كيف يتحكم الجيش في اقتصاد إسرائيل؟
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
التفت محللون إلى التأثير المباشر للحرب التي شنتها تل أبيب ضد قطاع غزة على الاقتصاد الإسرائيلي، من قبيل نقص الاحتياطي من النقد الأجنبي، ما أدى إلى عجز في الموازنة العامة، وانكماش النمو الاقتصادي، وارتفاع معدل التضخم، وخفض التصنيف الائتماني للدولة العبرية.
لكن كثيرين لم ينتبهوا إلى تأثير أعمق يتعلق بالدور الاقتصادي للجيش، الذي يتعدى مشروعاته المباشرة، إلى دوره في تأهيل الموارد البشرية للإسهام في اقتصاديات الدولة، عبر المشروعات الحكومية والمدنية الخاصة.
وهذا الأثر أبعد من أن تمحوه الإجراءات العاجلة التي ستتخذها الحكومة لإنعاش الاقتصاد من قبيل خفض الإنفاق، وزيادة الإيرادات خاصة من الضرائب، التي يتوقع أن تصل إلى 18% خلال عام 2025، وخفض الأموال الممنوحة للأحزاب السياسية التي تشكل الائتلاف الحاكم، وإلغاء وزارات حكومية غير ضرورية، ومكافحة السوق السوداء.
فالجيش الإسرائيلي يلعب، على مدار العقود الأخيرة، دورًا مهمًا في تأهيل المواطنين على ريادة الأعمال، بتعزيز قدرتهم على الابتكار والإبداع والمنافسة، فبعض القيم والممارسات التي تحكم التجنيد الإلزامي، وتدمج فيه جزءًا كبيرًا من المجتمع، باستثناء الحريديم وفلسطينيي 1948 والمسيحيين، مثل الارتجالية، وتجنب الآثار السلبية للهرمية الإدارية دون غياب التنظيم، وتعلم النقد والمجادلة والمساءلة، ثم الإسناد عبر""الصناديق التمويلية"، وتعليمهم كيفية التسويق.
وقد ساهمت هذه القيم والإجراءات في إنعاش الاقتصاد وفق ما تسمى "رأسمالية المجازفة" بالنسبة للمجندين، وانعكست كذلك على الدور الذي يمارسه الجنود غير الصالحين للقيام بالمهام القتالية، لأسباب صحية وغيرها، مثل الخدمة في أعمال مدنية لصالح الجمهور، كمساعدة المعلمين في المدارس الحكومية، والعمل في إذاعة الجيش.
إن الجيوش لديها ميل طبيعي إلى الانضباط على حساب المرونة، وهذا مختلف لدى الجيش الإسرائيلي. فحين "يفكر المرء في العقيدة العسكرية فإن ما يخطر على البال هو الهرمية الصارمة، والطاعة المطلقة للرؤساء، والإنصات جيدًا إلى أوامرهم، والامتثال لحقيقة ترى أن كل جندي مجرد مكون صغير، غير مطلع، ضمن منظومة شاملة.
بيد أن الجيش الإسرائيلي لا ينطبق عليه هذا الوصف. إنما هناك ثقافة ارتجالية مضادة للهرمية، شجعت الإسرائيليين على إيجاد شركاتهم الوليدة، وأصبحت لافتة إلى درجة أن هناك من يصفها بسحر التكنولوجيا الذي يكتسبه الإسرائيليون في وحدات النخبة العسكرية.
وجانب مهم من القيم الاقتصادية التي يضخها الجيش في أوصال المجتمع تعود إلى اللامركزية في اتخاذ القرار على المستوى الميداني التكتيكي، فهناك خطة عامة لكل الفرق والألوية والكتائب والسرايا والفصائل، لكن كل قائد ميداني ينفذها وفق الظروف التي يمر بها. مع سهولة انسياب الأوامر وتبادل التعليمات بين القيادات العليا والدنيا، بما يعزز الثقة بينهم.
وهناك صلاحيات واسعة لقادة مختلف التشكيلات بما فيها الدنيا. حيث يمكن لجندي صف بدرجة رقيب استدعاء سلاح الجو لتقديم مساعدة أو مساندة ميدانية له. وهذا يعلم، دون شك، الفرد في الجيش الإسرائيلي، مهما صغرت درجته أو رتبته، الثقة في اتخاذ القرار، وتوقع الاستجابة، ما ينعكس على أدائه بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، وإقامته مشروعه الخاص.
