ينبغى أن تتعارض مع حق العاملين فيه فى الحصول على أجور تتناسب مع جهودهم».
ويواصل: «بل إن أى عمل لا يمكنه الاستمرار فى الوجود إلا بدفع أجور هزيلة، تقل حتى عن الحد الأدنى القانونى للأجور لمن يعملون به، هو على الأرجح عمل لا يستحق الاستمرار ولا البقاء. وإذا لم يكن صاحب العمل قادراً على إدارته بشكل يكفل الكرامة المالية لموظفيه، فربما لا يصلح هذا الشخص لإدارة الأعمال من الأساس، ولا يوجد عمل حقاً غير مشروط فى البقاء تحت أى ظرف».
لكن الأمر المفزع، كما يكشف الكتاب، أن بعض أصحاب الأعمال فى أمريكا انتقلوا من مرحلة استغلال موظفيهم، إلى مرحلة السرقة الصريحة لأجورهم وإهدار حقوقهم، دون أى مساءلة أو مسئولية قانونية عليهم.
هى سرقة صارت تمثل جزءاً من نموذج الاقتصاد الأمريكى. لها أساليب وحيل ووسائل للتحايل على القوانين كأى سرقة أخرى. تكتب عنها التقارير الإخبارية، وتفتح التحقيقات التليفزيونية ملفاتها، لكن دون أن تجد أجهزة تطبيق القانون فى أمريكا حلولاً كثيرة لوقفها.
والأدهى أنها أصبحت أمراً «عادياً»، يتعامل معه الموظفون على أنه جزء من طبيعة العمل لا يمكن القيام بشىء تجاهه، وأمراً «معدياً»، ينتقل كمرض خبيث إلى باقى الأعمال التى تتّخذ من النظام الاقتصادى والمالى الأمريكى نموذجاً لها.
ما دام أصحاب هذه السرقات يقومون بها دون عقاب أو رادع، فما الذى يمنعهم من الاستمرار؟ وما الذى يمنع الآخرين من السير على خطاهم؟
يقول الكتاب الأمريكى: «فى كل عام فى الولايات المتحدة، يسرق أصحاب الأعمال نحو ٥٠ مليار دولار من أجور موظفيهم. هذا الرقم يزيد بثلاثة أضعاف عن قيمة سرقات المحلات السنوية التى تقدّر بـ١٤٫٧ مليار دولار، ويزيد بمقدار الضعف عن قيمة كل عمليات السطو وسرقة السيارات والسرقة العادية مجتمعة».
أكثر من ٤٫٥ مليون عامل أمريكى يتعرّضون لسرقة أجورهم على يد صاحب العمل و٣٠٠ ألف موظف يقعون تحت خط الفقر سنوياً بسببهاسرقة أصحاب الأعمال من أجور موظفيهم هى «سرقة خبيثة وصامتة» كما يصفها الكتاب، قائلاً إنه: «من السهل ألا يلاحظها الناس، لكن هناك آلاف الحالات التى تحدث منها يومياً بشكل يجعلها أوسع السرقات انتشاراً فى أمريكا. يقع ما يقرب من ٤٫٥ مليون موظف وعامل سنوياً ضحية لها، ويسقط ٣٠٠ ألف منهم تحت خط الفقر بسببها».
ويواصل: «معظم ضحايا سرقات الأجور من العاملين فى مهن بسيطة تمنح أجوراً قليلة، وهى الفئة التى لا تقدر على تحمل المزيد من ضياع الأجور، ولا تقدر فى الوقت نفسه على أن تواجه سخط أصحاب الأعمال لو طالبت بحقوقها».
لكن كيف يقوم أصحاب الأعمال بهذه السرقة؟ يقول الكتاب: هناك أساليب واضحة أو مكشوفة، كأن يمتنع مقاول عن دفع أجور عاملين لديه فى مشروع بناء، لأنهم من العمال المهاجرين الذين لن تكون لديهم الجرأة لرفع شكاوى لجهات العمل المختصة.
لكن الغالب، أن يكلف صاحب العمل موظفيه مثلاً بالعمل ساعات إضافية دون مقابل، رغم أن القانون يُلزمه بدفع أجر إضافى لهم فى هذه الحالة، أو أن يأخذ صاحب مطعم ما لنفسه نصف الإكراميات التى يمنحها الزبائن للعاملين، رغم أن ذلك ليس من حقه.
أو أن تكون هناك أساليب أكثر خبثاً، وإن كانت لا تقل ضرراً لسرقة جهد العاملين، كأن يخصم صاحب العمل من أجورهم بسبب تقصير ما أو خطأ فى العمل بشكل غير متناسب مع هذا الخطأ، أو أن يرفض منحهم ساعات للراحة أو لتناول الطعام ويجبرهم على العمل المتواصل فى تلك الساعات التى هى من حقهم قانوناً.
من الممكن أيضاً أن يعمل صاحب العمل على تسجيل العاملين لديه على أنهم أفراد يعملون معه بتعاقدات حرة كى لا يحصلوا حتى على الحد الأدنى للأجور.
