د. الهادي عبدالله أبوضفائر

الثورات التي ضحى من أجلها القرشي وست النفور وعبدالعظيم ونفر كريم، نقشت في الذاكرة وشماً من نار اكتوى به الشعب: لم تكن سوى منعطفات في مسيرة الأمة التي كانت تحلم بالعلو، لكنها وجدت نفسها فجأة تحت وطأة الخيبات والانكسار. لحظاتٌ تخُيّل فيها الشعب أنها مهد الانعتاق والتحرر وأنشد فيها (على أجنحة الفجر ترفرف، فوق أعلامك، ومن بينات أكمامك، تطلع شمس أعراسك، يا شعباً لهبك ثوريتك، تلقى مرادك والفى نيتك، وعمق إحساسك بى حريتك، يبقى ملامح فى ذريتك، ماكَ هوين سهل قيادك، سّيد نفسك مين أسيادك)، لكنه سرعان ما اكتشف الوجه الآخر، وانطفأت الأحلامٌ الكبيرة وتبددت الطموحاتٌ العريضة، وتناثرت كأوراق في مهب عواصف من الفوضى السياسية والارتباك التنظيمي.

لا تنوّع يُدار، ولا رؤية تُوجّهها نحو الاستقرار.
حالة أشبه بسفينة تائهة في بحر هائج، وحدها العقول التي تجمع بين التنوع المدروس والرؤية الاستراتيجية التي تصنع التوازن وتقود إلى بر الأمان.

بدلاً من أن تكون الثورة جسراً منيراً بالأمل، يفتح لنا نوافذ الانتصار ويقودنا إلى غدٍ مشرق، أصبحت أبواب حرب تطل على مصائر غامضة، متشابكة كخيوط العنكبوت، وسدوداً منيعة شيدت نفسها أمام الأحلام، وعوائق تعترض الطريق نحو التغير المنشود. لقد ضاعت البوصلة في زحمة الاستقطابات المتناقضة، وتاهت المسيرة بين أقطابٍ تتصارع على الهوية والانتماء. يمينٌ ويسار، مدنيٌ وعسكري، أميٌ وختمي، إسلاميٌ وعلماني، عربيٌ وأفريقي، شماليٌ وجنوبي، جلابيٌ وغرباوي، جاهزيةٌ وفلنقاى. اصطفافات متقابلة، تتصادم وتتفكك بدلاً من أن تضع رؤية واحدة تبني مستقبلًا مشتركاً. الثورة التي كان يجب أن توحدنا تحت راية الوحدة (يا العنصري المغرور كل البلد دارفور)، تحولت إلى ساحة لتناحر المصالح الشخصية والانتماءات الضيقة. ومع كل انقسام، يضيع جزء من الحلم، ويغدو الطريق إلى التغيير أكثر غموضاً.

سُلب الوطن فرصته العظيمة، بدل أن تحول تنوعه إلى قوة ونعمة تثري الهوية وتعزز التماسك، تحولت إلى نقمةٍ مزقت النسيج الاجتماعي واشعلت الحروب وأدمعت المقل. كان يمكن لهذا التنوع الثقافي والعرقي أن يكون كالنيل الذي احتضن بعدهما في مقرن النيلين لتغذي أرضاً خصبةً بالسلام والإبداع، لكن، بفعل ضيق الأفق وسوء الإدارة أمسى أبواباً مؤصدة تبعثر أمامها أحلام شعب يفترض أن يبنى وطنا على أسسٍ راسخة، مواطنة متساوية وتنمية متوازنة. تلك الثورات تستحق التأمل، لأنها تحمل في طياتها حكمة مرة: الطريق إلى النهضة لا يُعبد بالهتافات الجوفاء، ولا يتحقق بالانقياد الأعمى خلف الشعارات، بل يحتاج إلى وعيٍ يقرأ الماضي بعين ناقدة، ويتعلم من السقوط كيف يُعيد بناء الحاضر، بإرادةٍ تتغذى على التجربة، وإيمانٍ يصنع من الألم أجنحةً للتحليق نحو فضاءات ارحب.