وعلى وجه العموم، نجد أن هذا الدور الاقتصادي ـ الاجتماعي للجيش الإسرائيلي يقوم على ثلاثة اعتبارات أساسية، هي:
إقامة مجتمع عسكري، لتعويض إسرائيل عن نقص القوة البشرية، الذي يحول دون تكوينها جيشًا عاملًا كبيرًا، وتعليم الجندي أن الهدف من خدمته ليس أكثر من الدفاع عن المجتمع، ما يعني إعداد مجتمع الاحتلال إعدادًا عسكريًا ظاهرًا، وجعل الجيش في نهاية المطاف، أداة أساسية في يد الدولة. تطوير السكان كقوة قومية واجتماعية تستطيع أن تتكفل بنفسها اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وعسكريًا، وخلق تكتل قادر على زيادة طاقته البشرية والإنتاجية، ثم إخضاع كل الحياة في دولة الاحتلال لحاجات الحرب، ومن هنا كان على السكان والاقتصاد والسياسة أن تصبح جزءًا من إستراتيجية حرب طويلة المدى. لذا يتم دمج المجتمع كله في المجهود الحربي على اختلاف مكوناته من حيث التعليم والطبقة ومكان القدوم والآمال التي يعلقها على الدولة. مثَّل الجيش الإسرائيلي قاطرة التقدم التقني في المجتمع، وهذا يتماشى مع الوظيفة التي يريدها الغرب لإسرائيل كقوة رادعة، هي العليا إنفاقًا على التسلح في دول حوض البحر المتوسط، حيث زاد على مائتي مليار دولار في السنوات العشر بين 2010 و2020.ولهذا الجيش ميزانية معلنة ضمن الموازنة العامة للدولة، يقرها الكنيست، وأخرى سرية تسمى "ميزانية التعاقدات"، لا يعلم أحد خارج الجيش عنها شيئًا، وهي مسألة قابلة للمراجعة بعد أن تضع الحرب على غزة أوزارها.
وقد عبّر شمعون بيريز رئيس وزراء إسرائيل السابق عن دور الجيش في تحديث المجتمع الإسرائيلي بقوله: "كل تكنولوجيا تصل إلى إسرائيل من أميركا، تجيء إلى الجيش، وفي ظرف خمس دقائق يغيرونها".
فكل مدد جاء لإسرائيل المعسكرة، كان على القائمين بأمورها أن يستفيدوا من هذا المدد في تقوية الدولة، كي تحتفظ بقدر من استقلاليتها عن الغرب نفسه بمرور الوقت، أي لا تكون في كل حين رهينة لسياساته ومصالحه، إنما يكون ولاؤها الأساسي لمصلحتها هي، متعدية، على قدر الاستطاعة، دور الدولة الوظيفية.
بمرور الوقت بدأت ثقافة السوق القائمة على السيطرة الاقتصادية، تحل محل الحالة التقليدية لـ "المواطن ـ الجندي" المشدود إلى سيطرة سياسية. فقد خضع الجيش لتنافس السوق، وتم تسليع الخدمة العسكرية، وهذا معناه ببساطة انخفاض مستوى مشاركة المؤسسات السياسية في تشكيل قرار السلم والحرب، قياسًا إلى ما كانت عليه الحال في الماضي.
بات الجيش الإسرائيلي ذا توجه سوقي يقوم على التمييز بين التضحية بالمال مقابل التضحية بالجسد. ويتم هذا في جو تنافسي، يحكم فيه قانون السوق الممارسات العسكرية، ويجبر الجيش على تسويق خدماته، بما يسمح باختراقه إعلاميًا، وإقامة حوار مع الشعب؛ بغية الترويج لما ينتجه، وبالتالي يتحول الجنرالات إلى شخصيات عامة.
أصبحت آليات السوق هي الأكثر فاعلية والتي يمكنها تحدي تفوّق الفكر العسكري عن طريق تقييد المؤسسة ماديًا، لا سيما عندما تصبح كلفة الحرب مرتفعة نسبة إلى المكاسب السياسية والاقتصادية غير المباشرة.
