قراءة التاريخ: الزوايا المظلمة (1-3)
تاريخ النشر: 29th, November 2024 GMT
فلسفة التاريخ:
تجارب وأحداث يمكن أن نفيد منها العبرة وكثير منها لا يفيد، والأسوأ هو التضليل للذات في اختيار النموذج ووصفه وعبادة الرموز بعد تأليهها وهي بشر تلمس طريقها في الحدث، أصابت مرة وأخطأت أخرى، نتحدث بتمجيد حتى عن الأساطير التي تُستقى من حدث حقيقي أحيانا كالطوفان، وتختلط بالخرافات فتغدو أسطورة يكتبها مبدع شعرا أو نثرا، ليجعل من طغيان شخصية جلجامش نموذجا.
ذات الشيء عندما يُغفل التاريخ جانبا من السردية ليبقي جانبا مضيئا منها، كسردية صلاح الدين وبيت المقدس مع أنه ترك الساحل للصليبيين، وإغفال السلطان قلاوون وابنه أشرف خليل الذي أنهى الاحتلال الإفرنجي نهائيا، استكمالا لإنهاء احتلال كان بسبب ضعف الدولة استمر 198 عاما لعكا؛ التي تعرضت لمذبحة وجريمة ضد الإنسانية باسم الصليب قام بها ريتشارد قلب الأسد، إلى سقوط حصن حراس المعبد الذين كانت نهايتهم سيئة جدا بعد أن اتهمهم البابا كليمينت الخامس بالهرطقة واختلاس الأموال من فيليب الرابع (ويكبيديا).
التاريخ ينقل حدثا، الاستقرار عنده واجتراره نتيجة الجهل والتخلف هو امتهان للكرامة الإنسانية، وإحياء وتخيل الفتن منه بالتأكيد يضعف أهمية التاريخ، بل يجعل منه ثقلا في بحر الظلمات التي تعيش به الأمة عائمة غير مستقرة.
الفردانية التي تبرز في التاريخ وهي تتحدث عن البطل تضع أساطير أو ما يشبهها وتضفي قدسية تقارب التحول إلى مرتبة الآلهة، وهذا يفقد الأمة القدوة والإيمان بالعمل الجماعي، فلا قائد يمكن أن ينتصر بغير جند أشداء مؤمنين بما يفعلون؛ ليس من ناحية عقدية فحسب بل مهنية عندما تصبح الفروسية مثلا قيمة أو الجندية قيمة أو المجد قيمة.
حاضر في تاريخ معتم:
الأمم التي تهتم بالرموز والنقاط المضيئة في التاريخ وتهمل مهامها أو تتعظ من السلبيات والزوايا المظلمة فيه هي أمة ماهرة في صنع الأصنام، لكنها لا تصنع الحياة، تنجذب لتعظيم شروط للتخلف لأنها لا ترى المستقبل، والكسل ديدنها لأنها بلا دافع للبناء ولا دافع التنمية، والغرائز ضمن القانون ولا دافع من فهم القيم. يفكر السواد الأعظم منها بما له لا بما عليه، فهو يرى العمل موارده لا مهامه والحياة تتأرجح وفق غلبة الغرائز وأيها تطغى، فمن طغت عنده غريزة التملك سعى للمال، ومن طغت عنده حب السيادة سعى لقمع محيطه، وهكذا بقية الغرائز قياسا لنصل إلى إنسان التخلف والضياع ومجتمع يغلب فيه الفساد ويطغى، فلا يحاسب ليكون الفساد طبيعيا وليس منقصة عندما يحضر فاعلها.
وهذا نراه واقعا ليس تحليلا، لأننا نرى المصفقين ونرى من ينتقدون المفكر المصلح ويسفّهونه ويحاولون تبيان نواقص فيه، بينما ذات الأشخاص وهم ناقدون للفساد يداهنون الفاسدين ويحاولون التقرب منهم، ويبحثون عن الطموح الذي داخلهم والنفعية الغازية لضمائرهم في أشخاص تافهين هم في شغل عن الذين لا يرون نفعا منهم، سواء صالح مصلح أو منافق وصولي.
