لقد سعت القوى الإقليمية والدولية للوصول إلى وقف لإطلاق النار فـي لبنان، وفـي مقدمة هذه القوى الحكومة اللبنانية، التي وجدت نفسها فـي حرب لم تكن راغبة فـيها، بل فُرضت عليها فـي ظل انقسام اللبنانيين انقساماً كبيراً ما بين القائلين بربط جبهة لبنان بجبهة غزة، وما بين القائلين بإبعاد لبنان عن هذا الصراع، ليس بأسباب تتعلق بافتقاد الحكومة اللبنانية إلى المقومات السياسية والعسكرية والاقتصادية فقط، ولكن بحكم التركيبة السياسية الأيدلوجية للبنان، جميعها أسباب منطقية، لكن وقد تبين أن جماعة حزب الله قادرة على أن تُنزل ضربات موجعة لإسرائيل، طالت مدنها وقواعدها العسكرية، فضلاً عن ما أحدثته من الخوف والهلع للشعب الإسرائيلي الذي عاش طوال شهرين وربما أكثر فـي المخابئ، ووصل الأمر وفقاً لما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن ٢٥٪، من السكان هربوا إلى المخابئ، وهي حالة لم تحدث فـي أي مرحلة من تاريخ إسرائيل.
لقد جُن جنون نتنياهو وجماعته وقد راح الجيش الإسرائيلي يواصل عدوانه على جبهتين، جبهة لبنان وجبهة غزة، وخصوصاً فـي شمالها الذي عزلته إسرائيل عن كل وسائل الإعلام، وراحت تواصل عدوانها على الأحياء السكنية لدرجة أن عدد الشهداء فـي كل يوم قد تجاوز المائة، جميعهم استشهدوا تحت الأنقاض، وقد بات من الصعب دفنهم والصلاة عليهم، وقد تعمد الجيش الإسرائيلي الحيلولة دون علاج المصابين منهم، حينما تعرض مستشفى كمال عدوان للقذف عشرات المرات، لكن اللافت للنظر أن أكثر من ٨٠ ألف لا يزالون عالقين فـي شمال غزة وقد رفضوا النزوح إلى الجنوب متمسكين بأرضهم ومنازلهم، رغم تدمير كل وسائل الحياة، من الأسواق إلى آبار المياه إلى افتقاد الخدمات العامة، فـي ظل ظروف مناخية صعبة، لكن إصرار الفلسطينيين على البقاء يقدم درساً لكل المهرولين، المهزومين الذين يلقون باللائمة على المقتول ولا يحملون القاتل مسئولية عدوانه وإجرامه.
فـي ظل تلك الحالة الصعبة التي تواجه الفلسطينيين فـي قطاع غزة، التي لا مثيل لها إلا فـي جرائم الحرب العالمية الثانية، تُصدر المحكمة الجنائية الدولية قرار اعتقال بحق نتنياهو وجالانت ( ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ )، بعدها جُن جنون إسرائيل وحكوماتها التي راحت تتهم المحكمة وقضاتها بمعاداة السامية، بينما خرج علينا ترامب بفجاجته المعهودة منددا بقرار المحكمة والنيل من قضاتها، وتبعه الاتحاد الأوروبي الذي راح يلقي بالمسئولية على إيران، ولم يلتفت إلى أن القضية جنائية تتعلق بقتل الفلسطينيين العزل وتدمير منازلهم واستهداف منشآتهم التعليمية والصحية، والوصول بقطاع غزة إلى أوضاع اجتماعية وإنسانية افتقدت إلى كل مظاهر الحياة، إذا كان قرار المحكمة الجنائية الدولية يعد وثيقة دالة على عدوان إسرائيل وجرائمها، لكن سيبقى القرار مجرد دعم معنوي وسياسي بحكم أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لم يقرَّا بشرعية المحكمة، ويمكن أن نتفهم موقف الدولتين من الجنائية الدولية بحكم أنهما يرتكبان جرائم ليس فـي فلسطين فقط وإنما أصابع أمريكا وأجهزتها الاستخباراتية وراء الكثير من جرائم العالم، سواء فـي منطقتنا العربية أو فـي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن أن قرارات المحكمة لم يسبق لها أن طُبقت إلا فـي حالات نادرة، بينما قرارها ضد الرئيس الروسي بوتن ومن قبل الرئيس عمر البشير فـي السودان لم تجد هذه القرارات طريقها إلى التنفـيذ، فـي ظل صراعات إقليمية ودولية وعمليات استقطاب أفقدت المنظمات الدولية قدرا كبيرا من مصداقيتها.
على ضوء ذلك فإننا نتفهم الموقف اللبناني الرسمي فـي بلدٍ يئن من أوضاع اقتصادية وخلافات سياسية أيدلوجية تضع لبنان فوق نيران مشتعلة، إلا أن الذي لا أستطيع استيعابه هو موقف الدول القادرة على إنقاذ لبنان من أزماتها، فقد تركنا لبنان منذ عشرات السنوات يواجه أوضاعا صعبة، لكي ينتهي الأمر إلى ما وصل إليه، وقد اكتفـينا فـي أزمتها الحالية بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية، فـي مشهد إعلامي كنوع من إبراء الذمة، وقد تركنا لبنان يواجه مصيره البائس، بعد أن وجدنا فـي الوسيط الأمريكي منقذاً للبنان، فهو الذي يضع تفاصيل الهدنة، وهو الذي يدير تنفـيذها، وهو الذي ينسق مع إسرائيل التي اعتبرها البعض صديقا يمكن الوثوق فـيه، كل ذلك فـي غيبة جامعتنا العربية ودولنا ذات التأثير فـي القضية، ولم تتطرق اتفاقية الهدنة وفق معلوماتنا إلى أية تعويضات عن الشهداء والمنازل والمنشآت العامة الصحية والتعليمية التي تهدمت، ولا حياة للبنانيين الذين هاموا على وجوههم فـي شوارع بيروت وضواحيها، ولم يتطرق اتفاق الهدنة إلى أية آلية لعودة النازحين إلى الضاحية الجنوبية.
لم تلتفت أمريكا والقوى الأوروبية إلى أن أية هدنة تستوجب البحث عن أسباب الأزمة، وقد يتصور البعض أن فصل المقاومة فـي لبنان عن المقاومة فـي غزة قد يُنهي الصراع المحتدم، وهو رأي قد جاوزه الصواب، فطالما بقي الفلسطينيون محاصرين مستهدفـين بالقتل والعدوان فلن يقوم سلام، ولن يعود الإسرائيليون النازحون من شمال فلسطين إلى مستعمراتهم، ولن تتمكن إسرائيل من العيش فـي سلام، طالما بقي عدوانها على غزة، وستبقى لبنان جبهة مساندة من القرى اللبنانية والبيئة الجغرافـية العبقرية، التي يصعب السيطرة عليها، وسوف ينبيء المستقبل عن مخاطر تظل تهدد إسرائيل، بعد أن تحطم حاجز الخوف الذي مكن اللبنانيين من الوصول بمسيراتهم وصورايخهم إلى قلب إسرائيل، ولن تكون الهدنة إلا عملا سياسيا تحكمه اعتبارات لبنانية داخلية وأوضاع دولية تتولى أمريكا إدارتها، وهو أمر لا ينبئ أبدا عن مستقبل للسلام، طالما لم نصل بعد إلى صيغة عادلة تحل المشكلة الفلسطينية، حتى ولو كان ترامب القادم إلى البيت الأبيض حاملاً معه خارطة جديدة للمنطقة، منتصرا فـيها لإسرائيل، لكن ستظل الجغرافـيا وسيبقى الشعب المقهور قادراً على إنزال ضربات موجعة لمغتصبي أرضه وحقوقه، فهناك صيغة إنسانية وقانونية لا تقبل بها إسرائيل، ولا ترتضيها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدعم بكل قواها السياسية الإسرائيلية القائمة على القهر والعدوان واغتصاب الأرض والحياة.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو مستقبل الشرق الأوسط فـي ظل انفراد أمريكا ومن خلفها إسرائيل بمستقبله؟ لقد انكفأ كل قطر عربي على نفسه، معتقدا انه ناج من مستقبل يُنذر بالخطر، لم تتمكن بلادنا العربية من القيام بدورها حتى فـي الجانب السياسي، ولم توظف إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة للخروج من هذا الصراع، بل راح البعض منا يتبارى فـي تقديم تنازلات لأمريكا وإسرائيل، ظنا منهم أنهما قادران وحدهما على حمياتهم من قوة إقليمية يعتقدون أنها تهدد مستقبل أوطانهم، لعل الواقع المعاش يقدم دروسا عملية على هذا الوهم الذي لا أساس له من الصحة، فالعدوان الحقيقي والخطر الداهم هو إسرائيل ومن يدعمها، سواء الولايات المتحدة الأمريكية أو بعض الدول الغربية.
لعلنا لم نستوعب الدرس بعد فالمستقبل ينذر بمخاطر كبيرة، قد تكون قريبة، وقريبة جدا.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی ظل
إقرأ أيضاً:
إذاعة فرنسا: اتهامات بالفساد تطال مؤسسة "القرض الحسن" التابعة لحزب الله كشفت إذاعة فرنسا الدولية عن فضائح مالية جديدة تطال حزب الله، في ظل الانهيار الاقتصادي الحاد الذي يشهده لبنان، لتضع مؤسسة "القرض
كشفت إذاعة فرنسا الدولية عن فضائح مالية جديدة تطال حزب الله، في ظل الانهيار الاقتصادي الحاد الذي يشهده لبنان، لتضع مؤسسة "القرض الحسن"، الذراع المالية الأبرز للحزب، تحت مجهر الاتهام مجددًا، فالمؤسسة التي لطالما وُصفت بـ "مصرف المقاومة"، باتت اليوم رمزًا للفشل وسوء الإدارة.
وذكرت وسائل إعلام لبنانية أن المؤسسة علّقت عملياتها في مدينة صيدا جنوب البلاد، وأغلقت أبوابها أمام المواطنين، ما أثار حالة من القلق لدى مئات العائلات المستفيدة، ودفع الحكومة إلى عقد اجتماع طارئ لمناقشة تداعيات الخطوة.
وبحسب الإذاعة، يعيش مئات النازحين من مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك والجنوب اللبناني، حالة ترقب لمستحقات مالية وشيكات تعويضات كانت وعدت بصرفها "القرض الحسن"، على خلفية الحرب الأخيرة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بسبب الانهيارات المتكررة في الأبنية السكنية المهملة.
لكن حسب تسريبات إعلامية، أوقفت المؤسسة صرف هذه المستحقات منذ بداية العام الجاري، متذرعة بأزمة مالية "مفاجئة"، رغم أن حجم هذه التعويضات كان يفترض أن يتجاوز 95 مليون دولار مخصصة لإعادة الإعمار.
وأكدت مصادر قريبة من الحزب أن الدعم المالي الإيراني، الذي كان يتراوح سنويًا عند حدود 700 مليون دولار، بدأ يتقلص تدريجيًا خلال العامين الماضيين، إلى أن توقف بالكامل مطلع عام 2025، تحت وطأة العقوبات الدولية والتحديات الاقتصادية في الداخل الإيراني.
ونتيجة لذلك، فرض حزب الله إجراءات تقشفية صارمة شملت تقليص الرواتب، إلغاء برامج اجتماعية، وتجميد التعويضات، ما أثار استياءً كبيرًا داخل أوساط الحاضنة الشعبية للحزب. ووصف مراقبون هذا التوجه بـ "الخيانة الصامتة" تجاه القاعدة الشيعية التي شكلت عموده الفقري لعقود.
وفي تطور لافت، كشفت وثائق مسربة على يد موظفين سابقين في "القرض الحسن" عن تورط قيادات في المؤسسة في تحويل ملايين الدولارات إلى حسابات مصرفية في سوريا والعراق وأمريكا اللاتينية، ضمن شبكات يُزعم أنها تُدار من قبل مسؤولين بارزين في حزب الله، بغرض غسيل الأموال وتمويل أنشطة خارجية.
ووفق المعلومات، فإن هذه الأموال كانت مخصصة أصلًا لتعويضات المتضررين والبنية التحتية في مناطق نفوذ الحزب، إلا أنها استُخدمت لأغراض خاصة تخدم دائرة مغلقة من النخبة في "الحرس القديم".
وفي شهادات صادمة نقلتها إذاعة فرنسا، عبّر عدد من المتضررين عن شعورهم بالخذلان من قبل الحزب، وقال أحد النازحين من حي السلم: "قاتلنا معهم، ووقفنا بجانبهم لسنوات. الآن بعد أن دُمّر منزلنا، لا أحد يسأل عنا".
فيما أضافت سيدة من برج البراجنة: "نسمع عن صفقات مشبوهة، وسيارات فاخرة، وفيلات لقادة الحزب، بينما نعجز عن تأمين لقمة العيش لأطفالنا".
ويرى مراقبون أن هذه التطورات تمثل بداية تصدّع في العلاقة بين حزب الله وبيئته الحاضنة، في ظل غياب الشفافية، وانهيار مؤسسات كانت تشكل صمام أمان اجتماعي، ما يُنذر بمرحلة حرجة قد تهدد شرعية الحزب شعبيًا، حتى قبل أن تطال قدراته العسكرية.