هذا التوجه يجعل تكلفة الحرب تؤخذ في الحسبان حين تقرر الحكومة شنها، أو حين يطول أمد الحرب، فتزيد هذه التكلفة، وبذا يوجد الذين يبدون ضجرًا أو تبرمًا من هذا سواء كانوا عسكريين أم منخرطين في الحياة المدنية، لا سيما بعد الاضطرار إلى استدعاء عدد كبير من الاحتياطيين، والإبقاء عليهم طويلًا في ميدان المعركة.
وتأتي الحرب لتؤثر بشكل عميق على المعادلة القائمة بين الجيش والاقتصاد والمجتمع في إسرائيل. فمثلًا، أدت حرب 2006 إلى تسريع طريقة الإشراف المدني على الجيش، أي سيطرة السوق.
فنموذج الجندي الذي بواسطته كان المجتمع السياسي يشرف على الجيش عبر الشبكات الاجتماعية التي تخدم فيه، حل محله الجندي الواقع تحت سيطرة السوق، حيث المراقبة ذات التوجه التجاري لنشاطه، والناشئة من التغيير في تركيبته الاجتماعية، وتأثير الجو التنافسي على غرار السوق الذي يجبر الجيش على تسويق خدماته عن طريق السماح بالاختراق الإعلامي والحوار مع الشعب مباشرة، وتسليع الخدمة العسكرية كجزء من عملية الاحتراف.
وهنا يرى الجنرال جيورا إيلاند وهو من ترأس شعبة التخطيط في الجيش ومجلس الأمن القومي أن حرب 2006 شهدت انحرافًا عن "النموذج الريادي"، ووقعت في أربعة إخفاقات للجيش هي: سوء أداء الوحدات المقاتلة خصوصًا في البر، وضعف القيادة العليا، ورداءة عملية القيادة والسيطرة، وفشل القيم التقليدية التي اعتادها الجيش حيث كان من النادر تجاوز الأفكار المسبقة والمسلم بها، وامتلاك ذهنية منفتحة على أفكار جديدة.
وطغيان آليات السوق على الجيش الإسرائيلي في ظل تبادل المنافع، عبر تغذية مرتدة بين المجتمع والجيش، ساهم في جعل الاقتصاد أكثر حساسية للحالة التي يكون عليها الجيش، في السلم أو في الحرب، وفي الأخيرة ما إن كان ينتصر أو يتعثر أو ينهزم، وما إذا كان يشن حربًا خاطفة، أم تورط وتوعك في حرب طويلة.
وارتدت الحرب ضد غزة سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي من باب المشروعات الصغيرة، الأكثر هشاشة فيه، والتي كان وجودها أحد وجوه التعبير عن القيم الثقافية التي يصنعها التجنيد في المجتمع من حيث المبادرة والقدرة على اتخاذ القرار والابتكار، وفق تصور بعض الباحثين الاقتصاديين الغربيين. فمن بين 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هناك 35 ألف شركة صغيرة بنسبة تصل إلى 77%. ويتوقع وصول عدد الشركات المغلقة إلى 60 ألف شركة بنهاية عام 2024.
وتعرضت قطاعات اقتصادية مهمة لأضرار، مثل البناء والتشييد، وقطاع التجارة والسياحة، والزراعة وبعض الصناعات. وبلغت نسبة الضرر في قطاع البناء والتشييد نحو 27%، وقطاع الخدمات نحو 19%، فيما تضرر قطاع الصناعة والزراعة بحوالي 17%، وقطاع التجارة بنحو 12%.. أما صناعة التكنولوجيا الفائقة (هايتك) والتقنيات المتقدمة فبنحو 11%، وصناعة الأغذية والمشروبات بنحو 6%.
ويتوقع أن تتعمق الآثار السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي مع تراجع نسبة المهاجرين الجدد، والذين كانوا على الدوام يشكلون مصدرًا رئيسيًا لحيوية الاقتصاد. وهذا التوقع يُبنى على خبرة سابقة تظهر أن الهجرة إلى إسرائيل تزيد وقت انتصار جيشها، وتتراجع وقت تعثره أو هزيمته. فمثلًا نجد أنه بين عامي 1972 و1973 هاجر إلى إسرائيل نحو مائة ألف شخص جديد، لكن العدد تراجع إلى أربعة عشر ألفًا عام 1974، واقترب من الصفر عام 1975.
ومع تراجع هجرة اليهود إلى إسرائيل، التي صنعت قوة دافعة في شرايين اقتصادها، هناك الآن هجرة عكسية، يقدرها البعض بأنها وصلت إلى نحو نصف مليون شخص منذ اندلاع "طوفان الأقصى".
ويؤدي هذا إلى خلق عاملين ضاغطين على هذا الاقتصاد، أولهما: هجرة الأدمغة، حيث يفضل اليهود المتميزون، ومن بينهم الذين اكتسبوا مهارات تقنية فائقة من انخراطهم في الجيش، مغادرة البلاد، عائدين إلى بلدان أخرى لا يزالون يحملون جنسياتها، وجوازات سفرها.
والعامل الثاني يتمثل في ضعف قوة العمل، حيث يشارك النصف تقريبًا في الإنتاج، وكانت تل أبيب تعوض هذا من العمالة الفلسطينية القادمة من غزة والضفة الغربية والتي توقفت بسبب الحرب.
ما يزيد الطين بلة أن الاقتصاد الإسرائيلي بطبعه أكثر حساسية تجاه أي تهديدات أمنية تؤدي إلى عزوف المؤهلين في الذكاء والمهارات ورأس المال عن الاستثمار في الدولة العبرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الاقتصاد الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی إلى إسرائیل الجیش فی
إقرأ أيضاً:
نقطة تحول.. «ثروة الأمم» لآدم سميث كتاب يحث على زيادة الإنتاج
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يُعد كتاب ثروة الأمم لآدم سميث أحد أهم الكتب في تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث قدم رؤية شاملة حول كيفية ازدهار الاقتصاد من خلال مبادئ السوق الحر.
نشر الكتاب عام ١٧٧٦، في فترة كانت السياسات الاقتصادية تهيمن عليها القيود التجارية والاحتكارات، فجاء سميث ليقدم بديلًا فكريًا قائمًا على الحرية الاقتصادية والتخصص في العمل. استند في تحليله إلى ملاحظات واقعية عن الاقتصادات الأوروبية، موضحًا كيف يمكن تقسيم العمل أن يؤدي إلى زيادة الإنتاجية، وكيف أن ترك السوق لينظم نفسه عبر آلية العرض والطلب يمكن أن يعزز النمو الاقتصادي دون الحاجة إلى تدخل مفرط من الدولة.
يناقش الكتاب أيضًا أهمية التجارة الحرة وأثرها في تحقيق الرفاهية الاقتصادية، حيث انتقد السياسات الحمائية التي تعيق تدفق السلع والخدمات بين الدول. كما سلط الضوء على دور الدولة في الاقتصاد، موضحًا أنه رغم أهمية السوق الحر، فإن للحكومة دورًا في حماية المنافسة العادلة، وتوفير البنية التحتية، وضمان الأمن والاستقرار. وبفضل هذه الأفكار، أصبح ثروة الأمم حجر الأساس للفكر الاقتصادي الكلاسيكي، وما زال تأثيره واضحًا في السياسات الاقتصادية والنظريات الحديثة حتى اليوم. ومن أهم المحاور والأفكار الرئيسية للكتاب:
تقسيم العمل وأثره في الإنتاجيةيُعد تقسيم العمل أحد المفاهيم الأساسية التي طرحها آدم سميث في ثروة الأمم، حيث يرى أنه يساهم في تحسين الإنتاجية من خلال توزيع المهام بين العمال بشكل يتيح لكل فرد التركيز على جزء محدد من العملية الإنتاجية. هذا التخصص يؤدي إلى زيادة كفاءة الأفراد، حيث يصبح كل عامل أكثر مهارة وسرعة في أداء مهمته المحددة مقارنة بالعمل العشوائي غير المنظم. وبهذه الطريقة، يتحقق استخدام أكثر فعالية للوقت والموارد، مما يؤدي إلى إنتاج كميات أكبر من السلع بجودة أعلى.
يقدم سميث مثالًا عمليًا على تقسيم العمل في مصنع الدبابيس، حيث لاحظ أنه عندما يقوم كل عامل بإنتاج دبوس من البداية إلى النهاية بمفرده، فإن الناتج يكون منخفضًا جدًا. ولكن عند تقسيم العملية إلى عدة مراحل، مثل سحب السلك، وتقطيعه، وصقل رأس الدبوس، وتجميعه، يصبح الإنتاج أكثر كفاءة، ويمكن لنفس العدد من العمال إنتاج أضعاف ما كانوا ينتجونه سابقًا. هذا المثال يوضح كيف أن التخصص في المهام يؤدي إلى زيادة الإنتاج دون الحاجة إلى زيادة عدد العمال أو الموارد المستخدمة.
