قرارات الجنائية الدولية وعدالة واشنطن المزدوجة
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
لم نراهن يوماً على محاكم دولية، ولا عدالة دولية، ولا على منظومة دولية خاضعة برمتها للتبعية والهيمنة الأمريكية، فالمنتصر في الحرب العالمية الثانية الذي أنشأ محكمة “نورمبرغ” عام 1945، لم يكن هدفه بالتأكيد إحقاق الحق وإحلال العدالة وتكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بقدر ما كان همه آنذاك الانتقام من الجيش الألماني المهزوم وسحقه واستتباعه حتى يومنا هذا، ولأن هذا الفريق المسمى بـ”الحلفاء” انتصر صار بحكم الأمر الواقع حاكمًا متحكمًا بالعالم، وابتدع لذلك أدوات منها منظومة دولية، شكلت بشكلها ومضمونها تجسيدًا فعليًا لخارطة توزيع مغانم الحرب الكبرى.
واحد من أهم أجهزة تلك المنظومة كان جهاز القضائي الدولي، المتمثل بمحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية التي استحدثت نهاية الألفية الثالثة (عام 2002) لتكون بمنزلة سيف قضائي مصلت على رقاب زعماء الدول الذين لا يرضخون للضغوطات ولا يسيرون في ركب المصالح الأمريكية، لكن مع مرور الوقت، وبعد 26 عامًا على إنشائها، وفي ظل تراجع الهيمنة الأمريكية، يبدو أن السحر انقلب على الساحل وبدأت بعض الضمائر الحية تصدح بالحق في مواجهة حجم الجرائم التي ترتكب في العالم، وخصوصًا في حربي غزة ولبنان الأخيرتين.
المحكمة التي كانت تدار لملاحقة رؤساء الدول المناهضين والمعارضين لسياسات إدارة البيت الأبيض (عمر البشير، فلاديمير بوتين..)، وتغض النظر عن المجرمين المؤيدين لواشنطن، وتوفر لهم مخارج قانونية، تمكنهم من الإفلات من العقاب، استعصى عليها مؤخرًا توفير مخرج كهذا لقادة الاحتلال، في ظل حجم الإجرام “الإسرائيلي” لا سيما أن موقفاً كهذا كان سيفضحها ويعريها أمام الرأي العام العالمي الذي ضج بالتظاهر والتنديد بارتكابات العدو، فحاولت اتخاذ موقف ساوت فيه بين الجلاد والضحية بقراراتها القاضية بإصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت وقائد “حماس” محمد الضيف.
هذا الموقف الذي أزعج واشنطن كشف عن ازدواجية معايير واشنطن التي تسارع بالترحيب بمذكرات اعتقال بوتين والبشير وتدين وتنتقد دون أدنى حرج مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت، رغم أن عدد قتلى وجرحى مجازر غزة وحده فاق المئة وخمسين ألفًا بين قتيل وجريح. ولعل هذا الموقف الأمريكي مفهوم في عمق خلفياته، ويمكن تفسيره من جوانب عدة أولاً من بوابة الدعم اللا محدود الذي تقدمه واشنطن للعدو ومنها “الفيتوات” التي استخدمتها لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، رغم أن مخالفة ذلك يخالف قرارات محكمة العدل الدولية في هذه المسألة. وثانيًا من بوابة أن قرار الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت يمثل إدانة ضمنية لواشنطن على خلفية شراكتها الكاملة بالعدوان عسكرياً وتسليحياً ولوجستياً ودبلوماسيا وإعلامياً ومادياً. لا سيما أن الجميع يعرف حجم الجسور الجوية التي زودت فيها واشنطن جيش العدو بأحدث أنواع الصواريخ والقنابل الفتاكة لتمكنه من الفتك والإبادة بحق الغزاويين واللبنانيين، ولعل ذلك ما يفسر حجم الهجمة الأمريكية المرتدة على هيئة المحكمة وعلى الدول لتهديدها من مغبة تنفيذ قرار المحكمة عبر ممارسة كل أشكال الضغوط عليها.
يبقى أن التعويل والرهان على قرارات الجنائية الدولية ليس لجهة أنها ستحق الحق وتحكم بميزان العدل الدولي المفقود بالأساس، بل لجهة اعتباره:
– أول إقرار دولي رسمي بجرائم قادة العدو، بغض النظر عن عقم الآليات التنفيذية لقرارات كهذه، وقد تعزز هذا الإقرار بشهادة جديدة للمقررة الأممية في مجلس حقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز، أكدت فيها أن جميع التحريات التي أجرتها بالتعاون مع 30 خبيرًا من الأمم المتحدة، بالإضافة إلى قرار محكمة العدل الدولية في يوليو الماضي، تؤكد بشكل قاطع أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
– يأتي هذا الإقرار من منظمة تعتبر بالأساس خاضعة لإدارة واشنطن الحليفة لـ”إسرائيل”، ما يجعل من الصعب بل المستحيل لأحد أن يشكك بهكذا قرار وبشرعية المحكمة الصادر عنها.
