شَرَّكْ مَقَسَّمْ فوق الدَّقَشَمْ
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
(الحربُ فی نهاياتِها) هكذا قال البرهان فی كلمته أمام الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر الأول لمواجهة التحديات الإقتصادية لما بعد الحرب، والذی نظمته وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي ببورتسودان، وقال الفريق أول عبد الفتاح البرهان:
(هناك الكثيرُ من التحديات والقليلُ من الفُرَص) وللحقيقة فإن السيِّد رئيس مجلس السيادة، القاٸد العام، لم يتطرق إلیٰ التَّحَدِّی الكبير الذی سيجد الشعب السودانی نفسَه فی مواجهته، وهو كيفية إعادة تلك الروح السودانية الفريدة فی تجاوز الخلافات، والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع.
حكیٰ الدكتور مصطفی الفقي رجل السياسة والدبلوماسية المصري فی أحد البرامج التلفزيونية، إنه إندهش عندما شاهد سفير السودان بمصر ومعه الملحق الإعلامي، فی ضيافة المشير جعفر نميری، عندما كان لاجٸاً فی مصر بعد الإنتفاضة، وكان مطلوباً لدیٰ الحكومة السودانية فی ذلك الوقت، وأنَّ الفقي حكیٰ للرٸيس مبارك عن تلك الواقعة، وأضاف إنَّ حكومة نميري كانت العدو الأول للحزب الشيوعي السوداني لكنَّ ذلك لم يمنع النميری من السماح لزميله فی مدرسة حنتوب الثانوية محمد إبراهيم نُقُد الأمين العام للحزب الشيوعي -المُطارَد أمنيَّاً- من المشاركة فی اليوبيل الذهبی لمدرسة حنتوب، والذي كان أكبر مَن شارك فيه (نميری ونُقُد) وقبل ختام الحفل همس أحد رجال الأمن فی أذن نُقُد بأن نميري سيغادر مكان الحفل بعد ربع ساعةوقال له:-(يَلَّا إتَّكِل علی الله.) وغادر نقد موقع الحفل بسلام، وعاد إلیٰ مخبٸه.
ويُردف د. الفقي بالقول (شوف كيف الشعب السوداني ده، في قِمَّة الرُقِي)
وعلی ذِكر المغفور له بإذن الله الأستاذ محمد إبراهيم نُقُد، نُثبت له إنَّه عندما عاد المغفور له بإذن الله الدكتور حسن عبد الله الترابي من كندا بعد حادثة الإعتداء عليه هناك، جاء نُقُد لزيارته متخفياً فقد كان مطلوباً من قِبَل الأمن، ووقف أمام منزل الترابي داخل عربة حتَّیٰ شاهد اللواء الركن طبيب الطيِّب إبراهيم محمد خير فقال له: (يا السيد الوزير، بَلِّغ دكتور حسن الترابي تحياتي وسلامي وقول ليهو نُقُد بيقول ليك، شَرَّكْ مَقَسَّم فوق الدَّقَشَم.) وعاد إلیٰ مخبٸه، قبل أن يُسَجِّل الفريق أمن صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات زيارة مفاجٸة له فی المنزل الذی كان يختبٸ فيه بعد حادثة الترابي تِلك بسنوات، ولم يأمُر بإعتقاله!!
ولن ننسى عناق فاطمة أحمد إبراهيم للمشير عمر البشير أمام حفل جماهيری بالقطينة، ولا واجب العزاء علی روح نُقُد الذی قدمه البشير عند وفاته رحِمه الله. كما لا يفوتنا نقل جثمان المرحوم الشريف حسين الهندی لكی يُقبر في قبة والده ببری، علی عهد نميری حيث كان الشريف حسين، من أخطر وأكبر وأشرس معارضی ثورة مايو، وكذلك السماح بنقل جثمان المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم من لندن إلیٰ الخرطوم حيث وُورِیَ جثمانها ثریٰ أم درمان، فی عهد ثورة الإنقاذ ، رحم الله الجميع وغَفَر لهم، كل هذه الشواهد يبدو إعادة تطبيقها الآن ضرباً من الخيال، بل هی من المستحيلات تماماً، بعد كل الفظاٸع التی إرتكبتها المليشيا، التی دَمَّرت منظومة القيم والأخلاق، قبل أن تدمر المباني والمصانع، وقبل أن تحتل المنازل والمستشفيات، وقبل أن تنهب الأموال والسيارات، وقبل أن تغتصب الحراٸر ، وتُذِل الكبار من الشيوخ ، وتذبح الشباب ذبح الشياه، وتسمم المياه، وترسل المسيرات لقتل الآمنين، وتستخدم سلاح الجوع لتشريد المواطنين، وتفرض الأتاوات علی العابرين!!
هل بإمكان،خالد سِلِك،أو ياسر عرمان أن يُقَدِّما واجب العزاء فی من لقي ربه علی أيدی المليشيا المجرمة، في موطنهما الجزيرة (مثلاً)؟
هل بإمكان الشعب السوداني الكريم أن يقبل العفو أو الدِّية فی مَن قُتِل مظلوماً علی يد مليشيا آل دقلو؟، ولو كانت (الدٍّية بوزن الضحية ذَهَباً !!) أو بمليارات الدولارات !! لا أعتقد.
عودة الناس إلی ديارها ورتق ما انفتق من النسيج الإجتماعي، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، هو المطلوب والممكن، وسيكون ذلك ضمن توصيات المٶتمر الإقتصادی، وليس ذلك بمستحيل، فقد عادت ألمانيا واليابان إلیٰ الازدهار بعد الحرب، وعادت المدن الأندونيسية لسابق عهدها بعد التسونامی، وعادت دولة رواندا كأسرع الدول الأفريقية نُمواً بعد الحرب الأهلية الطاحنة، والأمثلة تجلّ عن الحصر، لكن ما حدث فی السودان مخالف لكل تلك النماذج !!
نسأل الله أن يشملنا بعفوه وعنايته وأن يُسبغ علينا نِعَمه ظاهرةً وباطنة.
وأن يُلْهِمنا الصواب، وأن يُعيننا حتّیٰ لا يُفلِتَ مجرمٌ من العقاب، وأن يُنعِم علينا بأن يُجنبنا شهوة الإنتقام، وأن يُعيد لنا الأمن والأمان والسلام،حَتَّیٰ نُعيد بناء الثقة والوئام بين مكونات هذا المجتمع النبيل، ولن نركن إلیٰ التَمَنِّی، لكن سنعمد إلیٰ الإقدام.
وما نيل المطالب بالتمنِّی، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا.
وما استعصیٰ علی قومٍ منالٌ،إذا الإقدام كان لهم رِكابا.
النصرُ لجيشنا الباسل.
العِزة والمِنعة لشعبنا المقاتل.
الخِزی والعار لأعداٸنا، وللعملاء.
وما النصر إلَّا من عند الله.
والله أكبر ولا نامت أعين الجبناء.
محجوب فضل بدری
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: ا براهیم الا من الله ا
إقرأ أيضاً:
حالة اللاحرب واللاسلم
بقلم عمر العمر
انتشار الجيش السوداني وميليشياته على رقعة العاصمة المثلثة لا يعني نهاية الحرب.السودان ليس استثناء. المنطقة بأسرها تلج منطقة زمانية بين اللا حرب واللاسلم تساهم في ارتجاجها ( عاصفة ترامبية) تهب على مناطق متفرقة من العالم . اسرائيل باغتتها الدهشة بخروج مقاتلي حماس في بززهم القتالية من تحت أنقاض غزة غداة الهدنة . بعد أربعمئة يوم من التدمير استيقظ اليمين الاسرائيلي على أنه لايزال بعيدا عن الأمان. نتانياهو نفسه نقل آليات التدمير إلى الضفة حتى يعزز مواقعه في منطقة اللاحرب واللاسلام .سوريا خرجت من قبضة نظام شمولي طائفي لكنها لم تستبدل فقط قبضة طائفة بأخرى او تبدل يدا أجنبية بغيرها. فدمشق لم تستنشق بعد ياسمين السلم الاجتماعي . صحيح تحرر الشام من القبضة الإيرانية لكن تركيا تمدُّ باعا طويلا من أعلى الفرات إلى أدنى بردى. فإذا لم يضع ذلك كله سوريا في مهب اللاسلم واللاحرب فإن اسرائيل باتت تتطل على الصالحية من على الجولان .
*****
أحد أبرز أسباب دخولنا اللاسلم واللاحرب هو تمترستا في الانحياز أو الانكار المسبقين. الإدمان على ذلك التموضع يجرّدنا من رؤية المشهد الوطني بعين الحيادية إن لم نقل الموضوعية. فانتشار الجيش ومستنفريه يطرح سلسلة من الأسئلة الملحة.لعل أولها يتعلق بتحديد مواقع الجنجويد بعد هزيمتهم- أو انسحاباتهم-لايهم. ثمة أسئلة متلاحقة على هذه الجبهة ربما تجد إجابات حاسمة تؤكد اللاحرب واللاسلم أكثر من الجزم بإطفاء نار الحرب .لعلنا اكتشفنا على عتبات هذه المنطقة الرمادية وجود مقاتلين رماديين في صفوف الجنجويد.فلاهم من الغرب القصي المعذَّب ولاهم من خُصوم (دولة ستة وخمسين )المفترى عليها. في المقابل تتكشف على العتبات مقاتلين في معسكر الجيش مدججين بالشهية في السلطة والثروة والثأر والإنتقام للحزب أكثر مما ماهم ممتلئون بروح الولاء للوطن. كلاهما تياران يعززان هبوب اللاحرب واللاسلم .
