معارضة المعارضة: من إثارة المقاومة إلى بشائر النهضة
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
(إذا سألت نفسك لماذا لم نبلغ بالثورة غاياتها فتكرم بفحص ثقافة المعارضة للإنقاذ خلال ثلاثين عاماً. وأخذت عليها دائماً إنها إثارية لناشطين لم تتوافر على رؤية لما بعد زوال النظام. وهذا مقال ضمن أخريات عرضت فيه للفكرة)
نبهت في أكثر من موضع إلى ضرورة التفريق بين المقاومة والنهضة. فقد نازلنا ببسالة الأنظمة المستبدة طويلة الأعمار بين ظهرانينا.
حاولت شرح فكرتي هذه بعرض بعض التراكيب الفكرية في مجتمعنا الحاضنة للاستبداد. وهي مفرخة للنظم المستبدة كثيرة الرؤوس. وأتناول اليوم تركيبة المدينة والريف. فالحال إنهما عندنا قطبان متنافران حتى صح القول عند أكثرنا “ترييف المدينة” في سياق استنكار اندلاق الريف على المدينة. ومن أهم مظاهر هذا الاستقطاب هو مفهوم “القوى الحديثة” نفسه. فقد نشأ كما شهدنا عن خيبة وفخر. أما الخيبة فهي اكتشاف صفوة المدينة أن الريف مغلق في وجهها. ف”شوقها” في دائرة إقليمية. أما الفخر فنجم من أن القوى الموصومة ب “الحديثة” هي التي ظلت تسقط نظم الاستبداد ثم تأتي الديمقراطية وينكتح لها التراب في خشمها. ولهذا طالبت بدوائر للخريجين والعمال والمزارعين.
لم أجد من نفذ إلى هذا التركيب الفكري مثل الدكتور ابراهيم محمد زين في كتابه المعنون “شكل التعبير الأدبي في روايات الطيب صالح (كتاب الخرطوم الجديدة 2008). فهو يرد استقطاب المدينة والريف المشاهد إلى الاستعمار الغربي. فلم تكن العلاقة بين الريف والمدينة قبل الغزوة الاستعمارية استقطابية هرمية. فلم يكن الريف قطباً لحاله وكذلك المدينة. أهم من ذلك لم تكن المدينة هي منبع الرشد بينما يعمه الريف في ضلاله وتخلفه.
الاستعمار هو الذي دق الإسفين المشاهد بين الريف والمدينة. فقد كان الريف في حالة الحضارة الإسلامية هو الذي يرفد المدن بالعصبيات الجديدة ويجدد دم عروقها بالقوى السياسة الناهضة التي تقوم بإنشاء الدول. واستند إبراهيم على ابن خلدون. فحسب تعبير هذا العالم الفذ “كانت عصبيات العمران البدوي هي التي تناجز العمران الحضري الهالك لتقيم دولتها الجديدة”. فالدعة والفساد والطغيان كانت تتسرب إلى حكم الحضر فيعاتبه الريف بالسيوف. وكانت المدن تدبج الأسوار من حول حوزتها وتتطاول فيها القلاع لحماية نفسها من مشروعات الريف الروحية السياسية القوية لتنزيل الحكم الراشد. وهذا بعض نظر فردريك إنجلس، رفيق كارل ماركس، لأصل المهدية السودانية بالذات. فهي عنده تندلع دورياً في كل مائة عام لتنقية الحواضر من الاستبداد والإثرة ولتملأ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جورا.
ولم يعد الحال هو الحال بعد حلول المستعمرين الغربيين بين ظهرانينا. فقد جاء الاستعمار غريباً لا سبب له بالبلد وبثقافته. بل جاء، متطفلاً، ليٌمَدِن البلد ويخرجها من الضلالة إلى النور. فلم يكن بوسعه ان ينفذ إلى الريف بالطبع فابتنى المدن كقواعد ينطلق منها إلى ضبط الريف وتمدينه على المدى الطويل. وعليه ضاعت المبادرة السياسية والحضارية من يد الريف وصار سلاح التنمية هو الأداة القوية لقهر الريف والتحكم في شكل العمران فيه. فالدور الذي كان يلعبه الريف في التغيير صارت تقوم به المدن تحت شعار التنمية والتحديث. فأنعكس بالاستعمار مسار حيوية النهضة: كان من الريف إلى المدينة فصار العكس.
