السودان بين مطرقة الحرب وسندان التقسيم: قراءة في مصير وطن ممزق
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
كتب الدكتور عزيز سليمان – أستاذ السياسة والسياسات
لا يزال السودان، الوطن الذي يشبه النيل في صبره وفيضانه، يرزح تحت وطأة صراع دموي أُججت نيرانه بعوامل داخلية وخارجية. وبينما تتعاظم الآمال بحل ينهي هذه المأساة، تتشابك المصالح الدولية، وتتشكل السيناريوهات وفق معطيات لا تنفصل عن السياق العالمي: من حرب أوكرانيا التي جلبت جنوداً بريطانيين وفرنسيين إلى قلب المعركة، إلى إصرار الإمارات على مد مليشيا الدعم السريع (الجنجويد) بالعتاد والمرتزقة في حرب تبدو كأنها تسير إلى ما لا نهاية.
الحرب في السودان: معطيات الواقع وتحديات المستقبل
عندما ننظر إلى المشهد السوداني، نرى خارطة تزدحم باللاعبين والمصالح. الدعم الإماراتي للجنجويد ليس مجرد تمويل أو تسليح؛ إنه تعبير عن رؤية إقليمية تهدف إلى إبقاء السودان غارقاً في الفوضى، وبالتالي بعيداً عن لعب أي دور استراتيجي في المنطقة. التقارير الدولية التي وثقت هذه التدخلات، بما فيها استخدام المرتزقة وتسليح المليشيات، تؤكد أن الإمارات ترى في السودان موقعاً جغرافياً لا أكثر، تتنافس فيه المصالح الدولية بأدوات محلية، دون اعتبار لمعاناة الشعب أو وحدة الدولة.
من ناحية أخرى، يتزايد الحديث في بعض دوائر النخبة الدولية عن تقسيم السودان إلى خمس دول كحل نهائي يوقف النزاع. هذه الرؤية، وإن بدت للبعض مجرد شائعة، تجد لها أنصاراً في الخرائط الجديدة التي يعاد رسمها خلف الكواليس في عواصم القوى الكبرى. السودان الموحد، بموارده الطبيعية الهائلة وموقعه الجغرافي الحساس، هو خطر دائم على أي مخططات تهيمن على المنطقة. تقسيمه يعني تحييد هذا الخطر وتفتيت قدراته إلى كيانات صغيرة متناحرة، سهلة السيطرة والتوجيه.
السودانيون: بين الخلاف والاختلاف
الشعب السوداني، وهو الذي جبل على الخلاف والاختلاف، يبدو في كثير من الأحيان جزءاً من المشكلة أكثر من كونه جزءاً من الحل. وكما قال الفيلسوف الألماني هيجل: "التاريخ يُعيد نفسه، ولكن في كل مرة بصيغة مختلفة"، فإن تاريخ السودان يعيد نفسه في صورة انقسامات قبلية وجهوية تلقي بظلالها على أي محاولة لإيجاد رؤية وطنية جامعة.
هذا الشعب الذي أذهل العالم بثوراته السلمية ووعيه السياسي، يعاني اليوم من انحراف النخب عن مبادئ الوطنية، وانشغالها بتحقيق مكاسب ذاتية على حساب الوطن. لقد أصبح واضحاً أن "الخيانة" ليست فقط صفة الأعداء الخارجيين، بل هي أيضاً داء أصاب بعض أبناء الوطن الذين ارتضوا بيع الولاء من أجل حفنة دولارات.
دور العالم في الحرب: التأثير المتبادل
التطورات العالمية تؤثر بلا شك على مستقبل الحرب في السودان. إرسال بريطانيا وفرنسا جنوداً لدعم أوكرانيا في وجه روسيا يعكس استقطاباً دولياً تتقاطع فيه المصالح في مناطق عدة، ومنها السودان. هذا الوضع يُلقي بالعبء الأكبر على الشعب السوداني الذي بات عليه مواجهة حرب بالوكالة تُستخدم فيها أرضه كساحة تصفية حسابات بين قوى إقليمية ودولية.
الطريق الثالث: الكتلة الحرجة كأمل أخير
أمام هذه التحديات، لا يمكن للسودان أن يبقى رهينة صراعات النخب أو أطماع القوى الخارجية. وكما قال جان جاك روسو: "الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع"، فإن على السودانيين اليوم أن ينتزعوا حقهم في وطن موحد ومستقل. الحل الوحيد يكمن في خلق "الكتلة الحرجة"، وهي تحالف شعبي عابر للجهويات والإثنيات، يضع مصلحة السودان فوق كل اعتبار.
هذه الكتلة، التي تمثل "الطريق الثالث"، يجب أن تعمل على:
١- إفشال مخططات التقسيم من خلال توحيد الصفوف خلف رؤية وطنية جامعة.
٢- محاسبة الخونة والعملاء الذين وضعوا مصالحهم الشخصية فوق مصلحة الوطن.
٣- استعادة السيادة الوطنية عبر رفض التدخلات الخارجية بكل أشكالها.
كما قال غاندي: "أعظم سلاح ضد عدو هو قوة الشعب"، فإن السودانيين لا يملكون سوى وحدتهم كسلاح في مواجهة هذه التحديات الوجودية. لقد أثبت التاريخ أن الشعوب التي تنهض من تحت الرماد هي تلك التي تتعلم من أخطائها، وتبني مستقبلها بأيديها.
الخاتمة: السودان الذي نريد
إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن يكون دولة موحدة قادرة على استعادة دورها التاريخي كقوة إفريقية وعربية فاعلة، أو أن يتحول إلى ذكرى وطن تمزقه الأطماع والخلافات. الخيار في النهاية ليس بيد النخب أو القوى الخارجية، بل بيد الشعب السوداني الذي يجب أن يتحدث بصوت واحد، ويقف موقفاً حاسماً يحمي به أرضه وكرامته.
إنها معركة وجود، وليست مجرد حرب عابرة. والشعب السوداني، إذا استطاع أن يُحيي روح "الكتلة الحرجة"، سيكون قادراً على تحقيق المستحيل، وهزيمة كل المخططات التي تسعى لتفتيته. "السودان الذي نريد" هو السودان الذي يبنيه أبناؤه، وليس الذي يرسمه لهم الآخرون.
quincysjones@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعب السودانی
إقرأ أيضاً:
قراءة في نص “تأسيس” نيروبي: نسبهم الثوري في أكتوبر، أبريل، وديسمبر (1/2)
ملخص
لا أعرف وثيقة احتفت بالثورة السودانية للتغيير مثل "تأسيس" في ديباجتها. فاحتفت بانتفاضات أكتوبر1964، فأبريل 1985، إلى ديسمبر 2018 كنسب ثوري لما اجتمعوا حوله في نيروبي. فسمتها الديباجة ثورات السودان السلمية "المجيدة التراكمية" ضد الأنظمة الديكتاتورية العسكرية تعبيراً عن تمسك شعوبنا المستميت للحرية والحياة الكريمة. وتستغرب مع ذلك لهذه الحفاوة بهذه الثورات من جماعة "تأسيس" التي قامت في أيديولوجيتها وحربها ليومنا ضد دولة 56 الشمالية نخباً وجمهرة. فمن وراء هذه الثورات أطياف واسعة ممن عرفوا بـ"الشماليين" المتهمين بارتكاب دولة 56 دون مسلحي نيروبي وسلفهم بكثير.
