«بيروت خيمتُنا الأخيرةُ
بيروتُ نجمتُنا الأخيرةُ
أفقٌ رصاصيّ تناثر في الأفق
طُرقٌ منَ الصّدف المجوّفِ
لا طرقٌ
ومن المحيطِ إلى الجحيمِ من الجحيم إلى الخليج...»
(محمود درويش)
في ما نظم الشعراءُ وكتبَ الأدباء في بيروت، المدينة، والمرفأ، والمنارة الثقافية، ومهد الشريعة الرومانية، وإحدى أهمّ محطّات النهضة العربية الحديثة، إبان القرن التاسع عشر، وملتقى العرب، ومطبعتهم، وخشبتهم المسرحية، وشعارهم السياسي، وموئلاً سياحياً لهم، ومتنفّسهم، وملجأً لبعضهم من اضطهاد البعض، وغيرها من الصفات، فهل بيروت ما زالت على هذه الصورة، هذه الأيام، في الشهر ما قبل الأخير من عام 2024، عام القساوة والانهيارات، والكوارث، والحرب الضروس على البلاد، تشنّها آلة الحرب الصهيونية، بدءًا من الجنوب والبقاع وضواحي بيروت الجنوبية؟
ولو عدنا إلى تعريف الفيلسوفة حنّة آرندت للثقافة، والتي تقول فيها: «إنّ الثقافة تعني تلك العلاقة التي تقوم بين أتباع حضارة معيّنة وبين أمورهم الأقلّ نفعاً (من الناحية المادية) من مثل أعمال الفنّانين والشعراء، والفلاسفة، والموسيقيين، وغيرهم.
حال بيروت العامة
لا نحسب امرءاً، أيّ امرئ، في العالم، لو سألته عن بيروت، لقال لك إنها مدينة خربة، هالكة، وأنّ أهلها يحيون أرهبَ أيّامهم، وأشدّ لياليهم ظلمةً وقتامة وقرباً من اليأس. وقد يقول أحدهم، ممن لا يقدّرون إطار بيروت، إنّ الضرب والغارات التي تشنّها الطائرات الإسرائيلية العدوة في ضاحيتها الجنوبية، من دون وسط بيروت، نقول إنّ حجم المدينة الصغير نسبة لسائر المدن العربية، وتداخل أحيائها، ولصوق الضاحية بالوسط، واشتداد أصوات القصف والغارات العنيفة، تبطلان هذه المسافة الجغرافية، وتجعلان كلّ سكّان المدينة، بأحيائها الغربية كافة، شريكة في الرعب والهلع والقلق على المصير، وتاليا تدفعانهم إلى طلب السّكون والأمان في مناطق جبلية بعيدة، شمالاً، وفي جبل لبنان، وكسروان، وجبيل، وغيرها، ولا تلبث نيران الإيجارات الحارقة أن تردّهم خائبين وراضين بما كُتب لهم من شراكة في الرعب مع مواطنيهم والنازحين إلى جوارهم، في كلّ دار، وحيّ، وحارة، وبناية، وشارع، وموقف سيارات، ومقهى رصيف - إن وُجد- وعلى الرصيف، وكورنيش المنارة، وغيرها من المثلثات الخضراء بين طريقين، أو عند مفترق الطرق التي ازدادت ازدحاماً وبؤساً.
أين الثقافة؟
خلال الحروب تؤجّل بعض المظاهر الثقافية، وبعضها تكمل وجودها بأقلّ مستلزمات الوجود؛ في بيروت، جامعاتٌ لم تغلق أبوابها، ربما منذ تأسيسها أواسط القرن التاسع عشر، إلا زمن المجاعة الكبرى (1916-1917). ولا أحسب أنّ الجامعة اليسوعية عطّلت الدراسة فيها، ولا الجامعات الخاصّة، وما عدا ذلك مؤسسات علمية وتربوية تحوّلت إلى مراكز إيواء لأهالي قرى وبلدات جنوبية، وسكّان ضواحي بيروت الجنوبية، فيما تعدّى نطاق بيروت، وصولا إلى أطراف لبنان الشمالية، حيث يؤدّي مواطنو المحلة والجمعيات الأهلية، ترفدهم المساعدات تأتي من الدول العربية والصديقة عبر مطار رفيق الحريري، الشريان الجوي الوحيد، واجبَ العناية بأهاليهم. وتلك هي المهمة الثقافية الخلُقية الوحيدة، التي يصحّ اعتبارها كذلك، ما دامت تتيح للوافدين النازحين الاختلاط بمواطنيهم ومواطناتهم من مشارب ولهجات أخرى، ما كانوا ليعاينوها لو بقوا في ديارهم التي أُجبروا على مغادرتها، وإلى حين.