التاريخ يروي شواهدٌ مؤلمة تُذكّرنا أن الحرية ليست شعلةً توقدها ثورة تهدم بلا بناء، بل هي ثمرةُ وعيٍ عميق يتأسس على قيم صلبة يبدأ في العقول، تُضيء الطريق برؤية تجمع الحلم بالاستراتيجية والعمل الدؤوب. الحرية لا تخرج من فوضى الهدم، بل من نظام بناء متين، حيث تلتقي جيل التضحيات بجيل البطولات، لتُبني وطناً يستحق ما بُذل لأجله، تتناغم فيه الطموحات مع الأفعالٍ لتُرسخ العدالة والكرامة في وجدان الأمة. فهي ليست أعياداً تُزيّن بها الطرقات، بل جراحات مفتوحة لا تزال تنزف دماً تستحق أن يُعاد ذكراها كل عام بدموع تنساب من عيون صادقة وقلوب تنزف ألماً اكراماً للشهداء. ليست مجرد احتفالات وتواريخ تسود صفحات التاريخ، بل هي دروسٌ دامية وإشارات تحذيرٍ على طريق الوطن، ينبغي أن نحملها في وعينا نستذكرها لا لنغرق في الأحزان، بل لنمنحها قوةً، لنُعيد بناء الحاضر والمستقبل بحكمة المستنير، ونتجنّب تكرار الأخطاء التي جعلت الوطن يئن تحت وطأة الابتلاءات.

التغيير الثوري ليس مجرد أحلام عابرة تُلقي بها رياح الزمن حيث تشاء، بل صرخة عميقة في وجه الواقع، ومشاهد صارخة كشفت الستار عن ابتلاءاتٍ عصفت بأركان الوطن وهزّت جذوره. وفتحت صفحات من الألم والدموع، سُطرت بدماء الشهداء الذين ارتقوا من أجل كرامة الشعب، تاركين خلفهم أسئلة ثقيلة ألقتها الأقدار على عاتق أجيالٍ لم تكن على قدر من الآستعداد لصياغة إجابات تليق بحجم التحديات. هل كانت أغانينا الحماسية وأحلامنا الكبرى مجرد أوهام نخدّر بها وجدان الشعوب، (باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني والحقول اشتعلت قمحاً وعداً وتمني)، فلا قمحاً رأينا يُثمر الحقول، ولا وعداً تحقق، ولا تمنياً أصبح واقعاً. هل كانت مجرد شعارات لم تكتمل، عكّر صفوها غياب الرؤية والعمل المدروس؟ لقد أراد الثوار أن يبنوا وطناً يُصان فيه الكرامة الوجودية للأنسان، لكنها اصطدمت بواقع الانقسامات وصراعات المصالح. هل اليوم نمتلك الشجاعة لإعادة قراءتها، ونستخلاص الحكمة من آلامها، لنصنع وطنا بخطواتٍ ثابتة، ونقدّر تضحيات الأجيال، وطن يستحق أن نغني له: “باسمك الشعب انتصر، حائط السجن انكسر”. وطنٌ نصوغ مستقبله بوعيٍ ومسؤولية. لكن. بمشاكسة الأبناء انتهى بنا الحال إلى انتصارٍ غامض، أفضى إلى سؤالٍ معلق والكل يتهم الآخر من فتح السجن؟ ولكن هل الحرب تحريرًا من الكيزان، أم ديمقراطيةً مزعومة صاغتها الميليشيات، أم بدايةً لفوضى جديدة تهدد الوطن ؟ تساؤلاتٌ ثقيلة تتركنا في مواجهة تاريخٍ يحتاج إلى قراءةٍ أعمق، لا لنمجّده بأوهام الماضي، بل لنفهمه بوعيٍ حقيقي يُضيء الطريق.