هذا التركيب الفكري من وراء “ضغينة” اليسار الكامنة ضد الديمقراطية ك”صوت لكل مواطن”. فالريف ليس معهم. وهي ضغينة قادتهم إلى سكة الخطر: الانقلاب الصفوي المديني الذي “يغير” الريف من حيث لا يحتسب.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
النهضة المُتجددة.. ركائز وطنية ترسم خريطة المستقبل وتُرسِّخ لدولة المؤسسات
◄ الخطاب السامي الثاني أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة
◄ الهوية العُمانية الجامعة المصدر الأساسي لمنظومة القيم الوطنية
◄ الثقافة العُمانية تتميز بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي
◄ إبراز دور المرأة والشباب والقطاع الخاص في إنجاز المشاريع الوطنية
◄ التراكيب اللغوية في الخطاب السامي تؤكد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة
الرؤية- ناصر أبو عون
جاء الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- يوم الأحد الثالث والعشرين من فبراير 2020- في لحظة وطنية فارقة من تاريخ الأمّة العُمانية، وفاصلًا بين عصرين؛ فلمَّا أن قضى السلطان قابوس- طيَّب الله ثراه- نحبه بعد حياة حافلة من البناء والتأسيس العصريّ لدولة المؤسسات في مرحلة نهضتها المباركة منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي تواصلت على مدار 50 عامًا بنى خلالها صورة ذهنية ناصعة البياض عن سلطنة عُمان شَهِد لها القاصي والداني، جاء العهد الميمون لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أبقاه الله- ليُكمل المسيرة.
ومن ثَمَّ فإن هذا الخطاب حقق 4 غايات رئيسة؛ تمثّلت في وضع خطة عمل مستقبلية ووطنية خالصة لتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040"، والتأكيد على اقتفاء فلسفة السلطان قابوس داخليًا وخارجيًا وتمتين العلاقة بين السلطان والمواطنين في إطار من المسؤولية الجماعيّة، وحرية التعبير المسؤولة المستندة للنظام الأساسي للدولة، وشرعية انتقال السلطة.
أولًا: المبادئ البراجماتية في الخطاب:
عند تحليل استراتيجيات الخطاب الثاني لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق- أعزه الله- يوم 23 فبراير 2020، يمكن القول إنّ هذا الخطاب أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة؛ لتتحول من الطابع التقليدي، إلى العلاقة التشاركية القائمة على مبدأ المواطنة؛ مما أدى إلى تغيير في المفهوم من "الرعية" إلى "المواطنة الفاعلة"؛ وهي علاقة منضبطة مبنية على تحقيق التُوازن بين التطوير والاستمرار في إنتاج نهضة تواكب مفردات العصر، عبر 5 مبادئ محددة؛ هي: (1) مبدأ نفسي يسعى إلى طيّ ثيمة الحُزن الوطني، الذي خيّم على الشعب العُماني برحيل السلطان قابوس باعث حركة النهضة المباركة. (2) مبدأ اجتماعي يؤمن بوجود لُحْمة وطنية وعروة وثقى لا تنفصم بين السلطان والمواطنين ولكنه يؤكد عليها. (3) مبدأ سياسي قانوني يؤكد على شرعية الانتقال السلس للسلطة وِفْق عقد اجتماعيّ أقرّته الأعراف والتقاليد العُمانية. (4) مبدأ اقتصادي وضع الخطوط العريضة لمسيرة التنمية المستقبلية في إطار الموجة الثانية من النهضة. (5) مبدأ رمزي يؤكد على أنّ منظومة قيم السلطان الراحل هي ذاتها منظومة السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- ومصدرها الهويّة العُمانية الجامعة. وقد لوحظ أنّ الخطاب تميز مُنْتَج بلغة أدبية عالية ومفردات ارتكزت إلى عقيدة دينية ووطنية راسخة.
ثانيًا: بناء توازنات بين المعرفة والسُّلطة
نجح هذا الخطاب في إعادة تعريف مبدأ المواطنة في إطار الثقافة العُمانية التي تميَّزت بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي؛ فأكد على مسؤولية المواطن وتضامنه مع الدولة في إطار الشرعية والقانون، ومن ثَمَّ أنتج صياغة تصوّر جديد في ذهنية المواطن عن معنى مصطلح الدولة، والدور الفاعل للمواطن فيها القائم على ضرورة تضافر الجهود والمسؤولية المشتركة بين السلطة والشعب مقرونًا بإقرار مبدأ "حرية التعبير المسؤولة" ضمن إطار النظام الأساسي للدولة. وقبل هذا أعاد ترتيب الأولويات في ملفات عديدة على رأسها: الاقتصاد والتشغيل، والتعليم.. إلخ.
ثالثًا: إقرار خُطة وطنية ذات أهداف عامة
لقد أقرّ السلطان هيثم- أبقاه الله- عبر هذا الخطاب خمسة أهداف عامة، وهي بمثابة خطة عمل وطنية ارتكز عليها في الانطلاق نحو المرحلة القادمة من مسيرة النهضة المتجددة؛ وهي على النحو الآتي: (1) هدف أبوي (تطمينيّ) يبدد سحابات القلق التي ألقت بظلالها على المرحلة الانتقالية بتوظيف ثلاث وسائل ناجعة هي: احتضان المشاعر الشعبية العارمة الناتجة عن رحيل السلطان قابوس وتوظيفها في الحفاظ على المنجزات وتطوير منظومة العمل. (2) التأكيد على أنّ العقيدة الدينيّة عروة وثقى لا انفصام لها، فضلًا عن التأكيد على بقاء واتساع مظلة الأمن والأمان وهي السمة التي تتمتع بها سلطنة عُمان بين شعوب العالم قاطبةً. (3) اقتفاء أثر نهج السلطان قابوس، والتغيير وفق المنهج الإصلاحي الممنهج؛ بإعادة هيكلة البِنية الإدارية، وتحديث منظومة القوانين لتواكب متغيرات العصر وفلسفة الإصلاح الاقتصادي، والتركيز على التكنولوجيا في إطار رؤية عامة ترتكز على مبدأ تنوّع مصادر الدخل. (4) إقرار مبدأ الوحدة الوطنية الجامعة واتضح ذلك من مخاطبة سائر الفئات: المرأة والشباب، والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والقطاع الخاص.. إلخ، موظِّفًا ومكرِّرًا أسلوب النداء: (أبناء عُمان الأوفياء، الأعزاء). (5) التأكيد على التمسك بعناصر شرعية الحُكم العُمانيّ الرشيد، وهي: "شرعية تاريخية" الممتدة من عصر المؤسِّس الأول للدولة وصولًا إلى السلطان قابوس وانتهاء باستلام السلطان هيثم للراية التي لن تُنكّس أبدًا، و"شرعية أخلاقية" ترتكز على مبادئ الدين الإسلاميّ الحنيف، ومنظومة القيم العُمانية المتوارثة، و"شرعية تنفيذية" تسعى إلى إعادة هيكلة الدولة ومنظومة الاقتصاد العُماني وتحديد ملامحه، و"شرعية إجرائية" ترتكز على التخطيط وِفقَ مبادئ رؤية "عُمان 2040".
رابعًا: تحليل بنية الخطاب السامي:
بمتابعة لحظة إلقاء السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- لخطاب يوم الـ23 من فبراير 2020، نجد عملية انتقال تدريجي بدأت بالحديث عن مشاعر الفقد التي تفجّرت برحيل السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- ثم التمهيد بالرضا بأقدار الله، ثم الانتقال إلى رؤية مستقبلية والتفكير في الغد بإيجابية، وتسمى بمرحلة إدارة الانتقال الساسي للسلطة عبر ثلاثة وسائل، تستهدف تحقيق الشرعية في وراثة الحُكم، وهي: الثناء على السلطان قابوس ودوره في بناء دولة المؤسسات، واقتفاء النهج القابوسي، وذلك لتبديد القلق الشعبي، والإعلان عن خطة إصلاحية ورؤية جديدة في إدارة الدولة. ولتعزيز الإحساس بالشراكة الفاعلة بين المواطنين والدولة أشار إلى دور المرأة العُمانية والشباب والقطاع الخاص في إنجاز مشاريع المرحلة الجديدة.
خامسًا: الأيديولوجيا والسُلطة في الخطاب:
يُمكننا عبر هذا الخطاب رصد المكونات الرئيسة التي ترتكز عليها أيديولوجية الدولة الحديثة في عصر السلطان هيثم بن طارق، وهي: "التسامح وقبول الآخر" في العلاقات الدولية والفاعلية في المشهد الدولي استنادًا إلى مبدأ السلام، و"القوة العاقلة" بتطبيق الدولة لمبدأ سيادة القانون، ومنظومة الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار، الذي ينتج عن تفاعل المنظومتين القانونية والأمنية معًا، و"الدولة التنموية" القائمة على تطوير البنية الأساسية وإعادة هيكلة الاقتصاد وتحفيز الابتكار، والسُلطة بوصفها تكليف ومسؤولية.
سادسًا: البناء اللغوي والتراكيب في الخطاب:
اعتمد الخطاب السامي في بنائه اللغويّ والتركيبي على 3 وسائل تُحيل المستمع ذهنيًا إلى مخزونه التاريخيّ، ولغته المتوارثة الحاملة لتراثه الديني، والمعبِّرة عن وجدانه؛ ووظّفها للتأكيد على التواصل بين عهد المغفور له- بإذن الله تعالى- السلطان قابوس، والعهد الجديد للسلطان هيثم-أبقاه الله- وهذه الوسائل تمثّلت في: "التَّناصّ" بالإحالة إلى خطاب السلطان الراحل وافتتاح الخطاب بالآيات القرآنية والدعاء. أمَّا على مستوى نصّ الخطاب؛ فقد وظّف الخطاب مفردات ذات طابع ديني لإضفاء شرعية روحية وأخلاقية على العهد الجديد. مثل: (نعاهد الله، ونحمد الله، والمُتقين، والرحمة، والقدرة)، ولتعزيز روح الانتماء والتماسك الاجتماعي وظّف الخطاب مفردات تعبّر عن الوحدة الوطنية الجامعة؛ مثل: (نُقدِّر، ونثمِّن، والأعزاء، والأوفياء، وأبناء عُمان). أمّا على صعيد التحديث والبناء فقد وظّف مصطلحات ومفردات تنموية من مثل: (هيكلة، والتشريعات، والتنويع الاقتصادي، والتوازن المالي، والتمكين، والبناء). وجاءت التراكيب اللغوية للتأكيد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة وتضافر الجهود بين السلطان والشعب العُماني في بناء المرحلة الجديدة من نهضة عُمان، مثل: (سيكون في سُلّم أولوياتنا، ونحن ماضون).