لا يُذكر اجتماع التحالف الذي انعقد في نيروبي الأسبوع الماضي تمهيداً لقيام حكومة موازية على أراض تسيطر عليها قوات "الدعم السريع" إلا قريناً بنذر انقسام السودان. والسبب بسيط. فالصفوي لزيم هاجس تشقق السودان منذ انفصال جنوبه عام 2011. فصارت كل صيحة مثل تلك التي في نيروبي عليهم. وهذا الهاجس المخيم قريب من عبارة سودانية تقول إن كل زوجة مهجسة ما عاشت بـ"طلقة" من زوجها. وربما كان هذا هو السبب من وراء اقتصارنا على النذر من اجتماع نيروبي لا ما اجتمع حوله، أو صدر عنه. وصدر عنه مع ذلك ما استحق أن يناقش في حد ذاته لإذكاء عادة الثقافة في سياستنا التي غلبت فيها عادة المعارضة. فتكاثرت التحالفات في بيئة المعارضة التاريخية حد الإملال وتناسخت الوثائق عنها فلا جديد، أو هكذا خُيل لنا.
ثورات تراكمية
لا أعرف وثيقة احتفت بالثورة السودانية للتغيير مثل "تأسيس" في ديباجتها، فاحتفت بانتفاضات أكتوبر1964، فأبريل 1985، إلى ديسمبر 2018 كنسب ثوري لما اجتمعوا حوله في نيروبي. فسمتها الديباجة ثورات السودان السلمية "المجيدة التراكمية" ضد الأنظمة الديكتاتورية العسكرية تعبيراً عن "مدى تمسك شعوبنا وشوقها الدائم للحرية والحياة العزيزة الكريمة". وقَلّ حتى بين أحسن مؤرخي التاريخ السوداني المعاصر من رأى هذا الخيط الثوري الناظم لعملية التغيير السياسي في السودان. فتجد من يقطع ما بينها إرباً فيستحسن واحدة دون أخرى. بل تجد جماعة منهم قالت إن ما جرى خلال أكتوبر 1964 مثلاً ليس بثورة أصلاً.
وتستغرب مع ذلك هذه الحفاوة بهذه الثورات من جماعة "تأسيس" التي قامت في أيديولوجيتها وحربها ليومنا ضد دولة 56 الشمالية نخباً وجمهرة. وسبب الاستغراب أنه كان من وراء هذه الثورات أطياف واسعة ممن عرفوا بـ"الشماليين" المتهمين بارتكاب دولة 56 دون مسلحي نيروبي وسلفهم بكثير. فحتى في نيروبي اشتكى عبدالعزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية شمال من تلك النخب والأطياف المقاومة لمركز دولة 56 قائلاً إنهم من كانت "تجيشهم" نخب مركزهم ضد الآخر الإثني والديني مما يفهم المرء منه أن نخبهم كانت تخادعهم عن الآخر في الوطن فينخدعوا لها. وهذا بخلاف ما جاء في ديباجة "تأسيس" التي احتفت بهم براء من مركزهم طليعة في الثورات التي أحسنت الديباجة تثمينها.
وصح السؤال بعد هذا إن كان المسلحون ممن سبق جماعة تأسيس والجماعة نفسها من انتصر لتلك الثورات، التي ذكروها بامتنان، حين استنجدت بهم لاستكمال دوراتها؟
نقيضة بين التكتيكين
في لب تاريخ حركة الثورة السودانية نقيضة بين التكتيكين المدني والعسكري في طلبهما إحداث التغيير السياسي. وهي نقيضة ساقت الثورة المدنية أعوام 1964 و1985 و2018، حتف أنفها للفشل في كل مرة تندلع. فما انتصرت الثورة المدنية حتى اعتزلها المقاوم العسكري بنظرية أن الثورة ما هي تغيير صفوة خرطومية بأخرى منهم، فلا تلد قطط مركز الخرطوم العمياء إلا قططاً عمياء. وأظهر ما كان ذلك في إطلاق العقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، تسمية "مايو 2" على المجلس العسكري بعد ثورة 1985. فكل ما حدث في قوله هو أن ورث عسكريو الرئيس جعفر نميري أنفسهم الحكم منه. وكان نميري تولى الحكم بعد انقلابه خلال الـ25 من مايو 1969 وهذه "مايو 1". أما "مايو 2" في مصطلح قرنق، فهي انقلاب ضباط القيادة العامة على نميري في سياق ثورة أبريل الشعبية السلمية. وبدلاً من أن يلقي قرنق ثقله مع التجمع النقابي، الذي قاد الثورة وانتظر منه ذلك الثقل، اعتزله، بل طلب منه أمراً صعباً وهو أن يتخلص من المجلس العسكري قبل أن يبارك لهم وينضم إلى ركبهم.