المسرحومع ذلك، يُطرح السؤال عن مكانة بيروت الثقافية، بالمعنى الذي أشرنا إليه أعلاه، وللإجابة نقول إنّ هذه المكانة عرضة للضمور إلى الحد الأقصى، وليس إلى الاختفاء. وهنا، لا بدّ لنا من إجراء مراجعة بانورامية لمجمل الأدوار الثقافية التي أدّتها مدينة بيروت، قبل الحرب الأخيرة، وما بقي منها ساريا، في هذه الأثناء. ومن أول تلك الأدوار إطلاق الطاقات الإبداعية في الفنون ذات الفضاء المتاح لها، في المدينة، مثل المسرح. وللكلام على هذا الدور، لا بد من الإشارة أولاً إلى تهافت القدرة المادية لجمهور هذا المسرح، المنتمي في غالبيته إلى الطبقة الوسطى، بعد الأزمتين المالية والاقتصادية الحادّتين اللتين عصفتا بلبنان، ولمّا تنته مفاعيلهما إلى حينه، يُضاف إليه انطفاء العديد من كتّاب المسرح قبل أوانهم، في مقابل صعود نجوم قلائل، من أمثال يحيى جابر في مسرحياته (شووها، ومن كفرشيما للمدفون، وشو منلبس؟، وهيكللو، ومجدرة حمرا، غيرها) المنتمية في غالبها إلى المونودراما، وجورج خبّاز (مصيبة جديدة، كذّاب كبير، هلّأ وقتا، شو القضية؟، عالطريق، البروفسور، ناطرينو، إلاّ إذ، وغيرها)، ذو الميل الغالب إلى الميلو دراما، إلى جانب العديد من أعمال الشانسونييه لماريو باسيل وشادي مارون، وغيرهما. ولكن، هل ظلّ هذا المسرح، بما بقيَ منه قائماً وفاعلاً، غداة الحرب الأخيرة؟ نقول، إنه لم يعد ثمة مسرح فاعل في المدينة، هذه الأيام، ولم تعد هناك مسارح، ولا جمهور، ولا أصداء لضحكات على إيماءات وكلام انتقادي لاذع، ونكاتٍ ذكية، وموسيقى الاستراحات وبداية الفصول، ولقاءات الأصدقاء، وحوارات ما بعد المشاهدة. لا شيء من هذا القبيل، إطلاقاً.
معارض الكتبومن المظاهر الثقافية التي كانت مدينة بيروت تحتفي بها، وتجعلها نقطة جاذبة للزوار العرب، بصورة أساسية، هي معارض الكتب التي درج على إعدادها منذ ثمانية وستين عاما (1956) النادي الثقافي العربي المؤسس في عام 1944، على يد نخبة من المثقفين العروبيين (إبراهيم دمشقية، وفؤاد سليم، ورامز شحادة)، في الشهرين الأخيرين من كل سنة، ويستقبل في جنباته نتاج عشرات، بل مئات من دور النشر، في العالم العربي، وتُعرض على منصّاته أحدث الإصدارات في صنوف المعرفة العلمية، وفي الآداب والفلسفة، والفكر، والتربية، والمكتشفات العلمية، وغيرها، وتواكب العروض أنشطة فكرية وندوات تطاول بعضاً من أهم المحاور التي تهم الإنسان العربي، في حينه. ولكنّ الأمور كانت جارية، في هذا الشأن وفي غيره، في مسار انحداريّ متواصل، إلى أن بلغنا الأزمتين المالية والاقتصادية، ثم توّجتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة، فمنعت، ولسوف تمنع من تحقيق المبتغى واستعادة فعاليات معرض بيروت للكتاب.
على أنّ ما يعزّي، في المشهد الثقافي العام، ولا سيما ما خص صناعة الكتاب في بيروت، أنّ دور النشر، وذات التمويل الخارجي تحديدا، لا تزال قادرة على إصدار الكتب وفقا لروزنامة أكثر تواضعا مما سبق، على الرغم من التدمير الذي أحدثته الغارات على الضاحية الجنوبية للعديد من المطابع المنشأة فيها لفارق كبير في كلفة إقامة المصانع في المدينة عن تلك في الضواحي، وبغضّ النظر عن قدرة القارئ اللبناني والعربي على شراء هذا الكتاب الصادر حديثا أو ذاك، بسبب غلاء كلفة الطباعة، وتقلّص قدرة المواطن الشرائية، إلى الحد الأدنى. هذا إن أبقت الهموم المتراكمة عليه، بعضاً من رغبة في القراءة والاطلاع على الجديد، والممتع، والمتخيّل، والمفيد، والجميل.
المعارض التشكيلية الفنية
ربما تكون المعارض التشكيلية الفنية في بيروت، خارج الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لأسباب كثيرة، لا مجال لتفصيلها ههنا، وتكفي الإشارة إلى أحدها، وهي أنّ المعارض المخصصة للتشكيل الفني هي مؤسسات خاصة، ومحلّية، وتعود بغالبيتها إلى الطبقة الميسورة وذات الشراكة مع أخواتها في الغرب. ولهذا يجدها المرء فاعلة طوال أيام السنة، وبعضها يكون فاعلاً فيما يعتبره مواسمَ محددة، أو تُقام فيها معارض جماعية اقتصاداً للتجهيز، وتحفيزاً للجمهور؛ شأن المعرض الجماعي في غاليري آرت أون الذي جرت فعالياته صيف عام 2023، وضمّ أعمال خمسة عشر فناناً لبنانيا وسوريا، من مثل ديالا خضري، ومنصور الهبر، وليلى داغر، والياس أيوب، وجورج باسيل، ومارون حكيم، ونعيم ضومط، وآخرين.
ولئن كنا نعجز عن تعداد المعارض التشكيلية التي جرت فعالياتها خلال عام 2024 (تموز-أيلول)، بالتزامن مع اندلاع شرارة الحرب، من جنوب البلاد، فإننا نعرض، على سبيل المثال لا الحصر، نموذجا منها، ما جرى في غاليري شريف تابت، في الأشرفية؛ إذ توالت العروض لأعمال الفنانين، صيف ذلك العام، للأكاديمي الفنان محمود زيباوي، والفنّانة كلود قطّان، ومعرض جماعي لأعمال اثني عشر فنّاناً، من بينهم: شربل صادر، ودرويش شمعة، ودافيد داوود، وإميليو طراد، وماغالي كاترا، وتييري دوغوروستارزو، وباتريس بيسو، وآخرون.
ونحسب أنّ عروضاً لأعمال فنّانين آخرين لا تزال تتوالى فعالياتها، إلى حين كتابة هذه السطور، في أيّ ركنٍ من أركان بيروت التي لم تطلها تداعيات الحرب، من تهجير، وتدمير، وغياب للأمن، وتفقير، وغيرها.
انطفاء وانكفاء
لا يبالغ مراقبُ أحوال بيروت الثقافية، إذ يخلص إلى أنّ اللحظة التي يعيشها المواطن البيروتي اللبناني هي ذروة المسار الانحداري الذي بلغته الأزمات، منذ ما يقارب الخمسة أعوام، أي غداة اندلاع التحرّكات في الشارع، وانفجار الأزمتين المالية والاقتصادية، وصولا إلى الحرب الضروس التي تشنّها إسرائيل على لبنان، وأنّ مظاهر انطفاء العديد من الجرائد والمجلاّت ذات الجمهور الواسع، (مثل السفير، والأنوار، والعمل، والمستقبل، والحوادث، والشبكة، وغيرها)، تلتها مظاهر انكفاء الجرائد الصامدة ( مثل النهار، والديار، واللواء، وغيرها)، وسط تقلّص الموارد المالية المحددة لدوام هذه الجرائد، وصعود عدد آخر من الجرائد بتمويل أجنبي في الغالب، أو بدعم مادي معيّن، (مثل جريدة الأخبار، والجمهورية، ونداء الوطن، وغيرها). أما السؤال الذي يمكن طرحه، في ما لاحظناه من تحوّل في أحجام الصحافة الورقية لصالح مكانة المحطّات الإعلامية المرئية وتصاعد دور المنصات الإلكترونية، هو: ما مكانة الحيّز الثقافي الباقي في هذه الوسائل الإعلامية؟
للإجابة نقول إنّ الإحاطة التامة بهذا الجانب تتطلّب دراسة متأنية ليست في المتناول الآن، ولكن يُفترض أن يكون للحيّز الثقافي، نعني به الزاوية الثقافية التي كان للشاعر الراحل شوقي أبي شقرا الفضل في إطلاقها بجريدة النهار، أوائل الستينيات من القرن الماضي، اعتبار في توزّع أبواب الجرائد والمجلات، وفي البرامج الإعلامية المرئية والمسموعة، حيث يُتاح الاطّلاع على الأعمال الأدبية الجديدة نقداً وتقييما، إضافة إلى الأعمال الفنية التي تجري فعالياتها في المدينة (المسرح، والسينما، والفن التشكيلي، والفلسفة، والنظريات التربوية، وغيرها). ونحسب أنّ هذه المكانة آيلة إلى الضمور، أو أقلّه إلى إعادة النظر من حيث حاجة القرّاء والمشاهدين إليها، ونوعية هؤلاء وتطلّباتهم وتحصيلهم الثقافي، ونظرتهم إلى دور الثقافة في تنمية الشخصية البشرية والمساهمة في تشكيل توازنها النشط والفاعل.
غياب وجوه
لا يكتمل المشهد الثقافي في بيروت الميّال إلى القتامة، من دون الكلام على الخسارات التي حلّت بشخصيات المبدعين الكبار، من مثل رحيل الكاتب الروائي إلياس خوري (1948-2024) في منتصف أيلول (15) من هذا العام، على إثر معاناة مع المرض، بعد إنجازه مشروعه الروائي الكبير (أولاد الغيتو، واسمي آدم، يالو: رواية، وباب الشمس، وكأنها نائمة، وغيرها) الذي حظي بترجمات إلى لغات العالم الحية. وفي آخر مطاف الراحلين الكبار كان الشاعر شوقي أبي شقرا (1935-2024)، أحد أركان مجلّة «شعر» والذي أغمض عينيه عن عالم الواقع بعد أن بنى عالما حلميا وأسلوبا شعريا لا يُوازى، عبر أعمال شعرية تجاوزت العشرين، أهمها: أكياس الفقراء، وخطوات الملك، وماء إلى حصان العائلة، وسنجاب يقع من البرج، وصلاة الاشتياق على سرير الوحدة، وغيرها. وعسى أن تلقى بزور هؤلاء الكبار أرضا خصبة في عالمنا العربي ولدى جمهور القرّاء العرب والأجانب.
أنطوان أبو زيد شاعر وأكاديمي وناقد لبناني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المدینة فی بیروت من مثل
إقرأ أيضاً:
البحوث الإسلامية يكرِّم ٥٠ فائزًا في المسابقة الثقافية للحج والعمرة لعام 1445هـ
كرم مجمع البحوث الإسلامية الفائزين في المسابقة الثقافية للحج والعمرة لعام 1445هـ، للعام الخامس على التوالي، والتي أقيمت برعاية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وإشراف عام لوكيل الأزهر، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، وإشراف تنفيذي للأمين المساعد لشئون الواعظات؛ حيث مُنح الفائزون خلال احتفال اليوم الذي حضره الأمين العام والأمناء المساعدون مكتبة قيمة من إصدارات الأزهر الشريف؛ وذلك في إطار جهود الأزهر الشريف في نشر الثقافة والمعرفة.
قوافل البحوث الإسلامية الأسبوعية تختتم فعالياتها الدعوية والتوعوية في ٥ محافظات أمين البحوث الإسلامية: الشريعة الإسلامية حرصت على البناء المثالي للأسرةاستهدفت المسابقة تشجيع الجمهور على القراءة من أجل مواجهة انتشار بعض المفاهيم المغلوطة والاستغلال الخاطئ للنصوص الشرعية، بالإضافة إلى الفتاوى الخاطئة التي تصدر من غير المؤهلين، وربط جميع أفراد المجتمع بالمواسم الدينية والوطنية، وتشجعيهم على التزود من المعرفة حول تلك المناسبات، خاصة ما لا يسع المرء جهله، وبناء جيل لديه وعي بكل ما يدور حوله وعلى درجة عالية من الثقافة والمعرفة.