حكم تبادل الهدايا والأدلة على مشروعيتها
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
كشفت دار الإفتاء المصرية، برئاسة الدكتور نظير عياد، عن حكم التهادي بين الناس، وتقديم أشكال مختلفة من الهدايا للأقارب والأصدقاء والأهل وغيرهم، وذلك في ضوء ما ورد من الأحاديث النبوية الشريفة، وما نقلته إلينا الأحاديث المطهرة.
دار الإفتاء توضح المقصود بالهدية ورأي الشرع في قبولهاأوضحت الإفتاء المقصود بالهدِيَّة وهو ما يتم إعطاؤه للغير حال الحياة من مالٍ ونحوه مما يُعَدُّ نفعًا ماديًّا أو معنويًّا، وذلك على سبيل المودة والتكريم؛ أو لمناسبة سارَّة، أو هدية في يوم العيد مثلًا، وذلك بقصد التمليك ممن يملك التبرع شرعًا.
وأكدت دار الإفتاء أن الشرع الشريف حث المسلم على تبادل الهدايا وتقديمها في أحسن صورة، قائلة: وقد حثَّ الشرع الشريف على التهادي؛ لأنَّه من بواعث المحبة وزيادتها، وإثبات المودة والوئام بين الناس، وإذهاب الضغائن، وتأليف القلوب، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحضُّ على التهادي ويقبل الهدايا.
رَوى الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ».
ورَوى أيضًا عَن أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا".
كما رَوى في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا».
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (16/ 82، ط. دار المعرفة) [كان التهادي بينهم عادة؛ ولأنه من جوالب القرابة، وهو مندوب إلى صلة الرحم، وفي الرد معنى قطيعة الرحم، وقطيعة الرحم من الملاعن] اهـ. بتصرف.
وقال الإمام الكاساني في "البدائع" (6/ 117، ط. دار الكتب العلمية): [قوله عليه الصلاة والسلام: «تهادوا تحابوا»، وهذا ندب إلى التهادي] اهـ.
كما أكدت الإفتاء أن مشروعية الهدية ثابتة بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86].
ومن السنة النبوية الشريفة:
ما رواه الإمام الترمذي في "سننه"، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أُتِيَ بِشَيْءٍ سَأَل: «أَصَدَقَةٌ هِيَ، أَمْ هَدِيَّةٌ؟» فَإِنْ قَالُوا: صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قَالُوا: هَدِيَّةٌ، أَكَلَ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادوا تَحَابُّوا» رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند".
قال العلَّامة المناوي في "فتح القدير" (3/ 271، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ندَبَ إلى دوام المُهاداة؛ لتزايد المحبَّة بين المؤمنين؛ فإنَّ الشيء متى لم يَزِدْ دخَله النقصانُ على مر الزمان] اهـ.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ويدعو لقبولها، ويُثيب عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ» رواه الإمام البخاري في "صحيحه"، وبوَّب عليه بقوله: (باب القليل من الهبة).
قال العلَّامة ابن بطال المالكي في "شرح صحيح البخاري" (7/ 87، ط. دار النشر): [هذا حضٌّ منه لأُمَّته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يُدعَى إليه لئلَّا يمتنع الباعثُ من المهاداة لاحتقار المُهدَى، وإنما أشار بالكُراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (5/ 199، ط. دار المعرفة): [ومناسبتُه للترجمة بطريق الأَوْلى؛ لأنَّه إذا كان يجيب مَن دعاه على ذلك القدر اليسير فلأن يقبله ممن أحضره إليه أَولى] اهـ.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "يَا بَنِيَّ تَباذَلُوا بَينَكُم؛ فَإنَّهُ أَودُّ لِما بَينَكُم" رواه الإمام البخاري في "الأدب المفرد".
وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ هذه العطايا والهبات والهدايا هي من قبيل الرزق الطيب الذي يسوقه الله تعالى للإنسان ما لم يطلبْه أو يسعَ إليه: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطاءَ، فأقول: أعطِهِ مَن هو أفقر إليه مني، فقال: «خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» متفق عليه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الهدايا تبادل الهدايا الهدية الإفتاء ن النبی صلى الله علیه وآله وسلم البخاری فی ى الله ع ی الله ع
إقرأ أيضاً:
معنى الصلاة الواردة في قوله تعالى صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وبيان شبهة في ذلك
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها مضمونة:" سائل يقول: شاهدتُ فيديو لأحد المتصدرين على وسائل التواصل الاجتماعي يستشكل على معنى وكيفية الصلاة على النبي بقولنا: "اللهم صل على محمد أو على النبي" أن هذا طلبٌ من الله للصلاة على النبي، فكيف يطلب المسلم من الله أن يصلي على النبي وهو سبحانه يصلي عليه بالفعل؟ واعتبر أن ذلك من باب رد الأمر على الآمر، وقال: كأننا نقول لربنا: "صل أنت"! وذهب إلى أن المراد من الصلاة على النبي هو الدعاء بقولنا: "اللهم آت محمدًا الوسيلة والفضيلة.." ونحو ذلك من الدعاء لشخص النبي وبذلك نكون صلينا على النبي محمد، فنرجو التوضيح والإفادة.
