في سعينا لابتكار آلات قادرة على التنّقل بين تعقيدات الأخلاق البشرية؛ سنجد أنفسنا نواجه حقائق غير مريحة تتعلق بطبيعة الأخلاق نفسها؛ إذ دفعتنا التطويرات المتسارعة في الذكاء الاصطناعي إلى عصرٍ لم تعد فيه الآلات -الأنظمة الذكية- باعتبارها أدوات رقمية وحسب، بل أصبحت صانعة قرارات بارزة في سيناريوهات تحمل تداعيات أخلاقية عبورا من السيارات ذاتية القيادة التي تُجبر على الاختيار بين نتيجتين ضارتين ووصولا إلى الخوارزميات التي تحدد مصير طالبي القروض، ولهذا يزداد ارتباط الذكاء الاصطناعي بالقضايا الأخلاقية، ويقودنا هذا إلى طرح تساؤل مفاده: أيمكننا حقًا غرس الأخلاق في خوارزميات الذكاء الاصطناعي؟ وما الذي يكشفه هذا السعي عن منظومتنا الأخلاقية بصورتها الكاملة؟

من الصعب أن نعتبر الأخلاق مفهومًا موحّدًا، ولكنها نسيج متنوع يتداخل فيه البعد الثقافي والاجتماعي والفردي، وتتباين معاييره بين المجتمعات والأفراد، ومع أيّ محاولة لاختزال هذا التعقيد في سطور برمجية "الخوارزمية"؛ ستنكشف لنا الصعوبات الكامنة في ذلك استنادا إلى المبدأ الفلسفي وليس العلمي، وفي هذا السياق، يمكن أن نقتبس ما قاله الكاتب "Paul Bloom" في مقال بعنوان "كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أخلاقيا حقا؟" في مجلة "The New Yorker": "من التحديات في خوارزمية الأخلاق وبرمجته داخل الذكاء الاصطناعي أن البشر أنفسهم لا يتفقون على ما يُعتبر سلوكًا أخلاقيا".

من الناحية العلمية، تعتمد البرمجة التقليدية على قواعد واضحة وبُنى منطقية، ولكن المعضلات الأخلاقية في غالبها غامضة تتحدى المنطق الثنائي الذي يقبل بالشيء ونقيضه، ويمكن أن نعتمد مسألة العربة أو القطار "The trolley problem" -التي تُعَدُّ تجربة فكرية شهيرة في فلسفة الأخلاق- لتكون مثالا يقرّبنا من قضية الاعتبارات الأخلاقية التي يمكن أن نضارعها بمثال واقعي -في حاضرنا- مع السيارة ذاتية القيادة التي ينبغي أن تتخذ قراراتها الحاسمة في جزء من الثانية دون الاستعانة بالحدس البشري؛ فتستدعي جدلنا النقدي لخوارزميتها الأخلاقية الاصطناعية، وتنتج مجموعة من الأسئلة مثل: من حيث المبدأ الأخلاقي، أتكون الأولوية لسلامة الركاب على حساب المارة أم العكس؟ وكيف تعمل السيارة على تقويم قيمة حياة مقابل حياة أخرى؟ تظل محدودية قدراتنا على استيعاب المنظومة الأخلاقية في نطاقنا البشري تحديا يكبح قدراتنا في تحديد خوارزمية أخلاقية عادلة وواضحة في أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ ففي محاولتنا لتأسيس ذكاء اصطناعي أخلاقي، نجد أنفسنا نواجه انعكاسًا لتناقضاتنا الأخلاقية؛ حيث إن خوارزميات الذكاء الاصطناعي تتعلم من البيانات التي ينتجها البشر، وبذلك؛ فإنها تعكس تحيزاتنا ومنطلقاتنا الأخلاقية؛ لتصبح أنظمة الذكاء الاصطناعي مرآة أخلاقية تظهر ما نفعله ونفكر فيه وما نخفيه من خلل أخلاقي. هنا تثير هذه المعضلة الأخلاقية تساؤلات عميقة تتعلق بالمسؤولية؛ فعندما يتخذ نظامُ ذكاءٍ اصطناعي قرارًا مشكوكًا فيه أخلاقيًا يعتمد على بيانات منحازة؛ فمن يتحمل المسؤولية؟ المطورون؟ المستخدمون؟ المجتمع كله؟ فحينها، سيتحوّل توسّع دائرة المسؤولية إلى معضلة أخلاقية أخرى.

