عربي21:
2024-09-19@03:18:54 GMT

الإنسان في القرآن (23): الإسلام.. تسليمٌ وسلامٌ

تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT

الإسلام في القرآن أوسع دلالةً من حصرِه في شريعة الرسولِ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ووصفِ أمَّةٍ واحدةٍ به دون غيرها من الأمم، فالإسلام هو الدِّين الحقُّ الذي يقبله الله من الناسِ من كلِّ الأممِ وفي كلِّ العصورِ، وهو يتعلَّق بحالةِ القلب وليس بتفاصيلِ الشريعة.

وحين ادَّعى اليهود والنصارى احتكار الجنَّةِ، بيَّن اللهُ تعالى أنَّ دخول الجنة لا يتعلق بالانتسابِ إلى هويَّةٍ قوميَّةٍ إنَّما يتعلق بحالةِ النفسِ والقلبِ، فإسلام الوجهِ مع الإحسان هو ما يدخل الناس الجنة:

"وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 111-112).



يدعو القرآن أهل الكتاب إلى الإسلام، ليس بمعنى ترك شريعتهم، إنما بمعنى الاستسلام والتوجه إلى الله، مع بقاء الهوية الثقافية المميِّزة لهم:

"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران: 20).

يتبيَّن في هذه الآيات أن الإسلام فعلٌ وحالةٌ وليس اسم علم.. الإسلام في اللغة العربية مزيج من الاستسلام والسلام، وأيُّ ترجمةٍ لهذه الكلمة إلى لغاتٍ أخرى ينبغي أن تراعي الطبيعة التركيبيَّة للكلمة لا أن تقتطعَ دلالةً أحاديةً لها تنال من روحها.

الإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم. لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة
ومن هذا المدخل اللغوي نستطيع أن نقارب جوهر الإسلام، فالإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم.

لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة.

بعد أن يستنفد العقلُ حيلته ويبذل الإنسان أقصى جهدٍ مستطاعٍ، تظلُّ هناك مساحةٌ في حياته لا يملؤها إلا القبول والرضى، لذلك يأتي التسليم حين تنتهي حدود العقل لينقذ الإنسان من السخطِ والعجزِ والحيرة.

الإسلام هو الحالة التي يخرج المرء بها من تيارات الحياة المتعاكسة وصراعات النفس الممزقة فيقرر السكون والتناغم مع حركة الوجود.

والسلام هو الغاية الأخيرة التي يبغيها البشر، قد يخوض الإنسان رحلة بحث معرفي وفلسفي شاقةً ويضنيه الشك والسؤال، لكنه وهو في هذه الحال يتطلع إلى شاطئ السلام ويشتاق أن تبلغ نفسه السكون.

السؤال والجدل لا يمثل غاية الإنسان إنَّما يمثِّل الطريق، أما غاية الإنسان التي يتطلع إلى بلوغها فهي السكون والسلام.

الإسلام قانونٌ وجوديٌّ ينظم حركة المخلوقات جميعها، فالنجم والطير والشجر والجبال كلُّها خاضعة لله تعالى لا تحيد عن مسارها ولا تعاند قانون الحياة:

"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (آل عمران: 83).

ما دام من في السماوات والأرض أسلموا لله، فإنَّ دعوة الإنسان إلى الإسلام هي دعوةٌ له إلى التناغم مع إيقاعِ الكون.

إنَّ كلَّ ما نراه من انضباطٍ دقيقٍ في حركةِ الوجودِ من الذرّة إلى المجرّة هو تجلٍّ لقانون الإسلام. يتحدث القرآن عن تسبيح المخلوقات لله:

- "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (النور: 41).

- "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت: 11).

تشير آياتٌ كثيرةٌ في القرآنِ إلى تسبيح وسجود وطاعة كلِّ أرجاء الكون في السماوات والأرض إلى الله!

من تجليات معنى التسبيح أنَّ كلَّ المخلوقات في حالة تناغم مع حركة الكونِ وتوافقٍ مع القانونِ الذي يضبطها، وأنَّ الكون يسير وفق إيقاعٍ متجانسٍ طائعاً لإرادة مكوِّنه.

والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على العصيان ومعاندة قانون وجوده، لذلك لا نجد اضطراباً أو تناقضاً وإخلالاً بالتوازن في حركة النجوم والكواكب أو في أعماق البحار أو الغابات البعيدة عن يد الإنسان، بينما يظهر الفساد في الأماكن التي وصل الإنسان إليها بما كسبت أيدي الناس.

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعصي ويخرج عن القانون ويعاند فطرة الله، لذلك حين ذكر الله سجود الخلائق له كان بعض الناس هم الاستثناء من هذا القانون الشامل:

"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" (الحجّ: 18).

