الكلمة المفتاح لسياسة واشنطن في المنطقة: اللاحرب واللاسلم
تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT
ويمكن اختزال هذه السمة المشتركة بعبارة واحدة: "اللاحرب واللاسلم"، فكيف يتبدى ذلك كله، ولماذا تعتمد واشنطن خياراً كهذا، وما هي تداعياته المحتملة؟
ولننطلق بداية للتعرف إلى المفهوم، مفهوم "اللاحرب واللاسلم"، والتعريف به، إذ شاع استخدامه في الأدبيات السياسية العربية، في المرحلة الممتدة من هزيمة حزيران 1967 حتى حرب أكتوبر 1973، وهو "مُستلّ" من قاموس الحرب الباردة وعلاقات القوة وتوازناتها بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين، وهو يعكس حالة جمود استراتيجي، تنتفي معها الحروب والمواجهات الكبرى، من دون إغلاق باب الاحتمالات أمام معارك ومواجهات محدودة وقابلة للسيطرة، وهو أقرب إلى حالة "تسكين" الجبهات، وإدارة النزاعات واحتوائها، من دون صرف ما يكفي من وقت وجهد وموارد، لحلها أو تحويلها، والبحث عن معالجات جذرية، تخاطب أسبابها وعواملها الأكثر أهمية.
وتلجأ الدول في العادة، إلى خيار "اللاحرب واللاسلم"، عندما يستعصي إلحاق هزيمةٍ بيّنةٍ لطرفٍ على يد الطرف المقابل، وغالباً ما تلجأ الدول الكبرى إلى مثل هذه الاستراتيجية، لاستنزاف موارد الطرف الخصم وإنهاكه، أو على أمل تمكين الطرف الحليف من استرداد أنفاسه، والاستعداد لجولات لاحقة من المعارك والحروب، وربما في بعض الأحيان، تحويل الوضع المؤقت إلى وضع دائم، فيصبح استمرار الحال على ما هي عليه، هو "الحل المُرتجى" بعينه.
في الأزمة الأم، التي تعصف بالمنطقة منذ مئة عام، تجلى هذا المفهوم تاريخياً في أوضح ما يكون، فقبل الوصول إلى عصر اتفاقات التطبيع مع "إسرائيل"، بدءاً بمصر، قضت المنطقة معظم سنيّ الصراع، في حالة من "اللاحرب واللاسلم"، مع استثناءات قليلة، كرّست القاعدة بدل أن تنفيها، وأمكن لـ"إسرائيل"، بدعم كثيف ولئيم، من دوائر أوروبية وغربية، وبالأخص الولايات المتحدة، بناء عناصر قوتها واقتدارها وتوسعها، ولولا سنوات "اللاحرب واللاسلم" الطويلة، لما استطاع المشروع الصهيوني أن يبتلع كل مساحة فلسطين التاريخية، وأن يقضم أطرافاً من "دول الطوق" العربية، أو أن يتمدد عبر بوابات التطبيع الاقتصادي والأمني والثقافي، خلف خطوط الطوق إلى عمق "دول الإسناد".
اليوم، تُكرر واشنطن فعل المزيد من الشيء ذاته، فجوهر حراكها السياسي إنما يتجلى في تكريس حالة من "اللاحرب واللاسلم" في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي..."الحل النهائي" غير مدرج في جدول أعمال إدارة بايدن، ولا يُعتقد أنه سيُدرج في جدول أعمال الإدارة التي ستليها، وحدوث "الانفجار الكبير"، لا يبدو أمراً مرغوباً من منظور واشنطن، التي تنظر إليه بوصفه تعكيراً لصفو أولوياتها الأخرى، الممتدة من أوكرانيا والبحر الأسود، إلى تايوان وبحر الصين، مروراً بالمحيطين الهادئ والهندي. جُلُّ ما ترنو إليه إدارة بايدن فلسطينياً، لا يتخطى ترجمة معادلة "الأمن مقابل التسهيلات"، حتى وإن أفضى الأمر إلى تحويل السلطة من "مشروع دولة" إلى "وكيل أمني" للاحتلال، يسهر على حراسة مستوطناته ومستوطنيه، نظير تسهيلات اقتصادية وتجارية بخسة، وتخفيف القيود المذلة على حركة الفلسطينيين...
هذا هو سقف الحراك الأميركي، حتى إشعار آخر، وهذه هي الترجمة المعاصرة، لمفهوم "اللاحرب واللاسلم" في سياقه الفلسطيني الراهن.
في اليمن، لم تعد هناك معارك وحروب كبرى، والمدافع صممت منذ أزيد من عام، ورغم أن "الهدنة" نَفَدت، ولم تُجدد، لكن خطوط التماس في البر والجو والبحر، ظلت على صمتها وهدوئها، لا تعكر صفوها مناوشات هنا وتحرشات هناك...أما مسارات التفاوض، فتبدو معلقة بانتظار "زمن آخر"، وحركة الموفدين الأممي والأميركي بلا بركة...حالة "اللاحرب واللاسلم"، تهيمن على اليمن، رغم تحذير كثيرين، بأنها لن تمنع الانفجار، وأنها مفخخة، باحتمالات قد لا يُحمد عقباها.