*****
حرب السنتين المهدرتين هي حربٌ خاسرةٌ على كل الجبهات. مما يتوغل بنا والوطن في اللاحرب واللاسلم أن نارها لم تلامس عقلياتنا على نحو يطور منهج تفكيرنا. فبالإضافة إلى التمترس في الانحياز والإنكار يشط بنا الوهمُ فوق الواقع إذ نرسم خارطة عليها جسورُ عبورٍ إلى فردوس متخيّل أو ساحات حروب مصطنعة بغية تحقيق انتصارات مشتهاه. على تلك الخارطة تغلب تضاريس لاحتمالات اللاحرب واللاسلام . فهناك انتصار يسترد به الإسلاميون السلطة . هذا احتمال ينطوي على صراع لا محالة بين الجنرالات وقيادات مدنية بمساندة مستنفرين . ثمة سناريو لنزاعات متعددة داخل معسكر الإنتصار. فهناك صطدام مرتقب بين حركات اتفاق جوبا والجيش وأخر بين هؤلاء من جهة وقيادات حزبية على الجانب المقابل. كيفما تشكل الصراع أو تبلورت الغلبة فإن الثابت يبقى نشوء حالة اللاحرب واللا سلام بل تغذيتها بأيدينا أكثر من تغليب الاستقرار بعقلياتنا.
*****
عودة الجيش وحاضنته السياسية إلى السلطة موسومة على الأقل بتربص لا يفضي بنا إلى السلم المرتجى.ففي صدور الفريقين مررات منذ انفجار ثورة ديسمبر ، ثم انتقادات إبان المرحلة الإنتقالية ،فاتهامات إبان ادارة الحرب النتنة. في المرحلة المستجدة يصعب ان لم يستحل إبقاء كل هذه التراكمات تحت السيطرة.الأرجح دفعها او إندفاعها إلى التفجُّر .هذه حالة تشكل مصدر ضغط على اللاحرب واللاسلم سواء ظلت في طور التوتر أو بلغت مرحلة الإنفجار .في الحالتيين على إيقاع من يصعدإلى كابينة القيادة من الفرقاء داخل الجيش ،مستنفريه وحاضنتهما تُقاس رياح اللاسلم واللاحرب.هناك فيلق مشحون بالنشوة والثأرية.أخر يذهب إلى الثأر لكنه حريص على الانفراد والاحتكار حد نفي الجميع. هناك فئة مستوعبة التجربة برمتها غير أنها تحرص على النأي بنفسها من مخاطر مرحلة الاحرب واللاسلم وعدم قدرتها على إدارتها.
*****
حالة اللاحرب واللاسلم يعززها سؤال محوري عما إذا كان النصر في العاصمة والجزيرة يكفي لبسط الطمأنينة؟ أم على الشعب انتظارا طويلا حتى ينشر الحيش على تراب كل الوطن؟ كيفما جاءت الإجابات على تلك الأسئلة ينبغي زرع إدارة حكومية. تلك مهمة شاقة مثلما هي مصدر إضافي يوسّع أخاديد اللاحرب واللاسلام. فمن العسير التلاقي على تشكيلة تحظى بإسناد جماهيري مطلوب بغية إنجاز مهام المرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد.فمن أبرز سندات تأهيل تلك الادارة قبل السند الجماهيري القدرات الذاتية، الروح الوطنية،نكران الذات ، الطهارة، الشفافية. من أوليات مهام المرحلةإعادة بناء مؤسسات الدولة، إعادة تأهيل شبكات الخدمات الرئيسة لمقومات الحياة الإنسانية.كيفية بناء السلطة وقوامها يشكل في ذاته منخفضَ جذب لكل رياح الخلافات السودانية المبنية على الإنحياز والإنكار المسبقين.تلاطم كل هذه التناقضات يعزز فرضية التوغل في اللاحرب و اللاسلم.
*****
أحد أفضل شروط تجاوز مطبات حالة اللاسلم واللاحرب رفعُ منسوب الوعي لدى النخب القائدة. بما أن أحد دوافع انقلاب ٢٥ اكتوبر قطع الطريق على ثورة ديسمبر ، فالإعتقاد بطمر الثورة تحت ركام الحرب منخفضٌ أشدُ جاذبية لهبوب رياح عاصفة تعرّي حتما هشاشة حالة اللاحرب واللاسلم . فإنجاز الانقلاب لا يعني نهاية الثورة.كذلك ممارسة كل اشكال العنف إبان الحرب لا يعني تصفية قضية الحرية ،العدالة والسلام.فكما فاجأ مقاتلو حماس اسرائيل بالظهور من بين أنقاض
غزة سيبرز شباب الثورة من بين حطام المدن المهشّمة.
*****
(العاصفة الترامبية ) الهابة على بقاع متفرقة من العالم لن تترك ثغرة للرهان على أي قوة خارجية.فكل حكومة ستنشغل بتأمين حدودها القطرية في وجه تداعيات تلك العاصفة.فلا مناص من البحث عن حلول نصنعها بعقلياتنا وننجزها بأيدينا إن استهدفنا عبورا عاجلا آمنا.
aloomar@gmail.com
نقلا عن العربي الحديد