صحيفة صدى:
2024-12-27@18:00:36 GMT

النص المختار وسيرة الاعتدال المنشودة

تاريخ النشر: 26th, November 2024 GMT

النص المختار وسيرة الاعتدال المنشودة

من خلال معايشة أعمال التَّحقيق في الحقل الأكاديمي، وما يتراءى في هذا الإطار من توجه أغلبي ٍّ للباحثين إلى التعامل مع النُّصوص المحققة في ضوء منهجيَّة النص الاختياري أو المختار؛ الأمر الذي راكم من الملاحظات والنَّقدات على هذا التوظيف المطلق لهذه المنهجية التَّحقيقية للتراث.

إن منهجية النص المختار هي طريق ضرورةٍ وليس طريق اختيار في إخراج النص التراثي؛ وهو التقرير الذي توارد عليه كبار وقدماء المحقِّقين؛ فمتى ما توافرت النسخ الممكِّنة للثقة بالنص المخرجِ، وبعمليات النَّسخ والنَّقل التي تعاقبت عليه؛ “لابد للمحقق أن يعتمد أصلاً للمقابلة؛ تكون روايته هي العمدة، ثم تقابل عليه النسخ الأخرى المختارة لهذا الغرض، وبذلك نسلك الطريق السَّليم الموصل إلى القول الفصل مع اختلافات النسخ”.

[تحقيق المخطوطات: أ.د. عبد الله عسيلان].

إن تجاهل النسخة التي يليق بها أن تكون الرَّائدة والأمَّ الراعية للنص التراثي، ثم المضي في توليد نصٍّ ملفَّق الأطراف مفرَّق المعالم مبتور النَّسب عن سندٍ حقيقٍ بالثقةِ؛ لهو شأنٌ تتعاظم الجنحةُ والجناية فيه على أعمال ومخرجات التحقيق التراثي؛ “فقد يلجأ بعض الناشرين، عند وجود نسخ كثيرة، وعدم اختيارهم نسخة معتمدة، إلى الاعتماد على عدة نسخ في آن معًا؛ هذه الطريقة قد تطلق الحرية للناشر، ولكن لا يُؤمن معها الزلل، إلا إذا كان الناشر متمكنًا في معرفة مصنِّف الكتاب ولغته وأسلوبه ومعرفة الكتاب نفسِه”. [قواعد تحقيق المخطوطات: صلاح الدين المنجد].

وهذا النَّهج مِن التشديد في اتَّباع منهجية النص المختار؛ مخافةَ أن تخرج عن سَنن الرواية الصحيحة للمنقولات التراثية، وتقفز على أُصول النَّسخ والمتابعة والمقابلة الوثيقة، وترسم شكلا مِن التَّلفيق والتَّجميع الذي لم يخطه بنانُ مؤلِّف الكتاب؛ إنَّ هذا التشديد لهو نهجٌ مأثورٌ ومتبعٌ في أفياءِ صنيع المتقدِّمين من الحاذقين بعلم الرِّواية والسَّماع؛ فهو مسلك المحدِّثين الأوائل في المقارنة بين النُّسخ واتخاذ الأصل منها، وهو جادَّة مطروقةٌ -أيضًا- عند اللغويين والإخباريين للشِّعر العربي؛ فقد ذكر أبو سعيد السكري ما يشير إلى امتناع التلفيق في رواية الأشعار، وذلك في قول أبي ذؤيب:

دعاني إليها القلب إني لأمرِه      سميع فما أدري أرُشْد طِلابها

فإن أبا عمرو رواه بهذا اللفظ “دعاني” و”سميع”، ورواه الأصمعي بلفظ “عصاني” بدل “دعاني” وبلفظ “مطيع” بدل “سميع”؛ قال: “فيمتنع في الإنشاد ذكر دعاني مع مطيع، وعصاني مع سميع؛ لأنه من باب التلفيق“. [شرح شعر هذيل].

وهذا الآنف من التقرير فيما إذا لاح في الأفق كرامُ النسخ وأمهاتها العتاق؛ كأن تكون النسخةُ بخط المؤلف أو التي أملاها أو قَرأها أو قُرئت عليه، أو النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف أو المقابلة عليها أو المكتُوبة في عصره أو قريبًا منه، أو نُسخ العلماء الأثبات مما خطُّوه أو أجروا عليه قلمَ المقابلة والتَّصحيح أو قرئ عليهم أو أجازوا به. [تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون].

أما إذا كانت النسخ التي بين ظهراني البَاحثين دون ذلك، وتعتورها أدواء النَّسخة والخُطاط، من نقص أو زيادة موهومة أو تصحيف أو سبق نظرٍ وبنان، أو أودى من بهيِّ طلعتها طوارقُ الليل والنهار، من بللٍ أو أرضةٍ أو خرمٍ أو سوء تخزينٍ؛ كلَّ ذلك -إذا وُزن بحقٍّ، وثبت بصدقٍ- فإنه لا ملامة على ذلك الباحث أن يقصُر عن منهج اللزُوم، وأن يعمد إلى منهج الضَّرورة، وأن يتخذَ من عباءة النَّص الاختياري دثارًا تشتملُ به أحرف النَّص المخطوط، ويسدَّ به العثار، ويُساويَ به بين صفُوف الكلم.

غير أنَّ هذا الإذن بهذه الطريقة التحقيقية، لا يعنى منح صك الإذنية المطلقة، ولا الذهاب بعجلةٍ إلى الاختيار العريِّ عن المحدِّدات والمقيِّدات، إن هذا الإذن لا يرتضي -بأيِّ وجهٍ- ما نشهده عند بعض الباحثين وطلبة الدراسات العُليا، من ممارسة أدوار الحريَّة الفكرية في النَّص التراثي، والتسمُّح في صناعة هذا النصِّ وفق المحسنات الذاتية والانطباع الشخصي، إنَّ هذه اليد التي تفري بمبضعها في بدنِ هؤلاء المروياتِ دون هدأةٍ أو أناةٍ، لحجم تفريطها أعظم من حسنةِ تحقيقها.

وإنَّ مما يوصى به المحقِّقون لهذا التراث الأثير، إذا ما جنحوا إلى منهجيَّة النَّص المختار، أن يَرعوا حَرم هذا المخطوط، وأن يشدُّوا من ظهر نسبه الحقيق، وأن يصلوا شيخَ حرفهم برا وإحسانا بما نطق وأراد؛ وهذه بعض التوصيات، والتي اجتمعت من خلال أعمال التحقيق ومناقشة باحثي الدراسات العُليا، أضعُها في هذا المقال؛ رعايةً لعِلم التَّحقيق وبابه العَالي:

أولا: أوصي المشتغلين بتحقيق التراث بمنح فحص النُّسخ المتوافرة للمخطوط مزيدًا من الوقت والجهد والعناية، وأن يكون هذا الفحصُ فرعَ قراءة وتصفحٍ عميق للألواح والطُّرر والغواشي، وأن ينظرَ الباحث بعين النقد والامتحان لما يتراءاه من المسطور على صفحات العنوان أو مذيَّلات الخواتيم أو ممهور الأختام ومنطوق التملكَات، وأن يُوازن ذلك بما خلص إليه اجتهاد المترجمين للمصنَّفات العربية، وبما قرأه وخبره أمناءُ الخزائن ونُظار الأوقاف ومفهرسوا المادة التراثية؛ حتى إذا ما غرب شفقُ النُّسخ الأصول، أُذِّن وأُذِن بطالع النَّص الاختياري؛ ورُضي به وبحاديه.