وإذا كانت "اللاحرب واللاسلم" فلسطينياً، تعني إنهاكاً للفلسطينيين، وإضعافاً لروح المقاومة لدى أجيالهم الشابة، وفرصة لإشعال مزيد من الخلافات والانقسامات الداخلية، في الوقت الذي تنتشر في المستوطنات كالنبت الشيطاني، وتتضخم وتتسمن على حساب الأرض والحقوق والمقدسات الفلسطينية، فإن حالة "اللاحرب واللاسلم" في التجربة اليمنية، تبدو "مصيدة" معدّة بإحكام، فصنعاء بات يتعين عليها، لا الاهتمام بمجريات المعارك على خطوط التماس، بل توفير فرص العيش لملايين اليمنيين، وهي مهمة أصعب بكثير في زمن التهدئة والهدوء، من مهمة كسب المعارك وتسيير "الدرونات" وإطلاق الصواريخ في زمن الحرب والمعارك، سيما إن أخذنا في الاعتبار الشروط الاقتصادية والاجتماعية اليمنية، وتداعيات الحصار التي ما زالت تلقي بثقلها الكثيف والكئيب على شمالي البلاد.
في سوريا، تغيب المواجهات الكبرى، وسبق لـ"حميميم" أن أعلنت بصريح العبارة، أن زمن المعارك الكبرى في سوريا قد انقضى، ولكن مرة أخرى، لا نشهد حرباً في سوريا، ولا نشهد سلاماً كذلك... فأكثر من ربع مساحة البلاد، وفوقها ملايين السوريين، ما زالت وما زالوا، خارج سيطرة الدولة وسيادتها، والحرب الاقتصادية ما زالت تشن بسيف "قيصر" وما لحقه من قوانين عقابية، ووعود إعمار سوريا، أو حتى تعافيها المبكر، كما عودة اللاجئين، ما زالت محفوفة بالخطوط الحمراء الغربية التي تجعل إنجاز هاتين المهمتين، أمراً صعباً للغاية.
لا حروب ومعارك كبرى، ولا حلول سياسية ودبلوماسية...لا مسار جنيف يتحرك، ولا مسار أستانا حافظ على زخمه، فيما "اللجنة الدستورية" لا تظهر إلا في اجتماعات "لجنة الاتصال السداسية العربية"، والموفد الأممي غير بيدرسون "خارج السمع"، لكأن المطلوب فرض طوق من الجمود الاستراتيجي، وتكريس حالة من السكون والتسكين، الكفيلة وحدها، بتفجير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، رهاناً على مسلسل انفجارات من الداخل،، في ظل صمت المدافع والجبهات من جهة، وانسداد أفق السياسة والحلول من جهة ثانية.
ليبيا بدورها، ليست بعيدة عن هذه السياسة، فالحرب وضعت أوزارها منذ أن بدا أن الجيشين التركي والمصري، قد يصطدمان أحدها بالآخر عند خط سرت – الجفرة...يأتي موفدون دوليون ويعودون، تتبدل الأسماء والأشخاص، تندلع اشتباكات متنقلة هنا وهناك، لكن النتيجة أن ليبيا التي غادرت مرحلة الحروب والمعارك الكبرى، لم تدخل مرحلة السلام بعد، والباب مفتوح لشتى الاحتمالات.
واشنطن غير قادرة على "حسم" هذه الصراعات عسكرياً، أو تسويتها سياسياً، لا مباشرة، ولا عبر حلفائها ووكلائها في الإقليم، لكنها ما زالت قادرة على منع "السلام" ما دام أنه لا يتطابق مع "دفتر شروطها"... من هنا، يأتي اللجوء إلى خيار "اللاحرب واللاسلم"، الذي يُبقي بيديها، مروحة واسعة من الخيارات والبدائل...
فهي تستطيع أن تحشد المارينز والقطع البحرية في الخليج، وأن تعزز وجودها العسكري في شمال شرق سوريا، وبمقدورها أن تجند المليشيات العشائرية لقطع الشريان الحيوي لإيران الممتد من قزوين حتى شرق المتوسط...
تستطيع أن تتحرش بروسيا في سوريا، وأن تواصل ما سمّته "استراتيجية ردع إيران ودورها المزعزع للاستقرار"، لكن ذلك لا يمنعها من البحث عن "تسويات صغيرة" من نوع "صفقة السجناء" وإن خلف الأبواب المغلقة في مسقط والدوحة، في الوقت الذي لا تمانع فيه، خوض "معارك صغيرة" مباشرة أو بالوكالة...
حالة "اللاحرب واللاسلم" في المشهدين العربي والإقليمي، تضيف أعباء إضافية إلى دول المنطقة وشعوبها، وتُبقي مستقبلها غامضاً وضبابياً، وبالأخص، تلك التي لا تدور في "الفلك الأميركي".