‏النهضة لا تُبنى على بهجة مؤقتة بانتصاراتٍ زائفة ولا على ضجيج الشعارات، بل على وعي وحكمة تُستخلص من تحت رماد التجارب الأليمة، وإرادة تتجاوز الخيبة لتُحول آلام الماضي إلى طاقة بناءة تصنع أجنحةً للتحليق في الآفاق، تقودها قلوبٌ مخلصة بوعي وهمة لا تنخدع بسطحية الشعارات، بل تؤمن بأن البناء يبدأ من إدراك المعنى العميق للتضحية، ورؤيةٍ ثاقبة تُعيد للوطن عزته وكرامته ومكانته بين الأمم. وإلا سيأتي يومٌ نتذكر فيه أن للوطن حقا علينا، لكن الذكرى حينها لن تجدي نفعاً، وستكون أشبه بصدى كلمات ضاعت في الآفاق. يوم نندم على ما فرطنا فيه من وفاءٍ لهذا التراب، ونرى كيف الفرص ضاعت بين أيدينا وفرطنا في وحدتنا، وأهدرنا الطاقات في نزاعات لا تزيدنا إلا بعدا. وكيف استبدلنا لغة الحوار بلغة التناحر، فبعثرنا حلم الوطن وأوصدنا الأبواب أمام مستقبلٍ كان يمكن أن يجمعنا.
لن تُعيد لنا الأيام ما انكسر، ولن تُصلح الندامة ما أفسدناه بأيدينا. فالفرص التي ضاعت لن تعود مرة أخرى. لكن السؤال الذي يلح علينا اليوم: هل نستطيع أن ندرك، قبل فوات الأوان، أن الوطن ليس مجرد مساحةٍ نعيش عليها، بل كيانٌ حي يستحق منا الولاء، والإخلاص، والعمل حينها فقط، يمكن للوطن أن يكون البيت الذي يحتضن التنوع.

‏abudafair@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

خبير استراتيجي: مقترح تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية خط أحمر لمصر ومصيره الفشل

قال نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية اللواء محمد إبراهيم الدويري، إن مقترح تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية هو خط أحمر لمصر ومصيره الفشل، مشدداً على أن مصر قادرة على رفض أي مواقف تتعارض مع أمنها القومى.

وأضاف اللواء الدويري، في تصريح خاص لوكالة أنباء الشرق الأوسط، اليوم الجمعة، أن المقترح الذي طرحه الرئيس الأمريكي مؤخراً بشأن تهجير سكان قطاع غزة إلى كل من مصر والأردن أثار العديد من ردود الأفعال والكثير من اللغط على مختلف المستويات في ضوء تأثيره المباشر على مستقبل القضية العربية المركزية الأولى وهى القضية الفلسطينية وما يمكن أن يؤدى إليه تنفيذ هذا المقترح من تصفية حقيقية للقضية بغض النظر عن كافة التصريحات الأمريكية التي حاولت أن تضفى جانباً إنسانياً زائفاً على طبيعة هذا المقترح المشبوه .

وتابع: هذا المقترح لا يحتاج إلى اجتهاد كبير فى فهم مغزاه وأهدافه الخفية، مشيراً إلى أنه يتوائم بشكل كبير مع المخططات الإسرائيلية المطروحة منذ أكثر من عقدين من الزمان بشأن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، كما يتماشى فى الوقت نفسه مع الإجراءات الإسرائيلية المكثفة فى الضفة الغربية التى لا تخلو أيضاً من تعمد تهجير سكانها بصورة ممنهجة وتدريجية، وهو ما يعنى فى النهاية أننا أمام مقترح إسرائيلى تبناه وطرحه الرئيس ترامب على غرار صفقة القرن التي طرحها فى يناير عام 2020 خلال ولايته الأولى حيث أنها كانت صفقة إسرائيلية طرحتها الإدارة الأمريكية .

وقال الدويري، إن الأمر الغريب الذي يجب أن نقف عنده كثيراً أن الرئيس الأمريكي طرح مقترح التهجير عقب عودته إلى البيت الأبيض بأيام قليلة الأمر الذى يثير الشكوك حول أن هذا المقترح لم يتم طرحه من فراغ وإنما بناء على رؤية أو دراسة مسبقة ثم ظهر الأمر جلياً خلال لقاء نتنياهو مع الرئيس ترامب فى واشنطن فى الرابع من فبراير الجاري وأصبح المقترح قضية علنية يتحدث عنها العالم .