أما الرهان الأقوى يبقى على ارتدادات قرارات المحكمة على علاقات “إسرائيل” بدول العالم والعزلة الدولية المتوقعة، لا سيما أن دولاً كثيرة أعلنت عن نيتها تنفيذ قراراتها ومنها دول حليفة لـ”تل أبيب” في الاتحاد الأوروبي، ما سيقيد حركة نتنياهو وزياراته لدول العالم المنضوية تحت جناح الجنائية وعددها 124 دولة، خصوصًا وأن لجوء أي منها إلى استضافة نتنياهو، سيضعها في موقف محرج ومخزٍ إزاء شعبها الذي سيرى في ذلك استقبالاً لمجرم حرب.
ومع استبعاد تنفيذ بعض الدول لقرار الجنائية الدولية بالنظر لصعوبة خروجها من شرنقة الضغوطات الأمريكية فإن أهم ما في هذا القرار ليس الشق القانوني بل ما يؤسس لما بعده، مما يمكن البناء عليه سواء لجهة تظهير صورة “إسرائيل” على حقيقتها الإجرامية أمام الرأي العام العالمي، أو تفعيل حملات مقاطعة العدو وحملات منع تسليحه، اقتداءً بما فعلته دول عدة (كولومبيا.. إلخ.) أو بالضغط على الدول لتعزيز عزلة الكيان بقطع علاقاتها العسكرية والدبلوماسية والأكاديمية معه، ومنعها من استقبال مصاصي دماء الغزاويين واللبنانيين، أو دفعها لاعتقالهم أو فرض عقوبات دولية على كيانهم.
يبقى أن الموقف الرسمي العربي لم يكن بمستوى حجم الإجرام المعادي ولم يرق إلى مستوى دول غربية وأوروبية عدة. إذ بدا العرب كأن على رؤوسهم الطير أو كأن قرار المحكمة أحرجهم وقطع الطريق على مسار التطبيع الذي انتهجوه مع الكيان. لا شك أن الضغط والعزلة الدولية ستعزز الانقسام الداخلي في ظل تفسخ جسم الكيان وتشظيه بقضايا فساد نتنياهو وقضية التسريبات الأمنية والصراعات السياسية، ما سيولد ضغطاً داخلياً وخارجياً لن يكون بمقدور نتنياهو الاستمرار إزاءه بسياسة المكابرة والإنكار، وستأتي اللحظة القريبة التي سيرضخ فيها عاجلاً أم آجلاً ويقر بهزيمته أمام حزب الله في لبنان و”حماس” في غزة.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
ما هي الثمار التي سيقطفها نتنياهو من زيارته إلى واشنطن؟
تتجه الأنظار في الشرق الأوسط اليوم نحو طاولة مستديرة في واشنطن، هناك في غرفة مغلقة بالبيت الأبيض، وبينما يتبادل رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأمريكي أطراف الحديث، يمكن أن يقررا خلال ساعات مستقبل المنطقة، وترسم أقدار كثيرين. فماذا يمكن أن يحقق زعيم الليكود، الذي يقود حكومة مترنحة من اجتماعه؟
في زيارته الرابعة عشرة إلى واشنطن، لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي جدول أعمال مزدحم، فبعد لقائه بمبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، يلتقي نتنياهو اليوم الثلاثاء بالرئيس الأمريكي، على أن يزور البنتاغون غدًا، ويجلس مع قادة الكونغرس يوم الخميس، وفي يده ملفات ساخنة تحتاج إلى حلّ، يعتقد بعض المحللين أنه سيقايض فيها.
وقبل مغادرته واشنطن، تفاخر نتنياهو، بوصفه أول زعيم أجنبي يلتقي بترامب كرئيس، بنتائج حروبه قائلًا إن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وإيران ولبنان وسوريا واليمن قد "أعادت رسم الخريطة"، لكنه "يأمل" من خلال العمل مع ترامب عن كثب أن يتمكن "من إعادة رسمها بشكل أكبر وأفضل"، لافتًا إلى أن زيارته ستجني المزيد من الفوائد لتل أبيب.
من جهة، يرزح نتنياهو تحت ضغوطات اليمين المتطرف الذي يريد استمرار الحرب، ومن جهة ثانية، يريد إرضاء عائلات الأسرى التي تضغط لإتمام صفقة التبادل. وعليه، فسيحتاج رئيس الوزراء للتوصل مع ترامب إلى صيغة متوازنة، ينقذ بها حكومته التي يهدد وزير المالية بتسلئيلسموتريتش بحلّها بين الفينة والأخرى، ويرفع بها معنويات شعبه الذي يعتقد 96% منه بأن تل أبيب لم تحقق أهدافها في الحرب مع حماس، بحسب استطلاع لصحيفة "معاريف" العبرية.