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: فی سوریا ما زالت
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن احتواء المخاطر التي تتعرض لها سوريا؟.. محللون يجيبون
شدد محللون تحدثوا لبرنامج "مسار الأحداث" على أهمية المسار السياسي وتطبيق العدالة الانتقالية لمواجهة واحتواء المخاطر التي تهدد السلم الأهلي في سوريا، وقالوا إن الأحداث الأمنية في الساحل السوري لها عدة دوافع.
وتخوض قوات الأمن السورية معارك ضد فلول نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بعد تنفيذ هؤلاء كمائن مسلحة استهدفت قوات الأمن في منطقة الساحل وأسفرت عن عشرات القتلى والمصابين.
وقال الكاتب والمحلل السياسي، محمد علوش إن ما جرى في منطقة الساحل كان متوقعا، "لكن المفاجأة الكبرى كانت في تقاطع التحركات التي تهدد استقرار الدولة في سوريا، في منطقة الساحل وفي الجنوب السوري".
ورأى أن ما جرى في منطقة الساحل يمكن قراءته محليا وخارجيا، فقد كانت هناك "محاولة لتشكيل تمرد عسكري على الدولة السورية لإخراجها من هذه المناطق"، وقال إن الخلايا التي تنشط في هذه المناطق لا تريد أن تكون جزءا من الدولة، بالإضافة إلى أن الخلايا وقادة النظام المخلوع الذين تحصنوا في هذه المناطق لا خيار أمامهم سوى التمرد لحماية أنفسهم.
كما أن التحركات الإسرائيلية في الجنوب السوري شكلت -حسب علوش- محفزا لخلايا النظام المخلوع في منطقة الساحل من أجل محاولة تشكيل التمرد المسلح.
إعلانكما أشار إلى أن التحديات التي تواجهها الإدارة السورية تتمثل في ما وصفها بالشروط القاسية التي تفرضها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وفي المشروع الذي قال إنه يتبلور لرفض الاندماج في الدولة الجديدة.
وبحسب الباحث السياسي عبد المنعم زين الدين، فقد كانت الأحداث متوقعة لعدة أسباب، منها عدم المحاسبة، وأن المجموعات والفلول التي تقوم بالقلاقل تحاول استعادة مكاسب فقدتها بعد سقوط النظام السابق.
احتواء المخاطروعن كيفية احتواء المخاطر التي تتعرض لها سوريا، رأى علوش أن هناك 3 مسارات يمكن للإدارة السورية الجديدة أن تعمل عليها، أولها الحزم الأمني في التعاطي مع مشكلة الفلول، باعتبار أنهم يشكلون تهديدا للسلم الأهلي، بالإضافة إلى مسار التسويات، ومسار العدالة الانتقالية.
وقال إن أكبر وسيلة لمواجهة المخاطر التي تهدد الأمن الأهلي في سوريا هي تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتهمين بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري خلال سنوات الصراع وفق القانون وليس وفق الأعمال الانتقامية، كما أوضح علوش.
كما أشار علوش إلى أهمية المسار السياسي، "فكلما كان هناك انخراط من جانب المكونات في عملية تشكيل مستقبل سوريا، كانت هناك قدرة للإدارة الجديدة في مخاطبة هذه المكونات وجعلها جزءا من عملية التحول".
بينما قال زين الدين إن مواجهة المخاطر تكون عبر الإسراع في محاسبة من سماهم المتورطين المجرمين في الأحداث، والتأكيد على أن ما يجري لا علاقة له بالطائفية، وأن المعركة ليس ضد أي طائفة، مشيرا إلى أن من أشعل الطائفية في سوريا هو النظام المخلوع.
وفي قراءته العسكرية للأحداث التي تعرفها سوريا، أوضح الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا، أن تلك القلاقل ليست عملا منفردا وستستمر لعدة أسباب، بالنظر إلى أنها تحصل في منطقة جغرافية معينة وفي بيئة معينة، مشيرا إلى أن "القيادة السورية الحالية غير قادرة على فرض سيطرتها على كامل سوريا".
إعلانوتهدف المجموعات التي تقوم بالقلاقل -يضيف العميد حنا- إلى "جر الحكومة إلى عمل عسكري في الأماكن التي تنشط فيها حتى يقوم المجتمع بالانقلاب عليها".
ويذكر أنه بعد إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أطلقت السلطات السورية الجديدة مبادرة لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق، من الجيش والأجهزة الأمنية "شريطة تسليم أسلحتهم، وعدم تلطخ أيديهم بالدم".
واستجاب الآلاف لهذه المبادرة، بينما رفضتها بعض المجموعات المسلحة من فلول النظام، لا سيما في الساحل السوري، حيث كان يتمركز كبار ضباط نظام الرئيس المخلوع. وبدأت هذه المجموعات بإثارة التوترات الأمنية وشن هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية.