نور_على_نور
د. #هاشم_غرايبة
يعتقد بعض المؤمنين أن للتشريعات ثلاثة مصادر: القرآن والسنة والاجتهاد، لكنهم مخطئون، فهذه طرق لمعرفة التشريعات، فالمشرع هو الله وحده: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” [يوسف:40]، ولا يسمح لأحد أن يشاركه في ذلك: “وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦ أَحَدًا” [الكهف:26].
لذلك فالمصدر الوحيد للتشريع هو القرآن من نصوص صريحة، أما ما كان عاما غير مخصص، أو مجملا غير مفصل، أو مبهما غير محدد، فقد جاءت السنة الصحيحة مساعدة للناس على فهمها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كانت الآيات القرآنية تلقى في روعه، كان يلهم معها فهمها ومراداتها: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه” [حديث صحيح].
لذلك فلا يمكن أن تأتي السنة بما يخالف النص القرآني، وإنما مفصلة لمجمل ككيفية أداء الصلاة والوضوء، أو مخصصة لمعمم مثل نصاب الزكاة وقيمتها وشروطها، لكنها لم تزد ولم تنقص في مصارفها الثمانية، لأنها محددة نصاً.
كما كان التطبيق النبوي للتشريعات عمليا أمام الصحابة، لترسيخ الفهم والتطبيق الصحيح لها.
أما الاجتهاد فيكون في مستحدثات الأمور مما لم يكن موجودا زمن التنزيل، ويتم بالقياس.
وهكذا فالسنة ليست تشريعا موازيا، ولا يمكن أن تأتي ناسخة لحكم قرآني او مكملة لنقص فيه، فقد جاء القرآن كاملا مكتملا لم يغفل شيئا: “مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ” [الأنعام:38]، لذلك لا يمكن أن يأتي تشريع نبوي بما ليس له أصل في القرآن: “لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى” [طه:52].
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ أمته الرسالة ويؤدي الأمانة، فلا يترك أمرا من أمور دينهم ودنياهم إلا بيّنه، وكان ينهى عن تدوين أقواله لئلا تحرّف بعده، لكن بعد التحول الى الحكم العضوض، وخدمة للأهداف السياسية لأصحاب السلطة للاستئثار بها ولتوريثها ذريتهم، بحثوا عن مبررات شرعية لتصفية المعارضين، فلم يجدوها في التشريع القرآني، فأوجدها لهم بعض شيوخ السلاطين من الذين شروا دينهم بثمن بخس، بأحاديث تقولوها على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع أن العلماء الربانيين تصدوا للمحرفين، فأنشأوا علم الحديث ووضعوا تصنيفا بناء على عدالة الراوي والسند، إلا أن البعض تحوطا رفضوا أخذ الأحكام الشرعية من السنة، والإقتصار على القرآن كونه محفوظاً من التحريف، وهؤلاء سُمّوا بالقرآنيين، ومنهجهم غير صحيح لأن السنة مكمل تشريعي، ولا تفهم بعض الأحكام بدونها.
وعلى النقيض من القرآنيين، ظهرت فرقة أخرى بعيدة عن الدين أيضا، وهم المتطرفون، عندما لا يوافق تشددهم حكم شرعي قرآني يتركونه، ويبحثون في الروايات عن أحاديث تتوافق مع أهوائهم، وهم غافلون عن أنه لا يجوز الانتقائية في أحكام الله التي بينها في كتابه، فما ورد في كتاب الله لا ينبغي للمرء البحث فيما سواه، إلا من باب التفصيل والتفسير، لأن الحكم القرآني يجيء بالتعميم الجامع، والسنة بالتخصيص المُفصِّل.
فلو أخذنا مثلا الحكم القرآني بجلد الزاني مائة جلدة، هذا حكم عام، لكن النص قيده بانه عذاب: “وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” [النور:2]، والعذاب لا يصل الى الموت، بدليل: “عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ” [النساء:25]، لذلك لا يجوز التفصيل بما يتجاوز الحكم القرآني الى ما هو أكثر من الجلد، كأن تكون الأداة المستعملة قاطعة كالسيف فتجرح ولا راضة كالحجر فتقتل.
بالمقابل هنالك من البسطاء من يفهمون أن اتباع السنة هو محاكاة السلف الصالح في الهيئة والمظاهر كاللباس واللحية..الخ، الضرر المتحقق من وراء ذلك هو أنها يمكن أن تكون وسيلة للمحتالين لخداع الآخرين بمظاهر توحي بالتقوى وتبعث على الثقة، فتضيع الحقوق، لذلك كل هذه شكليات لا قيمة شرعية لها، ولا تزيد في الإيمان ولا تنقصه، ولم يأت بها الإسلام، بل وجدها نمط معيشة سائدا في المجتمع العربي الجاهلي، فأبقاها كما هي ولم يغيرها، لأنها ليست من جوهر العقيدة.
صحيح أنه لا يمكن الجزم بصحة كل موروثاتنا الفقهية، لكن مع تقدم الفهم وانتتشار دور العلم، وتطور وسائل البحث المقارن، وعدم اقتصار التفقه بالدين على نفر معدودين، بات من الممكن تمييز الأصيل من الموضوع منها، بمدى توافقها أو تناقضها مع القرآن الكريم.
ومع ذلك فالسنة أساسية في التشريعات، وضرورية لفهم النص القرآني، لأنها مفسرة ومفصلة له. مقالات ذات صلة
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
بعد أن فقد بصره وهو ابن ثلاث سنوات سأل والده: "متى النهار يطلع يا بابا؟"، فبكى الأب بحرقة وقال "سترى بقلبك يا بني أكثر مما ترى بعينيك"، لم يعرف الأب وقتها أن صوت ابنه سيكون كالشمس في تاريخ مصر، لا يبدأ النهار إلا بسماعه عندما تشير عقارب الساعة إلى تمام السابعة صباحا.
إنه الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- الذي تلاحم صوته مع نسيج الوعي المصري ووجدانه، فأراد الله أن يحيا صوت الشيخ رفعت في مناسبتين، الأولى طوال العام عند الساعة السابعة صباحا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، هذا الوقت الذي يتعلق بذاكرة كل مصري أثناء ذهابه إلى المدرسة ونزوله إلى عمله صباحًا، إذا سمع صوت الشيخ رفعت أدرك أن الشمس قد أشرقت إيذانًا بميلاد يوم جديد مصحوب بصوت الشيخ محمد رفعت.
وأما الثانية فطوال شهر رمضان المبارك مع أذان المغرب، هذا الأذان الذي إن سمعه المصريون في أي وقت استشعروا بنسمات شهر الصيام، ارتبط أذان الشيخ محمد رفعت بالإعلان عن وقت الإفطار كل يوم في رمضان، فأصبح له خصوصية يتفرد بها عن أي أذان آخر.
الشيخ محمد رفعت هذا الصوت الملائكي الخالد الذي تجددت فيه معجزة القرآن، إلا أن التسجيلات التي وصلتنا لم توفه حقه، ذلك لأن أغلب التسجيلات كانت قديمة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فغير المونتاج الصوتي شيئا من حقيقة صوت الشيخ رفعت، والأمر الثاني أن التسجيلات بدأت في فترة مصاحبة المرض لهذا الصوت، كما قال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في إحدى لقاءاته إن تسجيلات الشيخ محمد رفعت تحمل تأثير مرضه وكأنك تسمع صوتا جميلا لكن عليه مسحة من المرض، وذكر أن تسجيل سورة مريم هو الذي يعطي بعضا من صوت الشيخ رفعت في اكتماله وشبابه ومقدرته.
في حي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر ولد الشيخ محمد رفعت سنة 1882 لأب يعمل ضابط شرطة بقسم الخليفة، وأم طيبة ترعى بيتها وتقوم على شئون الزوج والأولاد، واسم محمد رفعت هو اسم مركب أما والده فاسمه محمود رفعت وهو اسم مركب أيضًا، ولأن كل إنسان منا يسير إلى قدره المكتوب في الحياة، فقد واجه الشيخ محمد رفعت مصيره في الحياة مبكرا، المأساة الأولى عندما فقد بصره وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره، والمأساة الثانية عندما فقد والده وهو ابن تسع سنوات.
ولأن في المنع عطاء، وفي كل محنة منحة، فكانت المأساة الأولى هي سبب العطاء الأعظم في حياة الشيخ محمد رفعت بعد أن قرر والداه أن يهباه للقرآن، وأتم حفظ القرآن وتجويده وهو طفل صغير في مسجد فاضل باشا، والذي عين فيه قارئا للسورة يوم الجمعة إلى أن أقعده المرض، وأما المأساة الثانية فكانت السبب في أن يتحمل الشيخ رفعت مسئولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وخالته وأخيه الأصغر بعد أن أصبح هو العائل الوحيد لهم، وظل على هذا الحال حتى ذاع صيته وأصاب سحر صوته كل من سمعه وتأثر به.
الشيخ محمد رفعت هو معجزة القرن العشرين في تلاوة القرآن الكريم، كان لصوته مفعول السحر على مستمعيه، فلا تسمع تلك الصيحات أثناء تلاوته كما يحدث في السرادقات مع قراء اليوم، ولكن طريقة قراءة الشيخ رفعت بما فيها من هيبة ووقار وإبهار كانت تجعل المستمعين لا يحركون ساكنا، يخشعون رهبة وإجلالا لعِظم ما يُقرأ عليهم.
تقليد الشيخ رفعت يحتاج لإمكانيات صوتية خاصة ولطبقة صوت اختص بها الله الشيخ رفعت، فيصعب جدا تقليده، تمتع الشيخ رفعت بصوت ماسي حاد جدا رنان كأنه الياقوت والمرجان، وبصوت عميق عريض جدا كأنه زئير الأسد في أدنى طبقات صوته، والعجيب أن في علو صوت الشيخ رفعت وهبوطه لا يشعر المستمع بأنه ينتقل بين القرار والجواب فهو يقرأ بطريقة السهل الممتنع، يلون الآيات بصوته وبما يناسب كل آية، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكنها تحتاج لذكاء يوظفها بطريقة صحيحة، والشيخ محمد رفعت وهبه الله من الذكاء الفطري والبصيرة الربانية ما جعله يقرأ القرآن بوعي وتدبر وذكاء.
عاش الشيخ محمد رفعت واهبًا حياته لخدمة القرآن الكريم ينشر صوته في كل مكان ويلبي الدعوات بعفة نفس خدمة للقرآن، لم يكن طالب مال ولا شهرة أو جاه، ترك لأبنائه ساعة يد وروشتة طبيب ومصحفًا، كما أخبر بذلك ابنه الأكبر محمد رحمه الله، وأصيب الشيخ رفعت بمرض الزغطة الذي اتضح أنه سرطان الحنجرة، فتوقف عن القراءة سنة 1943 بعد أن حبسه المرض وهو يقرأ ولم يخرج صوته في بعض الآيات فسكت ثم غادر المسجد وسط بكاء كل الحاضرين، وظل يعاني من هذا المرض الذي فشل الطب في علاجه، كان راضيا صابرا ولم يسخط، وفي يوم التاسع من مايو سنة 1950 أخذ يردد (الحمد لله) ويسأل زوجته عن أولاده، ويقول (الحمد لله) ثم فاضت روحه إلى رب العالمين، ليترك لنا صوتا لم ينطفئ يومًا، هذا الإرث الذي يشهد له بما قدمه في حياته لخدمة القرآن وإيصال رسالته، رحم الله قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت.