تقديم البروفيسور آمال قرامي (تونس) لكتاب الذكرى الخمسين للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، للدكتور عبد الله الفكي البشير..

أ. د آمال قرامي*

‘لا أحد يراقب، ولا أحد يهتمّ، ولا أحد يحفظ سجلاً لأيّ شيء، إلى درجة أنَّ الذّاكرة والتاريخ ميّتان كلاهما’.

حميد دباشي، بشرة سمراء، أقنعة بيضاء

لا شك أنّ الذي كُتب حول إدانة المفكّر السوداني محمود محمد طه وتكفيره ثمّ محاكمته وقتله غزير، ومتنوّع وهو يشمل آراء المناصرين ومواقف المهاجمين المنشورة في الصحف، أو في مختلف وسائل الإعلام فضلا عن البيانات، والردود، والمحاضر وغيرها من الوثائق الهامّة، ومن هنا اقتضى مشروع حفظ هذا العدد الكبير من الوثائق بأشكالها الكتابيَّة والصوريَّة، توفّر فريق من الباحثين والباحثات يتكفّلون كما جرت العادة، بالجمع والتصنيف والتبويب ثمّ التأليف.

ولكن د. عبد الله الفكي البشير كسر القاعدة، وخرج عن السنن المألوفة لينهض بمفرده بكلّ أعباء الأرشفة والتحليل علّه بذلك يفي بوعد قطعه على نفسه بأن يظلّ اسم أستاذه حاضرا في فعل تشكيل الوعي الجمعي، وأن تبقى سيرته الذاتية مرئية وخالدة على مرّ الزمن.

تكتسي الوثائق المضمّنة في هذا المؤلف، قيمة خاصّة لدى جامعها ومالكها إذ بفضلها جدّد “الفكي” صلته بشخصيات كثيرة من أفراد عائلة المفكّر محمود محمد طه ومريديه وأصدقائه من الحزب الجمهوري، واسترجع ذكريات تشمل البدايات والـتأسيس وأيّام المحنة وصولا إلى لحظة تنفيذ الحكم بإعدام محمود محمد طه” شهيد الحريّة’. ومن هذا المنطلق احتلت الوثائق قيمة نفسية لدى مالكها فهي تذكّره بالأهواء: الغضب، والفرح والفخر والوجع والآلام… وكيف يستغل القانون للتخلص من الخصوم، وكيف تصادر الحقوق (الحق في التفكير والحق في التعبير…). ولا تعدّ هذه الوثائق التي جمعها “الفكي” مجرد أشياء، بل إنّها تمتلك تاريخا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وما التعلّق بالأشياء إلاّ تعلّق بما يضفي دلالة على حيواتنا.

وعلاوة على القيمة الذاتية والنفسية تتميّز هذه الوثائق بقيمة تاريخية هامّة ذلك أنّها رُتّبت بطريقة توضّح تطور الأحداث والوقائع والمواقف، وتكشف المستور والمضمر وغير المصرّح به أمام الملأ. فتبرز خيوط المؤامرات والدسائس، وتتجلّى أشكال التواطؤ. ونحسب أنّ فرز الوثائق ثم تحديد تلك التي تستحقّ الحفظ الدائم بسبب قيمتها الفعليَّة لم يكن أمرا سهلا على المؤلّف. كما أنّنا نرجّح أنّ كشف ‘الفكّي’ عن المؤسسات الدينية الموّرطة والشخصيات السياسية والفكرية التي لاذت بالصمت جبنا أو حفاظا على امتيازاتها أو خوفا لم يكن قرارا يسيرا. فهل بإمكان هذه الشخصيات اليوم، أن تطلّع على ما نشر فتقدم على تجسيد ثقافة الاعتذار؟

ولئن سعى النظام الدكتاتوري إلى ممارسة الشطب والمحو والطمس، حتى يقضي على مشروع محمود محمد طه الفكري ‘الفهم الجديد للإسلام’ ويهمّش دوره في التاريخ، أو يزّيفه، فإنّ تمسّك الأتباع بكتب ‘طه’ وحفظ الوثائق الخاصّة بمحاكمته، وكلّ المقالات التي كتبت حوله يعدّ، في نظرنا، فعل مقاومة: مقاومة الشطب والتصرّف في التاريخ والذاكرة الجمعية. ونقدّر أنّ الذين حفظوا الوثائق من التلف لم يكونوا واعين بأهميتها أو قادرين على تحديد دورها في المستقبل. فما كان ينظر إليه على أساس أنّه مجرد متابعة للأحداث صار اليوم بالغ الأهمية ومثمّنا؛ لأنّه يعكس تاريخ الأفكار وتطوّر التجارب السياسية والخبرات والمواقف وتراكم المعارف. بل إنّنا نرى أنّ هذا المؤلف يساهم بقدر كبير، في تدريب السودانيين/ات وغيرهم على ترسيخ ثقافة الاعتراف: الاعتراف بفضل الذين تجرأوا/ن على التعبير عن آرائهم بكلّ صراحة، ولم ينافقوا أو يكتموا المعارف. (بتول مختار محمد طه وموقف تجمع الكتاب والفنانين التقدميين،…)

إنّ ما أقدم عليه ‘الفكّي’ من جمع وترتيب وتصنيف وتحليل يندرج، في اعتقادنا، ضمن مسلكين: مسلك مقاومة النسيان، من جهة، ومسلك بناء المعرفة، من جهة أخرى. فالمطلع على هذا المؤلف الضخم يدرك أنّ الشغف بجمع الأرشيف متنزّل ضمن مشروع تأسيس رواية مضادة للرواية الرسمية السياسية/الدينية التي شرعنت لتصفية خصم سياسيّ وفكري معتمدة في ذلك على فاعلين متنوعين: صحفيين وقضاة وجامعيين وشيوخ دين ومحامين وغيرهم. فعن طريق التمحيص في البيانات والمقالات والكتب وغيرها من الوثائق يدرك القارئ/ة تهافت الرواية الرسمية التي أرادت إخراج أفكار ‘طه’ في لبوس دينيّ، وعملت على تعبئة الرأي العامّ ضدّه، وشوّهت مشروعه وشخصه فصوّرته على أساس أنّه محارب للدين وتعاليمه، والحال أنّه خصم فكريّ/سياسي قاوم الطغيان والقهر ومأسسة الجهل بالقلم. يقول “طه” متحدثا عن مشروعه” أن ما جئت به هو من الجدّة بحيث أصبحت به بين أهلي كالغريب. وبحسبك أن تعلم أنّ ما أدعو إليه هو نقطة التقاء الأديان جميعها حيث تنتهي العقيدة، ويبدأ العلم وتلك نقطة يدخل منها الإنسان عهد إنسانيته ولأوّل مرّة في تاريخه الطويل.’ (1970)

ونذهب إلى أنّ ثراء هذا الأرشيف قد جعله يتحوّل إلى مصدر مهمّ للمعرفة وحوّل المؤلف إلى مصدر أساسي في الدراسات التاريخية والثقافية المعاصرة إذ ثمّة معلومات ضافية عن علاقات الأحزاب بالنظام، وعلاقات ممثلي المؤسسات الدينية والهيئات العلمية بالمفكّرين والسلطة، وإشارات جليّة إلى طبيعة العلاقات السائدة بين المفكّرين والجامعيين وغيرهم. ونعثر على معلومات دقيقة حول التحالفات بين وزارة الشؤون الدينية والأوقاف وهيئة علماء السودان من جهة، وتنظيم الإخوان المسلمين ومشايخ الأزهر ورابطة العالم الإسلامي ومقرّها المملكة العربية السعودية، من جهة أخرى، وهو أمر يثبت مرّة أخرى، كيف تعقد الإيلافات بين ‘المحافظين’ و’المتشدّدين’ في بلدان العالم الإسلامي، وكيف يتم الإجماع على تصفية أصحاب الفكر المستنير وحفاظا على المواقع والامتيازات. ولا يمكن التغاضي عن قيمة الملاحق التي مثّلت قسما كبيرا من الكتاب فهي نصوص قلّما يعرفها المهتمون بالفكر الإسلامي أو المتابعين للحياة السياسية في السودان، دون أن ننكر قيمتها في الاستدلال والبرهنة وتفنيد المزاعم والتهم الباطلة.

وبناء على التمحيص في الروايات المتقاطعة والوثائق المتنوّعة وإجراء المقابلات المتعدّدة أمكن لل’الفكي’ أن ينبش في التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري الاقتصادي، وأن يمارس قراءة نقدية لفترة مهمّة من تاريخ السودانيين، وأن يعيد تركيب الأحداث، ويكشف التلاعب بالنصوص والوقائع (كالموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة) ويستخلص الدروس والعبر، ويتوقّف عند أهمّ النتائج. فليست حادثة اغتيال ‘طه’ في نظره، إلاّ ‘دليل على فشل التجربة الديمقراطية في السودان، وستظل وصمة عار في سجل القضاء السوداني’. أمّا استرجاع هذه الوقائع والأحداث، فإنّه يمثّل في نظره “بحثا في سجل وتاريخ عنف الدولة السودانية’.

يصدر المؤلف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف، وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي، وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المؤلف ملاذ الحائرين/آت والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟

*أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس..

الوسومأ. د آمال قرامي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: محمود محمد طه هذا المؤلف من جهة

إقرأ أيضاً:

عن الوثيقة في كتب التراث العماني

كان للتأليف عند العمانيين في العصر الإسلامي وما تلاه مناهج وطرائق، ولهم في استمداد المعارف مسالك ومشارب، ومع أن التراث العماني لم يخرج جلُّه عن قالب علوم الشريعة الإسلامية التي يتصدّرها الفقه، لكنْ لم يَحُل ذلك دون تعدد مصادر التأليف التي اتكأ عليها المصنِّفون وأخذوا منها. والحق أن المكتوب من المصادر كان موازيًا للمروِيّ، لكن المصادر المكتوبة كانت الغالب مما اعتمده أرباب التأليف لا سيما أولئك الذين صنّفوا الكتب المطوّلة في الفقه وعلم الكلام. ومن تلك المصادر المكتوبة ما يمكن أن نطلق عليه اليوم مصطلح "الوثائق"، وهي بمفهومها البسيط أوعية عليها كتابة لإثبات حق، أو نقل خبر، أو بيان حال، أو ما شابه ذلك مما يقتضي التوثيق لمن يقع المكتوب في يده في الحال أو المستقبل، وهذا بطبيعة الحال ليس تعريفًا اصطلاحيًا بقدر ما هو تفسير بلغة خاصة. وقد عُرِف اصطلاح الوثيقة في التراث العُماني منذ زمن بعيد، ومما دلَّ على ذلك نقل أبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي (ق5هـ) في كتاب الضياء أن أهل الجاهلية كانوا يكتبون الوثائق.

على أنه قد يكون المراد بالوثائق فيما ذكره العوتبي ليس مطابقًا للتعريفات المعاصرة، لكن الاصطلاح اليوم ينطبق إلى حد بعيد على المكاتبات أو المراسلات، والحجج الشرعية نحو الأحكام والصكوك والوصايا وما في حكمها. وهذه الأصناف من الوثائق رغم أن الحال يقتضي أن تبقى في أيدي أصحاب العلاقة ثم من يأتي بعدهم، نُقِل بعض منها في كتب الفقه في سياقات متعددة أبرزها النوازل والجوابات الفقهية، أو سياق الاستدلال الفقهي، أو مما زاده المطالِعون والنُّسّاخ والمعلقون. وبالمثل انتشر نقل الوثائق التي يدخل بعضها في مفهوم (السِّيَر) مثل عهود الحكّام إلى ولاتهم وعمّالهم، أو رسائل العلماء إلى بعضهم، وكل ذلك داخل أيضًا في باب ما يُعرَف بالسياسة الشرعية.

على أن الكثير من الوثائق بكل أشكالها نُقِلَتْ في المخطوطات ضمن ما يُعرَف بـ "خوارج النص"، سواء بخطوط النسّاخ أو بأيدي من جاء بعدهم، فأصبح بعضها في حكم النصوص المستقلة ضمن مجموع، ولها أمثلة كثيرة فيما وصلنا من مخطوطات، وقد تعرَّضت لهذا المبحث في كتاب (المخطوط العماني – التاريخ والتقاليد).

أما عن قيمة المنقول من الوثائق في كتب التراث العماني فحسبنا إن علمنا أن تلك الكتب غدت مصادر وحيدة لتلك الوثائق التي يرجع بعضها إلى أزمنة لم تصلنا منها أصول وثائقية قَطّ، أو بقي قليل نادر يرجع إلى عصور لاحقة.

وليس بعجيب أن يشتغل الدارسون برصد واستقراء الوثائق المنقولة في كتب التراث الإسلامي عامة، فهناك عشرات الدراسات التي عُنِيت بالوثائق التفتت إلى ما نُقِل في الكتب المصنَّفَة من وثائق، ولعل من أبرز أمثلتها دراسة محمد حميد الله (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) التي يقول في مقدمتها: "وإذا كانت أصول الوثائق قد ضاعت فقد حفظ لنا رواة الحديث والمؤرخون جملة صالحة منها كما يظهر ذلك في تذكرة المصادر التي ألحقناها بهذا الكتاب".

وفي هذه السلسلة نود أن نتعرّض لأمثلة من الوثائق التي تحفل بها الكتب العمانية، مع محاولة اكتناه ما تتضمنه من دلالات تاريخية حضارية، واستقراء ما تدور حوله من قضايا، وما وردت فيه من سياقات. ونكاد نزعم أنه لو جُمِع شتات تلك الوثائق لتشكّلت موسوعة وثائقية كبيرة، ولغدت مرتعًا لدراسات التاريخ والحضارة وفروع أخرى من العلوم الإنسانية.

مقالات مشابهة

  • ميان آل سعيد تُكرِّم المجيدات في مدرسة أم بردة الانصارية بالسيب
  • منهم محمد سامي ومهاب طارق.. صناع الدراما يرفعون شعار عمل واحد لا يكفي
  • امارة كرنقو انقلو تحتفل بانتصارات القوات المسلحة و الذكرى الخامسة لتأسيس
  • مسلسل النص الحلقة 1.. شقيق النص يضعه في ورطة الخمسين جنيه
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «6-13»
  • جامعة إيطالية تمنع عقد ندوة حول كتاب يحيى السنوار الشوك والقرنفل
  • محمد يسري يكتب: العلوم الإسلامية كلها جاءت لبيان فضائل كتاب الله والحفاظ على سنته
  • السياسة الطاقية بالمغرب.. أية رهانات للانتقال؟ قراءة في كتاب
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟
  • عن الوثيقة في كتب التراث العماني