لترد دار الإفتاء موضحة: أن المراد بقول الله تعالى ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ ليس مطلق الدعاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأي دعاء، وإنما هو معنًى مخصوصٌ يظهر في السؤال والطلب من الله تعالى أن يتولى الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، كـقولنا: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد" أو صلَّى الله على سيدنا محمد" أو ما يُشبه ذلك؛ تعظيمًا لشأنه وقضاء لحقه ووفاء بمكافأته وزيادة في صلاة المولى الكريم عليه فهي دائمة بدوام مُلك الله.
تقع "الصلاة" على معانٍ متعددة، فهي من قبيل المشترك، ولقد نقل الاصطلاح الشرعي لكلمة "الصلاة" من معناها اللغوي وهو الدعاء، وجُعلت بمعنًى لم يكن الاسم موضوعا له في اللغة، وهو معنى الصلاة المعروفة لنا، وهي "أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومنتهية بالتسليم".
قال الإمام العمراني في "البيان" (2/ 7، ط. دار المنهاج): [الصلاة في اللغة: عبارة عن الدعاء، قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم.. وأما في الشرع: فقد نُقل هذا الاسم إلى أقوال وأفعال مخصوصة، وهي: التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والتشهد، وغير ذلك. فإذا وردت الصلاة في الشرع فإنما تنصرف إلى الصلاة الشرعية دون اللغوية] اهـ.
وقد نُقل هذا الاسم في "الصلاة على النبي" -وهي مسألتنا- فصار لها معنى غير هذا وذاك، وهو المراد شرعًا في كيفية الصلاة على النبي المتعلق بها الحكم في قوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ المنزَّل في الآية الكريمة التي قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
ولما نزلت هذه الآية الكريمة توقف الصحابة رضي الله عنهم في فهم المراد من الأمر الإلهي بالصلاة على النبي؛ لأنه صار بمنزلة المجمل الذي يحتاج إلى بيان، كَهَلْ لذلك صفة تختص به؟ وما الصيغة التي تليق؟ وذلك لأن الدعاء يكون بألفاظ متعددة وعلى كيفيات مختلفة وصفات متنوعة.
وقد توجهوا بالسؤال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمهم أن المشروع في ذلك صفة مخصوصة، وهي أن يطلب العبد من مولاه عزَّ وجلَّ أن يتولى الصلاة على نبيه ومصطفاه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أَنَّ الصحابة رضي الله عنهم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفقٌ عليه، والحديث أخرجته كتب السُّنَّة المشرفة عن عدد من الصحابة كأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وكعب بن أبي عجرة، وأبي مسعود الأنصاري، وطلحة، وبريدة الخزاعي رضي الله عنهم أجمعين، ووقع بعض طرقه عند الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير"، و"المعرفة" رواية الإمام الشافعي عن الإمام مالك رحمهما الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (11/ 155، ط. دار المعرفة): [واخْتُلف في المراد بقولهم "كيف"، فقيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأيِّ لفظٍ يؤدى، وقيل: عن صفتها، قال عياض: لما كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ يحتمل الرحمة والدعاء والتعظيم سألوا بأي لفظ تؤدى هكذا؟ قال بعض المشايخ: ورجح الباجي أن السؤال إنما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر؛ لأن لفظ "كيف" ظاهر في الصفة. وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ ما، وبه جزم القرطبي، فقال: هذا سؤال من أشكلتْ عليه كيفية ما فهم أصله وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها] اهـ.
فظهر بذلك صراحة أن الصلاة على النبي المأمور بها المسلم المراد بها أن يسأل الله تعالى ويطلب منه أن يُصلي عليه، ومعنى قول المسلم "اللهم صلِّ على محمد" هو: [اللهم عظم محمدًا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإيتاء شريعته. وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجراء أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كلمة النبيين في اليوم المشهود" كما قال الإمام الحليمي في "المنهاج في شعب الإيمان" (2/ 134، ط. دار الفكر).
أقوال العلماء في المراد بصفة الصلاة على النبي المأمور بها
على إثبات أن صفة الصلاة على النبي المأمور بها ما هي إلا الطلب والسؤال تواردت نصوص الصحابة والعلماء بيانًا وتعليمًا وتلقينًا.
فعن الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون، لعل ذلك يُعرض عليه، قال -أي: الأسود-: فقالوا له: فعلمنا، قال: قولوا: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَاتَكَ، وَرَحْمَتَكَ، وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ، وَقَائِدِ الْخَيْرِ، وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» أخرجه ابن ماجه، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "شُعَب الإيمان".
وقال الشيخ ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص: 162، ط. دار العروبة، الكويت): [الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته.. فهي تتضمن الخبر والطلب] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (11/ 156): [وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة] اهـ.
