كنت أفكر بمعنى الزمن، وتعريف البشر له وتاريخ تقسيمهم لساعات اليوم وكل ذلك، ووصلت في نهاية التفكير إلى حقيقة ملخصها أن الزمن قد يرتبط معناه بصوت خارق يحمل شحنة من المعاني: «رحتوا من الليل طال الليل صار ليلين.. وين الحبايب وطلات الحبايب وين؟..كنتوا وكنا سوى.. وكيف تركض الأيام؟!.. تبقى شهور السنة تمرق برفّة عين!» الصوت ومصدر تلك الحقيقة الزمنية؛ هو صوت فيروز، ذلك الصوت الذي تسلل إلى أرواحنا ورافقنا في بدايات الأشياء، كل على طريقته، ثم تملكنا وصار انبثاقه من إذاعة ما أو قناة ما، لحظة صمت وإشارة بداية زمان سرمدي يظن البعض -واهمًا- أنه ينتهي مع انتهاء الأغنية، لكن ذلك غير صحيح والمفعول في حقيقته لا يزول.

عند التجول في غابات تلك الأغاني السرمدية، نحتاج انتباه الحواس والإفلات من أسر الصوت والموسيقى، لنلتفت إلى معنى يتكرر في تلك الأغاني، والذي يمثل الزمن وتفلّته ركنا لا يكاد يغفل عنه. مثلا: ألم نعش مأساة من زمان مع شادي والتهجير والفراق ثم توقفنا لنشعر بمأساتنا مع: «وأنا صرت أكبر وشادي بعده صغير عم يلعب ع التلج؟!» ألم يكن شادي رمزًا لطفولتنا التي ابتعدت عنا أو ابتعدنا عنها وولّت ولن يعود زمانها إلا عبر الأغنية؟!

هذا التداعي بدأ مع ذكرى باتت سنوية، خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ذكرى عيد ميلاد الفنانة فيروز كل نوفمبر وما يصاحبها من صخب سنوي، ضمن احتفالات ميلاد أسطورة عربية في زمان انعدام الأساطير. كنت أفكر منذ زمن بعيد، ماذا لو قابلت فيروز، ماذا كنت سأسألها أو أقول لها؟.. بماذا سترد وهي المعروفة بسرعة بديهتها؟.. وإن ردت كيف أجيبها؟ حوارات متخيّلة نسجها العمر مع الالتحام بمشروع الأخوين رحباني الغنائي وتأثري الشديد به.

لقد قابلتها أربع مرات! ولكي لا أتعرض لسوء الفهم، كنت قابلتها في حفلات الكويت، بيت الدين، دبي، بيروت! كانت تغني من بعيد مثل شمعة على المسرح بثوبها الأسود أو الأبيض، وصوتها مستمر بتعطيل الساعات والإحساس الفيزيائي بالزمان والمكان بصيغته المعهودة، يلقي بي في محيط لحظة حلمية، كأنها لن تنتهي لكنها تنتهي وتنسدل لائحة الأسئلة: «شو بيبقى من الرواية؟ شو بيبقى من الشجر؟ شو بيبقى من الشوارع؟ شو بيبقى من السهر؟ شو بيبقى من الليل من الحب من الحكي من الضحك من البكي..» لذلك عندما فكرت في كتابة مقال أحتفي بعيد ميلادها وجدت نفسي أمام خيالات اللقاءات القديمة، وأتساءل؛ أتراها تقرأ الآن ما أكتب؟! ومن سيوصل لفيروز الصحيفة في بيتها في منطقة الرابية؟ لكن ربما ولأنها تتابع التلفاز.. قد، تنتبه لمقال كتبه كويتي في صحيفة عمانية إن نوّه له المذيع! أضغاث أحلام، لكن.. لنبدأ.