السجود هو مظهر الإسلام وتجلِّي حالة القلب بالخضوع لإرادة الله، والإسلام يعني أن يكون الإنسان منسجماً مع حركة الوجود، فكما أن النهر لا يكف عن جريانه وكما أن الزهرة لا تتأخر عن تفتح براعمها، فإن المسلم هو الذي يتصل بروح الطبيعة ويثق بالحكمة الناظمة لها ويجذبه الجمال المتجلي في كل ثناياها، فلا يعاند ولا يقاوم إنما يستسلم لحكمة الوجودِ تقوده حيث تشاء، فيورثه هذا الاستسلام طمأنينةً ورضىً، ويحرره من الشقاق والاختلاف!

نقتربُ هنا من معنى "الاختلاف" الذي يذكره القرآن، فالاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها..

الاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها
يعيننا في فهم معاني القرآن ملاحظة مقابلاتِها، والإسلام في القرآنِ يقابله التولِّي:

".. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20: آل عمران).

والتولِّي هو الإعراض والإدبار بدافعِ الاستكبارِ، فمقتضى معرفة الحقِّ أن يستسلم المرء لمقتضاه، ونقيض ذلك أن يُعرض ويُدْبر ويستكبر، فإذا كان الإسلام هو الفعلُ التلقائيُّ الذي تقتضيه معرفة الحقِّ، فإنَّ التولِّي هو فعلٌ قصديٌّ يقتضي بذل طاقةٍ عنفيَّةٍ لأنَّه تنكُّرٌ للحالةِ الطبيعية التلقائيَّة.

الحياة تقوم على قانون التلقائية؛ توقف عن الحرص على الأشياء تأتيك صاغرةً؛ هذه الحكمة الشائعة بين الناس لم تأت من فراغ إنما تختزن في باطنها تجارب غنيةً من الحياة، حين نحرص على الظفر بشيء يفلت من أيدينا، وحين نتركه ونعيش حياتنا ببساطة يأتينا دون عناء، كلنا لاحظ هذا في حياته، هذا هو قانون الإسلام، ثق بالتدبير الكونيِّ الشامل، وتوقف عن الجزع واللهاث في الحياة واترك للمدبر الأعلى أن يدبر أمورك.

ويتصل بمعنى الإسلام معنى الرضى، فالإنسان إذا سلَّم أمره سكنت صراعات نفسِه ورضي بتدبير الأقدار.

تذكر سورة مريم في قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام مثالين للشخصيَّة الإنسانية: شخصية الجبار الشقيِّ العصيِّ، وشخصية البَرِّ الرضيِّ.

تتحدث السورة عن يحيى عليه السلام:

 - "وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياً" (مريم: 6).

- "وَبَراً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِياً، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً (مريم: 14-15).

وتتحدث عن عيسى عليه السلام:

"وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياً، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياً" (مريم: 32-33).

الجبار العصيُّ الشقيُّ الذي يضادُّ شخصيَّتي يحيى وعيسى عليهما السلامُ هو الذي يعيش حالة تمرد وعصيانٍ وتنافرٍ وشقاقٍ داخليٍّ، فيكون ساخطاً شقيَّاً في حياته.

ونرى في صفات يحيى وعيسى الربط بين البرِّ بالوالدين وبين حالة الرضى والسلام، لأنَّ الوالدين هما مرآة الوجود وفيهما تتجلى صفات الرحمة والجلال الإلهيِّ، فإن كان الولد متصلاً بهذه الصورة بعلاقة الرضى والانسجام والتوافقِ كان ذلك مؤسِّساً لحالة توافقه مع الوجودِ الكليِّ، وإن كان جباراً معهما كان ذلك مؤسساً لحالة العصيان والتمرد والشقاء مع الوجودِ الكليِّ. وهذا مما يخبره الناس بكثرةٍ وتواترٍ وتكرارٍ تنتفي معه الحاجة إلى التمثيل عليه، في الفرق بين شخصيَّتي الجبار والبارِّ والسمات النفسيَّة لكلٍّ منهما، فالأول يعيش حالة صراع وشقاقٍ والثاني يعيش حالة انسجامٍ وسلامٍ.

الاستسلام هو مرحلةٌ فوق الوعي تتمثل في صمت الضوضاء والشتات الداخليِّ وبلوغ حالة السكون التي تأخذ صاحبها إلى العمق حيث جوهر كيانه: "وله ما سكن في الليل والنهار".

هذه الحالة يسميها المعلم الألمانيُّ الكنديُّ إيكارت تول "الوعي المستسلم". يقول في محاضرة بعنوان "أعمق حقائق الوجود الإنساني":

"حالة الوعي المستسلم هي حقيقة كل الأديان، إنه حيزٌ من الحضور الواعي يتجاوز الأفكار، استسلم لأي شكل تتخذه هذه اللحظة لأن الكون بأسره قد جلب لك هذا، لكن هناك "أنا" ضئيل بداخل الرأس لديه جدال في هذا ويقوي ذاته عبر هذا الجدال وهذا هو سبب المعاناة الإنسانية، حين تستسلم لما هو كائن، هذا هو الاستسلام للربِّ، سيتوارى هذا البناء الأنويُّ الذي يعيش على المقاومة والرفض، ويكون هناك عمقٌ لكيانك فجأةً وسلامٌ في داخلك".

يقترب هذا الاقتباس من حقيقة الإسلام دون أن يسميه باسمه، فهو يمزج في عبارةٍ واحدةٍ بين مكوني "الاستسلام والسلام"، ويتحدث عن "الأنا بداخل الرأس" الذي هو الاستكبار بلغة القرآن، ويتحدث عن الجدال الذي هو الاختلاف والشقاق بلغة القرآن!

وإيكارت تول ليس الوحيد في مقاربة معنى كلمة "الإسلام" في سياق التجربة الإنسانية، فهناك كثيرٌ من المفكرين الغربيِّين والشرقيِّين يعبرون عن ذات المعنى بطرقٍ لغويَّةٍ متعدِّدةٍ، وهناك العديد من الكتب التي تتحدث عن معاني "القبول"، "التسليم"، "الرضى" كانت في السنوات الأخيرة بين الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، وهو ما يؤكد أن هذه المعاني الأصيلة في القرآن تلامس حاجةً إنسانيَّةً جوهريَّةً، حتى وإن اختلفت لغة التعبيرِ عنها.

يعد كتاب التاو أعظم الكتب تأثيراً في تكوين التراث الثقافيِّ للأمة الصينية، وفي هذا الكتاب يتكلم الحكيم الصينيُّ لاو تسو عن معنى "اللا فعل واللا جهد" وهو مصطلح مقارب في معناه لمعنى الاستسلام والتوكل.

يؤكد لاو تسو على معنى التلقائية الكونية، فالماء ينبثق من نبعه ويجري وفق قانونه الذاتي الخاص دونما خطة مرسومة مسبقاً، ويشق لنفسه مجرىً في الأماكن المنخفضة ليصل إلى مصبه بسهولة ويسر ومن غير جهد يبذله أو ممارسة للقسر.

يدعو الحكيم لاو تسو إلى التماثل مع العفوية الكونية ويقول في تعبير جميلٍ: "الصلابة والجمود من علامات الموت، واللين والرقة من علامات الحياة، من هنا فسلاح القوة لا ينفع والشجرة التي لا تنحني تُكسر بسهولة".

مبادئ التاو تقول لنا إن الأنبياء والحكماء عبر التاريخ يعبرون عن نفس الحقائق بكلمات مختلفة وإن هذا الحكيم الصيني يقترب كثيراً من جوهر الإسلام بالمعنى الفطري القلبي لكلمة الإسلام، فدعوته إلى التماثل مع العفوية الكونية هي بالضبط فكرة الاستسلام إلى إرادة الله وإسلام القلب له.

twitter.com/aburtema

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه القرآن الاستسلام الرضى الانسان الاسلام القرآن الاستسلام الرضى مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی القرآن ی حالة

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر: كان محمد ﷺ رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة

أكد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن المتأمل في صفات رسول الله محمد ﷺ، يحار فلا يدري بأيها يبدأ ولا بأيها يختم، ولا ماذا يأخذ من هذا الوابل الصيب من صفات الجمال وصفات الجلال، ولا ماذا يدع.. وكيف لا! وقد وصف الله سعة أخلاقه الشريفة بوصف العظم، فقال في كتابه الكريم: "وإنك لعلى خلق عظيم"، كما وصفته أخبر الناس به، زوجه السيدة عائشة أم المؤمنين - حين سئلت عن أخلاقه، فقالت: «كان خلقه القرآن»، مبينا أنها -رضوان الله عليها- قد أدركت الأفق المتعالي لهذا الخلق النبوي، وصعوبة بيانه للناس: عدا وحصرا واستقصاء، فأحالت البيان إلى أخلاق القرآن الكريم، وما بينها وبين أخلاقه -صلوات الله وسلامه عليه- من تطابق وتماثل، وبما يعني أن الخلق القرآني إذا لم تكن له نهاية في حسنه وكماله، فكذلك «الخلق المحمدي» لا نهاية لحسنه وكمالاته، ولا حدود لسعته واستيعابه العالمين بأسرهم.

وأوضح شيخ الأزهر خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، والمنعقد بمركز المنارة للمؤتمرات الدولية بالتجمع الخامس، وتنظمه وزارة الأوقاف بحضور فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، أن المطابقة بين أخلاق القرآن الكريم وأخلاقه ﷺ هي السر في اختصاص نبي الإسلام برسالة تختلف عن الرسالات السابقة، حيث جاءت رسالة خاتمة للرسالات الإلهية، ورسالة عامة تتسع للعالمين جميعا: إنسا وجنا، وزمانا ومكانا، بينما جاءت الرسالات السابقة رسالات محدودة بأقوام بعينهم وفي زمان معين ومكان محدد لا تتجاوزه لمكان آخر.

وبين فضيلته أن أخلاق محمد ﷺ وإن تنوعت عددا ومنزلة وعلو درجة وكمال شأن، حتى وصف بالإنسان الكامل - فإن صفة من صفاته هذه قد انفردت بالذكر في القرآن الكريم، وهي: صفة «الرحمة» التي وصف بها ﷺ في قوله تعالى في آواخر سورة التوبة، في معرض الامتنان الإلهي على المؤمنين، حيث بعث فيهم رسولا منهم، وصفه بأنه حريص على هدايتهم، وأنه «رؤوف رحيم» بهم، ثم ذكرت صفة «الرحمة» مرة ثانية في قوله تعالى في آواخر سورة الأنبياء: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وجاءت بأسلوب القصر الذي يدل على أن هذا الرسول اتحد ذاتا وأفعالا بصفة: «الرحمة» حتى صارت سجية راسخة متمكنة في مشاعره، ومتغلغلة في أطوائه، ومسيطرة على تصرفاته.

وتابع شيخ الأزهر أنه ﷺ قد أكد اتصافه بالرحمة بقوله في سنته الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة»، وطبقه في كل تصرفاته مع البشر ومع جميع الكائنات والمخلوقات، وكان ينزع في كل تصرف من تصرفاته من معين هذه «الرحمة» التي فطره الله عليها، وألان بها قلبه، وكان ذلك من أقوى أسباب دخول المشركين في الإسلام: "فبما رحمة من الله لنت لهم.. "، بل إنه كان رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة بين الأمم والشعوب.

وأشار فضيلته إلى أن أول ما يطالعنا من تجليات الرحمة النبوية في مواطن الحروب والاقتتال هو: أن القتال في شريعة الإسلام لا يباح للمسلمين إلا إذا كان لرد عدوان على حياتهم أو دينهم أو أرضهم أو عرضهم أو مالهم، أو غير ذلك مما يدخل تحت معنى: «العدوان» بمفهومه الواسع، أما القتال نفسه، أو حرب العدو، أو: الصراع المسلح، فله في شريعة الإسلام خطر وأي خطر، وله قواعد وضوابط وتشريعات شرعها الله تعالى!، وطبقها رسوله ﷺ تطبيقا عمليا وهو يقود بنفسه جيوش المسلمين في معاركهم مع أعدائهم، وأمر أمته بالتقيد بها كلما اضطرتهم ظروفهم وألجأتهم إلى مواجهة عدوهم..

وأوضح شيخ الأزهر أن أول ما يلفت النظر من قواعد الاقتتال لرد العدوان في الشريعة الإسلامية: قاعدة «العدل»، وهي قاعدة كلية بعيدة الغور في شريعة الإسلام، أمر الله بالالتزام بها في معاملة الصديق والعدو على السواء: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، ثم إن قاعدة العدل هذه تستدعي قاعدة ثانية تلازمها ولا تفارقها في أي تطبيق، وهي قاعدة: «المعاملة بالمثل» والتي تعني أول ما تعني حرمة تجاوز حدود العدل إلى حدود الظلم والعدوان على الغير، يتبين ذلك من قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".

وتابع فضيلته أن من قواعد الإسلام العامة في القتال التزام مبدأ «الفضيلة» ومبدأ «الإحسان» الذي كتبه الله على كل شيء سواء تعلق هذا الشيء بالإنسان أو بالحيوان، وقد ترجم أمراء المسلمين وقادة جيوشهم، مبدأ «الفضيلة» هذا إلى لوحة شرف في قوانين الحروب، لا يعرف التاريخ لها نظيرا في غير معارك المسلمين، وها هو الخليفة الأول، أبو بكر "رضي الله عنه" يودع قائد جيشه إلى الشام ويقول له: «أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجبنوا، ولا تهدموا بيعة- أي: كنيسة أو معبدا.. "

وأضاف شيخ الأزهر أن صورة القتال في الإسلام لا تكتمل بدون الإلمام بصورة «الأسرى» في الحروب الإسلامية، لافتا إلى أن فقه «الأسير» في الإسلام يدور على أمرين لا ثالث لهما، حددهما القرآن الكريم في قوله تعالى: "فإما منا بعد وإما فداء"، والمن على الأسير هو إطلاق سراحه وتحريره بغير عوض ولا فدية، أما فداؤه فهو تحريره وإطلاق سراحه مقابل فدية يدفعها هو أو تدفع له، مبينا أن الأسير الذي يأسره المسلمون من جيش العدو يحرم على المسلمين قتله، كما تدل الأحكام الفقهية على وجوب إطعام الأسير، ووجوب الإحسان في معاملته، وحمايته من الحر والبرد، وتوفير ما يكفيه من كسوة وملابس، وإزالة كل ما يصيبهم من ضرر، ووجوب «احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية حسب مكانة كل فرد منهم»، مستلهمين في ذلك إلى دعوته ﷺ للرفق بالناس في قوله: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» وقوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».

وأوضح فضيلته "ما أظنني في حاجة بعد ما سمعناه في شأن الحرب في الإسلام، وهو قليل من كثير - إلى عقد مقارنة أو مناظرة بين الحرب في شريعة الإسلام ونموذجها الإنساني الرفيع، وبين الصورة البشعة للحرب الحديثة في القرن الواحد والعشرين، والتي آل أمرها إلى إبادات جماعية ومجازر همجية وجرائم منكرة، ترتكب ضد شعوب مضطهدة تخلى عالمنا القوي المتحضر عن نصرتها، والوقوف إلى جوارها، وصمت صمت القبور عن آلامها وصرخاتها، ثم راح يشمر عن ساعد الجد ليتصدق على هذه الشعوب البائسة بكلمات عزاء فارغة لا تقول شيئا، أو بمشاعر باردة تذكر بمشاعر القاتل الذي يمشي في جنازة قتيله ويتقبل عزاء الناس فيه، فالمقارنة في هذا المقام مضللة ومزيفة لكل نتيجة تنتجها مقدماتها".

واختتم شيخ الأزهر "حسبنا أن نعلم من جديد أنه لا يصح في حكم العقل أن نقارن بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبح، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين قانون الغاب والأحراش، والدرس الذي يجب أن نذكر به مع تجدد ذكرى المولد النبوي هو تجديد وعي هذه الأمة بذاتها وتاريخها العريق المشرف، وقدراتها المادية والروحية، وطاقاتها الخلاقة، وأن تكون على يقين من أنها تملك دواءها إن أرادت، وأن تكون على ذكر دائم من قوله صلى الله عليه وسلم في شأن أمته: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها.. "، وأن تبذل قصارى الجهد للتضامن مع أطفال غزة ونسائها وشبابها وشيوخها، ومع شعوبنا في السودان واليمن وغيرها، وأن نعلم أن ذلك ليس منة يمن بها على هذه الشعوب المعذبة في الأرض، وإنما هو واجب القرابة في الدين، وصلة الدم والرحم والمصير المشترك".

اقرأ أيضاًشيخ الأزهر يعزي أمير الكويت في وفاة الشيخ جابر مبارك الصباح

وزير الأوقاف خلال لقائه رؤساء تحرير الصحف: الاصطفاف خلف فضيلة شيخ الأزهر هو المبدأ والمنطلق لنا

شيخ الأزهر يكرم أوائل الثانوية الأزهرية ويهنئهم على تفوقهم ونجاحهم

مقالات مشابهة

  • تسليم جوائز مسابقة تحفيظ القرآن الكريم بمسجد السيدة زينب
  • وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم ييعث حيًا.. خطبة الجمعة القادمة
  • الصحبة في الإسلام.. شروط ومواصفات الصاحب الصالح
  • مكانة الصلاة في الإسلام وحكم تاركها
  • أهمية الصدقة في الإسلام وأثرها على الفرد والمجتمع
  • 5 حالات تُبطل الوصية في القانون.. بينها «القتل»
  • شيخ الأزهر: القتال في الإسلام لا يباح إلا لرد العدوان (فيديو)
  • شيخ الأزهر يطالب بالتضامن مع غزة انطلاقا من صلة الدم والرحم والمصير المشترك
  • شيخ الأزهر يطالب بالتضامن مع غزة انطلاقا من صلة الدم والمصير المشترك
  • شيخ الأزهر: كان محمد ﷺ رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة