تتجدد كل عام بهجة العيد الوطني المجيد، وتتكرر الأفراح والاحتفالات، وتعم البهجة والسرور باجتماع الأهل والإخوان فـي الإجازة ولقاءاتهم بالعائلة الكبيرة واستغلال الإجازة للسياحة الداخلية كذلك، يذكرنا بإجازة عيدي الفطر والأضحى وفرصة الاجتماع فـيهما وهذا ما لم نره منذ سنوات أو على الأقل منذ فترة طويلة.
ما دورنا بعد الاحتفال بالعيد الوطني إذن؟ وهل يقتصر حب الوطن على الشعارات التي نلهج بذكرها فـي هذا اليوم البهيج؟ وما هو الوطن أصلا؟! إن العالم اليوم يعيش حالة استقطاب حاد، لا أعتقد أن البشرية مرت بمثل حدتها من قبل. وتعمل قوى الشر على زعزعة ارتباط الفرد بمحيطه العام والخاص، فنحن عرب ومسلمون، ونحن خليجيون، ونحن عمانيون أيضا؛ وكل واحدة من هذه الصفات حقيقية تماما، فما يربطنا ببعضنا من صلات الدم والقربى، والمشتركات الأخرى، جدير بأن نتذكرها جيدا ونعيش وفقا لها. أما المصلحة الفردية ومعاملة الوطن كأنما هو نبع ماء نمتح منه حاجتنا، ثم نجفوه ونهدّم حياضه حين يقارب النبع على الجفاف أو يتمنّع ماؤه ويغور؛ فهي الغاية القصوى والهدية الكبرى لكل من يريد خراب الأوطان، ويستثمر فـي ذلك الأعداء جيوشهم الإعلامية والفكرية التي تنهش علاقة المرء بوطنه وتدس السموم فـي العسل، حتى يغدو الوطن فـي عيون البعض موازيا للمكان الذي يقدم له الميزات الكبرى، كأنما هي شركة تجارية لا كيان ثابتا لا يتزحزح ولا يتغير بتغير الأشخاص! أفهم العيد الوطني باعتباره اليوم الذي نتلو فـيه ملاحم آبائنا وأجدادنا وعلاقتهم بهذه الأرض الطاهرة، وما بذلوه فـي سبيلها من نفوس وأموال وحيوات كاملة، وأفهمه أيضا باعتباره اليوم الذي يراجع المرء فـيه نفسه، أعمل على ما فـيه صلاح الوطن ورفعته أم قدّم مصالحه ومآربه الشخصية وسعى إلى تحقيقها هي فحسب؟ إن الوطن بتربته وكيانه أعلى وأرسخ من أي شخص مر عليه وعاش ومات فـيه، فعُمان اليوم امتداد لعمان الأمس؛ لكنها لا تنسى من بذل فـي حقها التضحيات الجِسام، وسعى فـي تخليصها من الأعداء والمتربصين. من يدرك معنى الوطن حقا، هو من فقد وطنه، ومن حارب لأجله، ومن نافح عنه، ومن بذل فـي رفعته الغالي والنفـيس. تحدث الأحداث العظيمة فـي التاريخ كله باعتبارها كرة ثلج تتدحرج رويدا رويدا، حتى تصير عملاقة لا سبيل إلى إيقافها، فالوفاء والفساد كلاهما بذرتان تنموان ببطء، لكن تأثيرهما سيظهر لا محالة. وأستحضر مقالة للأديبة الفذة مي زيادة بعنوان «أين وطني»، فقد وُلدت مي فـي مدينة الناصرة بفلسطين، وأبوها من أصل لبناني، وأمها من أصل سوري، وقد عاشت وتوفـيت فـي القاهرة بمصر؛ فليس غريبا بعد هذا كله أن تتساءل مي عن وطنها. تتحدث مي فـي مقالتها هذه بألم وحرقة، ألم التشظي بين الأوطان واتهام المتربصين بها الحاسدين لها بأنها ليست من هنا أو هناك، بينما تصرخ روحها قائلة: «إنما أريد وطنا لأموت لأجله، أو لأحيا به!». تتجلى وطنيتنا حين نخلص لهذا الوطن فعلا، فهذا المعلم يتخذ التعليم رسالة حقيقية ويضع فـي حسبانه أنه يصنع عُمان الغد بصناعته لأبنائها. وهذا المهندس يشيّد المشروعات وهو يدرك بأنه إنما يبني للوطن أُسًّا قويا ثابتا لا يكلف الوطن مالا أو أرواحا فـي المستقبل، فـيكترث للتفاصيل كما لو كانت لمنزله الخاص. وهذا الوزير يراقب الشؤون الصغيرة المنوطة بوزارته ولا يكتفـي بالاستماع إلى المحيطين به من ذوي المناصب العالية بل يمشي مع الناس ويستمع إليهم، ويشاركهم همومهم؛ وهذه بالذات تذكرني ببعض السير الذاتية التي قرأتها سابقا. فقد تأتي الأفكار العظيمة وتتفق وتنبثق رؤى عملاقة، من فم إنسان لا يعرفه أحد، ولم يكن لصوته صدى أو مدى، وإنما بلقاء عابر مع إنسان بيده قرار، ولديه قدرة حقيقية، ولنا فـي قصص وادي السيليكون التي لم يؤمن بها أحد ثم خرجت لنا منها شركات ومؤسسات تقارع الدول فـي القيمة والتأثير والنفوذ. وفـي العموم، فإن كل امرئ يعمل فـي مكانه بكل إخلاص وأمانة، فـيراقب حبة القمح التي تؤثر على الوطن قبل أن يراقب السنبلة، ويراقب السنبلة قبل أن يراقب الحقل؛ وهكذا دواليك. ومن داخل نفسه شيء من الشك والحيرة، فليُجل بصره فـي وطنه أينما شاء، ليرى آيات العمل الصادق والوفاء وأثرهما ورسوخهما؛ أفليست النخيل شاهدة على عمل آبائنا؟ أليس الفلج الذي شقُّوه فـي الجبال والوديان، وحفروه فـي السيوح دليلا على شغفهم وحبهم لأرضهم وتمسكهم بها، وتكيُّفهم معها؟ أوليست القلاع والحصون التي بنيت فـي الشواهق المنحدِرَةِ الخطِرة دليلا على حبهم لوطنهم واعتزازهم وتحصّنهم به؟ إن المرء وهو يكتب عن شيء ما، تتعالق روحه مع أناس سبقوه أو كانوا معاصرين له، والوطن الذي نازَع شوقي نفسه إليه، هو الوطن الذي تتحدث عنه مَيْ، والوطن الذي يتحدث عنه الصغير والكبير، البدوي والحضري، ولكن الله وهب أناسا ملكة القول، فـيقف أمام ما قالوا بدهشة ومحبة؛ ومن هؤلاء مَي التي أحب أن أختم مقالتي بقولها: «إذا جاملت العتيَّ توصُّلا إلى ما لا غنى عنه قالوا عبدة تُمرِّغ جبهتها فـي التراب وتتزلَّف، وإذا جعلت من المصارحة سلاحا، ومن الأَنَفة حصنا، سطت عليَّ اليد الحديدية، ومزّقتني ألسنة (الإخوان)، وانفضَّ من حولي (المخلصون) لأنهم إنما خلقوا لمساعدة نفوسهم». فمن القمم والأودية، من الصخور والينابيع، من الأحراج والمروج تتعالى معاني بلادي فـي الضحى، وعند الشفق تتكامل أرواح الأشياء وتتجمهر كأنها تتداول فـي إنشاء عوالم جديدة. إن الوطن جامع لنا كلنا، وإن من السخافة أن يرتبط حب الوطن أو بغضه بمسؤول أعطى أم منع، فالوطن باق بقاء الأرض إلى أبد الدهر، والمسؤول متغير لا يبقى على حال. ولنا فـي تغير صروف الزمان، وتقلب أحوال الوزارات والبلديات ومما يمس بحياة الناس ومعيشتهم شاهد ناطق، فـيعلو شأن الكيان بعلو همّة المكلَّف به، والمسؤول عنه، والقائم عليه. فوطني مجان، ووطني مزون، ووطني عمان منذ ما قبل عبد وجيفر ابني الجلندى، إلى عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه. |
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الجزيرة ترصد الأوضاع من موقع الكمين الذي تعرض له عناصر الأمن السوري
27/12/2024