ثانيًا: أُوصي بالتوقِّي والحذارِ من ظاهرة اختلاف الرِّواية للكتاب، أو تعدُّد الإبرازة له، أو التردُّد بين المسوَّدة والمبيَّضة؛ إنَّ هذه الظاهرة ليست بأجنبيةٍ على الكتاب العربي القديم، بل هي شاهد عدلٍ عن الإبداع والإتقان، وذائع سرٍّ بغزارة الإنتاج وتلهُّف الحَمَلة والرواةِ؛ ومن أضراب هذا الفنِّ؛ ما ذكره ابن درستويه في مقدمة كتاب (الكُتَّاب) من أنه أخرج الكِتَاب أولاً مختصرًا، ثم أعاد النظر فيه، فزاد عليه؛ ومن ذلك أيضًا: كتاب (غريب الحديث) للخطابي، الذي ذَكَرَ في مقدمته أنه أخرج الكتاب لأصحابه قبل إتمام النظر فيه، ثم لَمَّا وَجَدَ متسعًا من الوقت أعاد هذا النظر؛ فَغَيَّرَ وأَصْلَحَ، وزَادَ وحَذَفَ؛ حتى استقر الكتاب على ما هو عليه.

إنَّ بروزَ الكتاب التراثي في أكثر من صورةٍ منظورةٍ، وتخلُّقه في شكله الجديد والأخير؛ لهو جرسُ إنذار وراعدُ تحوطٍ يسوقُ المحققَ الناصحَ إلى تمييز النُّسخ عن بعضها، واصطفاء أولئك الوثائق التي تُمثل النُّطق السَّامي الأخير بمكنون هذا الكتاب التُّراثي.

ثالثا: أوصي بالتشبُّع والانطبَاع بأسلوب المؤلِّف، واقتفاء أثر كلمِه حذو القُذةِ بالقُذةِ؛ حتى إذا ما تنازعت النُّسخ بين يدي المحقِّق، وكلٌّ نادى بأبوتِه ونسبِه؛ رأيت ذلك القائفَ الحصفَ الفطنَ، والذي مهرَ بسمتِ المؤلِّف وبنات فكره، حتى يقومَ بينها مقامَ قاضٍ عدلٍ، ويقولَ: “إنَّ بعض هذه الأقدام لمن بعض”.

ومن ملامح الفطنة بالنَّص التُّراثي، والتنبُّئ بما صحَّفته يدُ النِّساخةِ؛ أن يتراءى المحققُ في الرِّواية الحزْنة الغَامضة قربًا وإقبالا على وِرْدِ الصَّواب، يزيدُ هذا على ما في الرِّواية السَّهلة الودُود؛ فإنَّ عقلَ النَّاسخ المكين لا يرتضي هذا العدولَ عن مخايل الوضُوح، إلا وهو عين المرسُوم والمزبُور فيما بين يديه من صُحف الكتابِ؛ يقول عالم اللغويَّات المستشرق الألماني جوتهلف برجشتريسر في كتابه (أصول نقد النصوص): “وهذه القاعدة صحيحةٌ إلى حدٍّ

ما، ويُحتج بها على أنه لا يُتصوَّر أن يُبدل الناسخ شيئًا مفهومًا بشيء لا يفهم مطلقًا، أو بشيء لا يُفهم إلا بصعوبةٍ، والمحتمل ضدُّ ذلك؛ وهذا الرأي صحيح، والقاعدة التي تترتب عليه نافعة، إذ تُحذِّرنا مما يسهل فهمه؛ فإنه كثيرًا ما يختبيء الصَّحيح فيما مظهره غير مفهوم”.

رابعًا: أوصي بأن يتعدَّى نطاقُ المقابلة بين النُّسخ إلى المقابلة مع المصادر الأمينةِ المخبرةِ عن حَرف الكتاب، وربما الحاكية لخطِّ المؤلف ورسمِ يدِهِ؛ إن الوشيجةَ الرابطةَ بين مصادر التُّراث الإسلامي ومقرَّراته العلميَّة، لهي صُلبٌ واحدٌ ورحمٌ ضامٌّ ولودٌ بهذا النَّتاج الذي لا يُكذب بعضُه بعضًا، وإنَّ من حذق الصنعةِ أن يُوسع المحقق من دائرةِ نظره ومطالعته وموازنته، وأن يتتبَع القطرَ السحَّ في نابياتِ الرُّبى ونايفاتِ الآكام.

فهذا شمس الدين الذهبي -رحمه الله- الذي كان يُعنى بانتقاء أصح نسخ الموارد التي يعتمدها وينقل منها، فكان يحاول دائما أن يأخذ من المصدر المكتوب بخطِّ مؤلِّفه أو المخبرِ عنه، وكانت غايته من ذلك التأكد من صحة المادَّة التاريخية والتثبت من دقتها؛ وذلك نحو قوله: “قرأت بخط الكندي في تذكرته”، وقوله: “وفاته بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان العسكري اللغوي”، وقوله في ترجمة أحمد بن محمد بن واجب القيسي الأندلسي المتوفى سنة ٦١٤هـ: “قرأت في فهرسته، وخطُّه عليه”، وغير هذا مما يكثر سوادُه ويتعالى سؤددُه في رائعته (تاريخ الإسلام).

خامسا: أوصي بعدم الانسياق وراء كلِّ زيادةٍ تنصُّ إحدى النسخِ رأسَها بها، وأن يبلوَ الباحثُ هذه الزِّيادة بمعيار التروِّي والحصافةِ والمسامتةِ، وأن يقيسَها -كالآسِي النِّطاسي- حتى يُدبرَ غثيثُها، ويمكثَ في الأرض ما ينفع النَّاس بإذن الله.

يقول عبد السلام هارون رحمه الله: “وقد عثرتُ في أثناء تحقيقي لكتاب (الحيوان) على عبارة مقحمةٍ في نسختين من أصول (الحيوان)؛ وهذا نصها: [كنت بعجتُ بطن عقرب إذ كنت بمصر؛ فوجدتُّ فيه أكثر من سبعين عقارب صغار، كل واحدة نحو أرزة، حرَّره أبو بكر السروكني]؛ فالأسلوب ليس للجاحظ، والجاحظ لم يدخل مصر، وعبارة [حرره أبو بكر السروكني] شاهدٌ بأن العبارة مقحمة بلا ريب”.

رحم الله عبدَه عبدَ السلام؛ فهكذا فطنة التَّحقيق وإلَّا فلَا، وهكذا بناء اللُّحمة بين النُّسخ وإلَّا ما سِواه فبترٌ وتشويهٌ!!

المصدر: صحيفة صدى

كلمات دلالية: الاعتدال ص المختار ف الکتاب التی ت

إقرأ أيضاً:

النص الكامل لكلمة راعي الأبرشية المطران مار تيموثاوس خلال قداس عيد الميلاد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال راعي الأبرشية المطران مار تيموثاوس متى الخوري خلال قداس عيد الميلاد المجيد في كاتدرائية السيدة العذراء أم الزنار بحمص مساء امس، :" الكلمة صارجسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً... ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمةً فوق نعمة» (يوحنا1: 14 و16)".

وأضاف: “أهنئكم أحبائي بهذا العيد المبارك، عيد ميلاد سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الحدث الجليل الذي غيّر وجه البشرية، إنه اليوم الذي فيه التقت السماء بالأرض، اليوم الذي جسّد فيه الله محبته للإنسانية بميلاد يسوع في مغارة بيت لحم. هذا الميلاد ليس مجرّد مناسبة تاريخية، بل هو حدثٌ يحمل رسالة حياةٍ لنا جميعاً، رسالةٌ تقول: إننا «به نحيا ونتحرك ونوجد”. 
 

