مدينة السُلطان هيثم.. نموذج للتعايش الاجتماعي
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
د. عائشة بنت عبدالله العلوية
مفهوم المدن المستدامة يعد مثار تساؤل لدى الكثيرين، ويمكن تعريفها بأنها "مدينة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة، ورفع كفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة"، وفقًا للاتحاد الدولي للاتصالات (ITU). وأعلنت وزارة الإسكان والتخطيط العمراني عن تدشين أول مدينه ذكية أُطلق عليها "مدينة السلطان هيثم" تستوعب 200 ألف نسمة، وتطرح خيارات سكنية متعددة، وتطبق أحدث ما وصلت إليه المدن الذكيه من تطبيقات تكنولوجية، إضافة إلى تخطيط حضري يسهل الوصول إلى مرافق المدينة والتنقل بينها بسهولة وأمان.
ستكون مدينة السلطان هيثم هي المدينة التي ستتجاوز أخطاء التخطيط الحضري بالنمط الذي تبنته السلطنة على مدى خمسة عقود، في ظل تغيرات مناخية لم تتمكن معها مدن تعتبر حديثة من الصمود، فانهارت البني الأساسية كالطرق وأنظمة الاتصالات، وعجزت كثير من أنظمة الحماية القائمة من حماية المدن من الفيضانات، وتكبدت الحكومة ملايين الريالات في إعادة البناء، وتجاوز بعض الهفوات في التصميم والتنفيذ.
مدينة السلطان هيثم قيمة حضارية لاهتمامها بترسيخ قيم التعايش بين مختلف افراد المجتمع، فهي "مدينة للجميع"؛ وهذه العبارة حرفيا معبرة عن مبدأ المساواة، ويحسب لهذ المدينة عدم الحياد عن قيم التعايش الاجتماعي والاقتصادي كطابع تتصف به المدينة التقليدية العمانية، ويتجاوز هذا المبدأ احد العيوب البنيوية في مجتمعات الرفاه الاجتماعي، التي لا تمكّن مختلف الطبقات الاجتماعية التعايش فيما بينها،بفعل الحواجز الاقتصادية، بمعني آخر فالتفاوت الاقتصادي بين الأسر والافراد يؤدي الى وجود فجوة بين تلك الطبقات في المجتمع الواحد او المدينة الواحدة،بين مختلف الطبقات الاقتصادية، في المجتمع وتنشأ بدلًا عنها حواجز مانعة للتفاعل الطبيعي بين الطبقات، ويحق لنا الافتخار بنموذجنا العماني الأصيل لأنه يختلف عن نماذج المدن الذكية في منطقتنا الإقليمية، فكانت هذ المدن هي لتكتلات اقتصادية اجتماعية معزولة بالجدران والحراسة الأمنية.
لقد خصصت مدينة السلطان هيثم 5% من الوحدات السكنية لتكون منحًا للمسجلين في برنامج المساعدات السكنية؛ بما يعادل 1000 وحدة سكنية لألف أسرة، ستكون ضمن النسيج الاجتماعي بمدينة فخمة وعصرية ومتكاملة الخدمات. وهذا البرنامج- كما يعلم القارىء الكريم- برنامج منح سكنية لا تسترد، لمن لا يجاوز دخله 325 ريالًا عمانيًا، وغالبية هذه الشريحة واقعة تحت مظلة الضمان الاجتماعي، ولذا فإنني أُثمِّن هذه اللفتة من القائمين على مشروع المدينة، فمن بين إيجابياته تخفيف الجدل الدائر حول عدم تكافؤ الفرص لجميع أفراد المجتمع وترجمة عملية بأن المدينة للجميع. ومن وحهة نظري أرى انسجام هذا التوجه مع توصيات أطلقها البنك الدولي (تقرير 2020): "لإصلاح الجغرافيا الاقتصادية، والتفاوت الاجتماعي، والمكاني، داخل المدن التي اتسعت هوتها بشكل غير مسبوق"، حسب ما ذكر التقرير.
تمويليًا تم الاشتغال على حزم تمويل مرنة مع البنوك المحلية؛ بما فيها بنك الإسكان العماني، فتملك الافراد سيكون احد محركات الاقتصادية لمدينة السلطان هيثم، وبالتالي لم يفت المخططين هذا الجانب وتم التفاوض مع البنوك المحلية لتخفيض سعر الفائدة على القروض من 5.5% إلى 3.5% لدفع المواطنين إلى تمويل شراء الوحدات السكنية، كما ستستفيد المحافظ الإقراضية للبنوك من هذه العمليات الإقراضية؛ فحجم المدينة كبير نسبيًا؛ حيث إنه يضم 20 ألف وحدة سكنية متنوعة، وفي الجانب الآخر تم الاتفاق مع بنك الإسكان العماني على رفع سقف القروض الحالي الذي لا يتجاوز 60 ألف ريال عماني إلى 80 ألفًا، بهدف تشجيع البنك على الدخول في عمليات الإقراض لتمويل الأفراد الراغبين بالتملك في مدينة السلطان هيثم، من بين خيارات السكن المتاحة كالفلل المنفصلة، وشبه المنفصلة، والشقق التاون هاوس، في 19 حيًا متكاملَ المرافق والخدمات؛ كالمرافق الدينية والصحية والتعليمية.
