الإنسان في القرآن (23): الإسلام.. تسليمٌ وسلامٌ
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
الإسلام في القرآن أوسع دلالةً من حصرِه في شريعة الرسولِ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ووصفِ أمَّةٍ واحدةٍ به دون غيرها من الأمم، فالإسلام هو الدِّين الحقُّ الذي يقبله الله من الناسِ من كلِّ الأممِ وفي كلِّ العصورِ، وهو يتعلَّق بحالةِ القلب وليس بتفاصيلِ الشريعة.
وحين ادَّعى اليهود والنصارى احتكار الجنَّةِ، بيَّن اللهُ تعالى أنَّ دخول الجنة لا يتعلق بالانتسابِ إلى هويَّةٍ قوميَّةٍ إنَّما يتعلق بحالةِ النفسِ والقلبِ، فإسلام الوجهِ مع الإحسان هو ما يدخل الناس الجنة:
"وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 111-112).
يدعو القرآن أهل الكتاب إلى الإسلام، ليس بمعنى ترك شريعتهم، إنما بمعنى الاستسلام والتوجه إلى الله، مع بقاء الهوية الثقافية المميِّزة لهم:
"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران: 20).
يتبيَّن في هذه الآيات أن الإسلام فعلٌ وحالةٌ وليس اسم علم.. الإسلام في اللغة العربية مزيج من الاستسلام والسلام، وأيُّ ترجمةٍ لهذه الكلمة إلى لغاتٍ أخرى ينبغي أن تراعي الطبيعة التركيبيَّة للكلمة لا أن تقتطعَ دلالةً أحاديةً لها تنال من روحها.
الإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم. لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة
ومن هذا المدخل اللغوي نستطيع أن نقارب جوهر الإسلام، فالإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم.
لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة.
بعد أن يستنفد العقلُ حيلته ويبذل الإنسان أقصى جهدٍ مستطاعٍ، تظلُّ هناك مساحةٌ في حياته لا يملؤها إلا القبول والرضى، لذلك يأتي التسليم حين تنتهي حدود العقل لينقذ الإنسان من السخطِ والعجزِ والحيرة.
الإسلام هو الحالة التي يخرج المرء بها من تيارات الحياة المتعاكسة وصراعات النفس الممزقة فيقرر السكون والتناغم مع حركة الوجود.
والسلام هو الغاية الأخيرة التي يبغيها البشر، قد يخوض الإنسان رحلة بحث معرفي وفلسفي شاقةً ويضنيه الشك والسؤال، لكنه وهو في هذه الحال يتطلع إلى شاطئ السلام ويشتاق أن تبلغ نفسه السكون.
السؤال والجدل لا يمثل غاية الإنسان إنَّما يمثِّل الطريق، أما غاية الإنسان التي يتطلع إلى بلوغها فهي السكون والسلام.
الإسلام قانونٌ وجوديٌّ ينظم حركة المخلوقات جميعها، فالنجم والطير والشجر والجبال كلُّها خاضعة لله تعالى لا تحيد عن مسارها ولا تعاند قانون الحياة:
"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (آل عمران: 83).
ما دام من في السماوات والأرض أسلموا لله، فإنَّ دعوة الإنسان إلى الإسلام هي دعوةٌ له إلى التناغم مع إيقاعِ الكون.
إنَّ كلَّ ما نراه من انضباطٍ دقيقٍ في حركةِ الوجودِ من الذرّة إلى المجرّة هو تجلٍّ لقانون الإسلام. يتحدث القرآن عن تسبيح المخلوقات لله:
- "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (النور: 41).
- "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت: 11).
تشير آياتٌ كثيرةٌ في القرآنِ إلى تسبيح وسجود وطاعة كلِّ أرجاء الكون في السماوات والأرض إلى الله!
من تجليات معنى التسبيح أنَّ كلَّ المخلوقات في حالة تناغم مع حركة الكونِ وتوافقٍ مع القانونِ الذي يضبطها، وأنَّ الكون يسير وفق إيقاعٍ متجانسٍ طائعاً لإرادة مكوِّنه.
والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على العصيان ومعاندة قانون وجوده، لذلك لا نجد اضطراباً أو تناقضاً وإخلالاً بالتوازن في حركة النجوم والكواكب أو في أعماق البحار أو الغابات البعيدة عن يد الإنسان، بينما يظهر الفساد في الأماكن التي وصل الإنسان إليها بما كسبت أيدي الناس.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعصي ويخرج عن القانون ويعاند فطرة الله، لذلك حين ذكر الله سجود الخلائق له كان بعض الناس هم الاستثناء من هذا القانون الشامل:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" (الحجّ: 18).