معظم نخبة القوم ومن يزعمون أنهم يتصدون لقضايا الأمة أو عقيدتها أو قيمها، أول من يكذب معظمهم عليه هو أنفسهم، ولا يرى انكشافه وتفاهته التي أحيانا كثيرة تكون واضحة أمام الناس، هذه الفئة أنواع شتى وغالب أنواعها طاقتها ضد نهضة أمتها، وهنالك منها ما يسعى لمجده هو فلا يبحث عن الحقيقة بل يعتبر جهله غاية في العلم وربما يفرضه على مجتمعه أو يخونهم إن لم يك بتوجه ديني، وإن كان متدينا أو واعظا فإنه يكفّر مخالفه وكلاهما يفعلان بتعميم لأمر ليس عاما.
دوافع التخلف:
دوافع الهزيمة والتخلف هي دوافع للنهضة لكن ينقصها الفهم وليس بالضرورة تنقصها المعرفة، فرواد التخلف مثقفون ومتكلمون متفانون وذوو حجة، بل إصرار وتضحية حتى بالنفس لكنهم في ضلال.
فأمة التخلف تشخص كدعاة النهضة وربما تتطابق معهم أحيانا، فهو إحساس بالألم، وهو يبحث عن حل وإنقاذ، بيد أنه لا يخرج من الصندوق، ويبقى في دوار الأفكار المهيمنة، ويبقى يأتي إلى حلول معادة تتناوب الإحلال مع بعضها. ولا شك أننا نستطيع أن نضيف المنبهرين بمدنية الغرب المتقدمة أو الشرق، ولكن دون فهم أسسها أو آليات إدخالها إلى المجتمع، فالأفكار هذه مخرجات مدنية لكنها فُصّلت وارتديت في مجتمعات أخرى ومضى زمن على تطبيقها جرى إصدار أشكال متجددة بالخبرة والمستجدات وفق قراءة أو استقراء الواقع، لكن مجتمعا لا يمكن أن تُدخل عليه النظام في التطبيق الاقتصادي والذي تطور لمئات السنين كقوانين ضرائب أو مستشفيات القطاع الخاص أو غيرها بلا آليات موجودة تخفف عن كاهل المواطن، ولو طُبقت بشكل تقليدي بلا فهم آلياتها عندنا فستكون قاتلة للمواطن ومعاشه لأنها تأخذ بمبدأ لكل شيء ثمن ولكن بلا آليات صنعتها التجربة مع الزمن.
المجتمع تعرض لصدمات ومتغيرات ونظم متعددة، لهذا حتى تطبيق النظام الإسلامي كنظام سياسي لرعاية الأهلية وحفظ المعتقد لمواطنيه، يحتاج استقراء وقراءة للواقع وإنتاج ما يناسب المجتمع، ووضع آليات لتحديث قوانين الدولة وإداراته بشكل مؤسساتي، ففهم معنى صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان دون استقراء أو تحديث للآليات لن يكون نظاما ناجحا ذا ديمومة، وإنما حاله حال أي نظام دخيل لكنه سيتحول إلى الهوى، وهذا معنى الثيوقراطية فليس من دين فعلا أو شريعة وإنما باسم الدين تحل الفوضى والظلم.
من المهم القول: لا بد أن تمخر قوارب اليقظة في بحر التاريخ لتبحث عن العبرة وفي السلبيات وحقيقة المواقف والأحداث لنجيب على سؤال مهم: لماذا أعجزنا الإسلام أن يستمر في قيادة المدنية وتتلاشى حضارته الفكرية لتغرق بالأوهام والخزعبلات وشتى التسميات التي تحمل التخلف والجهل، ويحارب المجددون الفاهمون لفكرة الإسلام والخليقة وكأنهم وباء وليسوا عناصر إحياء الموات والبوار الذي نحن فيه؟ هذا ما نحاول وضع أسس للإجابة عليه في الجزء الثاني.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات التاريخ قيمة التخلف الفكرية الانسان الاسلام تاريخ فكر قيم مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
صدور الطبعة الأولى من كتاب الطريق إلى عقل ديني مستنير - قراءة في مشروع الخشت لتجديد الخطاب الديني
صدرت حديثًا الطبعة الأولى من كتاب "الطريق إلى عقل ديني مستنير: قراءة في مشروع الدكتور محمد الخشت لتجديد الخطاب الديني"، وهي دراسة من إعداد الدكتور محمود خليل أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، وأحد أبرز الباحثين في مجال تحليل الخطاب والإعلام في العالم العربي حيث يُعرف بدقته العلمية وقدرته على تحليل الخطاب بمنهجية عميقة، كما يتمتع بخبرة أكاديمية وعملية واسعة.
