موقع النيلين:
2025-04-24@09:58:18 GMT

التعاطي مع موضوع استسلام كيكل من القصص المحيّرة

تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT

عيون المها بين الرصافة والجسر ..
=========================
التعاطي مع موضوع استسلام كيكل من القصص المحيّرة؛
المنطقي إنّه ناس “بل بس” هم الينادوا بالتنكيل بيه، ودعاة وقف الحرب وأدعياء السلام يرحّبوا بتسليمه ويدعو بقيّة قادة الدعم السريع للاستسلام، زي ما دعوا قادة الجيش من قبل للاستسلام و”تغليب المصلحة الوطنيّة”؛
لكن في الواقع بنلقى الناس الكانوا بتكلّموا عن السلام ووقف الحرب بأيّ شكل هم الأكثر إصراراً على تجريم كيكل والمطالبة بمحاسبته؛
الغريبة ما كانوا بجرّموه لمن وقعت الجرايم دي وهو مع الدعم السريع؛
ولا حسّة بجرّموا قادة الدعم السريع المسئولين عن الجرائم الحصلت بعد داك؛
بجرّموك بعد تسيب المجرمين!!
في نظرة ثانية يمكن التناقض دا يتفكّ ليك وتقدر تستوعبه؛
الحاصل إنّه تعاطي الجيش والشعب والدولة مع موضوع كيكل دا بنسف سرديّة أولياء الميليشيا المحاولة تصوّرنا كدمويّين ودعاة حرب؛
وبدعم السرديّة المتبنّيها الجيش في التعامل مع الموضوع كحالة تمرّد على الدولة يجري إخمادها؛
فنهاية المسألة من المنظور دا بتكون بالخضوع لسلطة الدولة، مش بإبادة الجنجويد؛
والحاصل في الحقيقة إنّه الجنجويد هم المتعاملين مع الموضوع كحرب إبادة، زي ما بيشير أخونا Mouiz Siddeg.


المشاهدة دي أنا مقدّمها كمدخل لمناقشة موضوع أعمق، وهو دوافع القوى المدنيّة الموالية للجنجويد؛
حاجة مدهشة الحقيقة إنّه منذ بداية الحرب بنلقاهم مايلين لدعمهم على استحياء؛
لكن المدهش أكتر هو الجهر بدعمهم بعد ظهور وجههم القبيح؛
على لسان أسماء محمود والنور حمد والفكي وغيرهم؛
ثمّ السعي الجاد لتوفير حماية دوليّة لهم وقصقصة أجنحة الجيش بعد تلقّيهم للهزائم الأخيرة؛
غرابة السلوك دا بتخلّينا نفترض إنّه عمالة مدفوعة الأجر؛
وقد نتبنّى العنوان دا للأغراض السياسيّة؛
لــــــــــــكـــــــــــن؛
مستوى الولاء والتفاني دا صعب استيعابه في إطار العمالة الأجيرة؛
فضلاً عن إنّه بعض المنخرطين فيه “مستغنين” يعني عن تعاطي الأجر الرخيص؛
القصّة أكبر من كدا ..
نجاح أيّ رواية، ربّما، بيعكس قدرتها على عكس نماذج جيدة للواقع، حتّى لو كانت الرواية فانتازيا تدور في عالم افتراضي؛
رواية ملك الخواتيم، Lord of the Ring، واحدة من أكتر الروايات الاتوزّعت عبر التاريخ، إن لم تكن الأكثر؛
ولو قريتها، أو شاهدت الأفلام الثلاثة، ما ح يفوت عليك مشاهدة دقّة تصويرها لديناميّات الحياة ودوافع البشر؛
القصّة تدور حول خاتم سحري يمنح السلطة لصاحبه؛
صنع ملك الظلام مجموعة من خواتيم السلطة وزّعها على ملوك البشر والجنّ والأقزام؛
بينما صنع الخاتم الملك سرّا، وأودعت فيه القدرة السحريّة على إخضاع بقيّة الخواتيم لسلطته!
الفكرة، بتجريد، تحكي عن سحر السلطة؛
فيه مجموعة من البشر والجن قاومت الشر، وهزمت ملك الظلام؛
لكن بدل ما ينسفوا الخاتم ويرتاحوا، غلبت عليهم شهوة السلطة، وبقوا دايرين يسخّروا الخاتم لأغراضهم؛
وطبعاً الواحد بيزيّن لنفسه نبل أغراضه؛
واااا؛
الداير يمشي يحضر الفلم، أو يعيد مشاهدتها؛
ونحن نكتفي بهذا القدر؛
ونرجع لفلمنا المناظر في أرض الواقع ..
الظاهر لينا نحن إنّه النخبة السياسيّة في قحت\تقدم مستعبدة للميليشيا وأوليائها؛
لكن الظاهر لي إنّه هم ما شايفين الحاجة دي، بل بتحرّكهم دوافع السيطرة على الميليشيا وتسخيرها لأغراض نبيلة؛
هكذا زُيّن لهم الأمر؛
الحاجة دي بتظهر ليك بجلاء في القصاصة المرفقة لتغريدة حديثة [١] لهشام عبّاس، أحد أقلامهم المشهودة؛
أجاد التعبير عن إعجابه بمقاتلي الجنجويد وتثمينه لقدراتهم، وإنّه خسارة نخسرهم، ياريت نستفيد منّهم؛
ولسنا بصدد مناقشة وتفنيد الكلام عن شجاعة وإقدام شباب الجنجويد، موضوعنا هو نظرة النخبة ليهم؛
– في جانب صاح في كلامو؛ الدعامة قوات مشاة كبيرة ومقدامة و احتمال اذا لقو التأهيل و التدريب النفسي السوي يبقو جنود لي جيش البلد.
دا تعليق صديقة، المهم فيه إنّها واقفة في صف الجيش؛
والحاجة دي قالها محمّد الفكي قبل كدا في أثناء الحرب دي؛
لكن هشام تعبيره أبلغ؛
وهو صادق جدّا في تصوّره ليهم كقوّة يمكن أن تكون خيّرة، كما يمكن أن تشاهد في تغريدة سابقة له [٢]، بيعبّر فيها عن امتنانه لانتقام السماء له، على يد الجنجويد، ممّن ظلمه.
المشكلة وين في راي هشام والفكي وغيرهم من دعاة السلام؟
المشكلة إنّه ما دام الحرب كعبة، وأيّ مشكلة بتتعالج بالتفاوض، إنت داير بالجنود الأقوياء المقدامين شنو؟
بيتكلّموا عن حل الجيش الذي يسيطر عليه الإسلاميّون، وبناء جيش قومي مهني موحّد الخ الخ؛
عشان نعمل بيه شنو؟
إنت داير تحارب منو بعد تصنع السلام؟!
هنا بيظهر ليك العمق الذكرناه فوق؛
الناس ديل دايرين جيش يحاربوا بيه “الأشرار الجد جد”؛
اللي هم كائن هلامي كدا، تتراوح أوصافه ما بين الكيزان والفلول والبلابسة وأبواق الحرب وغير ذلك؛
بيتنوّع التوصيف؛
لكن تظل هنالك صفة موحّدة؛
يمكن تلخيصها في كلمة واحدة؛
تقدر تحزرها؟!
نعم؛
“الأعداء”؛
هم مقتنعين تماماً بأنّه فيه أشرار لا تسعهم مظلّة السلام، وينبغي محاربتهم؛
لكن بالنسبة ليهم الجنجويد ديل شرّهم عارض، جوهرهم خيّر؛
وكلّ البدر منّهم دا “تجاوزات”، أو كما قالت أسماء محمود؛
ف هم دايرين يروّضوا الأبطال ديل عشان يستخدموهم في محاربة الأشرار الحقيقيّين!!
هنا يللا بيظهر عمق جديد، أكبر من العمق الفات؛
قبل شويّة وقفنا عند تناقض شعارات السلام؛
وحسّة جينا لتناقض شعارات الدولة المدنيّة والمساواة الاجتماعيّة؛
فالنخبة في تقدم، وخارجها، البتدّعي الدفاع عن حقوق المجتمعات الجوا منّها الجنجويد، ما دايرة تمنحهم الحق في اختيار مواقعهم من المجتمع المدني، بل دايرة تستثمر فيهم كقاتلين “أشاوس”؛
والحاجة دي بتوافق هوى في نفوس الجنجنود ديل؛
ولذلك فهي fair win-win situation، أليس كذلك؛
أبداً؛
الفكرة بتتفهم في قول الله تعالى: ﴿وَإِن أَحَدٌ مِنَ المُشرِكينَ استَجارَكَ فَأَجِرهُ حَتّىٰ يَسمَعَ كَلٰمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبلِغهُ مَأمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعلَمونَ﴾ [التوبة ٦]؛
إنت ما ورّيته مزايا الحياة المدنيّة عشان يعرف يختار؛
وإنّما أمّنت ليه على خياره الاختاره عن جهل؛
أوضح نموذج للحاجة دي لمن في اجتماعهم تغنّوا بعزّة والجماعة زعلوا، قاموا قالوا ليهم عزّة انت أساس وام قرون برضو أساس؛
كدا شايفين روحهم راضوهم وأنصفوهم، لكن هم غشّوهم، ما أكتر؛
حرموهم من مشاهدة الحاجة في “عزّة” الخلّت يغنّوا ليها خليل فرح وعبد الله دينق، النوبي والجنوبي!
يعني باختصار، انت بتحرمهم من الانصهار في المجتمع المدني بأنّك توافقهم على خيارات بنوها على معلومات غير مكتملة بالنسبة ليهم.
إذن فالنخبة داخل قحت\تقدم، والكثيرين خارجها، بيحاولوا يستغلّوا أبناء “المجتمعات المهمّشة” البيدّعوا الدفاع عنها وتبنّي قضاياها، وبيخدعوهم من خلال تلبية طموحاتهم الاجتماعيّة المبنيّة على قصور في رؤيتهم عن إدراك مزايا الحياة المدنيّة؛
يعني بيوحوا ليهم إنّهم دايرين ينصفوهم قصاد “عيال خرتوم”، من غير ما يورّوهم أكبر نعمة عايشين فيها عيال خرتوم، وهي تجاوز هذه العقليّة العشائريّة؛
عيال خرتوم، في المقابل، ما دايرين ينفردوا بالنعيم الاقتصادي “الاستحوذوا” عليه، كما يُصَوَّر للمجتمعات المهمّشة؛
والتعبير دا ذااااته جزو من التصوير دا ????؛
وإنّما بيرحّبوا بتمدّد المجتمع المدني، لأنّهم واعين إنّه الانتعاش الاقتصادي بيكمن في عمليّة التبادل نفسها، مش تكديس الموارد؛
يعني داير يدّيك من العنده ويشيل من العندك ويشتري بيه من واحد تالت، لأنّه هكذا بتحصل المنفعة!
عشان الفكرة توضيح ليك أكتر، ممكن تقارن بي طرح مغاير قدّمته قبل كدا (كأحد أقلام الثورة، ولو كره الكارهون) في القصاصتين التاليتين [٣، ٤]؛
الرسالة الأولى المقتضبة دي أيّام الاعتصام؛
والنص المفصّل دا من خارطة طريق مقترحة لما بعد #مليونية30يونيو؛
يعني قبل مذبحة يونيو وبعدها، بكل ما تركته من جراح، ما تغيّرت رؤيتي نحو استيعاب شباب الدعم السريع في مظلّة الدولة المدنيّة بالشكل البيعتقهم من أسر الحرب ويفتح ليهم أبواب السلام؛
وإلى الآن، وبعد كلّ مآسي الحرب، ح أستمر ساعي نحو تفكيك الدعم السريع، وإطلاق سراح منسوبيه من استعباد حميدتي وإخوانه وأوليائه ومواليه الدايرين يستخدموهم كلاب حراسة؛
أنا دايرهم يشوفوا الرصافة، زي ما في قصّة الشاعر البدوي ديك؛
وحميدتي ذاته كنّا دايرينّه ينزل ميدان الاعتصام ويآكل الناس ويشاربهم؛
وحمدوك كذلك وجّهت ليه الدعوة للمشاركة في #يوم_القيادة، وتمنّيت يتبنّى الدعوة هو ذاته ويدعو السفراء والرؤساء الأجانب عشان يشوفوا نموذج التمازج المدني السوداني الحصل في ساحة الاعتصام؛
لكن ديل ما دايرينّنا نمتزج على مستوى الأفراد، وإنّما نتوازن على مستوى الجيوش!
ربّ قائل، وح تشوف في التعليقات، إنّه هشام بيقصد نفس الكلام القلته دا، بالإشارة لكلامه عن “آلات تقوم على أكتافها الوطن”؛
أنا ذاتي شكّيت لوهلة؛
لكن كلامه التالي أزال شكوكي تماماً؛
فالحديث عن “القوّة والإرادة والشراسة والأقدام” يتعلّق بالتوظيف العسكري؛
وهشام عبّاس ما شخص مفرد، وإنّما هو جزو من منظومة نخبويّة بتسوّق لتوجّهات سياسيّة معيّنة؛
والأزمة الواقعين فيها، ومتجلّية في هشام بالذات، وفي بعض الجمهوريّين كذلك، هي نزعة حصر الشر؛
الحاجة دي ظاهرة شديد في استيتس هشام السابق الأرفقناه دا [٢]: ما قادر يشوف حجم الدمار والتشريد الحصل لمدينة كاملة عشان تتحقّق العدالة ليه هو؛
بالنسبة ليه دا مجرّد حادث عرضي، collateral damage، زيّه وزي أيّ زلزال وللا غيره، لكن ما فيه شر للأهالي ديل، لأنّه الجنجويد ما أشرار؛
هو عارف الأشرار منو، والجنجويد بحاربوا فيهم، يبقوا أشرار كيف؟!
ومن هنا بتجي عبارة أسماء محمود البتشوف إنّه الأولويّة للقضاء على الحركة الإسلاميّة؛
دا منبع الشر في الدنيا بالنسبة ليها؛
والحقيقة الأنا مقتنع بيها، زي ما كتبت بدري، قبل الثورة ذاته، في سياق تجريدي [٥] وآخر أدبي [٦]، إنّه ماف شر ذاته!
فيه تركيبات ممكن نقول عليها شريرة، من بينها الحركة الإسلاميّة ومن بينها الدعم السريع؛
علاجها بيكون بتفكيها، مش بإبادة أفرادها؛
المهم؛
تظل هنالك شبهة إنّه هشام عبّاس فعلاً بيقصد القلته في القصاصتين ديل؛
لو قال قاصد كدا فعلاً، فليكم علي أنزّل ليه اعتذار كبير هنا دا؛
لــــــــــــكـــــــــــن؛
ليه عليكم توصّلوا ليه إنّه ما هكذا تورد الأبل؛
وليكم علي أوضّح لأيّ زول متبنّي كلام عبّاس دا بينما قاصد قصدي إنّه مخطئ خطأ بليغ؛
بليغ للغاية؛
للحد؛
عارف ليه؟
لأنّه زي كلام هشام دا، بي صيغته دي، هو بالضبط الأداة الاستخدمها النظام لتحويل الشباب ديل لوحوش كاسرة؛
لمن تقعد تصفّق لما تسمّيه إرادة وإقدام، وهو في الحقيقة وضاعة وإجرام، فإنت بتزيّن ليهم المدخل الممكن يدخلوا بيه في المجتمع المدني الما خابرين مداخله؛
إنت قايل حميدتي بقى مجرم كيف؟!
قايل الترابي ذاته بقى مجرم كيف؟
قايل إبليس ذاااته بقى مجرم كيف؟!
هشام والمعاه ديل بيعكسوا صورة خاطئة جدّا عن فكرة الدولة المدنيّة والمجتمع المدني للمكوّنات البدويّة الخايفة من الذوبان في بنية الدولة دي؛
بيعزّزوا ليهم قيم الشراسة والإقدام والفزع وغيرها المااا بتشتغل شديد في تصميم الدولة المدنيّة؛
وبالمقابل بزدروا ليهم ملامح البنية المدنيّة بازدراء جامعة الخرطوم (كلّيّة غردون) والجيش القومي (جيش سناء) وأوّل السودان (أوّل شهادة الكيزان) والقلم ما بزيل بلم والكلام الفارغ دا؛
بل وصلوا مرحلة ازدراء وردي ومحمّد الأمين، عليهما رحمة الله، عشان يخطبوا ود الجنجويد!
فإنت يا هشام، وللا يا الجايي تدافع عنّه في التعليقات، لو جد جد داير الدولة تستوعب طاقة الشباب ديل وتستفيد منّهم، حقّو أوّل حاجة تفهّمهم إنّه هم ما أحسن من الناس؛
ولا أشجع من الشباب الخلّوا ليهم بيوتهم ونزحوا ديل؛
فهّمهم إنّه الناس النزحوا ديل خلّوا ليهم طوب وزلط، وشالوا مدنهم معاهم [٧]؛
فهمّهم إنّهم فاهمين غلط؛
وابدا أشرح ليهم كيف فكرة الحياة المدنيّة؛
ولو انت ما عارفها، تعال انت و هم شان نشرح ليكم!
—————————
[١] تغريدة حديثة لهشام عبّاس: https://x.com/hishamkerma/status/1859993785326809469?s=46…
[٢] تغريدة سابقة لهشام عبّاس https://x.com/hishamkerma/status/1791544936220741858?s=46…
[٣] رسالة مفتوحة لحميدتي: https://www.facebook.com/share/15LtER2eyS/?mibextid=WC7FNe
[٤] بروتوكول السلطة التمهيديّة\رؤية مستقبليّة لشباب الدعم السريع، ضمن رؤية استراتيجيّة لما بعد #مليونية30يونيو: https://www.facebook.com/share/1NnSorbJsn/?mibextid=WC7FNe
[٥] المخاض الأليم: https://www.facebook.com/abdalla.gafar.3/posts/10161112337250707
[٦] لقاء عابر (قصّة روائيّة): https://www.facebook.com/abdalla.gafar.3/posts/10161125789845707
‏[٧] https://www.facebook.com/share/1Agh9RoagB/?mibextid=WC7FNe

Abdalla Gafar

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدولة المدنی ة المجتمع المدنی الدعم السریع www facebook com ا دایرین ة الدولة وإن ما

إقرأ أيضاً:

سراب التحليل الطبقي في الحرب السودانية وشياطين أخري

كشفت هذه الحرب عن حالة خرف كامل لعقل شرائح واسعة من المثقفين الليبراليين (تجاوزا) واليساريين. من أهم تجليات هذا الخرف الهذيان بان المنافحين عن مؤسسات الدولة بما فيها الجيش دافعهم هو حماية إمتيازاتهم الطبقية وممتلكاتهم أو أنهم عنصريون أو جهويون من أهل الشمال والوسط. ولكن هذا التشخيص هراء ما بعده هراء كما سنري.
هل كل أو جل أو حتي نصف من يقف مع الدولة ضد همجية الغزاة الجنجويد هو إنسان صاحب إمتيازات وممتلكات يسعي لحمايتها؟ هذا كلام فارغ ووسواس أيديلوجى لا يختبر مقولاته في سحاحة الواقع.

من الواضح لأي إنسان يري الواقع كما هو، لا كما يوسوس به شيطانه الأيديلوجي، أن جل أعداء الجنجويد والمساندين لجيش الدولة هم فقراء المدن والريف ألذين نكل بهم الجنجويد مباشرة وبسبب تداعيات الحرب علي حياتهم وقصف بنيتهم التحتية الحيوية بما فيها مصادر الماء والكهرباء.

وغالبية هؤلاء فقراء لا يملكون قوت اسبوعهم قبل الحرب وبعدها. إن رفض جنجويد شردوا أكثر من أثني عشر مليون مواطنا من دورهم إلي منازح الذل والمسغبة لا يحتاج إلي إمتيازات طبقية لا توجد إلا في تدليس سردية يسارية مخيفة السطحية، عميقة التدليس. ولا أدري ضرورة حزلقة طبقية أو جهوية لتفسير كراهية إمراة إنتهكها الجنجويد في الهلالية أو رجل قتلوه في تمبول ليفسر كراهيتهم للجنجويد ووقوفهم مع دولة تكف عنهم مثل هذا الأذي.

