اختر معاركك بحكمة!
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
ما أثقل الروح حين تنشغل بمعارك تافهة لا تضيف إلى حياتها شيئًا، وما أعمق السلام الذي يُرافقنا حين نختار معاركنا بحكمة ووعي. في عالم مليء بالصراعات اليومية، يبرز سؤال مهم: هل يستحق كل موقف أن نستنزف طاقتنا من أجله؟ الإجابة ببساطة هي "لا"، فليس كل جدال يستحق الخوض فيه، وليس كل موقف يتطلب منَّا إثبات وجهة نظرنا.
فنحن كثيرًا ما نجد أنفسنا في مواقف نتعامل فيها مع أشخاص يخوضون في نقاشات تتعلق بتخصصاتنا أو مجالات خبراتنا، مدعين الفهم والمعرفة، بينما هم في الواقع بعيدون كل البعد عن الحقائق. على سبيل المثال، قد تجد شخصًا يتحدث بثقة عن موضوع علمي في مجال دراستك أو عملك، مستخدمًا مصطلحات مغلوطة أو استنتاجات سطحية، فقط ليظهر أمام الآخرين كأنه ملم بكل شيء. قد تشعر بالاستفزاز أو الرغبة في الرد، ولكنك تدرك أنَّ محاولات التصحيح ستتحول إلى جدال عقيم، لأنَّ هذا الشخص لا يستمع للحقائق بل يبحث عن إثبات ذاته. لذلك، تختار أن تتحلى بالصبر، وتكتفي بابتسامة هادئة مع جملة مثل: "ربما تكون على حق". هذا الرد البسيط ليس تعبيرًا عن اتفاق؛ بل هو وسيلة لحماية وقتك وطاقتك من الهدر، وإشارة ضمنية إلى أنك تدرك قيمة التخصص والمعرفة الحقيقية، بينما لا تحتاج إلى إثباتها لمن لا يُقدرها.
وعلى نفس المنوال، قد تكون جالسًا في جلسة ودية مع الأصدقاء أو العائلة، حيث يبدأ أحدهم بسرد معلومات واضحة الخطأ عن موضوع أنت على دراية تامة به. قد يتحدث بثقة عن حدث تاريخي مشوه أو يصدر أحكامًا مغلوطة حول قضايا اجتماعية أو علمية. ومع أنك تمتلك كل الأدلة التي تثبت خطأه، تختار أن تهز رأسك موافقًا أو تبتسم، مدركًا أنَّ الخوض في هذا النقاش لن يؤدي إلا إلى تعكير الأجواء وإثارة التوتر. هذه اللحظة ليست ضعفًا منك أو عجزًا عن الرد، بل هي وعي عميق بأنَّ الحفاظ على سلامك الداخلي وعلى انسجام المجلس أولى من الانشغال بتصحيح من لا يرغب في الاستماع. هنا، الصمت يصبح أداة حكيمة تعبر عن تقديرك لراحة بالك، وعن اختيارك لمعركة تستحق خوضها بدلًا من تبديد طاقتك في محاولات عقيمة.
ومما يدعم هذا النهج، قول الله تعالى: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفرقان: 63). هذه الآية الكريمة تعلمنا أن السلام الداخلي هو الخيار الأفضل عند التعامل مع مواقف لا تستحق العناء. فالكلمات ليست دائمًا الحل، والصمت في بعض الأحيان أبلغ من أي حجة.
علاوة على ذلك، الحكمة في اختيار معاركنا تظهر جلية في العلاقات الأسرية. فعندما تنشأ نقاشات حادة حول قضايا يومية بسيطة، قد نجد أنفسنا أمام خيارين: إما التصعيد، أو الحفاظ على سلام العلاقة. فالأب الذي يختار الصمت في مُواجهة نقاش حاد مع ابنه حول موضوع بسيط، لا يفعل ذلك لأنه مُخطئ، بل لأنه يضع العلاقة فوق الجدال، وهذا هو قمة النضج، لأنه يعرف أن الانتصار في النقاش قد يعني خسارة التفاهم والمحبة.
وعندما ننقل هذا المبدأ إلى الحياة المهنية، نجد أن الزميل الذي يروج لإنجازاته بالكلام قد لا يلقى الاحترام نفسه الذي يحظى به من يعمل بصمت وإخلاص، لأنَّ الأفعال دائمًا أقوى من الكلمات، وهي التي تترك الانطباع الأعمق. وإذا كنت تعمل بجد وتحقق أهدافك دون ضجيج، فإنَّ عملك سيتحدث عنك، وستكون قد اخترت المعركة التي تستحق، ألا وهي بناء سمعتك المهنية من خلال الأفعال وليس الجدال.
ومن الأحاديث النبوية الشريفة، نجد توجيهات واضحة تدعونا إلى اختيار الكلمات بحكمة أو الالتزام بالصمت. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري ومسلم). هذا الحديث يوجهنا إلى أهمية اختيار الكلام بعناية، ويدعونا إلى الصمت عندما لا يكون هناك شيء مفيد يُقال.
ومن المهم أن ندرك أن اختيار معاركنا بحكمة لا يعني التراجع دائمًا، بل يعني التدخل فقط عندما يكون ذلك ضروريًا ومفيدًا. على سبيل المثال، عندما ترى شخصًا يحتاج إلى نصيحة صادقة أو دعم حقيقي، فإن التدخل هنا هو ما يعكس قيمتك. لكن عندما تُواجه موقفًا يغلب عليه الجدال العقيم، فإنَّ التراجع هو الخيار الأكثر حكمة.
إنَّ الأفعال تفتح لنا أبوابًا من الرضا النفسي. فعندما ندرك أن أفعالنا يمكن أن تكون مصدرًا للخير، نشعر بالاطمئنان الذي يمنحه الله للصادقين من عباده. يقول الله تعالى: "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ" (البقرة: 110). هذه الآية تؤكد أن الخير الذي نفعله في السر، دون سعي للمقابل، هو ما يعود علينا في الدنيا والآخرة.
وفيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، نجد أن التفاعل مع الآخرين بحكمة يمكن أن يحول حتى المواقف الصعبة إلى فرص للتفاهم. وعندما تختار أن تكون مستمعًا جيدًا بدلاً من محاور عنيد، فإنك تفتح الأبواب أمام التواصل الحقيقي. وحتى عندما يكون الآخر مخطئًا، فإن الصمت أحيانًا يكون هو الجسر الذي يحفظ العلاقة.
وفي ختام هذا المقال، علينا أن نتوقف عند حقيقة جوهرية: ليس كل نقاش فرصة لإثبات الذات، وليس كل جدال ساحة تستحق خوضها. الأهم هو أن نحتفظ بسلامنا الداخلي وأن ندرك أن الحكمة تكمن في انتقاء المواقف التي تستحق اهتمامنا. عندما نجد أنفسنا أمام شخص يجهل تفاصيل تخصصنا أو يثرثر فقط لإثبات أنه يعلم كل شيء، فإن الرد الحكيم لا يكون بالمواجهة أو محاولة إثبات خطئه؛ بل بالصمت المدروس الذي يحمي طاقتنا ويصون قيمتنا. لأننا عندما نكف عن الانشغال بما لا يضيف إلى مسيرتنا، نمنح أنفسنا فرصة للتركيز على ما يهم حقًا. اجعل أفعالك وأسلوبك الراقي يتحدثان عنك، وامنح نفسك حق العيش بسلام، لأن الحكمة الحقيقية ليست في إقناع الجميع، بل في أن تحيا بصفاء داخلي وسكينة لا تهتز.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خالد الجندي: «الكون متعدد ليه عاوزين الفقه يكون واحد؟»
قال الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إن التعدد في الفهم الفقهي نعمة مش نقمة، ومش مطلوب أبدًا إن الناس كلها تمشي على رأي فقهي واحد، لأن ربنا نفسه خلق الكون كله على التنوع والاختلاف، فكان من الطبيعي إن الفقه كمان يحتمل التعدد والاختلاف.
وتابع عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خلال حلقة برنامج لعلهم يفقهون، المذاع على قناة dmc، اليوم الخميس: «فيه ناس مستغربة ليه الفقه مش واحد؟ ليه عندنا مالكي وشافعي وحنفي وحنبلي؟! أنا بسألهم: إذا كان الكون اللي ربنا خلقه كله متنوع، من الألوان، للطبيعة، للناس، يبقى إزاي عايزين الفقه يبقى رأي واحد؟!».
وأضاف: «ربنا بيقول في سورة آل عمران: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)، يعني في آيات واضحة جدًا لا تحتمل إلا معنى واحد زي: (قل هو الله أحد)، دي آية محكمة، وفي آيات تانية ربنا خلاها تحتمل أكتر من تفسير، وده اسمه التشابه، وده اللي بيخلي الفقه واسع والآراء متعددة».
وأوضح «الجندي» أن المتشابهات في القرآن مش للتشويش، بل للتيسير والتوسعة، موضحا: يعني مثلًا، كلمة (قروء) في القرآن معناها إيه؟ هل هي الحيض ولا الطُهر؟ الاتنين اتقالوا في الفقه، وكل مذهب ليه دليله، كلمة (لامستم) معناها إيه؟ المس ولا الجماع؟ برضه فيها خلاف، الخلاف ده مش تناقض، ده ثراء فقهي.
وأوضح أن الفتوى نوعان: إما فتوى في أمر خاص، وفي الحالة دي لك أن تختار من بين الآراء الفقهية ما يناسبك من مذهب مالكي أو شافعي أو غيره، لأن فيه سعةـ لكن لو الفتوى في أمر عام يمس المجتمع كله، فلا يجوز لكل فرد يختار على مزاجه، لازم نرجع ونلتزم برأي المشيخة، لأن توحيد الكلمة أهم من تعدد الاجتهادات.