علاوة على ذلك، يؤدي تقسيم العمل إلى تحسين جودة السلع، حيث يصبح العمال أكثر مهارة في تنفيذ مهامهم المحددة. فعندما يكرر العامل نفس العملية يوميًا، يكتسب خبرة كبيرة، مما يتيح له تنفيذ عمله بسرعة ودقة أكبر. بالإضافة إلى ذلك، يسمح هذا التخصص بتطوير أدوات وآلات تساعد في تحسين الإنتاجية، حيث يسعى الأفراد إلى ابتكار وسائل تسهّل أداء المهام المتكررة، مما يسهم في رفع الكفاءة العامة للاقتصاد.
ورغم الفوائد العديدة لتقسيم العمل، إلا أن سميث أشار أيضًا إلى بعض العواقب السلبية، مثل احتمال شعور العمال بالملل نتيجة تكرار نفس المهام البسيطة يوميًا، مما قد يؤثر على إبداعهم ورضاهم الوظيفي. لكنه في النهاية يرى أن الفوائد الاقتصادية التي يحققها تقسيم العمل تفوق هذه العيوب، حيث يسهم في تحقيق نمو اقتصادي سريع وخلق المزيد من الثروات للأفراد والمجتمعات.
يُعتبر مفهوم «اليد الخفية» من أبرز الإسهامات الفكرية لآدم سميث، حيث استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى قدرة الأسواق الحرة على تنظيم نفسها بشكل تلقائي من خلال آلية العرض والطلب، دون الحاجة إلى تدخل مباشر من الحكومة. وفقًا لسميث، عندما يسعى الأفراد لتحقيق مصالحهم الشخصية، فإنهم يساهمون دون قصد في تحقيق المنفعة العامة للمجتمع. فمثلًا، عندما يسعى التاجر إلى تحقيق الربح، فإنه يحرص على تقديم سلع ذات جودة عالية بأسعار مناسبة لجذب الزبائن، مما يؤدي في النهاية إلى تحسين جودة المنتجات المتاحة في السوق.
تعمل آلية العرض والطلب كقوة تنظيمية داخل السوق، حيث يؤدي ارتفاع الطلب على سلعة معينة إلى ارتفاع سعرها، مما يشجع المنتجين على زيادة إنتاجها. وعلى العكس، إذا انخفض الطلب، تنخفض الأسعار، مما يدفع المنتجين إلى تقليل الإنتاج أو البحث عن بدائل أكثر ربحية. هذه الآلية الطبيعية تضمن التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وتمنع حدوث نقص أو فائض كبير في السلع والخدمات.
ومن خلال هذه الفكرة، يرفض سميث تدخل الدولة في الاقتصاد إلا في حالات محددة، مثل حماية المنافسة العادلة ومنع الاحتكارات. فهو يرى أن فرض القيود والضرائب على التجارة يمكن أن يؤدي إلى تشوهات في السوق، ويمنع الموارد من التدفق بحرية إلى القطاعات الأكثر إنتاجية. لذلك، يدعو إلى إزالة العوائق أمام التبادل التجاري والسماح للمنافسة الحرة بتحديد الأسعار وتوزيع الموارد بكفاءة.
إلا أن هذه النظرية ليست بلا انتقادات، حيث يرى بعض الاقتصاديين أن الأسواق قد تفشل أحيانًا في تحقيق التوازن المثالي، خاصة في حالات الأزمات الاقتصادية أو عند وجود احتكارات قوية تتحكم في الأسعار. ومع ذلك، تظل فكرة «اليد الخفية» إحدى الركائز الأساسية في الفكر الاقتصادي الليبرالي، وهي تشكل الأساس للسياسات الاقتصادية في العديد من الدول الرأسمالية الحديثة.