ويشارك الكتاب الجديد ضمن معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخته الـ 56، حيث يعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين بقضايا التجديد الديني، كما يمثل إضافة قوية إلى المكتبة العربية في ظل الحاجة الملحة إلى خطاب ديني مستنير يتلاءم مع متطلبات العصر.
ويأتي هذا الكتاب كدراسة أكاديمية معمقة تسلط الضوء على مشروع تجديد الخطاب الديني الذي قدمه المفكر المجدد الدكتور محمد عثمان الخشت على مدار عدة عقود، حيث يعتمد الكتاب على تحليل شامل لمؤلفات الدكتور الخشت وأوراقه البحثية ومقالاته الصحفية ومقابلاته الإعلامية، بهدف استخلاص الرؤية الحاكمة لمشروعه، ورسم خريطة واضحة لمعالمه وأهدافه.
ويركز الكتاب على التكاملية التي يتميز بها مشروع الدكتور الخشت مقارنة بمشروعات تجديد الخطاب الديني الأخرى التي قدمتها النخبة الجامعية في العقود الماضية، وتتجلى هذه التكاملية في المنطلقات النظرية والمنهجية التي يستند إليها المشروع، بالإضافة إلى شبكة المفاهيم والأطروحات التي تشكل أساس أفكاره. كما ينطلق مشروع الدكتور الخشت من تعريف دقيق ومنضبط لمفهوم التجديد، مما يجعله إضافة نوعية إلى الجهود الفكرية الرامية إلى إصلاح الخطاب الديني.
وخلال فصول الكتاب، يتناول الدكتور محمود خليل مساحات التجديد التي انشغل بها الدكتور محمد الخشت أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة ورئيس جامعة القاهرة السابق، والأدوات التي استخدمها في مشروعه، بالإضافة إلى القوى الفاعلة (أفراداً ومؤسسات) التي يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في إنجاز مهمة التجديد، كما يناقش الكتاب المعوقات التي قد تواجه هذه الجهود، ويقدم رؤية شاملة حول الأدوار المطلوبة لتحقيق أهداف المشروع.
جدير بالذكر أن الدكتور محمد عثمان الخشت صاحب إنتاج فلسفي وأكاديمي غزير، حيث بلغت مؤلفاته : 98 كتابا وتحقيقا وبحثا علميا محكما، منها: 43 كتابا منشورا، و 24 كتابا محققا من التراث الإسلامي، وله 31 من الأبحاث العلمية المحكمة المنشورة. وصدر أول كتاب تحقيق منشور له عام 1982 ومن أهم مؤلفاته: نحو تأسيس عصر ديني جديد، تطور الأديان، مدخل إلى فلسفة الدين، للوحي معان أخرى، الإسلام والوضعية في عصر الأيديولوجية، المعقول واللامعقول في الأديان، أخلاق التقدم، أسس بناء الدولة الحديثة، صراع الروح والمادة في عصر العقل، العقل وما بعد الطبيعة، مفاتيح علوم الحديث، الدليل الفقهي، ومن أهم تحقيقاته للتراث: تمييز الطيب من الخبيث فيما اشتهر على ألسنة الناس من الحديث، والفرق بين الفرق، وكتاب المنهيات. وترجمت بعض أعماله إلى لغات أخرى (الألمانية والإنجليزية والفرنسية والأندونيسية وبعض اللغات الأفريقية). وتم تصنيفه من كرسي اليونسكو للفلسفة ضمن الفلاسفة العرب المعاصرين في "موسوعة الفلاسفة العرب المعاصرين" الصادرة عن كرسي اليونسكو للفلسفة 2017، كما أصدر اليونسكو مجلدا كاملا عن فلسفته 2020. تحت عنوان ( فيلسوف التجديد والمواطنة والتقدم: دراسات في فلسفة الخشت النقدية)، إعداد: مجموعة من كبار المفكرين والأكاديميين من جامعات العالم العربي والعالم، الصادر عن كرسي اليونسكو للفلسفة بتونس، 2020. وتم اختياره شخصية العام 2014 بالسفارة المصرية بالمملكة العربية السعودية.