وأكمل، أنه من المستغرب أيضاً أن نجد أن الرئيس الأمريكي ومساعديه يعيدوا كل يوم التأكيد على المقترح رغم الرفض المصري والأردني والدولي الذي وصل إلى البيت الأبيض وكأن واشنطن ترغب في توصيل رسالة إلى كافة الأطراف بأنها عازمة على التحرك في مسار تنفيذ هذا المقترح بغض النظر عن أية مواقف رافضة له سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

وأكد أن الموقف المصري الرافض لمقترح التهجير والذي عبرت عنه القيادة السياسية ومختلف المؤسسات الرسمية والشعبية جاء متمشياً تماماً مع الدور المصري المميز والمشرف الذي إلتزمت به مصر منذ بداية القضية الفلسطينية منذ عقود طويلة وحتى الآن وتبنيها قى كافة المحافل مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، وكذا وقوف مصر طوال مراحل القضية ضد كافة محاولات إسرائيل لتصفيتها لاسيما خلال الحرب الأخيرة على غزة حيث اعتبرت مصر أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعد خطاً أحمر بالنسبة للأمن القومى المصرى لن نسمح لأحد بتجاوزه .

وشدد الدويرى على أن أي حديث عن إمكانية قبول مصر مثل هذا المقترح، فهو حديث تنقصه الدقة وينقص كل من يتحدث به معرفة طبيعة مواقف الدولة المصرية العظيمة التى لم ولن تتخلى يوماً عن القضية الفلسطينية، كما أن أي حديث عن إمكانية تعرض مصر لأية ضغوط تجبرها على التجاوب مع هذا المقترح يعد حديثاً مرفوضاً ووهمياً حيث أن مصر لم ولن تقبل أن تتنازل عن مبادئها وثوابتها وإلتزاماتها تجاه هذه القضية العادلة مهما كان الثمن سواء بالضغوط أو الإغراءات .

ونبه إلى أنه من الواضح أن هناك مخططاً إسرائيلياً أمريكياً بدأ بطرح مسألة التهجير كمقدمة للوصول إلى مرحلة إنهاء القضية الفلسطينية ودعم المشروع الإسرائيلي للإندماج فى المنطقة دون تقديم أية تنازلات للفلسطينيين، ومن ثم فإن الرفض المصري لهذا المقترح كان سريعاً وواضحاً وطبيعياً.

وأشار إلى أن التحرك المطلوب والعاجل يتمثل فى أن يكون هناك موقفاً عربياً يصل بكل قوة وحزم إلى الإدارة الأمريكية التى عليها أن تعيد حساباتها ليس فقط تجاه هذا المقترح المرفوض ولكن تجاه تسوية القضية الفلسطينية ككل بعيداً عن الإنحياز الأعمى غير المبرر بهذا الشكل لإسرائيل وذلك إذا كانت لديها الرغبة في أن تستقر منطقة الشرق الأوسط.

واختتم اللواء محمد إبراهيم بالتأكيد على أهمية أن تعلم واشنطن أن علاقاتها الإستراتيجية مع مصر، التى نحرص على استمرارها وتطويرها، هى علاقة مصالح مشتركة تحقق المزايا للطرفين فى إطار من التنسيق والتفاهم والإحترام المتبادل ولم تكن يوماً علاقة نخضع فيها لأية تبعية بمعنى "أننا نملك قرارنا بأيدينا ولدينا الحق الكامل والقدرة على رفض أية مواقف أمريكية أو غيرها تتعارض مع متطلبات أمننا القومى".

مقالات مشابهة

  • حوحو :”أشكر اللاعبين على الحرارة رغم الفشل في التتويج “
  •  الفشل الأمريكي في إنقاذ الطيارين الأسرى من فيتنام الشمالية
  • انطلاق «هاكاثون التعليم الذكي» في جامعة بنها غدا بمشاركة 35 فريقا
  • مسارات “الثورة”.. دروس ليبية تحذر سوريا من فخ الفوضى والانتقام
  • خبير استراتيجي: مقترح تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية خط أحمر لمصر ومصيره الفشل
  • كارثة تهدد حياة مرضى الفشل الكلوي في عدن بسبب انقطاع الكهرباء
  • الإعمار: الطريق الحلقي لبغداد سيضم مسارات للنقل العام وجسورًا ومجسرات
  • تأملات قرآنية
  • خالد الجندي: الأعمال الصالحة في شعبان تؤثر في الأقدار في رمضان
  • ضياء الدين بلال يكتب: القوة الخفية التي هزمت حميدتي (2-2)