إنَّ ترقية مستوى المدن التقليدية إلى مدن ذكية خيارٌ آخر لتطوير العناصر ذات الصلة، من خلال تسهيل الحياة فيها، عبر تطوير أنظمة النقل وادارتها عن بعد؛ لأن تحسين نوعية الحياة يتطلب اللجوء إلى توظيف تطبيقات التكنولوجيا المعلومات والاتصالات هو المنهج الذي أصبح يتبناه المخططون لخدمة أنظمة النقل، وتنظيم حركة المرور، وإدارة النفايات، إضافة إلى اللجوء إلى استخدام الطاقة النظيفة، ومصادر الطاقة المتجددة في تشغيل المرافق.
لقد طورت كل من مدن: مشهد والرياض وموسكو وسنغافورة، عددًا من التطبيقات لتسهيل الحياة فيها، وترقية مستوى المعيشة؛ فمدينة الرياض طبقت نظام النقل الذكي، وسنغافورة اعتمدت تطبيق سنغافورة الافتراضية، وفالنيسيا (إسبانيا) طوّرت نظام الموشرات الحضري الذي يساعد على اتخاذ القرار، ونظام آخر لتوفير الطاقة باستخدام أجهزة استشعار "إل إي دي" وإنترنت الأشياء لتقليل التلوث الضوئى وخفض تكلفة التشغيل. أما مدينة مشهد فقد ساعد تطبيق ذكي تم اعتماده في سهولة جمع المخلفات القابلة للتدوير، وأتوقع أن مدنًا عمانية تقليدية ستشهد هذه النقلة النوعية لتنضم إلى مصاف المدن الذكية بفضل توظيف التكنولوجيا التي أصبحت خيار المخططين والمطورين الأول في تحسين نوعية الحياة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وصية المخدوم الأعظم سلطان بن مسعود بن سلطان
تُعَدُّ الوصايا من بين أكثر أصناف الوثائق انتشارًا في التراث الوثائقي العماني، ولعل ما رأيناه من أمثلة سابقة في هذه السلسلة إنما هو من المنقول منها في كتب الفقه في سياق استفتاء الفقهاء عمّا ورد فيها وما يثبت منها وما لا يثبت. أما السواد الأعظم من الوصايا الباقية فهي محفوظة ضمن المجموعات الوثائقية الخاصة، لكنها لا تتعدى في الغالب من حيث تأريخها القرون الثلاثة الأخيرة. ومن بين الأمثلة على المنقول من الوصايا القديمة وصية مشحونة بالعجيب من الموصى به، مثيرة للاهتمام، محفِّزة للبحث والسؤال، وهي وصية نُقِلت في بعض مخطوطات كتاب (بيان الشرع)، مما زِيدَ على الكتاب. وهي وصية سلطان بن مسعود بن عدي بن شاذان، وهو فيما يظهر من أمراء بني صلت الذين كانت لهم زعامة خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وآثار معقلهم ومقبرتهم باقية في ناحية من وادي بني خروص.
وقد جاء في النص المنقول أن الوصية عُرِضت على الفقيه أحمد بن مدّاد (ق10هـ) وهي بخط الفقيه محمد بن عبدالسلام، من فقهاء النصف الثاني من القرن التاسع وأول القرن العاشر الهجري، ومن تلامذة الفقيه صالح بن وضّاح المنحي (ت:875هـ)، وعلى هذا كان عرض الوصية على ابن مدّاد بعد زمان صاحبها، ومن قرائن ذلك أن الذي عرضها عليه فيما يظهر تلميذه محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، ويُفهم ذلك من قوله في جوابه على كتابه: «وفهم المُحب ما شرحتَه في كِتابك الشريف، في حال وصية السُّلطان الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، التي هي بخط جدك الفقيه محمد بن عبد السلام».