أيضا، اتهام الرافضين بحزم للغزو الجنجويدي بالتحيز الجهوي أو العرقي مدعاة للرثاء لان الإتهام يذهل عن حقيقة أن مدن مثل الخرطوم ومدني والجزيرة يقطنها ملايين من غرب السودان وفي بعض نواحيها أهل الغرب وجبال النوبة والسودانيين من خارج الشمال والوسط هم في الحقيقة أغلبية، وهي أغلبية رافضة لللجنجويد بمثل رفض أهل الشمال والوسط وربما أشد رفضا.
كما لا يهم هذه السردية تفسير الصمود الأسطوري لفاشرالسلطان ومعسكر زمزم ضد بربرية الجنجويد، وحسب علمي أهل هذه المناطق لا هم من شريط النيل ولا من الوسط ولا هم من أصحاب الإمتيازات الطبقية أو التاريخية. أضف إلي ذلك أن مجموعة هامة من داخل قبيلة الرزيقات – محاميد موسي هلال -ترفض المشروع الجنجويدي بشدة ومستعدة لمقارعته بالسلاح. كما أن الزغاوة حاربوا الجنجويد بالسلاح وكان لهم سهم معلي في التصدي لهم. ولم يحتاج رجل أو إمراة من دار مساليت لإمتيازات طبقية أو جهوية لكراهية جنجويد أبادوه. ولكن خطاب التدليس المتلبس بلبوس يسارية مبتذلة لا تهمه هذه الحقائق ولا يهمه تفنيد دلالاتها ونفيها لتشخيصه اليرقاني.

ولا يهتم هذا الخطاب بفحص المصالح الطبقية والانحياز الجهوي للذين إنضموا لقافلة الجنجويد من بليونيرات ذهب وبرجوازية صغيرة تحلم بالمال والسلطة علي سنابك الجنجويد ورشاوي الإستعمار حتي لو دفعت ثمنها أعراض النساء المنتهكة .

كما ينسي خطاب الإمتيازات تناول قضية الدور الإستعماري في الحرب السودانية. ولا أدري كيف يقفز “تحليل طبقي” فوق حقائق الإستعمار بما أن اليسار يعرف منذ لينين – صاحب كتاب الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية – ، وحتي في بذور ماركس، يعرف مركزية البعد الإستعماري في أي تحليل للتمدد الراسمالي والصراع الطبقي. فهذا يسار نسى أهم نصوصه واخترع أوهام تساعده علي تبني مواقف مريحة. ولن نلوم الليبرال – تجاوزا – فهم متطفلون علي موائد اليسار الفكرية في الوجبات السريعة التي تناسبهم. وإذا كان اليسار للدف ضاربا فلا تلم الليبرال علي الرقص المتهتك.

وينسي مختزلو خصومهم في كستبانات جهة أو إمتيازات مستوهمة أن يطبقوا معاييرهم علي أنفسهم ليتبينوا كيف أثرت انتماءاتهم الطبقية أو الجهوية أو أماكن وجودهم الحالي علي تحليلاتهم ربما لانهم يؤمنون بأن نزاهتهم مثالية لا تشوبها طبقية ولا تجربة حياتية خاصة بكل فرصها وخيباتها. فهم ثوريون موضوعيون ما يخروش المية وما تبقي منا بورجوازيون، أنانيون، عنصريون، ذكوريون أو جندريات خن القضية فتم جلدهن حتي أعلن التوبة وطلبن الصفح من بابوات التقدمية وماماتها.

مما سهل بيع خطاب الإبتزاز البائس هذا هو ضعف فهم المنهج وعمي الإيبيستومولجي. لا شك في وجود خطوط إنقسام طبقي وإقتصادي ومناطقي في سودان الحرب وما قبلها. ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال إمكانية إختزال موقف أي فرد أو مجموعة من الحرب والدولة بالركون إلي أي من هذه التباينات التي لا يخلو منها مجتمع. ولا أدري أين المشكلة في أن يرفض ملياردير عندو تاني دور جنجويدا انتهكوا عرضه وروعوا نساء بيته ولا أدري لماذا عليه أن يشعر بالذنب ويلتزم الحياد تجاه مغتصبي عرضه لانه ملياردير، جعلي، أصفر، أمو بت عم ابوهو.

البرجوازيون موجودون في أوساط معسكر الدولة وايضا يوجدون في معسكر الجنجويد (دقلو الذهبي، والبرير الراسمالي، واللواء برمة وود الميرغني وزير البشير وأبناء الأرستقراطية القبلية). وكذلك الطبقات الدنيا والبرولوتاريا الرثة (ذلك المصطلح المؤسف) يوجدون في كل المعسكرات. كما يوجد غربيون ونيليون ونوبة في كلا المعسكرين. وكذلك توجد نساء هنا وهناك وتوجد جندريات هنا وهناك.

لذلك فان تخصيص أنصار الدولة بالإختزال الطبقي والجهوي لا يجوز فهو إما تدليس متعمد بائن بينونة كبرى أو وسواس أيديلوجى قهري لم يهضم أصحابه الفلسفة السياسية وصاروا علي حافة الجنون التحليلي. كل من سمع بأبجديات المنهج يفهم ضرورة التمييز بين الإرتباط والسببية ولكن هذا التخليط في المشهد السوداني أدني من السقف الفكري للتمييز بين الارتباط الذي لا يدل علي سببية.

إن خطاب التدليس هذا يمارس إبتزاز عملي باتهام كل مخالف بانه إنسان أناني، نرجسي، مصلحي لمجرد وقوفه ضد ميليشيا إبادة عرقية وعبودية جنسية. وبلغت الجرأة علي الحق أن يتهم هذا الخطاب النساء ضد الجنجويد بخيانة الأمانة النسوية الفيمنيستىية التي لا يؤرق منامها العنف الجنسي الواسع الذي مارسه الجنجويد ضد المرأة السودانية.

إن كل هذا الإبتزاز بافتراض إمتيازات أو تحيز عرقي يتم إختزال الموقف من الدولة فيه ما هو إلا دليل علي التبعية الفكرية المطلقة للإنتلجنسيا السودانية لانه في حقيقته مستلف من خطاب الهويات الغربي في مرحلة الوووك الذي يقمع الحوار ويكمم المخالف بان يختزل أي خلاف سياسي في هوية الخصم العرقية أو الطبقية أو الجندرية. وهذا ما دمر اليسار الغربي وخصب التربة لصعود اليمين المتطرف في أمريكا واوروبا بقيادة ترمب وأوربان وماري لو بين وغيرهم. وهكذا فان اليمين الديني في السودان لا يحتاج لبذل أي مجهود سوي أن يجلس في برش صلاته ويستمتع بمنظر اليسار والليبرال يحرزون هدفا تلو آخر في مرماهم ومرمى الشعب.

ولكن كما في غالب الأحيان لا بد أن يكون للمثقف شيئا ما في ألحكوة . في هكذا سردية، فجأة بقدرة الساحر يتحول مثقف مغلوب علي أمره، هامشي إلا في الأسافير، ومشرد علي حافة ألياس إلي صاحب أمتياز وكأنه ليبرالي أوروبي، ابيض، مصاب بعقدة الذنب جراء تعاليه علي الملونين ولكن من نبله قرر أن ينزل من البرج العالي وينصر المساكين بركل إمتيازاته العرقية والطبقية . ولا يكتفي الأبيض الرمزي بالتواضع الزائف فيشهر وهمه سوطا لجلد الآخرين وتصدير الإحساس بالذنب لمن قرروا أن الدفاع عن مدنهم وأجسادهم من استباحة جنجويد همج. وربما ساعد هذا التحول السحري إلي صاحب إمتياز علي التأقلم مع شدة هامشية الوجود التي لا تطاق ظروف الحياة في مهاجر ظالمة.

ولا داعي للإساءة لذكاء القارئ بالتذكير بمن هو المستفيد من كل هذا التخذيل عن التصدي للجنجويد.

كما قلنا، دخلت السياسة السودانية مرحلة الحوجة إلي طبيب نفسي، قبل المحلل الإجتماعي.

معتصم أقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الهادي إدريس قال حكومة الجنجويد ستتجول من مدينة إلى أخرى. طبيعي جدا لأنهم شفشافة
  • الطيران المدني توافق على التصميم لأول مهبط طائرات عمودية هجينة في الدولة
  • سراب التحليل الطبقي في الحرب السودانية وشياطين أخري
  • خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف.. الأرضُ المباركةُ
  • كيف نعيد توجيه أدوات الإعلام الجديد بعد ثلاث سنوات من حرب عبثية للمساهمة في وقفها واستعادة المسار المدني الديمقراطي؟
  • قصص اجتماعية لتنمية مهارات أطفال التوحد
  • جوخة الحارثي تصدر ليل ينسى ودائعه
  • المرصد الوطني للمجتمع المدني يستنكر تصريحات بيرنارد هنري ليفي
  • رفع أنقاض الماضي
  • وول ستريت جورنال: أميركا أمة في حالة استسلام