وإن هذه الكلمات للرسول بولس (أع 17: 28) تختصر عمق العلاقة بيننا وبين إلهنا، فهو ليس فقط مصدر حياتنا، بل هو من يعطي لوجدنا معنى. فبه نحيا، لأنه وهبنا الحياة الروحية الجديدة بموته وقيامته. وبه نتحرك، لأنه يعطينا القوة للسير في طرق الحق والمحبة، حتى في أحلك الظروف. وبه نوجد، لأن وجودنا يرتكز على حضوره الدائم معنا، حضور يملأنا بالسلام والرجاء.

في ميلاد السيد المسيح، نتأمل بتواضعه العجيب. الإله الكلي القدرة، اختار أن يولد في مغارة، ويُلف بأقمطة وضيعة، ويُحاط برعاة بسطاء. في هذا المشهد رسالة عميقة لنا جميعاً: أن العظمة الحقيقية تكمن في التواضع، وأن القوة الحقيقية تظهر في المحبة، هذه هي الدعوة التي يوجهها لنا المسيح، أن نحيا كأبناء وبنات لله، أن نعيش المحبة الحقيقية، بل أن نعكس نورها في عالمنا.

أحبائي، ونحن في سورية الحبيبة، بلد الإيمان والحضارة، البلد الذي في حدود ولاية سورية التاريخية ولد المسيح كما يخبرنا البشير لوقا، في هذا البلد وهو بلد السريان الأزلي نعيش في ظروف صعبة منذ سنوات طويلة، حملت وتحمل الكثير من التحديات، وكان أهمها تحدي الوجود أو عدمه، لكن كما أشرق نور المسيح في ظلمة ذلك الزمان، نحن مدعوون اليوم لنكون شهوداً لهذا النور في أرضنا، كما كان آباؤنا وأجدادنا من قبلنا، دعوتنا كمسيحيين في هذا الوطن العزيز أن نكون نوراً في وسط العالم، ثابتين في الإيمان، أقوياء في المحبة، شهوداً للرجاء، حاملين رسالة الميلاد إلى كل مكان، فنعلن أن السيد المسيح هو الحياة الحقيقية، هو الذي نحيا به ونتحرّك ونوجد، الذي لا يتركنا وحدنا بل يقترب منا ويسكن فينا ويحمل معنا كل الأثقال، ويبدل حزننا برجاء.

فنور المسيح أشرق من هذه الأرض وسيبقى الشرق مصدراً لهذا النور، ومهما حاولت قوى الظلام لن تستطيع أن تطفئه لأنه متجذر في شرقنا الحبيب، وقوده المحبة، وفتيلته الإيمان، واناؤه السلام.

وها نحن اليوم نشهد على ولادة سورية جديدة التي لطالما حلمنا بها، وسنبقى حاضرين وفاعلين فيها نتشارك مع إخوتنا في الوطن مسؤولية أمانه وبنائه وتطوره، حتى نصل إلى وطن يكون للجميع والجميع له، في عدالة كاملة ومساواة في الحقوق والواجبات.

وما نريده فقط هو العدالة الحقيقية، فالمسيحي السوري لا يبحث عن حماية خاصة أو امتيازات، بل عن عدالة تنصف الجميع، مسيحيين ومسلمين، وتعيد لهذا الوطن استقراره وسلامه، ما يريده المسيحي السوري من العالم اليوم أن ينظر إلى سورية ليس كما تعود ويحب أن يراها منطقة نزاع أو مورد هام للثروات الباطنية، أو موقع جيوسياسي مميز، بل كأرضٍ مقدسة لها حقها في السلام، وكوطن يزخر بتنوعه الذي لطالما كان مصدر قوته، ما يريده المسيحي السوري من العالم أن يدرك أن دعم الوجود المسيحي في سورية لا يقتصر على حماية الكنائس أو المعالم والرموز الدينية، ولا حتى حرية ممارسة الطقوس الكنسية، بل يشمل العمل على تحقيق بيئة آمنة تُحترم فيها كرامة الإنسان، ويُصان فيها العيش المشترك، بيئة تعي جيداً التراث المسيحي وغناه ودوره في المنطقة، فالمسيحي في سورية ليس غريباً عن هذه الأرض، بل هو جزء أصيل من تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وما نقوله عن المسيحيين نقوله أيضاً عن جميع إخوتنا في هذا الوطن المتنوع في أديانه وأعراقه وثقافاته، فجميعنا شركاء في تعزيز القيم الإنسانية، وكلنا خدام للحق وللكرامة الإنسانية، ولا نريد لأحد أن ينظر إلينا بعين الشفقة أو الحماية، بل أن يعاملنا كشريك متساوٍ في بناء وطن أكثر عدلاً وسلاماً.