وقد وُصِف الموصي في النص وملاحقه بـ«المخدوم» و«السلطان» وفيهما إشارة إلى السلطة والنفوذ، كما يُفهَم من النص أيضًا أن مقرّه كان بمدينة نخل، في عبارة: «وأوصى بخمسمائة ألف دينار هرموزي يفرق على كل من يُؤدي القلم من أهل داره نخل، الغني والفقير». ولعل أكثر ما يلفت النظر في الوصية كثرة ما أوصى به وتنوّعه وتفرّعه، وما يترتب عليه من أموال مُعيَّنة بـ«الدينار الهرموزي» نسبة إلى مملكة هرمز، وهو نقد كان -فيما يظهر- متداولًا في عُمان.
ولسنا بصدد نقل نص الوصية هنا فهو طويل وتتخلله عبارات الفقيه أحمد بن مدّاد معلقًا بـ«يثبت» أو «لا يثبت» مع بيان العلّة في بعض المواضع، ثم علّق ابن مدّاد بعد نص الوصية مبيّنًا منهجه وطريقته، وعلى عدم ثبوت بعض ما في الوصية، ثم تلت ذلك زيادة بخط عبّاد بن محمد بن عبدالسلام وهو ولد كاتب الوصية، وقد جاء في أول الزيادة: «لقد حضرنا عند المخدُوم الأكرم سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، وقد أثبت وصيته التي أوصى بها، بخط والدي محمد بن عبد السلام، فهي ثابتة في السقم والحضر والسفر، والمحيا والممات، وقد جدد التوبة بمحضرنا...الخ»، ثم ذكر ما زاده الموصي في وصيته، ونقرأ في تلك الزيادة تعليقات أحمد بن مدّاد أيضًا على ما يثبت منها وما لا يثبت وفق رأيه، ثم جاء بعد ذلك ردّ أحمد بن مدّاد على محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، حفيد كاتب الوصية الأصل، وهو الذي عَرَض عليه الوصية فيما يظهر.
ومما يُدهِش في هذه الوصية أنها استغرقت كثيرًا من الضمانات فيما يبدو، وهي منتشرة في نواحي وبلدان عمان، ولعل ذلك يوحي بأن نفوذ صاحبها قد بلغ أماكن بعيدة عن داره ومقرّه، كما أن الأموال الموصى بها بالدينار الهرموزي تصل إلى ملايين، ناهيك عن حقوق كثير من الناس ممن ذكرهم بأسمائهم أو ببلدانهم.
وإذا ضربنا صفحًا عن الشِّق الفقهي المتمثل في تعليقات أحمد بن مدّاد، فإن مجموع ما أوصى به مثير للدهشة بحق، والعجب أن كل تلك الضمانات من «ثلث ماله» فحسب، وقد جاء في أول الوصية: «هذا كِتاب ما أقر به وأوصى، المخدوم الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان بن عدي بن شاذان، وهو صحيح العقل والبدن، ومُقر بجُملة الإسلام. أوصى المُقدم ذِكره ابتداءً بعطره وكفنه، وما يحتاج إليه الميت من رأسماله وجميع الضمانات التي عليه من رأسماله ووصيته من ثلث ماله». ومما أوصى به ثلاث حجات، وأجرة كل حجة سبعون ألف دينار هرموزي. وممن أوصى لهم من أصحاب الحقوق وذُكِروا بأسمائهم: خلف بن راشد، وعبيد بن شمخيل، وعمر بن أحمد السيباني، وسلطان بن عدي بن دهمان، وبَهم بن سرحان بن نمر، وورثة راشد بن عاصم الباطني، وراشد بن فضيل بن فضل الباطني، وابن هدّاب صاحب فنجا، وسالم بن سبت، وغسان بن محمد بن سعيد، وراشد بن مجنب، وغسان بن عبدالله، وابنة مسعود بن مالك، وراشد بن محمد البحري.
ومن الضمانات التي أوصى بأدائها للناس بالجملة: أوصى لأهل داره نخل، وأهل المسلمات (مسلمات) وأفي وحبراء وهي من بلدان وادي المعاول، للغني والفقير منها، وفيها إشارة إلى أنهم كانوا يؤدون الخراج له. ولبعض البلدان التي خُشِي منها مال أي أُتلِف شيء من نخلها أوصى كذلك، ومن تلك البلدان سمائل ومنح، كما أوصى للفقراء في العديد من البلدان منها: إزكي، وسيفم (غربي بهلا) وسُونِي وعِيني، والمربا، ومناقي، والقلعة، ووبل، وباطنة السويق «كذا»، وأوصى لبعض الجماعات من الناس ومنهم: بنو صبح، والنعب، والسريريون، والبدو. وأوصى لمسجد جامع نخل، وبأن تفرَّق غلة مال من أمواله يوم الحج سنة في مسجد الجامع من الغريض، وسنة في جامع مسجد المُسلمات، وسنة في جامع أفي، وسنة في جامع الطو. والحق أن في هذه الوصية مادة تاريخية جديرة بالدراسة والتأمل.