عبدالباري طاهر: حسن عبد الوارث القلم المقاتل
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
صباح النور صديقنا العزيز حسن عبدالوارث لم نغب عنك ، ندرك أنك الأكثر حضورا ، نسعد بحضورنا معك ينسمع صرير قلمك من دوي المدافع ،والأنفع من خطب الأحياء الأموات ، وأصدق قيلا.
كنت الشجاع في أزمنة الخوف وكنت القلم المقاتل في أزمنة الحرب.
وكنت وكنت وكنت!
القصيدة الأولى التي نشرتها في ثمانينيات القرن الماضي كانت إعلان شاعر مكتمل، وهو هبة كبيرة أما المقالة الأولى فكانت البيان بميلاد قلم يمتلك مقدرة إحياء الطهر الثوري وتحدي الفساد والطغيان.
مقابلتك مع الأب الروحي عمر الجاوي كانت الإشارة والبشارة بعودة التعددية السياسية والحزبية التي افتقدتها عدن.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كان ظهورك كشاعر وصحفي لافتا.
تبدع القصيدة كابتسامة الطفل وافق الصباح ، وحنان الأم.
وترص صفوف أحرف المقالة الصحفية كجحافل المدافعين عن قيم الحرية والكرامة والعدل ، لا نرثيك ولا نأبنك ، وانما نؤبن أنفسنا الهالكة بالخنوع والمهلوكة بالطغيان والضعة التي تحولنا الى أقنان وأشباح، وتحول وطننا إلى جزر ومنافٍ ، وأقبية وسجون. نحن يا حسن الأحياء الأموات الماشين بأكفافنا فوق ظهورنا والذين ((أسلمنا العدو إلى أهالينا كإبداع درويش))
عزيزي حسن يقول خالد الذكر أبو الطيب المتنبي
إذا تَرَحَّلْتَ عن قومٍ وقَدْ قَدَروا
أَلّا تُفارِقَهُمْ فالراحِلُونُ هُمُ.
نحن الراحلون بعدم المواقف ، وغياب الوفاء ، وضعف الإرادة وعدم القدرة على الإحتجاج مجرد الإحتجاج.
روحك الطاهرة ترفرف في السماء تأسى لمعاناة وطنك ، وأبناء أمتك في فلسطين في غزة والضفة ، وتحزن لما يجري في لبنان ، وتواطؤ الحكم العربي ، وهمود الأمة العربية المغيبة .
نضبطك للنجاة من وجع الإذلال وألم الظيم ، وجبروت الضعيف ، انتدبت الموت باكرا ، تعجلت الخبر قرارا من القهر ، ومس الكرامة . لك الله يا حسن عشت كريما وتقيم بعد الرحيل عزيزا ، فأنت واحد من نجوم الصحافة ، ومحيي ميتها كزميلك عبدالله سعد التي شيعته بهذه الصفة كنت الأشجع في استعجال خبر الموت لكأنه ميلادك الأبدي.
اختيار
سأختارُ موتي
على شفة
أو قصيدة
وأنتخبُ الساعةَ المشتهاة
وأفترش الساحة المصطفاة وأختار حبر الرثاءِ طقـوسَ العـزاءِ
ودود الضريحِ
ونعي الجريدة
سأختارُ موتي
على شفةٍ أو قصيدة
وأكتبُ في شاهدي:
كان يومًا صهيلاً
تشظى نهـارًا
سواحل نامتْ
على نصلها
قرية من عذارى
وأرضا ترامت على منكبيها
دويلة حرب عتيدة
سأختار موتي
على شفة أو قصيدة
وأعلن أني خلقت من الشعر ، والعشق ، والحزن
اسمى عقيدة
مالك ابن الريب رثا نفسه
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ
سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه
إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا
أما ابن عبدالوارث فقد اختار قبره شفة أو قصيدة ، واختار الساحة ، وحبر الرثاء وطقوس العزاء ، وورد الضريح ، ونعي الجريدة.
فلقد قام الشاعر الفذ حسن عبدالوارث بما عجز مالك ابن الريب ان يقوم به.
التحية والاعزاز لمنتدى الحداثة والتنوير ونضم صوتنا إلى جانبهم في المطالبة بطبع الأعمال الكاملة للفقيد ، فهو العزاء الحقيقي والوفاء.
المصدر: الوحدة نيوز
كلمات دلالية: الامم المتحدة الجزائر الحديدة الدكتور عبدالعزيز المقالح السودان الصين العالم العربي العدوان العدوان على اليمن المجلس السياسي الأعلى المجلس السياسي الاعلى الوحدة نيوز الولايات المتحدة الامريكية اليمن امريكا انصار الله في العراق ايران تونس روسيا سوريا شهداء تعز صنعاء عاصم السادة عبدالعزيز بن حبتور عبدالله صبري فلسطين لبنان ليفربول مجلس الشورى مجلس الوزراء مصر نائب رئيس المجلس السياسي نبيل الصوفي
إقرأ أيضاً:
وتموت حتة منى!
إنه قريب، قريب جدًا أكثر مما نتصور، هذا العملاق الهائل، الواضح الغامض المتسلل، المرعب المريح إنه «الموت» تلهينا عنه الدنيا، فننساه وننسى أنفسنا، نتصارع فى الحياة على متاع الدنيا ولهوها، سلطانها ونفوذها، ونتصور فى أكثر الأوقات أنها دائمة لنا بزهوها، وفى لحظة فارقة ينتهى كل شىء، ونفيق حين تسقط يد كانت تتشبث بك بقوة، وينهار جدار كنت تستند عليه فى أمان، ويختفى وجه كنت تطمئن بابتسامته، ويتوقف قلب كنت تغترف من حنانه، وتصمت كلمات كانت تواسيك فى شدتك، فتصرخ وحدك فى فضاء فسيح معتم خلا من تلك اليد والقلب والسند، لأنه ببساطة ملك الموت أخذ روح هذا الشخص الغالى عليك.. القريب منك وسلمها لبارئها، وتركك وحدك مع ألف سؤال وسؤال بلا إجابة، تتمحور كل الأسئلة فى جوهر كلمة واحدة، لماذا؟
فى كل مرة حين يسترد الله روح إنسان غالٍ على هو قطعة منى وأنا قطعة منه، أو نحن قطع من ذات الرحم، يموت معه جزء منى، من قلبى، يظلم جانب من روحى ويصبح فارغًا، أمى، ثم أبى، ثم شقيقى فايز الذى مات فى ريعان شبابه فجأة فى دقائق دون أى مقدمات، فقط قال أشعر بقلبى يؤلمنى، حين تم نقله للمستشفى كانت روحه فارقت الجسد فى سيارة الإسعاف، والآن شقيقى الأكبر فؤاد بعد رحلة أيام قلائل مع المرض، كنا نتوقع له الشفاء مع كل الأمنيات والعودة لحياته قويًا صلبًا بكل حنانه وعطائه الفياض، ليفتح باب بيته مجددًا على مصراعيه أمام كل محتاج وطالب خدمة كما اعتاد طيلة حياته وطيلة سنوات عمله كمدير للحسابات بالمدرسة الثانوية، وليعود فى مقدمة صفوف المصلين وأصحاب الواجب فى الأفراح والأتراح بسوهاج مرتديًا عباءته الأنيقة وكأنه عمدة البلد، وليستقبل الجيران والمعارف ليحكموه فى الحقوق وفيما اشتجر بينهم من خلافات، وليقدم نصح التربية للأبناء الشاردين عن البر بوالديهم، لكنه خالف توقعاتنا هذه المرة ورحل فى هدوء دون أن يكل به أحد، أو يضيق بطول مرضه أحد، مجرد أيام معدودات بالمستشفى وسلم الروح لخالقها فى ليلة مباركة فتحت فيها أبواب السماء، ليلة الإسراء والمعراح، فسرت روحه الطاهرة لخالقها.
قبل وفاته بساعات كان وجهه مبتسمًا وعيناه شاخصة فى سقف الغرفة وقد ذهل عن كل من حوله من دموع ورجاء، وكأنه يرى بإذن الله الرحمة والغفران التى تنتظره، وقد كشف الله عنه الغطاء ليرى بإذن الله ثواب وجزاء كل خير فعله فى حياته. كان بمثابة أبى الثانى، ألجأ إليه فى كل ما يعترى حياتى من مشاكل، أحكى ويسمع بسعة صدر، وينصح ويوجه كأنى طفلته، وكان دومًا يقول لى «إنتِ بنتى» رغم أن فارق السن لا يتجاوز أحد عشر عامًا، فأتذكر بجملته هذه ما كان يفعله معى وأنا طفلة، يحملنى على كتفه، يهرول بى إلى البقال، يشترى لى الحلوى التى أحبها من مصروفه لأكف عن البكاء، فى الأعياد يشترى لى البالونات وبمب العيد، ويشترى لى «البخت»، وحين يخرج لى من البخت هدية بسيطة كخاتم بلاستيك يلبسه لى ووجهه مفعم بالابتسام، ولن أنسى حين طارت بالونتى الكبيرة التى كتب اسمى عليها وبكيت فجرى فى الشارع ليمسك بها والبالونة تعانده وتطير إلى أحد الأنفاق، فإذا به يقفز سور النفق معرضًا نفسه للخطر وعاد إلى بها ليرى فقط الابتسامة على وجهى، ليس المعنى فى البالونة، المعنى فى كونه رغب ألا أفقد شيئًا أحببته ولو كان بسيطًا، يعنى رغبته الدائمة فى ألا أبكى أو أحزن.
حين كبرت وصرت شابة كنت أمشى فى الشارع ولدى شعور قوى بأنى محمية حماية خاصة، محمية بسمعة أشقائى الولاد، لو حاول أحد الشباب المعاكسة بكلمة، تدخل آخر بجملة لا تنسى «اسكت الله يخرب بيتك مش عارف دى أخت مين؟» هكذا فرض أشقائى احترامهم على الجميع بأخلاق الجدعنة الصعيدية، أخلاق أولاد البلد المحترمين، وخلقوا حولنا نحن البنات الأربع مناخًا رائعًا من الحماية. تتلاحق الذكريات الحلوة والصعبة التى تقاسمتها معه ومع باقى أشقائى فى ذلك البيت الطيب الدافئ الذى علمتنا فيه أمنا معنى الحب والعطاء حين كانت تقسم قطعة حلوى بيننا نحن السبعة عن عمد، لتعلمنا أن نعطى بعضنا البعض حين نكبر، وأن نتقاسم كل شيء، هذا البيت الدافئ الطيب الذى علمنا فيه أبى معنى الاحترام، احترام الكبير وتوقيره، فكنت أحترم شقيقى الأكبر وألتزم بنصائحه ومشورته بعد أبى، واحترمت تمسكه فى البقاء بسوهاج رغم نزوحنا جميعًا للقاهرة ومنها لبلدان خليجية وأوروبية، كان كوتد صلب تم غرسه فى الأرض ولا يمكنه مفارقتها، وكان يقول: «عشان تلاقوا بيت أخوكم مفتوح لما تنزلوا سوهاج»، فكان بيته قبلة لنا، أصبح هو البيت الكبير بعد بيت أبى رحمة الله عليه، حين تحدثت معه قبل مرضه قال لي: «واضح أنها النهايات يا فكرية وقربت أودع الدنيا»، اعتصر قلبى من الألم وقلت له: عمر الشقى بقى أمال هتسيب عباءتك لمين يا عمدة؟ وضحكنا، لكن كانت ضحكتى مصنوعة وباهتة، فهو لم يقل شيئًا من قبل إلا وصدق فيه، حتى موعده مع الموت صدق فيه.
أخذ الموت شقيقى فؤاد وأخذ معه ملك الموت قطعة أخرى من قلبى، وترك لى فراغًا جديدًا أسود بحياتى، ولا أقول إلا ما يرضى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ثبته عند السؤال واجعل قبره قطعة من الجنة برحمتك وغفرانك، أيها الأشقاء والأقارب، تصالحوا، اقتربوا، انسوا الخلافات والصراعات، أحبوا بعضكم البعض ولا تتفرقوا لمال أو جاه أو ميراث، فالموت قريب، قريب جدًا أكثر مما نتصور، وما أصعب أن نبكى أحدًا مات ندمًا لأننا تخاصمنا وهجرنا وتفرقنا فى الحياة، لأن الدائم هو وجه الله وحده، الحياة قصيرة جدًا مهما طالت، ومتاع الدنيا هباء مهما زهى وأينع، فى سلام الله ورحمته شقيقى الحبيب أقرؤك السلام لأبى وأمى وشقيقنا فايز، وإلى لقاء قريب بين يدى الله.
[email protected]