على الرغم من أن آدم سميث كان من أكبر المدافعين عن الحرية الاقتصادية، إلا أنه لم يكن من دعاة إلغاء دور الدولة بالكامل. فقد أكد أن هناك مجالات معينة لا يمكن تركها للسوق الحر وحده، بل تتطلب تدخل الحكومة لضمان استقرار النظام الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية. ويرى سميث أن دور الدولة يجب أن يكون محدودًا ومركزًا على ثلاثة مجالات رئيسية: حماية الأمن القومي، وإنشاء البنية التحتية، وضمان العدالة في السوق.
أولًا، يؤكد سميث أن الحكومة يجب أن تلعب دورًا في حماية المجتمع من التهديدات الخارجية، من خلال توفير جيش قوي يحمي حدود الدولة ويضمن استقرارها. فبدون الأمن، لا يمكن للاقتصاد أن يزدهر، حيث لن يتمكن الأفراد من ممارسة أنشطتهم التجارية بحرية في ظل غياب الاستقرار السياسي والعسكري.
ثانيًا، يشير سميث إلى أهمية دور الدولة في بناء البنية التحتية، مثل الطرق والجسور والموانئ، التي تعد ضرورية لتمكين التجارة والنشاط الاقتصادي. ففي كثير من الأحيان، لا يكون لدى الأفراد أو الشركات الخاصة الحافز الكافي للاستثمار في مثل هذه المشاريع الضخمة، لأنها قد لا تكون مربحة على المدى القصير. لذا، يجب أن تتدخل الدولة لتوفير هذه الخدمات التي تعود بالفائدة على المجتمع ككل.
أخيرًا، يرى سميث أن الدولة يجب أن تتدخل لمنع الاحتكارات وضمان العدالة في السوق. ففي ظل غياب الرقابة، قد تلجأ بعض الشركات إلى ممارسات غير عادلة، مثل التلاعب بالأسعار أو استغلال العمال، مما قد يؤدي إلى اختلال في التوازن الاقتصادي. لذلك، يؤيد وجود قوانين تنظيمية تضمن الشفافية والمنافسة العادلة، دون أن تؤدي هذه القوانين إلى تقييد حرية السوق بشكل مفرط.
نظرية القيمة والعملتناول آدم سميث في ثروة الأمم مفهوم القيمة، محاولًا تفسير كيفية تحديد أسعار السلع والخدمات في السوق. وقد ميز بين نوعين من القيم: «القيمة الاستعمالية» و«القيمة التبادلية». تشير القيمة الاستعمالية إلى مدى فائدة السلعة للمستهلك، بينما تعبر القيمة التبادلية عن السعر الذي يمكن الحصول عليه مقابل تلك السلعة في السوق.
ركز سميث على دور العمل في تحديد قيمة السلع، حيث رأى أن الجهد المبذول في إنتاج سلعة معينة يلعب دورًا أساسيًا في تحديد سعرها. فكلما زاد الوقت والموارد المطلوبة لإنتاج سلعة ما، ارتفعت قيمتها التبادلية. على سبيل المثال، السلعة التي تتطلب ساعات عمل طويلة ومواد خام نادرة ستكون أغلى من تلك التي يمكن إنتاجها بسهولة وبتكلفة منخفضة.
مع ذلك، أدرك سميث أن عوامل أخرى قد تؤثر على تحديد الأسعار، مثل العرض والطلب، وتكاليف الإنتاج، والمنافسة في السوق. فحتى لو كانت سلعة معينة مكلفة في إنتاجها، فإن سعرها قد ينخفض إذا كان هناك فائض كبير منها في السوق، أو إذا كانت هناك بدائل أرخص.
أسس سميث بهذا التحليل المفاهيم الأولية لنظرية القيمة، التي تم تطويرها لاحقًا على يد اقتصاديين مثل ديفيد ريكاردو وكارل ماركس. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الحديث يعتمد على نماذج أكثر تعقيدًا في تحديد الأسعار، إلا أن تحليل سميث يظل حجر الأساس في فهم آليات السوق والقيمة الاقتصادية
انتقد آدم سميث السياسات التجارية الحمائية التي كانت سائدة في عصره، والتي اعتمدت على فرض الضرائب الجمركية المرتفعة والقيود على الواردات، بهدف حماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية. رأى سميث أن هذه السياسات تعيق النمو الاقتصادي وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتقليل جودة المنتجات، حيث تحمي الشركات غير الفعالة من التحديات التنافسية. بدلًا من ذلك، دعا إلى تبني مبدأ التجارة الحرة، حيث يمكن للسلع والخدمات التنقل بحرية بين الدول دون قيود تعسفية، مما يسمح لكل دولة بالتركيز على إنتاج السلع التي تمتلك فيها ميزة نسبية.