ولو اكتفى قرنق بذلك لما كان في البطن مغصة كما نقول. الأنكى أنه واصل الحرب فعبأ العسكرية لمواجهته في حلف مع الحركة الإسلامية انتهى بانقلاب يونيو1989 ليعود ويتصالح مع دولة ذلك الانقلاب في اتفاق السلام الشامل عام 2005. وبلا دخول في التفاصيل كان ذلك نفسه مصاب ثورة أكتوبر 1964 التي اعتزلتها حركة أنيانيا القومية الجنوبية المسلحة بينما كان ينعقد مؤتمر المائدة المستديرة (1965) في الخرطوم. وهو المؤتمر السوداني الأول منذ الاستقلال الذي تداعى أهله ليناقشوا "مسألة" الجنوب لا "تمرده". أما مسلحو دارفور فجاؤوا بها من قصيرها كما يقولون. فأتوا إلى ثورة 2018 يداً بيد مع العسكريين في مجلس السيادة في خصومة مع الحكومة الانتقالية المدنية ليتواثقوا على اتفاق "سلام جوبا" (2021). وخرج من ثنايا الاتفاق مجلس عرف بـ"مجلس الشركاء" كان مبتغى العسكريين، من دبروا للقضاء على الثورة، للاستغناء عن مجلس وزراء الحكومة الانتقالية. وانتهت الثورة، التي اعتزلها سائر المسلحين، بانقلاب الـ25 من أكتوبر 2021.
بين المدني والمسلح
وكان فساد علاقة المقاومة المدنية والعسكرية أو ارتباكات الأخيرة موضوع نقد أطراف عركت المقاومة المسلحة. فلم يتفق للام أكول عضو المجلس القيادي العسكري للحركة الشعبية عام 1985 البرود الذي لاقى به زعيمها العقيد قرنق خبر الثورة على الرئيس نميري في حين كان جنوده في معسكراتهم يطلقون الرصاص حفاوة بها. وكتب ياسر عرمان القيادي في الحركة الشعبية "نحو ميلاد ثان لرؤية السودان الجديد" قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019 قال فيها إنه جاء الوقت لمراجعة تجربة الكفاح المسلح، ورد الاعتبار للعمل السلمي الجماهيري دون أن يعني هذا التخلي عن هذا الكفاح. فلن تخرج الحركات المسلحة من عنق الزجاجة إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، في قوله، من دون التوصل إلى استنتاجات سليمة "حول أهمية العمل السلمي الديمقراطي في داخل المدن" واستنهاض جماهيرها.
وصوب شريف حرير الأكاديمي والقيادي في التحالف السوداني الذي هو ضمن منظومة حركات دارفور المسلحة، نقده لـ"افتتان" هذه الحركات بالمقاومة العسكرية التي هي تكأتهم في تبخيس النضال المدني حتى حين يقضي سلمياً على نظم مركزية كلفتهم حمل السلاح ضدها. والعسكرة في قوله، "وسيلة لعمل سياسي وليست في غاية حد ذاتها". وقال إن على الحركات المسلحة ألا تخدع نفسها بأنها تكوين عسكري فيقولون إنهم عسكريون على الجادة بينما ساء السياسيون مصيراً. فذكرهم حرير بأنهم سياسيون في الأساس وليسوا عسكراً. وفي هذا صدى من عبارة مذكورة لأمليكار كابرال زعيم حركة تحرير غينيا بيساو من الاستعمار البرتغالي خلال الستينيات. فقال كابرال يحذر حركته من العزة بالسلاح والفجور به إلى أن الحركة المسلحة ليست عصبة عسكرية (military)، بل مناضلين تأبطوا سلاحاً مُكرهين (militant).
ونواصل
ibrahima@missouri.edu