السجود هو مظهر الإسلام وتجلِّي حالة القلب بالخضوع لإرادة الله، والإسلام يعني أن يكون الإنسان منسجماً مع حركة الوجود، فكما أن النهر لا يكف عن جريانه وكما أن الزهرة لا تتأخر عن تفتح براعمها، فإن المسلم هو الذي يتصل بروح الطبيعة ويثق بالحكمة الناظمة لها ويجذبه الجمال المتجلي في كل ثناياها، فلا يعاند ولا يقاوم إنما يستسلم لحكمة الوجودِ تقوده حيث تشاء، فيورثه هذا الاستسلام طمأنينةً ورضىً، ويحرره من الشقاق والاختلاف!
نقتربُ هنا من معنى "الاختلاف" الذي يذكره القرآن، فالاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها..
الاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها
يعيننا في فهم معاني القرآن ملاحظة مقابلاتِها، والإسلام في القرآنِ يقابله التولِّي:
".. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20: آل عمران).
والتولِّي هو الإعراض والإدبار بدافعِ الاستكبارِ، فمقتضى معرفة الحقِّ أن يستسلم المرء لمقتضاه، ونقيض ذلك أن يُعرض ويُدْبر ويستكبر، فإذا كان الإسلام هو الفعلُ التلقائيُّ الذي تقتضيه معرفة الحقِّ، فإنَّ التولِّي هو فعلٌ قصديٌّ يقتضي بذل طاقةٍ عنفيَّةٍ لأنَّه تنكُّرٌ للحالةِ الطبيعية التلقائيَّة.
الحياة تقوم على قانون التلقائية؛ توقف عن الحرص على الأشياء تأتيك صاغرةً؛ هذه الحكمة الشائعة بين الناس لم تأت من فراغ إنما تختزن في باطنها تجارب غنيةً من الحياة، حين نحرص على الظفر بشيء يفلت من أيدينا، وحين نتركه ونعيش حياتنا ببساطة يأتينا دون عناء، كلنا لاحظ هذا في حياته، هذا هو قانون الإسلام، ثق بالتدبير الكونيِّ الشامل، وتوقف عن الجزع واللهاث في الحياة واترك للمدبر الأعلى أن يدبر أمورك.
ويتصل بمعنى الإسلام معنى الرضى، فالإنسان إذا سلَّم أمره سكنت صراعات نفسِه ورضي بتدبير الأقدار.
تذكر سورة مريم في قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام مثالين للشخصيَّة الإنسانية: شخصية الجبار الشقيِّ العصيِّ، وشخصية البَرِّ الرضيِّ.
تتحدث السورة عن يحيى عليه السلام:
- "وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياً" (مريم: 6).
- "وَبَراً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِياً، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً (مريم: 14-15).
وتتحدث عن عيسى عليه السلام:
"وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياً، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياً" (مريم: 32-33).
الجبار العصيُّ الشقيُّ الذي يضادُّ شخصيَّتي يحيى وعيسى عليهما السلامُ هو الذي يعيش حالة تمرد وعصيانٍ وتنافرٍ وشقاقٍ داخليٍّ، فيكون ساخطاً شقيَّاً في حياته.
ونرى في صفات يحيى وعيسى الربط بين البرِّ بالوالدين وبين حالة الرضى والسلام، لأنَّ الوالدين هما مرآة الوجود وفيهما تتجلى صفات الرحمة والجلال الإلهيِّ، فإن كان الولد متصلاً بهذه الصورة بعلاقة الرضى والانسجام والتوافقِ كان ذلك مؤسِّساً لحالة توافقه مع الوجودِ الكليِّ، وإن كان جباراً معهما كان ذلك مؤسساً لحالة العصيان والتمرد والشقاء مع الوجودِ الكليِّ. وهذا مما يخبره الناس بكثرةٍ وتواترٍ وتكرارٍ تنتفي معه الحاجة إلى التمثيل عليه، في الفرق بين شخصيَّتي الجبار والبارِّ والسمات النفسيَّة لكلٍّ منهما، فالأول يعيش حالة صراع وشقاقٍ والثاني يعيش حالة انسجامٍ وسلامٍ.
الاستسلام هو مرحلةٌ فوق الوعي تتمثل في صمت الضوضاء والشتات الداخليِّ وبلوغ حالة السكون التي تأخذ صاحبها إلى العمق حيث جوهر كيانه: "وله ما سكن في الليل والنهار".
هذه الحالة يسميها المعلم الألمانيُّ الكنديُّ إيكارت تول "الوعي المستسلم". يقول في محاضرة بعنوان "أعمق حقائق الوجود الإنساني":
"حالة الوعي المستسلم هي حقيقة كل الأديان، إنه حيزٌ من الحضور الواعي يتجاوز الأفكار، استسلم لأي شكل تتخذه هذه اللحظة لأن الكون بأسره قد جلب لك هذا، لكن هناك "أنا" ضئيل بداخل الرأس لديه جدال في هذا ويقوي ذاته عبر هذا الجدال وهذا هو سبب المعاناة الإنسانية، حين تستسلم لما هو كائن، هذا هو الاستسلام للربِّ، سيتوارى هذا البناء الأنويُّ الذي يعيش على المقاومة والرفض، ويكون هناك عمقٌ لكيانك فجأةً وسلامٌ في داخلك".