يرى سميث أن التجارة الحرة تعزز الكفاءة الاقتصادية من خلال السماح للدول بتخصص مواردها في إنتاج السلع التي يمكنها إنتاجها بأقل تكلفة ممكنة، بينما تستورد السلع التي تكون تكاليف إنتاجها مرتفعة محليًا. هذا يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحقيق أقصى استفادة من الموارد المتاحة، مما يسهم في رفع مستويات المعيشة وتحسين رفاهية المستهلكين من خلال توفير سلع أرخص وأكثر جودة. وبفضل المنافسة المفتوحة، تصبح الشركات مضطرة للابتكار وتحسين أدائها للحفاظ على قدرتها التنافسية، مما يؤدي إلى تطور الاقتصاد بشكل عام.
كما أوضح سميث أن السياسات الحمائية غالبًا ما تؤدي إلى احتكار الأسواق الداخلية، حيث تستفيد بعض الشركات الكبرى من الحماية الحكومية دون الحاجة إلى تحسين منتجاتها أو خفض أسعارها. وهذا يؤدي إلى ضعف الابتكار وزيادة التكاليف على المستهلكين، الذين يجدون أنفسهم مجبرين على شراء سلع محلية ذات أسعار مرتفعة وجودة أقل مقارنة بالبدائل الأجنبية. وعلى المدى الطويل، يمكن أن تؤدي هذه السياسات إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة عدم الكفاءة في استخدام الموارد، حيث تُجبر الدول على إنتاج سلع لا تملك فيها ميزة تنافسية حقيقية.
من هذا المنطلق، اعتبر سميث أن الحكومات يجب أن تتجنب التدخل غير الضروري في التجارة، وألا تستخدم الضرائب الجمركية إلا في حالات محددة، مثل تمويل المشاريع العامة أو حماية الصناعات الناشئة لفترة مؤقتة فقط. كما أكد أن الاقتصاد العالمي سيستفيد بشكل عام من إزالة الحواجز التجارية والسماح بتدفق السلع والخدمات بحرية، مما يعزز الازدهار الاقتصادي لكل الدول المشاركة. وتظل أفكاره حول التجارة الحرة أساسًا للعديد من السياسات الاقتصادية الحديثة، حيث تبنت دول عديدة مبدأ تحرير التجارة باعتباره وسيلة لتعزيز النمو والتكامل الاقتصادي العالمي.
يُعتبر كتاب ثروة الأمم نقطة تحول في تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث كان أول عمل شامل يضع إطارًا نظريًا متكاملًا لفهم كيفية عمل الاقتصاد. قبل سميث، كان الاقتصاد يُنظر إليه بشكل أساسي من منظور الفلسفة الأخلاقية أو السياسة، لكنه قدم رؤية تحليلية قائمة على قوانين العرض والطلب، وتقسيم العمل، والتجارة الحرة. من خلال دراساته التفصيلية حول كيفية تكوين الثروة وتوزيعها، أسس سميث المبادئ الأساسية التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم في دراسة الاقتصاد.
إلى جانب ذلك، ساهم الكتاب في تحويل الاقتصاد من مجرد مجموعة من الأفكار المتفرقة إلى علم مستقل له قواعده ونظرياته. فقد أوضح كيف أن التفاعل بين الأفراد والشركات داخل الأسواق يمكن أن يؤدي إلى نتائج اقتصادية متوقعة، ما جعل الاقتصاديين اللاحقين يعتمدون على التحليل المنهجي لفهم المشكلات الاقتصادية. وتُعد مفاهيم مثل «اليد الخفية» ودور الدولة المحدود من الركائز الأساسية التي ساعدت في تشكيل علم الاقتصاد الحديث، وأصبحت محورًا للعديد من النقاشات الاقتصادية في القرون اللاحقة.
كان لكتاب ثروة الأمم تأثير هائل على سياسات الدول، حيث ساهم في ترسيخ مبادئ الاقتصاد الرأسمالي القائم على المنافسة الحرة وتقليل تدخل الدولة. تأثرت العديد من الحكومات بأفكار سميث حول فوائد التجارة الحرة وضرورة تقليل القيود الجمركية، ما أدى إلى تبني سياسات اقتصادية جديدة تُشجع على إزالة الحواجز التجارية وتعزيز تدفق السلع بين الدول. وكانت الثورة الصناعية في أوروبا مثالًا عمليًا على كيف يمكن لتقسيم العمل والسوق الحرة أن يؤديا إلى نمو اقتصادي غير مسبوق.
علاوة على ذلك، لعبت أفكار سميث دورًا رئيسيًا في تطوير النظم الاقتصادية في القرن التاسع عشر والعشرين، حيث أصبحت مبادئه مرجعًا رئيسيًا لصناع القرار في الدول الرأسمالية الكبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة. واستمرت هذه التأثيرات حتى العصر الحديث، حيث نجد أن سياسات الليبرالية الاقتصادية والتجارة الحرة التي تتبناها المؤسسات الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، تعتمد بشكل كبير على المبادئ التي طرحها سميث في كتابه.
لم يكن تأثير ثروة الأمم محصورًا في زمن سميث فحسب، بل امتد ليؤثر في الأجيال اللاحقة من الاقتصاديين الذين طوروا أفكاره وأسهموا في بناء النظرية الاقتصادية الكلاسيكية. كان ديفيد ريكاردو من أبرز المفكرين الذين استلهموا أفكار سميث، حيث طور نظريته حول الميزة النسبية، التي توضح كيف يمكن للدول أن تستفيد من التجارة الدولية حتى لو كانت أقل كفاءة في جميع القطاعات مقارنة بدول أخرى. كما استند جون ستيوارت ميل إلى أفكار سميث في تطوير نظرياته حول حرية الأسواق والتوزيع العادل للثروة.
ساعدت هذه الإسهامات في تعزيز مكانة الاقتصاد الكلاسيكي باعتباره الإطار النظري المسيطر في القرن التاسع عشر، حيث استمرت الحكومات والشركات في تبني السياسات المستندة إلى مبدأ السوق الحرة. وعلى الرغم من ظهور مدارس اقتصادية جديدة مثل الاقتصاد الكينزي في القرن العشرين، إلا أن تأثير سميث لا يزال واضحًا حتى اليوم، حيث يعتمد العديد من الاقتصاديين وصناع القرار على أفكاره في صياغة استراتيجيات النمو والتنمية الاقتصادية.
يُعد ثروة الأمم نصًا محوريًا في تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث وضع الأسس النظرية للاقتصاد الحر والرأسمالية. من خلال تحليله العميق لعوامل تكوين الثروة، قدم آدم سميث رؤية واضحة لكيفية تحقيق الازدهار الاقتصادي عبر آليات السوق والتخصص في العمل. وقد أبرز دور تقسيم العمل في تحسين الإنتاجية، وشرح كيف يمكن لآلية العرض والطلب أن تنظم السوق بشكل طبيعي دون الحاجة إلى تدخل مباشر من الدولة، ما أدى إلى صياغة مفهوم "اليد الخفية" الذي أصبح حجر الأساس في الفكر الاقتصادي الحديث.
لم يقتصر تأثير الكتاب على كونه نظرية أكاديمية، بل امتد ليؤثر بشكل مباشر على السياسات الاقتصادية في مختلف دول العالم. فقد ألهم صناع القرار لاعتماد مبادئ التجارة الحرة وتقليل القيود الحكومية، مما ساعد في تطور النظم الرأسمالية الحديثة. كما كان له تأثير كبير على الاقتصاديين اللاحقين مثل ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل، الذين طوروا نظريات إضافية استنادًا إلى أفكاره، ما جعل الاقتصاد الكلاسيكي القوة المسيطرة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وعلى الرغم من مرور أكثر من قرنين على نشره، لا تزال أفكار سميث ذات صلة بالنقاشات الاقتصادية الحالية، خاصة في ظل العولمة وتحرير الأسواق. فما زالت مفاهيم مثل التجارة الحرة والمنافسة العادلة تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل السياسات الاقتصادية حول العالم، مما يؤكد أن ثروة الأمم لم يكن مجرد كتاب تاريخي، بل هو دليل أساسي لفهم الاقتصاد الحديث وآلياته.