ويتابع: «هذه الحيلة الأخيرة تظهر بوضوح مثلاً فى حالات عمال التوصيل. لو كان العامل موظفاً مسجّلاً فى دفاتر العمل فإن من حقه الحصول على الحد الأدنى للأجور، أما لو كان مصنّفاً فيها على أنه متعاقد حر، فيمكن لصاحب العمل أن يحاسبه وفق عدد المرات التى يقوم فيها بتوصيل الطلبيات، ولو مرت أيام كاملة لا توجد فيها طلبات للتوصيل، فلن ينال عامل التوصيل أى أجر».
حالة أخرى تظهر فى المطاعم، وهى من الأعمال التى يعمل فيها الكثير من الفئات الضعيفة التى لا تحظى بحماية قانونية كافية، فلا يتردد بعض أصحابها فى الاستيلاء على نصف الإكراميات التى يتركها الزبائن للعاملين، على نحو غير قانونى. وفى تحقيق صادم لوزارة العمل الأمريكى، وجد المحققون أن ٨٤٪ من أصحاب المطاعم ارتكبوا فى وقت ما نوعاً من سرقة الأجور من العاملين لديهم.
ويواصل: «على أن الصورة الأكثر انتشاراً لسرقة الأجور هى أن ينتظر أصحاب العمل من موظفيهم أن يعملوا ساعات إضافية فوق ساعات العمل الرسمية دون أن يتلقوا أجراً إضافياً على ذلك. تصل ساعات العمل الرسمية وفقاً للقانون الأمريكى إلى ٤٠ ساعة أسبوعياً، ولو عمل الموظف ساعة إضافية، يبدأ أجره الإضافى فى التزايد بنسبة ١٥٠٪ من أجره المعتاد على قدر زيادة هذه الساعات الإضافية. كان هذا هو العرف السائد فى ما مضى، إلا أن الشركات بدأت تتحايل على هذا النظام، واليوم أصبح هناك ما يزيد على ١٨ مليون موظف وعامل فى أمريكا يعملون أكثر من ٥٠ ساعة أسبوعياً، ولا يحصل كثير منهم على أى أجر إضافى لساعات عملهم الإضافية».
إن السبب الحقيقى لتعقد وتشابك مشكلة سرقة الأجور كما يقول الكتاب الأمريكى، هى «أن كثيراً من الموظفين والعاملين لا يعرفون أنهم يتعرّضون للاستغلال من صاحب العمل الذى لا يدفع لهم أجراً إضافياً مع زيادة ساعات عملهم. ربما يعتقد أحدهم أن وقف صاحب العمل لراتبه بسبب خطأ بسيط ارتكبه فى العمل هو أمر غير عادل، لكنه لا يعرف أنه أيضاً أمر غير قانونى. ولا يعرف عامل محل البقالة الذى يجبره صاحبه على العمل خلال ساعات الغذاء أن من حقه الحصول على هذه الساعة من الراحة أو تعويض مادى مقابلها. لا يملك غالبية الموظفين الوعى الكافى الذى يمكنهم من التفرقة بين أن يكون صاحب العمل متطلباً وضاغطاً بزيادة أعباء العمل عليهم، أو أن يكون قد تجاوز الحد نحو السرقة غير القانونية لأجورهم».
ويتابع الكتاب: «حتى لو أدرك العاملون أنهم يتعرّضون لسرقة أجورهم، لا يوجد أمامهم مجال كبير للمناورة ولا للمواجهة. فى أى مكان عمل، فإن وقوف أحدهم فى وجه المدير أو الشركة يمكن أن يؤدى به إلى الفصل. صحيح أن هذا ضد قانون العمل، إلا أنه ليس من الصعب تخيل صاحب عمل يتحايل على القانون لسرقة أجور موظفيه، ثم يجد فى نفسه حرجاً من فصلهم لو أنهم تجرأوا على تقديم شكوى ضده».
ويواصل: «تلك هى الأزمة الحقيقية: أنه كلما كان العامل أو الموظف فى وضع هش (كالمهاجرين وأصحاب المهن البسيطة)، صار فى موقف ضعف، وصار من الصعب عليه أن يقف فى وجه صاحب العمل حتى وإن عرف أنه يسرقه. ربما يقول العامل الذى يكافح لتأمين احتياجات معيشته لنفسه إنه من الظلم أن يفقد جزءاً من مرتبه، لكن فقدان عمله نفسه سيكون كارثة بالنسبة له. وهو ما يجعل سرقات الأجور أمراً يصيب أصحاب الأجور القليلة أكثر من أصحاب الرواتب الكبيرة الذين يملكون خيارات أوسع للانتقال والحركة وللعمل فى أماكن أخرى. أما أصحاب الأجور المنخفضة فليس لديهم بديل عن الاستمرار فى العمل، حتى مع علمهم بأنهم يتعرّضون للسرقة والاستغلال، لأن البديل هو أن يصبحوا عاجزين عن دفع فواتير معيشتهم واحتياجاتهم».
إنها جريمة متكاملة الأركان، كما يصفها الكتاب الأمريكى، يرتكبها أصحاب المال والأعمال الذين يُعتبرون أقوى الفئات فى المجتمع ضد الفئات الأكثر ضعفاً فيه، دون أن يحاسبهم أحد.
\