ثم نقل بعده قول الإمام الحليمي: [المراد بقوله تعالى ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾: ادعوا ربكم بالصلاة عليه] اهـ، وهو ما اعتمده جماعة من شراح الحديث، كالإمام شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية" (2/ 650، ط. المكتبة التوفيقية)، والعلامة محمد الأمير الصنعاني في "التحبير" (4/ 301، ط. مكتبة الرشد).
سبب إطلاق "الصلاة" على سؤال الله تعالى أن يصلي عليه
سبب إطلاق "الصلاة" على هذا السؤال والدعاء يظهر من وجهين:
"أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى فقد تضمنت الخبر والطلب.
والوجه الثاني: أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به" كما قال الشيخ ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص: 162).
ما في طلب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من معان وحكم
بالإضافة إلى أن قول المسلم حين الصلاة على النبي "اللهم صل على سيدنا محمد" أو "صلى الله على سيدنا محمد" ما هو إلا الإتيان بالصفة المخصوصة بالأمر الإلهي الوارد، والتعبد بها؛ فإن هناك حِكَمًا جليلة ومعانيَ دقيقة ينبغي على المسلم أن يعيها ويلتفت إليها، ومن ذلك:
1- تحقق الفعل الإلهي وأثره على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحصول العناية والإحسان والمغفرة به بصلاة الله عليه؛ فهو القادر على إنفاذ أمره وقدره، بخلاف العبد فهو مخلوق عاجز ليس بيديه شيء.
2- تعظيم المكافأة وديمومتها بتفويض العبد مولاه عزَّ وجلَّ بإنزال رحمته ومغفرته المقرونة بالتعظيم الدائم واللائق به صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه العالم بقدر عبده سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال العلامة أحمد بن محمد الصاوي المالكي الخلوتي في "حاشيته على تفسير الجلالين" (3/ 269، ط. دار الجيل): [إن قلتَ: إن صلاتهم طلب من الله أن يصلي عليه وهو مصلٍّ عليه مطلقًا طلبوا أو لَا. أجيب بأن الخلق لما كانوا عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وآله وسلم طلبوا من القادر المالك أن يكافئه؛ ولا شك أن الصلاة الواصلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن الله لا تقف عند حد؛ فكلما طُلبتْ من الله زادت على نبيه، فهي دائمة بدوام الله] اهـ.
3- أن الدعاء من العبد -وهو ما نادى به صاحب المقطع- عمل تحت القبول والرد؛ إلا الصلاة على النبي فإنها عمل مقبول غير مردود؛ لما فيها من مشاهدة معنى الاستمرار التجددي في أن الله تعالى لا يزال مصليًا على النبي.
وهو ما يُفهم من قول العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (1/ 520-521، ط. دار الفكر): [إن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56] بلفظ المضارع المفيد للاستمرار التجددي مع الافتتاح بالجملة الاسمية المفيدة للتوكيد وابتدائها بإن لزيادة التوكيد، وهذا دليل على أنه سبحانه لا يزال مصليًا على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم امتن سبحانه على عباده المؤمنين حيث أمرهم بالصلاة أيضًا ليحصل لهم بذلك زيادة فضلٍ وشرفٍ، وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مُسْتغنٍ بصلاة ربه سبحانه وتعالى عليه، فيكون دعاء المؤمن بطلب الصلاة من ربه تعالى مقبولا قطعا أي مجابًا لإخباره سبحانه وتعالى بأنه يصلي عليه، بخلاف سائر أنواع الدعاء وغيره من العبادات] اهـ.
4- قصد الإيفاء بحقه صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام الحليمي في "المنهاج في شعب الإيمان" (2/ 134): [الصلاة عليه مما يقصد به قضاء حقه ويتقرب بإكبارها إلى الله عزَّ وجلَّ، فيدل على أن قولنا: اللهم صلِّ على محمد صلاة منا عليه أنا لا نملك اتصال ما يعظم به أمره، ويعلو به قدره إليه. وإنما ذلك على الله تعالى، فيصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك، وابتغاؤه من الله عز وجل، ويبين بذلك أن الله عزَّ وجلَّ قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ فجاءه ابن أبي أوفى بصدقة قال: "اللهم صل على ابن أبي أوفى" فكانت عليه دعاؤه به أن يصلي عليه إن كان ذلك أكثر مما ملكه، والله أعلم] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي السؤال: فإن المراد بقول الله تعالى ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ ليس مطلق الدعاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأي دعاء، وإنما هو معنًى مخصوصٌ يظهر في السؤال والطلب من الله تعالى أن يتولى الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، كـقولنا: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد" أو صلَّى الله على سيدنا محمد" أو ما يُشبه ذلك؛ تعظيمًا لشأنه وقضاء لحقه ووفاء بمكافأته وزيادة في صلاة المولى الكريم عليه فهي دائمة بدوام مُلك الله.