يقترب هذا الاقتباس من حقيقة الإسلام دون أن يسميه باسمه، فهو يمزج في عبارةٍ واحدةٍ بين مكوني "الاستسلام والسلام"، ويتحدث عن "الأنا بداخل الرأس" الذي هو الاستكبار بلغة القرآن، ويتحدث عن الجدال الذي هو الاختلاف والشقاق بلغة القرآن!
وإيكارت تول ليس الوحيد في مقاربة معنى كلمة "الإسلام" في سياق التجربة الإنسانية، فهناك كثيرٌ من المفكرين الغربيِّين والشرقيِّين يعبرون عن ذات المعنى بطرقٍ لغويَّةٍ متعدِّدةٍ، وهناك العديد من الكتب التي تتحدث عن معاني "القبول"، "التسليم"، "الرضى" كانت في السنوات الأخيرة بين الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، وهو ما يؤكد أن هذه المعاني الأصيلة في القرآن تلامس حاجةً إنسانيَّةً جوهريَّةً، حتى وإن اختلفت لغة التعبيرِ عنها.
يعد كتاب التاو أعظم الكتب تأثيراً في تكوين التراث الثقافيِّ للأمة الصينية، وفي هذا الكتاب يتكلم الحكيم الصينيُّ لاو تسو عن معنى "اللا فعل واللا جهد" وهو مصطلح مقارب في معناه لمعنى الاستسلام والتوكل.
يؤكد لاو تسو على معنى التلقائية الكونية، فالماء ينبثق من نبعه ويجري وفق قانونه الذاتي الخاص دونما خطة مرسومة مسبقاً، ويشق لنفسه مجرىً في الأماكن المنخفضة ليصل إلى مصبه بسهولة ويسر ومن غير جهد يبذله أو ممارسة للقسر.
يدعو الحكيم لاو تسو إلى التماثل مع العفوية الكونية ويقول في تعبير جميلٍ: "الصلابة والجمود من علامات الموت، واللين والرقة من علامات الحياة، من هنا فسلاح القوة لا ينفع والشجرة التي لا تنحني تُكسر بسهولة".
مبادئ التاو تقول لنا إن الأنبياء والحكماء عبر التاريخ يعبرون عن نفس الحقائق بكلمات مختلفة وإن هذا الحكيم الصيني يقترب كثيراً من جوهر الإسلام بالمعنى الفطري القلبي لكلمة الإسلام، فدعوته إلى التماثل مع العفوية الكونية هي بالضبط فكرة الاستسلام إلى إرادة الله وإسلام القلب له.
twitter.com/aburtema
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه القرآن الاستسلام الرضى الانسان الاسلام القرآن الاستسلام الرضى مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی القرآن ی حالة
إقرأ أيضاً:
(نص) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي
يمانيون/ صنعاء نص المحاضرة الرمضانية الخامسة لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 5 رمضان 1446هـ:
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الحديث عن قصة نبي الله وخليله ورسوله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام”، تحدثنا عن بداية مشواره في تبليغ الرسالة الإلهية، والدعوة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإلى الإيمان به وتوحيده، بدءاً من محيطه الأسري مع أبيه آزر، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74]، وَتَحَدَّثْنَا عَنْ هذين العنوانَيْنِ.
الإِشكالية الخطيرة الكبيرة في واقع المجتمع البشري، في حالة الانحراف عن نهج الله ورسالته ودينه، التي شملت الواقع بكله، مخالفات وانحرافات في الجانب القيمي، والأخلاقي، والسلوكي، والمعاملات، وصولاً إلى الانحراف الكبير جدًّا بالشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع أن البشر كانوا على الدوام مُقرِّين بالله، وأنه الخالق، والرازق، والمدبر لشؤون السماوات والأرض؛ لكن هناك الكثير من المجتمعات، بالرغم مما فيها من قادة، ومفكرين، وفلاسفة… وغير ذلك، وأمم لها حضارات كبرى على المستوى العمراني في الحياة، ولكن حضارةٌ جوفاء، قامت على أساس الظلم والطغيان، وعلى أساس الكفر والشرك، لم تستفد لا من ما تمتلكه من مقومات مادية؛ لأنها ليست كافية في أن تكون مهتدية، وقد انحرفت عن خط الرسالة الإلهية، وعن الهداة من عباد الله، عن الرسل، والأنبياء، وورثة كتب الله؛ ولــذلك حصلت هذه الظاهرة على نحوٍ واسع: ظاهرة الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واعتقاد الألوهية لكائنات مخلوقة، خاضعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، منها من الجمادات، مثل: مسألة الأصنام، وكذلك منها كائنات أخرى، البعض منها لا يقبل بأن يُعبد من دون الله، كما هو الحال بالنسبة للملائكة، لبعض الأنبياء، لبعض الأولياء، الذين كانوا مُعَبِّدين أنفسهم لله، وخاضعين لله، ومؤمنين بالله، يمقتون الشرك، يبغضون أهله، مع ذلك يتَّجهون إلى الشرك بهم، واعتقاد ألوهيتهم إلى جانب إقرارهم بألوهية الله، هذا معنى الشرك: أنهم يُقرُّون بالله وأنه الإله، ولكنهم يعتقدون معه آلهةً أخرى شريكةً له في الألوهية والربوبية، ويعبِّدون أنفسهم لها، ويتقربون إليها بأشكال متعددة؛ للتعبير عن العبودية لها، وعن طلب ما يطلبه المخلوق العابد من إلهه المعبود، هذه هي الخلاصة.
نبي الله إبراهيم تحرك في محيطه الأسري، ليحارب هذه الظاهرة، وللدعوة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولإنقاذ أبيه آزر مما هو فيه؛ لأن الشرك ظلمٌ عظيم، وخطرٌ كبير، وهناك مقامات أخرى له مع أبيه، وعادةً ما يُقدِّم القرآن الكريم نماذج، يعني: بالتأكيد له الكثير من المقامات والحوارات والكلام مع أبيه آزر، ولكنَّ القرآن الكريم هو كتاب هداية، ليس كتاباً للاستقصاء التاريخي؛ وبالتـالي هو يختار لنا نماذج مهمة جدًّا، فيها هداية، وتُلَخِّص لنا الموقف بكله، وله أيضاً مقامات مع أبيه وقومه، يعني: مع بعض، مقامات منفردة مع أبيه آزر، ومقامات معه أيضاً مع قومه.
القرآن الكريم عندما وثَّق لنا موقف نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام”، في دعوته للتوحيد، والعبادة لله وحده، الذي هو أساس للرسالة الإلهية، في كل رسالات الله مع كل رسله ومع كل أنبيائه، هو بذلك يبيِّن لكل الطوائف والملل، التي تحترم نبي الله إبراهيم، وتدَّعي أنها تتبعه، وتعتبره رمزاً عظيماً من كبار رموزها، والبعض منها الرمز الأساس لها، هكذا يُقدِّمون المسألة، في ادِّعائهم أنهم يتبعونه ويعتقدون بعظمته، وكان في مقدمة أولئك المشركون: المشركين من العرب، المشركون من العرب كانوا في المقدمة؛ لأنهم كانوا يدَّعون أنهم على ملة إبراهيم، وعلى الحنيفية؛ فالقرآن يحتج عليهم، يبيِّن لهم، يُبَيِّن أيضاً لليهود، للنصارى، لكل الملل والطوائف التي تدَّعي اتِّباع نبي الله إبراهيم، والاقتداء به، والاحترام له، والاعتراف برشده، وأنه رمزٌ للإنسانية؛ ولـذلك هناك حجة كبيرة عليها، وتبيين لها في حقيقة ما كان عليه، وما كانت دعوته، وما كانت رسالته، وما كانت مواقفه وتوجهاته، فهو لم يقبل بالشرك حتى لأبيه آزر، فكيف سيقبل به للآخرين، ومن الآخرين من بقية الناس.
مع ما في الشرك، فهو ظاهرة تُعبِّر عن انحطاط- كما قلنا- انحطاط فكري وثقافي إلى أسوأ مستوى، عندما يأتي الإنسان ليعتقد في صنم من المنحوتات التي يصنعها، أو أي كائن من المخلوقات أنه إله، ويعتبر نفسه عبداً له، هذا فيه إساءة كبيرة إلى الله؛ لأنك عبدٌ لله، مِلكٌ لله، فكيف تجعل لله شريكًا في الملك لك، وفي تعبيد نفسك له؟! إساءة كبيرة إلى الله، الرب، المالك، الخالق، المنعم، الإله الحق، إضافةً إلى التنكر لأكبر الحقائق؛ لأن حال كل الكائنات الأخرى والمخلوقات الأخرى هو حالك أنت، هي مخلوقةٌ كمثلك، خاضعةٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تحت سلطانه وتدبيره، ومُلكه ومِلكه، مفتقرة دائماً إلى الله، هو الذي وهب لها الوجود، وهي في بقائها أيضاً مفتقرةٌ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى رعايته إلى تدبيره، إلى قدرته، إلى هدايته… إلى غير ذلك، ولكن مع ذلك- كما قلنا- تنتشر ظاهرة الشرك في الواقع البشري والمجتمعات البشرية إلى حد رهيب جدًّا.
مع أننا في هذا العصر، في عصر التقدم على مستوى التكنولوجيا، وعلى مستوى الصناعات، وعلى المستوى العلمي، مع ذلك هناك تخلُّف في هذا الجانب، الإسلام وحده هو دين التوحيد الخالص لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمسلمون هم الأمة الوحيدة بين كل أمم الأرض، وهم أمة محدودة في عددها، يعني: ليسوا هم الأغلبية في المجتمع البشري، هم الأمة الوحيدة على أساس الانتماء للإسلام، يدينون بالتوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإسلام يقدِّم لنا الدين الخالص، الحق، في التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإيمان برسالته.
أمَّا بقية المجتمعات، ومنها المجتمعات التي تقدِّم نفسها أنَّها داعيةٌ للحُرِّيَّة، مثلما هو حال الغرب الكافر في أمريكا وأوروبا، هي مجتمعات تعتقد بالشرك، وتُعبِّد نفسها لغير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، النصارى- مثلاً- يعتبرون نبي الله عيسى “عَلَيْهِ السَّلَام”، الذي هو نبي الله ورسوله، يعتبرونه رباً وإلهاً في إذاعاتهم، في كتاباتهم، في طقوسهم في الكنائس، يقولون: [الربّ يسوع] يعني: عيسى، (يسوع: يعني عيسى)، في الوقت الذي يقدِّمون فيه أنفسهم أنهم دعاة الحُرِّيَّة، أي حُرِّيَّة لمن يعتبر نفسه عبداً لإنسان، لنبي الله عيسى “عَلَيْهِ السَّلَام”، الذي هو إنسان من البشر، عبد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أول كلمة أنطقه الله بها: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم:30]! كيف يمكن أن يكونوا مؤهلين للدعوة إلى الحُرِّيَّة، وهم يُخضعون الناس لعبادة غير الله، ويُقدِّمون مخلوقاً إنساناً، يعرفون هم تاريخ ميلاده، وأن أمه مريم، ويعتمدون تاريخ ميلاده أساساً لتاريخهم، نحن الآن في عام 2025 من التاريخ الميلادي، ميلاد المسيح عيسى ابن مريم “عَلَيْهِ السَّلَام”؟! فهو مخلوق، وُلِد في تاريخ معين، وأمه معروفة: الصديقة الطاهرة مريم ابنت عمران، مع ذلك هم يدينون بالشرك، والأمم الأخرى كذلك، يعني: الآن، في عصرنا هذا، في زماننا هذا، في عصر التقدم العلمي والنهضة الحضارية، النسبة الغالبة بين المجتمعات البشرية تعتقد بالشرك، بالألوهية لكائنات مخلوقة، ويشركونها مع الله في الألوهية.
ولذلك هم يحاولون أن يستهدفوا المسلمين، الذين هم الأُمَّة الوحيدة، والدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي يُقدِّم التوحيد لله خالصاً نقياً، فتلك الفئات الأخرى هم يحاولون الاستهداف للمسلمين، الذين يعيشون هذه النعمة: نعمة التوحيد، وشرف التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، المفترض أن يعملوا، أن يبذلوا جهدهم لنشر الإسلام، والدين الحق، والتوحيد لله، في كافَّة أرجاء المعمورة، لكن الآخرين يستهدفونهم هم، بدلاً من أن يكونوا هم من يتحركون لهداية بقية المجتمعات البشرية، بما يمتلكونه من هدى، ويحاولون إمَّا أن ينحرفوا بالبعض من المسلمين، والبعض- فعلاً- يصلون إلى حالة الارتداد عن الإسلام، البعض يرتد إمَّا يخرج إلى حالة الإلحاد، والبعض يخرج إلى الارتداد عن الإسلام إلى المسيحية والنصرانية، والبعض إلى مِلل أخرى.
أيضاً في سياق الاختراق للمسلمين يعملون على صناعة طوائف جديدة، تتحرك بين أوساط المسلمين؛ للردة بهم عن الإسلام، مثلما هو الحال بالنسبة للبهائية، والأحمدية… ونحوهما من الملل التي أُنشِئت، وأنشأها أعداء الإسلام، وصنعوها بفكرٍ جديد، يقوم على الارتداد عن الإسلام مع الخداع للمسلمين، وكأنهم باقون على الإسلام، لكن يفتحون المجال لأنبياء جدد من عندهم زوراً وبهتاناً، ولتعطيل شرائع الإسلام، وللخروج عن ثوابت الإسلام، وعمَّا عُلِم من الدين ضرورة، يعني: من أساسيات الدين الإسلامي المعروفة بشكلٍ واضح، في شعائره، في أركانه، في مبادئه الكبرى، في قرآنه، في مسألة النبوة، في مسألة المعاد والآخرة، المسائل الكبرى الأساسية، الواضحة جدًّا، الثابتة بين المسلمين جميعاً، يخرجون عنها بالكامل.
اليهود لهم دورٌ أساسي؛ لأنهم كانوا هم من عملوا على الزيغ بالنصارى، والانحراف بهم إلى درجة الشرك، اخترقوهم، ويعملون أيضاً في الوسط الإسلامي في أسلوبهم الخطير جدًّا للإضلال، وللتحريف والانحراف بالمسلمين، الله قال عنهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، يقول عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100]، وهم يحرِّكون من يواليهم من النصارى في هذا السياق، في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، وفي الاستهداف بالحرب الناعمة الفكرية، الثقافية.
والخطر الكبير في هذا الجانب هو- في عصر الإنترنت، في عصر القنوات الفضائية- التلقي الفوضوي، التلقي الفوضوي؛ لأن ما يصل بالناس إلى مستوى الانحراف الكبير في عقائدهم الدينية، وفي معتقداتهم ومفاهيمهم التي يحسبونها على أنها من الدين الإلهي، هو الضلال، كما تحدثنا بالأمس، وكما وضَّحنا على أساس قول نبي الله إبراهيم فيما ذكره الله عنه، مخاطبا لأبيه آزر: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74].
الضلال هو الذي يصل بالناس إلى أن يدينوا بالباطل، حتى الباطل المكشوف، السخيف، الواضح البطلان، الذي لا يحتاج إلى دليل، مثلما شرحنا شرحاً تفصيلياً عن قصة الأصنام، وصناعتها، وشرائها، أو إهدائها مثلاً، ثم يعتقدونها آلهة، يعني: أمر سخيف في غاية السخافة! لكنَّ الضلال هو يفعل هكذا بالبشر: يجعل الإنسان يتقبَّل ما هو في منتهى السخافة والبطلان، ما هو في أعلى مستوى من وضوح بطلانه، فيعتقده، ويتشبث به، ويُصرّ عليه، لو أمكن للبعض أن يعتقدوا أنه ليس هناك في الأرض لا ليل ولا نهار، لفعلوا ذلك يعني، يمكن للضلال أن يصل بالإنسان إلى مثل هذه الدرجة من التنكر لأوضح الحقائق وأجلاها وأبينها، فالمشكلة الخطيرة جدًّا على الكثير من المسلمين هي: التلقي الفوضوي والعشوائي من القنوات الفضائية، من الإنترنت.
ولذلك تصل الحال بالبعض من المسلمين في كثير من المجتمعات، وفي بعضها أكثر، يعني: حسب الإحصائيات: أن أكثر دولة من بلدان المسلمين فيها حالة ارتداد عن الإسلام هي السعودية، هذا حسب الإحصائيات التي تُقدَّم، فيها ارتداد صريح يعني عن الإسلام، يعني: ناس يخرجون من الإسلام بالكامل، ويعلنون ردتهم عن الدين الإسلامي، إمَّا بعضهم إلى الإلحاد، وبعضهم إلى النصرانية، وبعضهم إلى ملل أخرى، لكن لماذا؟ هناك أيضاً في اليمن، في مختلف البلدان، من يحصل لهم مثل هذه الحالة، مما يتحول إلى البهائية، أو الأحمدية، أو غيرها من الملل الأخرى.
الكثير منهم يتأثر بماذا؟ لأنه يقوم بمتابعة قنوات فضائية تدعو لذلك الضلال والباطل، وهو ليس محصناً بالهدى، ليس لديه لا اليقين، ولا المعرفة الكافية؛ فيتأثر بشبهاتهم، وهم يفلسفون للضلال والباطل بزخارف القول، التي يتأثر بها من لا يمتلك الوعي، ولا المعرفة، ولا الفهم، ولا اليقين، ينخدع، والبعض من خلال الإنترنت، كثيرٌ ممن ضَلُّوا وارتدوا وانحرفوا عن طريق الإنترنت، والبعض عن طريق دعاة، دعاة للضلال؛ لأن للضلال دعاةٌ ورعاة:
– دعــاة: يدعون إليه، يُقدِّمون للناس الشُّبه، يتفلسفون له؛ لإقناع الناس، ولخداعهم، وينفق عملهم في الخداع بزخارف القول والشبه، على من لا يمتلك لا وعياً، ولا معرفةً، ولا يقيناً، ولا بصيرةً في دينه، وهو مضطرب ومرتبك.
– وهناك رعاة: وهم المستفيدون، من مثل: سلطات ظالمة، قوى نافذة، ترى أنها مستفيدةً بنفوذ سياسي، أو مستفيدةً مادياً، أو بنفوذ اجتماعي، أو مقامات معنوية… أو غير ذلك، شرحنا عن هذه النقطة، وعن بعض الملوك: كيف كان فرعون، وكيف كان النمرود، الذي يُقدِّم نفسه على أنه من آلهتهم، ويُدَجِّنون له الناس إلى هذه الدرجة، وهو ارتاح للموضوع، فالمسألة خطيرة جدًّا.
ولهـذا مـن أهــم الأشيــاء التي تقـي مـن التأثُّــر بـذلك الضـــلال هــو:
– المقاطعة، المقاطعة للقنوات الفضائية، للمواقع المضلة، القنوات الفضائية المُضِلَّة التي تنشر الضلال، لا تتابع أي قناة تنشر الضلال، قاطعها، لا تتابع أي مواقع على الإنترنت تروِّج للباطل وتُقدِّم الشُّبه، اعمل على مقاطعتها، هذه مسألة مهمة، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، المقاطعة، المقاطعة هي حل لأكثر الناس؛ لأن أكثر الناس لا يمتلكون من الوعي والمعرفة والفهم ما يتحصنون به من الشبه؛ وبالتالي يتأثرون بالشبه.
كذلك من دعاة الضلال، دعاة الضلال أينما كانوا، فالمهم هو مقاطعتهم، عدم الإصغاء لهم، عدم التقبل منهم، وهذه مسألة مهمة جدًّا.
– ثانياً: الارتباط بالهدى، الإنسان بحاجة إلى أن يرتبط بالهدى، وبالهداة، وطريق الهداية، وأن يحاول أن يستبصر، أن يكون واعياً، أن يكون فاهماً، أن يكون على معرفة بدينه، بالأسس المهمة لدينه، بالمبادئ الأساسية، هذه مسألة مهمة جدًّا، وأن يعرف أين هي قنوات الهداية، ومصدر الهداية، وطريق الهداية؛ ليرتبط بها، وأن يدرك الإنسان بشأن هذين العنوانين: (الهدى، والضلال) أنهما الأساس، يعني: مسيرة الإنسان في حياته: إمَّا أن تكون على هدى، وهذا فيه النجاة؛ وإلا فلن تكون إلا على ضلال، وفي هذا الهلاك والخسران والعياذ بالله، والله علَّمنا حتى في الصلاة، كيف نعي أهمية هذه المسألة، في قوله تعالى يعلمنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 6-7].
المرحلة الثانية لتحرك نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام” كانت مع قومه، ليدعوهم إلى الإيمان بالله، وإلى التوحيد لله، ولينقذهم من الشرك.
لأداء هذه المهمة، وهناك صعوبات وعوائق تعترضه في أدائها، يحتاج هو- نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام”- إلى إعداد وَتَهْيِئَة بمستوى التَّصَدِّي لتلك العوائق والصعوبات، التي تعترضه في سبيل أداء مهمته، وهذه مسألة مهمته.
أنبياء الله ورسله هم يحظون بالإعداد لهم من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لأن الله يصطفيهم، ويُعِدُّهم، ويهيئهم منذ البداية، للمهام الكبرى والمقدَّسة والعظيمة، التي يتحركون بها؛ ليكونوا جديرين بها، وليكونوا هم نموذجاً لها، فيما هم عليه من الهدى، وزكاء النفوس، والرشد، والنضوج الفكري، والوعي، والفهم، والبصيرة العالية، والذكاء، وعلى المستوى النفسي، وعلى المستوى القيمي والأخلاقي… وغير ذلك، ثم عندما يتحركون لأداء المهمة، أو يوشكون على البدء بها، يحظون أيضاً بالمواكبة لهم بالمزيد من هذه الرعاية الإلهية، التي تزيدهم تهيئةً، وإعداداً، وقدرةً، وتمكناً من أداء مهماتهم، فهم يُرْفَدُون من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في المراحل نفسها، في مراحل التبليغ والتحرك (في بدايته، في أثنائه، وما إلى ذلك).
التعقيدات التي كان يعاني نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام” منها في واقع مجتمعه شرحناها، يعني:
– سلطة طاغية، ظالمة، متكبرة، مجرمة جدًّا، على رأسها رجلٌ متكبرٌ، وصل به الغرور والكبر والطغيان إلى أن يدَّعي الربوبية.
– مجتمعٌ شديدٌ في تشبثه بالباطل، متشدد، يعني: متدين بالباطل بشدة، ونبهنا عن خطورة الضلال عندما يتحول إلى معتقدات دينية، الباطل عندما يتحول إلى معتقدات دينية؛ لأن البعض أيضاً يكونون عندما تكون المسألة تديناً، متشددين عليها، متمسكين بها بشدة جدًّا، بتقديس كبير، وتشدد كبير.
– هناك أيضاً جهات نافذة، نافذة: كمستفيدة مادياً، كمستفيدة معنوياً.
– ويعاني حتى في محيطه الأسري.
– إضافة إلى أن الموضوع بنفسه، موضوع التوحيد، ومحاربة الشرك، الذي يلامس أكبر معتقداتهم أهميةً وقدسيةً لديهم، يعني: الموضوع محاط بحساسية شديدة، وعادةً ما تكون مثل هذه المواضيع في تلك المجتمعات محاطة بحساسية على مستوى العقدة النفسية في الموضوع، بحيث لا يتقبلون أن يُطرح عنها أي كلام، وأيضاً من جهة العقوبات، التي أحياناً تكون محددة في بعض المجتمعات، كانوا يحددون العقوبة على من يعارض الشرك، أو يظهر منه أنه لا يدين به، الإحراق بالنار، عقوبة رسمية محددة، أن يشوونه بالنيران ويحرقونه بها.
فالوضع مُعَقَّد أمامه، وهذا يتطلب:
– درجة عالية من العزم، والثقة القوية بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبما هو عليه، وبالطريقة التي هو فيها، وبالمنهجية التي يتحرك عليها، يعني: إلى درجة عالية من اليقين.
– وكذلك يحتاج إلى أساليب مناسبة، تصل بهم إلى الفهم والاعتراف بالحقيقة.
يعني: كيف يبدأ معهم خطوة يتفهمونها، ليست على أساس الاحتكاك من اللحظة الأولى بهم، ولا يتيحون له المجال أن يوضِّح لهم، ولا أن يُبَيِّن لهم، يحتاج إلى أسلوب يتمكَّن من خلاله إلى أن يوصل لهم الحقيقة، وأن يجعلهم يفهمون المسألة هذه: أن تلك الأصنام التي يعبدونها ليست جديرةً بالألوهية، وأنه ليس هناك جديرٌ بالألوهية والعبادة له إلا الله وحده، يحتاج إلى أسلوب حكيم حتى يتمكن من إيصال الحقيقة؛ لأنه يسعى إلى هدايتهم، يعني: ليست المسألة مجرد أن يحتك بهم، ويستفزهم، ويدخل في مشكلة معهم من أول يوم؛ لأنه يريد أن يفهموا أولاً، يريد أن يعوا الحقيقة أولاً، يريد أن يسعى لهدايتهم؛ فهو يحتاج إلى أسلوب يصل به إلى تحقيق هذا الهدف على المستوى العملي.
هو في غربة أيضاً، والبداية صعبة، تحتاج إلى أسلوب حكيم جدًّا، ومهمة الأنبياء- ما يميزها عن غيرها- فعلاً أكثر تعقيداً من أي شيءٍ آخر، مثلاً: لو كانت المسألة أن يسعى الانسان لإقامة سلطة مثلاً، أو حكومة، أو دولة، هذا أسهل بكثير، مسألة فيها سيطرة سياسية، عسكرية… وغير ذلك، وتأثير على الرأي العام في مستوى معيَّن.
مهام الرسل والأنبياء أكبر مهمة، هي أكبر المهام، وأقدس المهام، وفيها تعقيدات كثيرة في واقع الحياة؛ لأنهم يأتون إلى الناس لهداية الناس، يعني: لتغيير ما لدى الناس من أفكار، من معتقدات خاطئة، من تصورات باطلة، من مفاهيم ضالة، وكذلك تزكية نفوس الناس بما قد تلوث به الناس في أنفسهم، ما تلوثوا به من المفاسد، من الرذائل، من الأشياء التي تُدَمِّر زكاء أنفسهم، والعمل على إصلاحهم، والسعي بهم ليسيروا وفق هدى الله، وليتقبلوا تعليمات الله، وتوجيهاته، وهديه، ولينتهوا عمَّا نهى عنه، فهم يأتون- أحياناً- والوضع قد أصبح معقداً في الساحة، الناس قد أصبح لديهم معتقدات باطلة، تصورات ومفاهيم خاطئة، لكن يتمسكون بها بشدّة، وهم على قناعة تامة بها، وهي محاطة أيضاً بحساسية كبيرة، ممنوع النقاش عنها، أو الكلام حولها، والناس في أنفسهم قد تغيروا، قد فسدوا، قد ساءت حالتهم، وتدنست نفسياتهم، وأصبح لديهم سلوكيات وعادات وتقاليد منحرفة جدًّا، لكن هم متعودون عليها ومتشبثون بها، أصبح تغييرها صعبًا.
ولأهمية المقارنة بين المسألتين، نجد- مثلاً- في حركة رسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، عرضوا عليه، عرض عليه المشركون في مكة، قالوا: [إن كنت تريد مُلكاً مَلَّكنَاك علينا]، يعني: المسألة عندهم مقبولة، لو كانت المسألة مسألة مُلك وديولة، ما عندهم مشكلة أن يتوِّجوه ملكاً عليهم؛ أو يريد مالاً، أن يجعلوه أثرى وأغنى رجلٍ فيهم؛ أو يريد امرأةً، أجمل امرأة ليس عندهم مشكلة… أو أي عرض مادي، لكن الاصطدام بهم في جوهر ما يتشبثون به: معتقدات، عادات، تقاليد خاطئة، أفكار خاطئة، ضالة… غير ذلك، يعني: تغيير الواقع بكله، هي المسألة الحساسة والبالغة التعقيد.
فلذلك ندرك أهمية ما تتطلبه هذه المهمة؛ ولهـذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، هذا في الإعداد لهذه المهمة، في مقابل ما يواجهه من صعوبات، وتعقيدات، وحساسية، وإشكالات في الواقع، يهيئه الله ويعده ليؤدي هذه المهمة بهذه الطريقة: ليريه (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): الآيات العجيبة، التي تجعله على أعلى درجات اليقين، اليقين العالي، ويتَّجه من خلالها وهو في أعلى درجات اليقين، بعزمٍ، وقوةٍ، واطمئنانٍ تام. وهذه المسألة سنتحدث عنها في المحاضرة القادمة إن شاء الله.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