يا فنانتنا فيروز، يا سيدة الزمان، هل تسمحين لي أن أقوم بأحب أدواري عندما ألتقي بعظماء لهم مكانة راسخة في قلبي وعقلي؟ ستسألين وما هي أحب أدوارك يا أفندي؟ وبدوري أجيبك: إنّني أحب تذكيرهم بلحظات أعشقها لهم. وأنت لكِ في ذاكرة القلب والعقل لحظات ولحظات ولحظات ومشاهد وجمل ومواويل وغناء، لكن ما رأيك أن أذكرك بالزمان في أغانيك؟ التفاتات في الشعر صقلها الصوت، كونت معنى الزمان لديّ وربما لدى أجيال يا سيدتنا. بالطبع سأتظاهر أنك تقرئين المقال من بدايته عن الزمان الذي قسّم البشر ساعاته، أو تسمعين حديثا عنه في التلفاز؛ سمعتِ بالنظرية النسبية ولا شك، وأروع تجلياتها كانت: «بيقولوا الحب بيقتل الوقت، وبيقولوا الوقت بيقتل الحب!..» أتعرفين أين يكمن كل شيء؟ أين يكمن كل ذلك الزمن المكثّف؟ هو كامن مثل ثقب أسود في لحظة السكوت بين الجمل في الأغنية! هل تتفقون معي سادة القراء؟ شغّلوا الأغنية واستمعوا لها وستتّفقون، ثم تكملين: «يا حبيبي تعا تا نروح قبل الوقت وقبل الحب!» أهي الفيزياء الكمّية؟ هل تعرفين متى تم اكتشافها؟ نعم أنتِ سبقتهم كلهم. ويقال إن فيزياء الكم والنسبية العامة لم يستطع أحد توحيدهما في نظرية واحدة رغم مرور مائة عام! ومن يزعم هذا الزعم إنسان مادي لا يعرف صوتك! هل تذكرين تلك الأغنية عن الوقت التي قصدتها قبل قليل؟ كانت في ميس الريم، آخر المسرحيات على خشبة البيكاديللي، كنتِ تلبسين فستانًا أزرق يوم تعطلت السيارة في طريق كحلون، وأعلن بتعطلها تعطل صيغة وطن فقد المعنى، وتحول إلى برميل بارود اسمه لبنان! لن أذكرك بالحرب، سأذكرك بفيلمون وهبي ولحنه المشهور والإجابة المشهورة على سؤال المتطفلين، كان السؤال: «وسألونا وين كنتوا.. وليش ما كبرتوا إنتوا؟! منقلن نسينا!» يا لجمال هذا النسيان. كم ننسى يا فناتنا أن ننسى، آفتنا تكمن في الذاكرة والله.. وعذرا من النجيب محفوظ وأولاد حارته، وهو الآخر محب كبير لكِ. «انسَ؟! كيف؟ والحبس وإيام السهر.. مشتاقة للقمر!» هل تعرفين يا ملكة بترا الانكسار والخوف والألم الذي يكتنف صوتك وأنت تقررين: «فاكر قد أيه قلتلّي: هالعمر أنو قصير؟!» هذه الجملة التي تنهي أي فرح وتستل منه الروح وتذكر بلحظة هي الحقيقة الأزلية: «هالعمر إنو قصير!» هو قصير مهما: «نطرونا كتير ع مفرق دارينا!» ومهما نفثنا شكوانا من قهر الناس التي كانت تنتظر الناس على المفرق وفي النهاية لم ينتظرنا أحد، هل تذكرين كم سنة انتظرتِ مشلوحة في الدكان؟ ميّة سني؟

خلاص، أنا آسف لأنني إن أكملت لن أتوقف، لن أتوقف عن تذكّر أغان مزجت الزمان وحملها صوتكِ السرمدي. ما رأيك يا فيروز.. أم أناديك بالسيدة نهاد؟ أو أم زياد؟ ما هو لقبك الأحب؟ أنا أحب مثلا: عطر الليل، هل تتذكرين أيام فخر الدين؟ يوم بدأ العهد، عهد الغناء بينك وبين فخر الدين، هل كان قناعا للأخوين رحباني وهما السيف؟ بالطبع وهذا رأيي، يومها سألتِه: أنا شو بقدر أعمل؟ فرد عليكِ: «أنا السيف وأنتِ الغنيّة..! أنا بسيفي عمّر هالمناطق وبحقق لبنان، وإنتي بالغنية بتخليلو اسمو يزهر وين ما كان، فوتي عالبيوت، ظلي عنه غني وخلي الكل يغني.. ومتى الكل صاروا يغنوه.. بيصيروا يحبوه ويريدوه.. وبيصير هوّي الغنية!» ثم نأتي للجملة الأعظم والحقيقة الخالدة: «وإذا يا عطر الليل صار ما صار.. وانكسر السيف.. بتكمّل الغنية!» وانكسر السيف برحيل عاصي انكساره الأول ثم برحيل منصور وبقي صوتك! لماذا جئت على هذا العهد والحديث كان عن الزمان؟ لأن هذه اللحظة كانت بيغ بانغ الزمان، وبعدها صار الزمن، زمن المجد السرمدي والتطاول في معمار الفن. لذلك سأسألك سؤالا ويا رب ألا تزعلي منّي: هل تفتقدين عاصي؟ هل تفتقدين عاصي ومنصور؟ هل تفتقدين منصور؟ هل تفتقدين المسرح والفرقة تدبك خلفك؟ وهل جريان نهر الزمن خفف من لوعة الغياب أم زادها؟ هل ثمّة إحساس بالندم؟ أنتِ تفهمين أي ندم أقصد. وآسف على هذه الجرأة، لكن أين زياد؟ وأين أعمالك وهو الذي يصر على أن صوتك ما زال يستطيع أن يعطي.. هل تعبتِ من العهد القديم؛ عهد فخر الدين؟ «وإذا يا عطر الليل صار ما صار.. وانكسر السيف.. بتكمّل الغنية!» أنتِ يا سيّدة نهاد على يقين بأنك سكنتِ الأسطورة، وأن لا شيء سيزيحك منها. أنتِ صباح ومسا وزائرة الضحى وحبذا يا غروب وليل وليلين وجمعة وشهر وشهرين. لكننا نحن الجمهور الطمّاع، نريد المزيد.

أعتذر إن كنت أطلت في أسئلة، وتركت أخرى، لكن في عيدك التسعين، «خلّي الليلة تليق بناطور السنين».. أتمنى أن تتحدثي وتغني، ونعرف كيف انكسر السيف ولماذا؟

هل هذه معايدة؟ ربما ليست معايدة احتفالية كرنفالية كما ظننت في البداية، لكنها لا شك معايدة من القلب، لسيّدة الزمان. كلنا ننتظر ملكة بترا تنزل من قصرها العالي، تنزل على الساحة، تعرف أسامينا.. سأشغّل مقطع من حفلة سينما الأندلس في الكويت، الحفلة التي أزعم أنها أوّل حفلة تصوّر لك كاملة، وأطلب منكِ أن تنفخي على الشمعة، بينما صوتك السرمدي يغنّي: «سني عن سني عم تغلى ع قلبي يا عهد الولدني.. وكل سنة بحبّك أكثر من سنة!»

عبدالوهاب الحمادي كاتب وروائي كويتي.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لولا كلمة..

تذهب الفكرة هنا إلى أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: الالتزام «المادي» بما تعهد به المرء أمام الآخر من قول، وهي العلاقة التشاركية بينه وبين الآخرين من حوله، والأمر الثاني: الالتزام «المعنوي» بما تعهد به المرء أمام ذاته؛ وهي العلاقة الضمنية بينه وبين نفسه، وهذا الالتزام فـي كلا الحالتين، هو التزام يعبر عن مستوى عال من الصدق والأمانة، اللتين يتحلى بهما المرء، وهما الأمران اللذان يقاس عليهما الحقيقة الإنسانية التي يتحلى بها هذا المرء أو ذاك، ولأهمية هذا الأمر، فإنه لا يمكن أن يقاس على فترة زمنية معينة دون أخرى، بمعنى لا يمكن تعطيل هذه الحقيقة فـي فترة زمنية ما، على اعتبار أن الزمن تغير، وأن الجيل؛ ربما؛ قد تجاوز هذه الثقافة المتوارثة، ويحمل ذلك الزمن، حيث يقال: الزمن الآن لا يتسع لمثل هذه هذه المثاليات، فمثل هذه القناعات تتقاصر عن تأثير ثقلها على واقع الناس، فالناس ملتحمون بهذه المثل، مهما كان الزمن قاسيا فـي تجاوزها، حيث لا يمكن إنكار تأثيرها على حياة الناس فـي التعامل فـيما بينهم.

الكلمة سيف مسلط على رقاب العباد، مهما تغيرت ظروف الحياة، ومهما تبدلت القناعات بين الأفراد، فمسار العلاقات بينهم قائمة على كلمة، فالحق كلمة، والباطل كلمة، وما بين العفو والانتقام كلمة، وما بين الرضا والسخط كلمة، ولذلك يشدد فـي الماضي؛ كما هو الحال؛ فـي الحاضر على ضرورة حفظ اللسان، وعدم التفريط فـي القول، والأمثلة كثيرة، والمواقف أكثر فـي صور وقوع الناس فـي مآزق التفريط، وتحمل المسؤوليات؛ فقط؛ لأنهم لم يضعوا للكلمة حقها من الحذر والاحترام، والتقدير، «وهل يكب الناس فـي النار على وجوههم فـي النار أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم» - كما جاء فـي نص الحديث - يحدث هذا فـي وقت كان الخطاب مباشرا، وربما يحتاط الإنسان على نفسه كثيرا؛ خاصة؛ فـي المجالس العامة والخاصة، ومع ذلك فمأزق السقوط فـي كلمة غير مقصودة متوقع وبدرجة كبيرة، فالإنسان بطبيعته يحب أن يسمع له الآخرون، وأن يكون على قائمة المتحدثين، وأن يروي قصصا وأخبارًا - صدقا أو كذبا - لمن يستمع له، حيث تأخذه نشوة الحديث إلى عدم التفريق بين الخطأ والصواب فـي قول الجواب، فـيقع فـي المحظور.

فكيف الحالة الآن عبر وسائل التواصل المختلفة، عندما يكون الفرد منزويا مع ذاته، لا مشاركة مادية مباشرة ترسل له إشارات استفهام، أو تعجب، أو عدم استحسان، كيف الأمر الآن، والجميع يُنَظِّرْ على طول الأرض وعرضها، لا يفرق بين صالح وطالح، ولا بين صديق وعدو، ولا بين حاكم ومحكوم، ليس أمامه إلا تلك الشاشة الصغيرة يتفنن من خلالها إرسال التهم، والأباطيل، والقذف، والسب، واللعن، ولا يترك لنفسه مساحة للمراجعة، إلا بعد «وقوع الفأس على الرأس» حيث يثور هذا وذاك، وهذه وتلك، عليه، يطالبون بالقصاص من لسانه؛ الذي لم يوفر لهم مظلة للأمان، من جراء تسلسل التهم الباطلة، والله إنها لكبيرة من الكبائر، والناس عنها غافلون.

(لولا كلمة).. قد تردع هذه الكلمة سلوكًا؛ ربما سيكون شائنا؛ فـي حق آخرين، وربما قد يؤدي إلى ظلم آخرين، وربما قد يؤدي بآخرين إلى مهالك لا أول لها ولا آخر، كلمة حفظت سرا، وأغمضت عينا، وسَمَّرَتّْ قدما، وأحيت نفسا، وأوقفت حربا، وجلت قدرا، وأوقفت نزيفا، وحافظت على ماء وجه؛ كاد أن يراق على أرصفة الضياع.

هل الأمر صعب؟ قد يجاب بـ «نعم» وقد يجاب بـ «إطلاقا» وفـي كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى كثير من الصمت، ومن السمت، ومن التعقل، ومن ممارسة ضبط النفس، فمآلات حصائد الألسنة - أغلبها - مصائب.

مقالات مشابهة

  • العثور على وثيقة بالسفارة العراقية في الخرطوم تثبت ان مريم الصادق عميلة لدى جهاز الامن العراقي
  • يفنى الزمان وحبنا لك ما فني
  • ملتقى يبحث مواكبة الثورة الرقمية في مجال التصميم
  • مجوهرات تخفي الوقت.. هذه الساعات الفاخرة تتحدى الزمن بتصاميم غير تقليدية
  • دعاء الثلث الأخير من الليل.. اغتنم الوقت وردده الآن
  • حدث في منتصف الليل| سبب غرق أراضي طرح النهر.. وضعف الإقبال على التصالح بمخالفات البناء
  • بقرار أمني.. إغلاق مقاهي الرمادي بعد منتصف الليل والمخالف أمام المساءلة
  • شاهد بالفيديو.. الناشط المثير للجدل “ساجد” يصدر بيان يطالب فيه قوات الدعم السريع بتعطيل كافة المرافق الحيوية بالشمالية ويثير غضب الجمهور ونشطاء يوجهون بلاغات ضده للنائب العام
  • لولا كلمة..
  • مسؤول باكستاني: تبادل لإطلاق النار وقع خلال الليل على الحدود مع الهند