في حديث مع الصحفيين، أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي أمس علامات استفهام حيال موقف واشنطن من الحرب الإسرائيلية على غزة. ترامب الذي وعد بإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، لم يحدد استراتيجية "واضحة" للسلام المنشود. إذ عبر الزعيم الجمهوري مجددًا عن دعمه لتوّسع الدولة العبرية، مجيبًا عن سؤال أحد الإعلاميين حيال تأييده لضم الضفةالغربية إلى إسرائيل بالقول "لن أتحدث عن ذلك، لكنّ مساحة إسرائيل صغيرة جدًا".
وبحركة خفيفة، رفع الرئيس الفائز بولاية ثانية قلمه قائلًا "إسرائيل دولة صغيرة، ومكتبي يشبه الشرق الأوسط.. هل ترى هذا القلم؟ إنه جميل جدًا، إسرائيل تشبه رأس القلم فقط، وهذا ليس جيدًا، أليس كذلك؟" مؤكدًا على عدم وجود "ضمانات لديه لاستمرار السلام في المنطقة"، مشيرًا إلى أن اجتماعًا "كبيرًا" سيجمعه بـ "بيبي" كما ناداه.
مواقف ترامب بشأن توسيع مساحة إسرائيل تأتي في وقت تتصاعد فيه عملية "السور الحديدي" الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، والتي ينزح على إثرها يوميًا المئات من الفلسطينيين، بالتزامن مع دعوته لتهجير أهالي غزة إلى مصروالأردن وتأكيده على أن عمان والقاهرة ستستجيبان لمطالبه رغم بيانات الاستنكار الصادرة عنهما قائلًا "نحن نقدم لهم الكثير ويجب أن يفعلوا ذلك من أجلنا".
وإذا ما نجح ترامب في تنفيذ خطته، فسيحقق نتنياهو آمال وزير المالية بشأن الاستيطان، في الضفة الغربية، وفي غزة أيضا، وعندها سيتخلص من الخطر المحيط بالحكومة.
في هذا السياق، نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن وزير إسرائيلي، فضل عدم الكشف عن هويته، قوله إن تصريحات ترامب بشأن ترحيل الفلسطينيين و"تطهير غزة" التي لقيت استحسانًا من الأوساط اليمينية الإسرائيلية تم التنسيق بشأنها مع نتنياهو قبل مدة.
وأضاف الوزير أن "كل من سمع ترامب يفهم أن هذا كان منسقًا وشفافًا.. لقد تحدث رئيس الوزراء عن الهجرة الطوعية في البداية، مع وزراء الليكود، بل وبدأنا ببذل جهود في هذا الاتجاه، لكنّ التصريحات أثارت معارضة عالمية، لذلك توقفنا، على الرغم من أننا نعلم أن هذا هو الحل الوحيد."
السعودية الورقة الوحيدة في يد الأردن ومصر.. لكن ماذا لو لم تمانع الرياض؟في المقابل، لا تملك القاهرة وعمان سوى استعمال الرياض كورقة ضغط على نتنياهو، فبحسب صحيفة "جيروزاليم بوست" فإنهما تحاولان إقناع ترامب للعدول عن الفكرة بالقول إنها تضرّ بجهود التطبيع في المنطقة، على اعتبار أن الرئيس البالغ 78 عامًا يعي جيدًا أن طريقه إلى السعودية يمرّ من غزة.
وفي حين أصدر وزير خارجية الرياض بيانًا مشتركًا مع أربع دول أخرى، تؤكد رفضها لمخطط تهجير الفلسطينيين، يعتقد سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة ييخائيل ليتر إن إسرائيل "أقرب من أي وقت مضى" إلى التطبيع مع السعودية، حسب حديثه مع "جيروزاليم بوست".
من جهته، يتابع الإعلام العبري عن كثب اجتماع الزعيمين وما يمكن أن يسفر عن نتائج، إذ كتبت صحيفة "معاريف" العبرية تقريرًا قالت فيه إن من يعتقد أن لدى نتنياهو وترامب خطة واضحة بشأن المنطقة "موهوم"، لكنهما سيحاولان، بحسبها، أن يتقاطعا عبر التوصل إلى صيغة موحدة يستطيعان الخروج منها بأكبر قدر من المكاسب، وهذا يفسّر الضبابية التي توحيها تصريحات الزعيم الجمهوري حيال استئناف الحرب على غزة وتوسيع مساحة إسرائيل، لكنها توقعت أن يحاول ترامب ردع نتنياهو عن استكمال حرب قد تعرقل التطبيع مع السعودية، مقابل هدف أثمن في المنطقة، وهو حرب مع إيران، لكن ليس بالضرورة بمفهومها العسكري.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية خمسة وزراء خارجية عرب في رسالة لواشنطن: لا لتهجير الفلسطينيين من غزة فيديو: هكذا سلمت حماس الرهينة الأمريكي الإسرائيلي كيث سيغل في ميناء غزة بعد الدمار.. نازحون فلسطينيون يعودون إلى شمال غزة وينصبون خياماً فوق الركام واشنطنغزةدونالد ترامبإسرائيلالضفة الغربيةبنيامين نتنياهو