حديث عبد الحي الأخير هل يعد تكفيراً للبرهان؟
تاريخ النشر: 29th, November 2024 GMT
حديث عبد الحي الأخير هل يعد تكفيراً للبرهان؟
صلاح شعيب
ما هي دلالات تسريب حديث عبد الحي يوسف عن البرهان، وإلى أي مدى يكتسب أهميته السياسية أثناء الحرب، وهل هو بالضرورة يعبر عن وجهة نظره أم طائفة من الإخوان المسلمين، وكيف يفهم حديثه على ضوء صراعات الإسلاميين التي خرجوها بأنها ملمح من الخلاف الشوري، وإلى أي مدى تكشف تناقضات الشيخ في تفسيراته العلمانية لوقائع الصراعات السياسية، أو هل يستند عبد الحي على الفقه الإسلامي في السياسة أم يغلب مصلحته وتنظيمه بالبراغماتية التي هي أس النهج العلماني في قراءة تجليات علاقات البشر السياسية؟
هذه الأسلة دارت في ذهني ليس من أجل البحث فقط عن مخارج لتعرية فكر عبد الحي السياسي الذي يستخدمه دائماً في المتاجرة بالدين، وإنما قصدت أيضاً بحث العلامات الناتئة – Connecting the dots – كما يعتمد خبراء التحليل البوليسي للتوصل إلى الوكر الذي انطلقت منه الجريمة.
فعبد الذي فلقنا أكثر من مرة في تفصيل الدين على قماشة السياسة، بناءً على مصلحة الحركة الإسلامية، نشط قبل أيام مغرداً أنه يجوز نشر صور “الهلكى” رغم قوله إن الأصل في هذا هو المنع. أي وفقاً لحسابات السياسة يمكن تطويع المنكر الديني ضد حسابات احترام النص الديني لجسد الميت. وها هو يعود الشيخ الفاخر مرة ثانية ليضمن في حديثه مواقف جديدة متناقضة لمواقف سابقة اتخذها. ومنها قوله إن فض الاعتصام أثلج صدرهم ليعود ليهاجم حميدتي والبرهان المسؤولين عن ذلك الجرم من موقع مسؤوليتهما عن أمن البلد، ومواطنه. وكذلك يحتاط آنذاك لمهاجمة البرهان لسعيه إلى التطبيع مع إسرائيل، ويجد الآن أن الزمن مناسب للخروج عن ذلك الصمت الذي ادخره ليخدم حراكه السياسي لاحقاً. إنه هو عبد الحي الذي لا يخجل من أن يتحدث في الفيديو عن حرب الكرامة التي أوقدها حزبه وجاء البرهان المتواطئ ليستطرد في معانيها التي تشرحها قناة طيبة عبر محلليها الذين يدفع لهم الشيخ مرتباتهم، وفي ذات الوقت يوظف القناة لتمرير أجندته الفقهية التي تخدم دين الحركة الإسلامية والبرهان اللا متدين على حساب دين السودانيين المسلمين.
عبد الحي يريد، بعد ربطنا العلامات الناتئة بعضها بعضاً الذي أعملناه، أن يصل مع متحدثيه إلى حقيقة أن الحركة الإسلامية التي تخترق مكتب البرهان أكبر من أن تقع وسط أحابيله الماكرة الساحرة في اللعب بالتناقضات، والمتناقضين. ومن ناحية ثانية يريد بإسقاطاته لأكثر من موضوع التأكيد بأن البراغماتية التي جعلتهم يؤيدون جيش البرهان علنياً ضد الدعم السريع تحتاط لما يمكنهم من قلب ظهر المجن يوماً للبرهان متى ما أراد الفكاك من هذا الرباط الحذر مع الإسلاميين أثناء الحرب.
يمكن النظر أيضا لحديث عبد الحي بوصفه محاولة ابتزاز للبرهان – إذا وافق على تسريب هذا التسجيل للرأي العام – بأنه لا دين له، وهل هذا لا يعني أنه كافر أشد، أو ملحد. ولذلك فالرئيس إذن غير مؤهل بأن يكون على سدة السلطة في بلد مسلم، وذلك ما يستدعي إسلاميي الجيش الذين اخترقوه تغييره بقائد له دين واحد على الأقل. وهو عبد الحي لا ينطق على هواه فما يقوله فهو إما فتوى ما برح حديثه خلاصة جهد فقهي، أو هو ينطق عن هواه فعندئذ فهو يقايس آراءه مثلنا، وليس الشيخ بمعصوم ما يجعل تفكيره بلا وحي. وعليه عبر هذين الاحتمالين أن يرجح هو واتباعه حقيقة آراءه: أعلى هواها أم لا تأتي على الهوى السياسي؟!
ربط العلامات الناتئة قادنا أيضا للقول إن عبد الحي يعنيها. فهو لاحظ تحركات الرباعية الجديدة التي أعقبت “مباشرة” زيارة البرهان الأخيرة لنيويورك والرياض، وتفاهمه مع الاميركان هناك والذي راه سرياً بلا بيان مشترك للرأي العام.، وهنا نحن آخذون في الاعتبار تصريحات توم بريليو بعد لقائه البرهان، والذي أشار بعد اللقاء إلى تفاهم الجانبين، وكذلك تصريحات الأميركي كاميرون هديسون الذي أوضح أن هناك سعي من واشنطن لتحقيق السلام والاستقرار في السودان بعد لقائه قائد الجيش في مهربه. ولا ننسى هنا التحركات الغربية التي جمعت بين الكتلتين المتعارضتين: تقدم وأطراف من المشتركة وقوى سياسية مؤيدة للحرب في جنيف هذا الأسبوع.
فمن خلال المتابعة لردود فعل الإسلاميين الأخيرة لهذه التحركات المحلية والإقليمية والدولية لإيقاف الحرب لاحظنا أن هناك هجوما مبطناً ضد البرهان يتعلق بصمته عن هذه التحركات، وعدم إبدائه أية نية لتطمين قاعدته الاسلاموية بان الحرب ستستمر. بل إن البرهان صرح قبل أسبوعين بطريقته الملتوية بأن الحرب أرهقت السودانيين ما يشيء بأن تصريحات ياسر العطا – حليف جماعة البراء – حول قدرة الجيش للقتال لمدى مئة سنة غدت مراهقة سياسية لم تصمد أمام الضغوطات التي يواجهها البرهان لإيقاف الحرب.
شيخ عبد الحي ومن خلفه الحركة الإسلامية لا يثقون بطبيعة حال علاقتهم المتأرجحة مع البرهان في قدرة قيادة الجيش على الصمود في موقفها برغم اتفاق الجانبين على خطوات كثيرة ما بعد الانقلاب، وكذلك بعد الحرب.
فعبد الحي الذي يعصر مشاعره السياسية بالدينية ليخرج للرأي العام بما يسميه الفتوى السياسية المكيفة فقهياً يهدف دائماً إلى تجيير طاقة مسلمي السودان لصالح مصلحة دنيوية خاصة بالإسلاميين عن طرق الجيش، وهنا يصبح البرهان كما لو أنه كافر كما استبطن الشيخ في فتواه. فالذي لا دين له إنما كافر بالأديان جميعها بالضرورة وليس الإسلام فحسب. فالبرهان من خلال موقعه لقيادة مسلمين في حرب مقصودة لاستعادة أمجاد الحركة الإسلامية يبقى امراً متناقضا لدى أمراء الحركة الإسلامية. على أن كل هذا الخواء الداعشي يمثل قمة نهج البراغماتية الدينية التي تقول بأن الأصل في المنع يعني تلفيق الحق بالباطل.
الوسومالأخوان المسلمون البرهان الحركة الإسلامية عبدالحي يوسفالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأخوان المسلمون البرهان الحركة الإسلامية عبدالحي يوسف
إقرأ أيضاً:
حسام أبو صفية.. الطبيب والشهيد الحي
ظهر ماردا بين الأنقاض بردائه الأبيض، يحمل مبضعه وشرفه أمام دبابات المحتل غير آبه لقذيفةٍ قد تمزق جسده، خرج من عرينه المدمر وألسنة النار لا زالت تلتهم أسرّة المرضى والتجهيزات وما تبقى من مواد ودواء، كان آخر الخارجين وليس أولهم بعدما رفض مرارا وتكرارا أوامر جيش الإحتلال بالإخلاء، خرج رافع الراس متحديا، ومعه شجاعة وجرأة شعب صمد لأكثر من 15 شهرا.. خرج الطبيب الجريح العنيد الصلب ابن الشعب الأسطورة والملحمة التاريخية الفريدة، والتي ستُسجّل في سجل غينيس للأرقام القياسية تحت اسم 365 كيلومترا مربعا ونحو 450 يوما من الصمود بمواجهة الاحتلال والعدوان والخذلان.
ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان، ولربما تتحدث عن أهوال جرائم حرب ارتكبت بحق المرضى من أطفال ونساء وكبار السن، وعن إعداماتٍ للطواقم الطبية هناك.
ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان
كان الملاك الأبيض يتحرك بخطى ثابتة وسط الصمت المريب والخذلان الذي تجاوز كل الحدود والمسميات، تحرك نحو المشهد الذي يخافه الجبناء، ولا يليق إلا بالنبلاء الأبطال، تحرك نحو آلات القتل والتدمير ولم يثنه الموت المنتظر أو الاعتقال أو التنكيل القادم لا محالة.. خرج الطبيب من بين الأنقاض وأكوام الركام والجثث الملقاة أمام المشفى الشاهد والشهيد، خرج من الجغرافيا الصغيرة ولكنه لم يخرج من التاريخ، خرج من المشهد ولكنه ليس من المشهد الأخير الذي ينتظره دعاة الحقوق والإنسانية تاركا وصمة عارٍ، بل وصمات عارٍ على جبين الشقيق والصديق القريب والبعيد، بصمات عارٍ على جباه جميع المتفرجين على مأساة المشفى المحاصر وعلى أولئك الصامتين المشاركين باغتيالها، ترك بصمات عارٍ ولطخات ذل على وجوه كل المستنكرين والمنددين.
ولم ينس أن يدمغ بصمات عارٍ على ما تبقى من وجه للسلطة ورجالها الأمنيين الحريصين على أمن وسلامة الصهاينة المستوطنين، بصمات عارٍ لأولئك الذين يحاصرون بل يقصفون جنين ويعتقلون ويقتلون المقاومين.
خرج الحسام ماردا، وفي فمه الكثير مما يقال، ووصية قبل المشهد الأخير أن قاوموا حتى الرمق الأخير، إن التاريخ يقف عندكم وصفحاته مفتوحة لكم؛ لتؤرخوا هذه الأحداث وهذا الصمت والخيانات، صفحاته مفتوحة لكم لكي لا تساوموا قتلة الأطفال ودعاة بناء الهيكل، لا تساوموا قتلة النساء والجرحى، والمنكلين بجثث الشهداء. رابطوا حتى ولو وراء أجسادكم النحيلة التي أضناها الجوع والعطش والمرض والبرد، رابطوا واجعلوا من كل جسد لكم متراسا ولا تنتظروا أحدا، فلن يأتوا لأن تصاريحهم مرهونة لدى العم سام. لا تكونوا كمن انتظر "غودو"، ولما يأتِ أبدا. لقد أعيانا نداء: وا معتصماه، وا عمراه، وا حمزاه، وا علياه، وا عرباه، وا إسلاماه، وا عيساه.. الكل أدار ظهره إلى الحائط، إلى حائطٍ بعيدٍ حتى لا يُرى، الكل أصمّ آذانه، وجعل لها قفلا من فولاذٍ وحديد، الكل أغشى عينيه وكبّل يديه وقيّد ساقيه، وأعلن ثباته في أرض الخنوع والهوان.
بقي الحسام طبيبا وشهيدا حيا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال
لقد استيقظت قريش على ندائنا ولم يشعر عرب اليوم بنا، وأبى أبو جهلٍ إلا أن يُنجدنا، ولكن الموت قد عاجله، وانتفض الجاهليون، وأطراف حرب الردّة، والمتقاتلون في داحس والغبراء ولم يستجب أحدٌ من العرب، ولم يأتِ الأكسجين ولا الدواء ولا الوقود فسقطت كل المشافي من قبل أيها الطبيب. وها و مشفاك "كمال عدوان" آخر قلاع الإنسانية يسقط مضرجا بدماء جرحاه وطواقمه ومرضاه، وشهدائه، سقط شهيدا وتم اغتياله، لكن مع سقوطه سقطوا معه جميعا سقوطا مخزيا مدويا، سقطت مع أولئك المتفرجين أقنعتهم الزائفة وورقة التوت التي غطّت عوراتهم، وبقيت رائحتهم العفنة وصورهم المشوهة وكلماتهم الكاذبة على الجدران المحترقة للمشفى، بقيت صور خذلانهم معلقة في ضمائر ووجدان الإنسانية العاجزة، وبقيت لعنتهم على أكفان الشهداء النازفة التي لم يتمكن أحد من دفنهم دفنا كريما يليق بصمودهم. انهار الضمير والوجدان الإنساني، انهارت منظومة القيم والمبادئ العالمية حتى مات الأطفال الرضّع بردا؛ تجمدت قلوبهم والدماء في عروقهم، وتبلدت أحاسيس ومشاعر العالم حتى قُطعتْ أجهزة التنفس عن المرضى بأيدي الجلادين الصهاينة "دفاعا عن النفس".
هناك توقفت الحياة وانتهى المشهد الهوليودي المثير، وبقي الحسام طبيبا وشهيدا حيا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال.
[email protected]