يظن بعضنا أن الذكاء الاصطناعي يمكنه اتخاذ قرارات موضوعية بعيدة عن التأثيرات العاطفية أو غير المنطقية، ولكن الأخلاق ذاتها ليست موضوعية؛ فما يفترضه مجتمعٌ ما مقبولًا، يراه مجتمعٌ آخر مرفوضًا، ويشكّل هذا التباين تحديًا كبيرًا لتطوير المبدأ الأخلاقي في الذكاء الاصطناعي. في منحنى آخر، عندما يتخذ النموذج الذكي قرارات تتماشى بدقة مع المعايير الخوارزمية؛ فإن النموذج يمنح الأولوية للفائدة العامة بطريقة تتجاهل الحقوق الفردية أو الأضرار العاطفية، وهذا ما يمكن أن يكون تصادما مع القيم الإنسانية التي تحاول أن توازن بين المصالح العامة والخاصة، ويمكن تقريب المشهد عبر مثال يتناول منح الذكاء الاصطناعي صالحية رفع الإنتاجية في مكان العمل، ولتحقيق هذه الغاية وفق مستوياتها العليا؛ سيتعيّن اتباع بعض السياسات التي يمكن أن تكون في بعض حالاتها -الفردية- غير عادلة؛ فتؤدي إلى إنهاك الموظفين أو فقدان الوظائف نظرا لوجود الأولوية للإنتاجية على حساب المصالح الفردية.

مع تسارع مشهد تطويرات تقنيات الذكاء الاصطناعي واتساع رقعة توظيفها؛ سيكون من الضروري الإسراع إلى تبنّي أطر تنظيمية قوية معنية بالجانب الأخلاقي، وينبغي على الحكومات والهيئات الدولية التعامل مع هذه القضية باعتبارها أولوية رئيسة عبر وضع معايير تضمن تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن حدود أخلاقية مقبولة تشمل معالجة قضايا مثل الخصوصية والموافقة وتعدد الاحتمالات ذات الطابع الأخلاقي للقرارات التي يتّخذها الذكاء الاصطناعي. تمثّل تشريعات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي (GDPR) خطوة جيدة نحو محاسبة الذكاء الاصطناعي وتأطير منظومته الأخلاقية، ولكن، لا يمكن للقوانين وحدها أن تضمن توظيفًا أخلاقيًا للذكاء الاصطناعي؛ فيقع عاتق المسؤولية على الجميع بدءا من التقنيين -مصنّعي أنظمة الذكاء الاصطناعي- وانتهاءً بالسياسيين المعنيين بمراقبة سلوك الذكاء الاصطناعي واستعمالاته، وهذا ما يدعو إلى تصميم ذكاء اصطناعي يتوافق مع المبادئ الأخلاقية الرئيسة المتفق عليها من قبل المجتمعات الإنسانية، ويقترح بعض الباحثين إلى تطوير ذكاء اصطناعي يمكنه شرح عمليات اتخاذ قراراته -وفقَ منطق يُعرف باسم الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير الذي يُختصر إلى (XAI)- وهذا ما يسهم في اقتران الذكاء الاصطناعي وتوليده للقرارات بشفافية؛ لتمكّن البشر من فهم منطق قرارات الذكاء الاصطناعي وكبحه عند أيّ منزلق أخلاقي.

بتضاعف تفاعل الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب الحياة، من المحتمل أن يصبح تأثيره على الأخلاق البشرية متبادلاً؛ فنبدأ في تبنّي معايير أخلاقية تتماشى مع منطق الذكاء الاصطناعي، سواء إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، تماشيا مع متطلبات المنطق الرقمي، وهذا ما سبق أن طرحناه من وجهة نظر علمية تتمثّل في مشروع "أنسنة الذكاء الاصطناعي ورقمنة الإنسان وفق مبدأ التوأمة"، وهنا نجد تحديا جديدا يعكس معضلةً أخلاقية أخرى نظن -جهلا- أننا نحاول بواسطتها أن نتجاوز معضلة تحقيق السمو الأخلاقي المطلق في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ولهذا يظل السعي لتحقيق ذكاء اصطناعي أخلاقي بمضمونه المطلق تحديا عويصا من الناحية الفلسفية العميقة، وليس من الناحية التقنية، ورغم ذلك، سيكشف هذا السعي عن هشاشة مفاهيمنا الأخلاقية؛ فيدفعنا لإعادة النظر في ما يعنيه أن نكون كائنات بشرية أخلاقية قبل أن نطرق العنان إلى تأطير المنهج الأخلاقي في الذكاء الاصطناعي، ولهذا سنحتاج أن نعيد ترتيب أولوياتنا من ناحية البناء الأخلاقي؛ بحيث لا تبدأ في الآلات الرقمية التي يمكنها اتخاذ قرارات أخلاقية باعتبارها مرآة أخلاقية تعكس أخلاق البشرية وممارساتهم، بل تكون بداية من البشرية التي تحتاج إلى إعادتها إلى جوهر الأخلاق بشكل أفضل.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أنظمة الذکاء الاصطناعی ذکاء اصطناعی یمکن أن وهذا ما

إقرأ أيضاً:

خبراء: الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للبشر

أكد خبراء خلال مشاركتهم في فعاليات "ملتقى دبي للذكاء الاصطناعي"، أهمية التركيز على الإنسان باعتباره محور التحول في استخدام التكنولوجيا وتبنيها، مع ضرورة إعطاء الأولوية لتعزيز التأثير الإيجابي للذكاء الاصطناعي على جودة الحياة ورفاه المجتمعات، والعمل على الارتقاء بقدرات الأفراد بدلاً من استبدالهم.
جاء ذلك ضمن فعاليات "ملتقى دبي للذكاء الاصطناعي" في "أسبوع دبي للذكاء الاصطناعي"، الذي ينعقد برعاية سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، رئيس مجلس أمناء مؤسسة دبي للمستقبل.

وأجمع المشاركون في جلسة بعنوان "الذكاء الاصطناعي التوليدي بين النمو المتسارع والتصميم الواعي" انعقدت ضمن الملتقى في منطقة 2071 في أبراج الإمارات بدبي، على أهمية القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي والتي تكمن في التكاملية، أي تحقيق التوازن بين كفاءة الآلة والقيم الإنسانية.
فمن جهته قال بانوس ماداموبولوس، المستثمر في موريس آنجل، والمدير التنفيذي والمؤسس السابق لبرامج الصناعة والشراكات، ستانفورد اتش ايه آي، إن الذكاء الاصطناعي يجب أن يستلهم من الدماغ البشري، مشيراً إلى أن التقنيات الذكية ستُعيد تشكيل الوظائف وتغيّر ملامح قطاعات المستقبل، لكن الهدف منها ليس إلغاء العنصر البشري، بل تمكينه.

وأضاف سيشهد جيلنا تحولاً حقيقياً نحو فرق العمل الهجينة التي يقودها الإنسان ويعززها الذكاء الاصطناعي، لذا يتوجب علينا الاستثمار في أدوات تعزز الإبداع والتعاطف والقرارات السليمة باعتبارها مهارات إنسانية أساسية لا يمكن للآلة تقليدها، ودعائم حقيقية لبناء عالم أفضل.
وشدد على أن التحول الحقيقي في مجال الذكاء الاصطناعي لا يبدأ بالتكنولوجيا، وإنما بالنهج القيادي القادر على إعادة تصور العمليات والأساليب والأدوات المتبعة وتحديد دورها في تشكيل حياتنا ومستقبلنا ، ولا يتطلب ذلك تبني الذكاء الاصطناعي فحسب، وإنما فهمه وتوجيهه وتشكيله وفقاً لاحتياجاتنا ، مشيرا إلى أنه مما لا شك فيه بأن المؤسسات التي ستحقق نمواً وازدهاراً في العصر الجديد لن تكون الأسرع في الأتمتة، بل الأقدر على قيادة التحول الهادف والمسؤول.
من جانبه اعتبر سيرجي لوتر، الرئيس التنفيذي للبحث العالمي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الإعلانية في شركة "يانغو"، أن الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مجرّد تطور تقني، بل هو تغيير جذري في طريقة التفكير.

وأضاف لا نعمل على تصميم تقنيات عامة للجميع، بل نطور حلولاً ذكية تناسب كل سوق حسب لغته وثقافته واحتياجاته الخاصة، ونسعى إلى تقديم تقنيات ذكاء اصطناعي أسهل وأكثر كفاءة وتأثيراً، من خلال دمج التكنولوجيا المتقدمة مع فهمنا للأسواق المحلية.

وأكد أن الذكاء الاصطناعي لا يُلغي دور الإبداع البشري، بل يعيد تشكيله، لافتاً إلى أن دور الإنسان لم يعد يقتصر على تنفيذ المهام، بل أصبح يتعلق بالفهم والتفكير الإبداعي.

أخبار ذات صلة رعاية كاملة لكبار المواطنين في الإمارات.. و«بركتنا» أحدث المكتسبات روبوت "Grok".. يرى العالم من حولك!

وقال لوتر إنه من يعرف كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة ذكية ومؤثرة ستكون له الريادة في المستقبل، فالأمر لا يتعلق باستبدال البشر، بل بتمكينهم من العمل بطرق أسرع وأكثر ذكاءً وابتكاراً.

ويتواصل "ملتقى دبي للذكاء الاصطناعي" ضمن فعاليات "أسبوع دبي للذكاء الاصطناعي" على مدى أربعة أيام في منطقة 2071 بأبراج الإمارات بدبي بحضور آلاف المسؤولين والخبراء وصناع القرار والمتحدثين العالميين المتخصصين في قطاع الذكاء الاصطناعي، إلى جانب مؤثرين عالميين وقادة التكنولوجيا.

ويشهد الملتقى مشاركة وفود من 25 دولة حول العالم، و25 شركة عالمية و18 جهة حكومية و60 شركة ناشئة تستعرض حلولها ومشاريعها النوعية في مختلف مجالات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى مشاركة 20 جامعة ومؤسسة بحثية في جلسات وفعاليات الملتقى.
 

المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • الرئيس الصيني: الذكاء الاصطناعي سيغير أسلوب الحياة البشرية بشكل جذري
  • بغداد تدعو واشنطن لإعادة النظر في تحذيرات السفر والأخيرة تشيد باتفاقيات المليارات
  • لطافتك تكلف الذكاء الاصطناعي الملايين!
  • جهاز ذكي يساعد المكفوفين على التنقل باستخدام الذكاء الاصطناعي
  • كيف تعمل من المنزل باستخدام الذكاء الاصطناعي؟
  • حين يرى الذكاء الاصطناعي ما لا يراه الطبيب.. قفزة في تشخيص قصر النظر
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • المفتي من جامعة الصالحية الجديدة: إحياء القيم الأخلاقية ضرورة دينية
  • بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
  • خبراء: الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للبشر