نتعاطف جداً مع عائلات الضحايا والسجناء والمفقودين، ومن منّا لم يخسر أحد في هذه الحرب القاسية، نفتح قلوبنا وبيوتنا لعودة جميع اللاجئين والمهجرين، ونطالب بمحاكمة عادلة لكل من أخطأ أو قد يخطئ اليوم بحقّ الوطن وبأهله، نرفض أي سلاح غير سلاح الدولة، نرفض التخوين، نرفض كلمة أقلية وكذلك كلمة الأغلبية، نرفض الطائفية، نرفض أي شكل من أشكال التمييز الديني أو العنصري أو الجندري، ولن نقبل إلا بكلمة «سوري».

سورية، أرض التاريخ والإيمان تحمّلت الكثير، لكنها ظلّت شامخة كالصخرة. واليوم، دورنا أن نكون نحن أبناء هذه الأرض حجارة حية، نبني بها وطننا بمحبة المسيح التي تسكن في قلوبنا، فلنجعل من عيد الميلاد دعوة لتجديد إيماننا، ولنحيا بالمحبة التي تغيّر النفوس، وتزرع الأمل في القلوب، وترمّم الجراح عن طريق الحوار والمصالحة الكاملة وبناء الثقة والتعالي عن أي مصالح فئوية أو شخصية.

أيها الأحباء، بمناسبة عيد الميلاد المجيد نكرر تهنئتنا لكم جميعاً، ومن هذه الكاتدرائية التاريخية أم الزنار، أهنئ جميع أبناء الأبرشية إكليروساً ومجالساً ومؤمنين في حمص وحماه وطرطوس المقيمين فيها وأيضاً المنتشرين في مختلف دول العالم، وباسمكم جميعاً نرفع آيات التهاني البنوية الصادقة إلى قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، ولجميع مطارنة وكهنة وأبناء الأبرشيات السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع، وهي فرصة أن نشكر كل من تواصل معنا وسأل عنا وشاركنا الدموع والآمال وفرحة ولادة سورية الجديدة، نسأل الرب الإله أن يبارك شعبه ويحفظ ميراثه بشفاعة هذه الأيام المباركة، وأن تحمل السنة الميلادية الجديدة كل الخير والفرح والسلام لسورية ولدول المنطقة بل ولجميع أنحاء العالم.

وكل عام وأنتم بألف خير.

مقالات مشابهة

  • كيف تستخدم Visual Intelligence.. نسخة آبل من Google Lens
  • 76 عامًا ولا يزال النص العظيم ملهمًا
  • مونولوجات للفلسطينية لداليا طه
  • السكوري: جلسة ماراتونية للتصويت على قانون الإضراب أنهت 62 عاماً من الإنتظار
  • النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب
  • اليوبيل الذهبي لرابطة الكتاب 1974 – 2024
  • اليوبيل الذهبي لرابطة الكتاب ١٩٧٤- ٢٠٣٤
  • النص الكامل لكلمة راعي الأبرشية المطران مار تيموثاوس خلال قداس عيد الميلاد
  • اشهار ديوان “دمع المُقَل” للشاعرة سماح الخصاونة في رابطة الكتاب الأردنيين / إربد
  • النص الكامل لتقرير ديوان المحاسبة 2023