وسط ساحة مستشفى كمال عدوان فى بيت لاهيا، التى تبعد أمتاراً قليلة عن قلب مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، وبردائه الأبيض وسماعته الطبية ويدين مرفوعتين إلى الأعلى فى وضعية الاستسلام، وقف الدكتور حسام أبوصفية، داخل المستشفى الذى يديره، على مقربة من بوابة الدخول الرئيسية وبجواره اثنان من مساعديه بالهيئة ذاتها، ليكون ذلك المشهد رسالة إلى قادة الاحتلال والجنود المدجّجين بالسلاح بأنه لا نزوح أو إخلاء للصرح الطبى الوحيد الذى يعمل فى المنطقة المنكوبة التى تتعرّض لواحدة من أبشع جرائم وعمليات التطهير العرقى فى العصر الحديث.

«عندما أتوقف عن استقبال الجرحى والمرضى فتأكدوا بأننى إما أسير أو شهيد»

«أبوصفية»، الذى تعرّض مشفاه لاستهدافات كثيرة سابقة لم يتخلَّ عن الجرحى والمصابين الذين لجأوا إلى المستشفى بعدما باغتتهم طائرات الاحتلال وهم آمنون فى بيوتهم ونالت الصواريخ من أجسادهم وأرواحهم، ولم يرضخ لأوامر القوات المحتلة ولم تُخِفه تهديداتهم، وواصل العمل تحت حصار الدبابات لأسوار المبنى لمدة شهر، بالتزامن مع أصوات القصف التى استهدفت المستشفى، مروراً باقتحامه من قِبل الجنود واعتقال الكوادر الطبية، وصولاً إلى قتل نجله إبراهيم، صباح يوم 26 أكتوبر الماضى، وإرساله إلى والده جثة هامدة، ليستقبلها الطبيب المرابط بصبر واحتساب وإصرار على مواصلة عمله، حتى إن لم يتبقَّ فى المستشفى سواه، ويقول: «عندما أتوقف عن استقبال الجرحى والمرضى، حينها يجب أن تتأكدوا بأننى إما أسير أو شهيد، ما عدا ذلك فأنا هنا مع الناس حتى النهاية».

يقول «أبوصفية»: إن هذه المرة ليست الأولى التى تستهدف فيها آلة القتل الإسرائيلية مستشفى كمال عدوان. ويتابع: «تعرضوا لعشرات الاقتحامات على مدار عام كامل من الحرب، ولكن هذه المرة هى الأقسى والأصعب، لأن الاحتلال يستخدم مؤخراً أسلحة دقيقة جداً، وتقوم بإحداث إصابات بالغة الخطورة، فى ظل نقص حاد وانعدام للمستلزمات الطبية التى لا بد من توافرها فى مثل تلك الحالات».

 ولم يكتفِ الاحتلال بقتل نجل الطبيب المغامر، بل ذهب لأبعد من ذلك باستهدافه أثناء عمله، إذ استقرت طلقات إحدى الطائرات المسيرة داخل جسده ليسقط على الأرض غارقاً فى دمائه، قبل أن يسعفه الممرضون ليواصل مداواة الجرحى وهو ممسك بعكازيه بينما يتدلى ماسك الأكسجين على وجهه.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: مخـيــم جـبـالــيـا

إقرأ أيضاً:

فيروز.. همس الحب بصوت القمر

لبنان دوماً يعانق الأمل رغم الدمار والخراب التى عصفت به، لم ولن تفقد بريقها ولا روحها، حين تنظر إلى بيروت، ترى مدينة تروى قصص الألم والجمال معًا. ترى الأبنية التى دمرتها الانفجارات وأخرى تحكى عن زمنٍ جميل مضى، ترى فيه وجوه الناس التى تحمل تجاعيد القهر لكنها تخفى فى أعماقها عزيمة لا تنكسر، لبنان بلد يعيش فى حالة دائمة من التناقض، فهو ينبض بالحياة رغم الخراب، ويصر على البقاء رغم كل ما مر به، بلد الدمار فيها يعانق الجمال، شعب تعلم كيف يخلق من تحت الأنقاض حياة، من دماره يخلق ألحاناً يشدو بها رغم الاوجاع والانهيار، روح الشعب اللبنانى بقيت صامدة، يعرفون كيف يحولون الحزن إلى أغنية، وكيف يبنون رغم اليد التى قطعت، لبنان لا يزال يتنفس الأمل، رغم الخراب، لبنان باقٍ، لبنان ليس أرضًا، بل فكرة، وروح، وحياة، وأغنية تبعث الطمأنينة فى النفوس، وقهوة صباحية تجمع الأهل على الشرفة، وسماء تحتضن الجبال والبحر فى لوحة ربانية لا مثيل لها، يبقى لبنان وطنًا لا يشبه غيره، يعلّمنا أن الحياة تستمر مهما كانت قاسية، وأن الجمال يمكن أن ينمو حتى فى أصعب الظروف، سيظل لبنان، وطنًا فيروزى الطرب ثائراً، خلق للشدو والجمال والبقاء، فى ظل تلك الصراعات لا يمكن أن نتناسى  «جارة القمر» تلك الرقيقة الجميلة، فى عيدها الـ ٩٠، فما زالت فيروز هى الوطن الحالم الذى يشدو دون ملل، فيروز حين يهمس الحب بصوت القمر.

فيروز ذاك الصوت المدلل الذى يأخذنا إلى عوالم لا تنتمى إلى الأرض، فى أغانيها نجد الوطن الذى نحلم به، والذكريات الهامسة التى لا تموت، والعشق الذى لا ينطفئ. أغانيها تحمل رائحة القرى اللبنانية وبساتين الياسمين، وخرير الأنهار الزرقاء، ودفء البسطاء، فهى بصدق أنشودة حب فى الوطن الباقى عندما تغنى فيروز تشعر وكأنها تخاطب الروح مباشرة.

فيروز، حالة من السمو فوق كل صخب وسكن الروح من كل عبث وسر الحياة إن كان للحياة سر، والشجن والوجع والفرح والترح عندما يغنى الكون كله، فيكون الصمت دربا عندما تغنى هى، إنها الصوت الذى يرافقنا فى وحدتنا ويحتوينا عندما نفتقد الأمان.

فيروز.. سيدة الصباحات الخالدة، والصباحات المبهجة، عندما تغنى ينبثق من سحر غنائها خيوط الشمس الأولى، ويتسلل فى الوجدان عبير صوتها كحلمٍ دافئ يبعث الحياة فى كل شيء، فهى رمز لأجمل ما فى الفن، قيثارة من السماء تعزف على أوتار قلوبنا ألحان الحب والحنين.

فيروز، تلك المرأة الاستثنائية، والصوت الاستثنائى، والشجن الاستثنائى والعشق الاستثنائى، فى صوتها القوة والحنان، وحروف أغانيها ثورة تحمل الشعر فى أبسط صورة، وتجعل المستمع يشعر بأنه جزء من لوحة فنية متكاملة، فيروز عندما تسمعها، تشعر بقدرتها على التوغل فى آفاق الخيال اللا محدود، فهى الأجدر بأن تكون للجميع، يغنيها المحب والعاشق، ويستمع إليها الحزين والمغترب. أغانيها لا تحتاج إلى تفسير، لأنها تتحدث لغة القلوب.

فيروز، حكاية جيل بعد جيل.، نهل من عبيرها الطفل والشاب ومجمل النساء، فصوتها إشراقة الصباح الذى لا نمل منه، والحنين الذى لا يشيخ، والجمال الذى لا ينتهى. فيروز.. ستبقى إلى الأبد رمزًا للحب، والفن، والوطن.

فيروز.. حين يهمس الحب بصوت القمر، وتسكن الروعة نفوس البشر، فكيف يمكن لصوت أن يكون نافذة على السماء؟ بحنجرة تجمع بين الحنين والرقة، بين الحلم والحقيقة؟ مع فيروز، يصبح الصوت أكثر من مجرد أداة للتعبير؛ إنه لغة للحب، نغماً يسكن فى الأعماق ويعيد تشكيل العالم من جديد.

صوت فيروز ليس مجرد صوت، بل هو إحساس يأخذك إلى مكان لا حدود له، كدفء يد حبيبة تلامس كتفك فى لحظة صمت وشوق، مع كل نغمة تنبعث من حنجرتها، تشعر أن الكون يختفي، وأنك وحدك مع هذا الصوت الذى يهمس بحكايات العشق والحنين، فوق حدود السماء التى لا يراها سواك ولا يشعر بها سواك.

فيروز، فعندما تشدو بـ «كيفك إنت؟» وكأنها تسأل كل عاشق عن أوجاع قلبه، أو عن ملاذ العشيق، فهى تعرف جيدًا أن فى الحب الفيروزى نبحث عن الطمأنينة، عن السؤال البسيط الذى يحمل بين طياته كل المشاعر.

فيروز، حين تصدح «أنا لحبيبى»، تأخذك بعيدًا عن مساحات الوجع، إلى براح الندى، عن كل واقع مرير، إلى عالم تصنعه هى فقط: عالم يملؤه عشق الفيروز النقى، فصوتها يشبه العناق الأول، والرجفة التى تأتى مع الاعتراف بالحب، والابتسامة الخجولة التى تسبق كلمة «أحبك».

فيروز هى تجسيد لكل تلك اللحظات التى نعيشها ونتمناها، صوتها يجعل حتى الألم فى الحب جميلًا، كأنه فصل فى رواية لا نريد أن تنتهى، أو فصول السنة المترنحة، صيفها صيف وربيعها عبير وخريفها وجع وشتاء عاصف يقتنص العشق قنصاً من قلوب المحبين، ففى أغانيها، مشاهد مكتملة من الرومانسية، تصف الطرقات، الأشجار، والمطر، تشعر أن الطبيعة كلها تحيا بعشقها. فيروز لا تغنى للحب فقط، بل خلقت له، موسيقاها تجعلنا نرى الحب بأعيننا ونسمعه بقلوبنا.

فيروز، حالة من الرقة التى تغسل القلب من صخب الحياة، من العذوبة التى تُعيد إلينا القدرة على الحلم، من الحب الذى يهمس فى أعماقنا كلما سمعنا خرير صوتها، مع فيروز، يصبح الحب أغنية لا تنتهي، وصوتها هو الموجة التى تحملنا بعيدًا، إلى عوالم لا يعرفها سوى العشاق.

[email protected]

 

مقالات مشابهة

  • «أبو ناموس».. صحفي من الصم والبكم يواجه الموت بمخيم جباليا لينقل المعاناة
  • رحلة النزوح.. خطوات ثقيلة للمجهول برائحة البارود والموت بمخيم جباليا
  • «صواريخ إسرائيل» تمحو المواقع الأثرية والتاريخية والمقدسات الدينية بمخيم جباليا
  • مخيم جباليا قدم 2200 شهيد.. «مهد انتفاضة الحجارة» عَصِىٌّ على الكسر
  • مخيم «جباليا».. قلب المقاومة شاهد على التهجير والإبادة
  • البرد وغرق الخيام يفاقمان معاناة النازحين بمخيم جباليا
  • فلسطين.. نيران مكثفة تطلقها آليات الاحتلال على المناطق الغربية من مخيم جباليا شمال غزة
  • فيروز.. همس الحب بصوت القمر
  • جيش الاحتلال يبث مشاهد بتر المقاومة لقدم أحد الجنود بعد وقوعه في كمين بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة .. (فيديو)