النص المختار وسيرة الاعتدال المنشودة
تاريخ النشر: 26th, November 2024 GMT
من خلال معايشة أعمال التَّحقيق في الحقل الأكاديمي، وما يتراءى في هذا الإطار من توجه أغلبي ٍّ للباحثين إلى التعامل مع النُّصوص المحققة في ضوء منهجيَّة النص الاختياري أو المختار؛ الأمر الذي راكم من الملاحظات والنَّقدات على هذا التوظيف المطلق لهذه المنهجية التَّحقيقية للتراث.
إن منهجية النص المختار هي طريق ضرورةٍ وليس طريق اختيار في إخراج النص التراثي؛ وهو التقرير الذي توارد عليه كبار وقدماء المحقِّقين؛ فمتى ما توافرت النسخ الممكِّنة للثقة بالنص المخرجِ، وبعمليات النَّسخ والنَّقل التي تعاقبت عليه؛ “لابد للمحقق أن يعتمد أصلاً للمقابلة؛ تكون روايته هي العمدة، ثم تقابل عليه النسخ الأخرى المختارة لهذا الغرض، وبذلك نسلك الطريق السَّليم الموصل إلى القول الفصل مع اختلافات النسخ”.
إن تجاهل النسخة التي يليق بها أن تكون الرَّائدة والأمَّ الراعية للنص التراثي، ثم المضي في توليد نصٍّ ملفَّق الأطراف مفرَّق المعالم مبتور النَّسب عن سندٍ حقيقٍ بالثقةِ؛ لهو شأنٌ تتعاظم الجنحةُ والجناية فيه على أعمال ومخرجات التحقيق التراثي؛ “فقد يلجأ بعض الناشرين، عند وجود نسخ كثيرة، وعدم اختيارهم نسخة معتمدة، إلى الاعتماد على عدة نسخ في آن معًا؛ هذه الطريقة قد تطلق الحرية للناشر، ولكن لا يُؤمن معها الزلل، إلا إذا كان الناشر متمكنًا في معرفة مصنِّف الكتاب ولغته وأسلوبه ومعرفة الكتاب نفسِه”. [قواعد تحقيق المخطوطات: صلاح الدين المنجد].
وهذا النَّهج مِن التشديد في اتَّباع منهجية النص المختار؛ مخافةَ أن تخرج عن سَنن الرواية الصحيحة للمنقولات التراثية، وتقفز على أُصول النَّسخ والمتابعة والمقابلة الوثيقة، وترسم شكلا مِن التَّلفيق والتَّجميع الذي لم يخطه بنانُ مؤلِّف الكتاب؛ إنَّ هذا التشديد لهو نهجٌ مأثورٌ ومتبعٌ في أفياءِ صنيع المتقدِّمين من الحاذقين بعلم الرِّواية والسَّماع؛ فهو مسلك المحدِّثين الأوائل في المقارنة بين النُّسخ واتخاذ الأصل منها، وهو جادَّة مطروقةٌ -أيضًا- عند اللغويين والإخباريين للشِّعر العربي؛ فقد ذكر أبو سعيد السكري ما يشير إلى امتناع التلفيق في رواية الأشعار، وذلك في قول أبي ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لأمرِه سميع فما أدري أرُشْد طِلابها
فإن أبا عمرو رواه بهذا اللفظ “دعاني” و”سميع”، ورواه الأصمعي بلفظ “عصاني” بدل “دعاني” وبلفظ “مطيع” بدل “سميع”؛ قال: “فيمتنع في الإنشاد ذكر دعاني مع مطيع، وعصاني مع سميع؛ لأنه من باب التلفيق“. [شرح شعر هذيل].
وهذا الآنف من التقرير فيما إذا لاح في الأفق كرامُ النسخ وأمهاتها العتاق؛ كأن تكون النسخةُ بخط المؤلف أو التي أملاها أو قَرأها أو قُرئت عليه، أو النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف أو المقابلة عليها أو المكتُوبة في عصره أو قريبًا منه، أو نُسخ العلماء الأثبات مما خطُّوه أو أجروا عليه قلمَ المقابلة والتَّصحيح أو قرئ عليهم أو أجازوا به. [تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون].
أما إذا كانت النسخ التي بين ظهراني البَاحثين دون ذلك، وتعتورها أدواء النَّسخة والخُطاط، من نقص أو زيادة موهومة أو تصحيف أو سبق نظرٍ وبنان، أو أودى من بهيِّ طلعتها طوارقُ الليل والنهار، من بللٍ أو أرضةٍ أو خرمٍ أو سوء تخزينٍ؛ كلَّ ذلك -إذا وُزن بحقٍّ، وثبت بصدقٍ- فإنه لا ملامة على ذلك الباحث أن يقصُر عن منهج اللزُوم، وأن يعمد إلى منهج الضَّرورة، وأن يتخذَ من عباءة النَّص الاختياري دثارًا تشتملُ به أحرف النَّص المخطوط، ويسدَّ به العثار، ويُساويَ به بين صفُوف الكلم.
غير أنَّ هذا الإذن بهذه الطريقة التحقيقية، لا يعنى منح صك الإذنية المطلقة، ولا الذهاب بعجلةٍ إلى الاختيار العريِّ عن المحدِّدات والمقيِّدات، إن هذا الإذن لا يرتضي -بأيِّ وجهٍ- ما نشهده عند بعض الباحثين وطلبة الدراسات العُليا، من ممارسة أدوار الحريَّة الفكرية في النَّص التراثي، والتسمُّح في صناعة هذا النصِّ وفق المحسنات الذاتية والانطباع الشخصي، إنَّ هذه اليد التي تفري بمبضعها في بدنِ هؤلاء المروياتِ دون هدأةٍ أو أناةٍ، لحجم تفريطها أعظم من حسنةِ تحقيقها.
وإنَّ مما يوصى به المحقِّقون لهذا التراث الأثير، إذا ما جنحوا إلى منهجيَّة النَّص المختار، أن يَرعوا حَرم هذا المخطوط، وأن يشدُّوا من ظهر نسبه الحقيق، وأن يصلوا شيخَ حرفهم برا وإحسانا بما نطق وأراد؛ وهذه بعض التوصيات، والتي اجتمعت من خلال أعمال التحقيق ومناقشة باحثي الدراسات العُليا، أضعُها في هذا المقال؛ رعايةً لعِلم التَّحقيق وبابه العَالي:
أولا: أوصي المشتغلين بتحقيق التراث بمنح فحص النُّسخ المتوافرة للمخطوط مزيدًا من الوقت والجهد والعناية، وأن يكون هذا الفحصُ فرعَ قراءة وتصفحٍ عميق للألواح والطُّرر والغواشي، وأن ينظرَ الباحث بعين النقد والامتحان لما يتراءاه من المسطور على صفحات العنوان أو مذيَّلات الخواتيم أو ممهور الأختام ومنطوق التملكَات، وأن يُوازن ذلك بما خلص إليه اجتهاد المترجمين للمصنَّفات العربية، وبما قرأه وخبره أمناءُ الخزائن ونُظار الأوقاف ومفهرسوا المادة التراثية؛ حتى إذا ما غرب شفقُ النُّسخ الأصول، أُذِّن وأُذِن بطالع النَّص الاختياري؛ ورُضي به وبحاديه.
ثانيًا: أُوصي بالتوقِّي والحذارِ من ظاهرة اختلاف الرِّواية للكتاب، أو تعدُّد الإبرازة له، أو التردُّد بين المسوَّدة والمبيَّضة؛ إنَّ هذه الظاهرة ليست بأجنبيةٍ على الكتاب العربي القديم، بل هي شاهد عدلٍ عن الإبداع والإتقان، وذائع سرٍّ بغزارة الإنتاج وتلهُّف الحَمَلة والرواةِ؛ ومن أضراب هذا الفنِّ؛ ما ذكره ابن درستويه في مقدمة كتاب (الكُتَّاب) من أنه أخرج الكِتَاب أولاً مختصرًا، ثم أعاد النظر فيه، فزاد عليه؛ ومن ذلك أيضًا: كتاب (غريب الحديث) للخطابي، الذي ذَكَرَ في مقدمته أنه أخرج الكتاب لأصحابه قبل إتمام النظر فيه، ثم لَمَّا وَجَدَ متسعًا من الوقت أعاد هذا النظر؛ فَغَيَّرَ وأَصْلَحَ، وزَادَ وحَذَفَ؛ حتى استقر الكتاب على ما هو عليه.
إنَّ بروزَ الكتاب التراثي في أكثر من صورةٍ منظورةٍ، وتخلُّقه في شكله الجديد والأخير؛ لهو جرسُ إنذار وراعدُ تحوطٍ يسوقُ المحققَ الناصحَ إلى تمييز النُّسخ عن بعضها، واصطفاء أولئك الوثائق التي تُمثل النُّطق السَّامي الأخير بمكنون هذا الكتاب التُّراثي.
ثالثا: أوصي بالتشبُّع والانطبَاع بأسلوب المؤلِّف، واقتفاء أثر كلمِه حذو القُذةِ بالقُذةِ؛ حتى إذا ما تنازعت النُّسخ بين يدي المحقِّق، وكلٌّ نادى بأبوتِه ونسبِه؛ رأيت ذلك القائفَ الحصفَ الفطنَ، والذي مهرَ بسمتِ المؤلِّف وبنات فكره، حتى يقومَ بينها مقامَ قاضٍ عدلٍ، ويقولَ: “إنَّ بعض هذه الأقدام لمن بعض”.
ومن ملامح الفطنة بالنَّص التُّراثي، والتنبُّئ بما صحَّفته يدُ النِّساخةِ؛ أن يتراءى المحققُ في الرِّواية الحزْنة الغَامضة قربًا وإقبالا على وِرْدِ الصَّواب، يزيدُ هذا على ما في الرِّواية السَّهلة الودُود؛ فإنَّ عقلَ النَّاسخ المكين لا يرتضي هذا العدولَ عن مخايل الوضُوح، إلا وهو عين المرسُوم والمزبُور فيما بين يديه من صُحف الكتابِ؛ يقول عالم اللغويَّات المستشرق الألماني جوتهلف برجشتريسر في كتابه (أصول نقد النصوص): “وهذه القاعدة صحيحةٌ إلى حدٍّ
ما، ويُحتج بها على أنه لا يُتصوَّر أن يُبدل الناسخ شيئًا مفهومًا بشيء لا يفهم مطلقًا، أو بشيء لا يُفهم إلا بصعوبةٍ، والمحتمل ضدُّ ذلك؛ وهذا الرأي صحيح، والقاعدة التي تترتب عليه نافعة، إذ تُحذِّرنا مما يسهل فهمه؛ فإنه كثيرًا ما يختبيء الصَّحيح فيما مظهره غير مفهوم”.
رابعًا: أوصي بأن يتعدَّى نطاقُ المقابلة بين النُّسخ إلى المقابلة مع المصادر الأمينةِ المخبرةِ عن حَرف الكتاب، وربما الحاكية لخطِّ المؤلف ورسمِ يدِهِ؛ إن الوشيجةَ الرابطةَ بين مصادر التُّراث الإسلامي ومقرَّراته العلميَّة، لهي صُلبٌ واحدٌ ورحمٌ ضامٌّ ولودٌ بهذا النَّتاج الذي لا يُكذب بعضُه بعضًا، وإنَّ من حذق الصنعةِ أن يُوسع المحقق من دائرةِ نظره ومطالعته وموازنته، وأن يتتبَع القطرَ السحَّ في نابياتِ الرُّبى ونايفاتِ الآكام.
فهذا شمس الدين الذهبي -رحمه الله- الذي كان يُعنى بانتقاء أصح نسخ الموارد التي يعتمدها وينقل منها، فكان يحاول دائما أن يأخذ من المصدر المكتوب بخطِّ مؤلِّفه أو المخبرِ عنه، وكانت غايته من ذلك التأكد من صحة المادَّة التاريخية والتثبت من دقتها؛ وذلك نحو قوله: “قرأت بخط الكندي في تذكرته”، وقوله: “وفاته بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان العسكري اللغوي”، وقوله في ترجمة أحمد بن محمد بن واجب القيسي الأندلسي المتوفى سنة ٦١٤هـ: “قرأت في فهرسته، وخطُّه عليه”، وغير هذا مما يكثر سوادُه ويتعالى سؤددُه في رائعته (تاريخ الإسلام).
خامسا: أوصي بعدم الانسياق وراء كلِّ زيادةٍ تنصُّ إحدى النسخِ رأسَها بها، وأن يبلوَ الباحثُ هذه الزِّيادة بمعيار التروِّي والحصافةِ والمسامتةِ، وأن يقيسَها -كالآسِي النِّطاسي- حتى يُدبرَ غثيثُها، ويمكثَ في الأرض ما ينفع النَّاس بإذن الله.
يقول عبد السلام هارون رحمه الله: “وقد عثرتُ في أثناء تحقيقي لكتاب (الحيوان) على عبارة مقحمةٍ في نسختين من أصول (الحيوان)؛ وهذا نصها: [كنت بعجتُ بطن عقرب إذ كنت بمصر؛ فوجدتُّ فيه أكثر من سبعين عقارب صغار، كل واحدة نحو أرزة، حرَّره أبو بكر السروكني]؛ فالأسلوب ليس للجاحظ، والجاحظ لم يدخل مصر، وعبارة [حرره أبو بكر السروكني] شاهدٌ بأن العبارة مقحمة بلا ريب”.
رحم الله عبدَه عبدَ السلام؛ فهكذا فطنة التَّحقيق وإلَّا فلَا، وهكذا بناء اللُّحمة بين النُّسخ وإلَّا ما سِواه فبترٌ وتشويهٌ!!
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: الاعتدال ص المختار ف الکتاب التی ت
إقرأ أيضاً:
د.محمد الشحي: لا أحبِّذ التصنيف الجيلي وأنظر باهتمام إلى القيم الفنية العابرة للزمن
رغم أن الدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي بدأ نظم الشعر ونشره في المجلات منذ نهاية التسعينيات، إلا أن صدور ديوانه الأول تأخَّر أكثر من ربع قرن، وقد اعتبر نفسه -بتواضع- في تمرين طويل جدًا، طوال تلك السنوات.
الديوان الذي صدر عن بيت الزبير بعنوان "مقامات لام وضمَّة ميم"، يستكشف الأبعاد الجمالية في تجربة الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، ويوقظ بعض رموز التصوف والشعر العربي الراحلين من سباتهم الطويل ويحاورهم، كما يقتنص الشعر الجميل من الأشياء التي تبدو أحيانًا عادية، بعد أن يمكِّننا من ملامسة جوهرها. في هذه المساحة نحاور الشحي حول الديوان المتميز ورؤيته للأدب العربي.
- من خلال ديوانك "مقامات لام وضمَّة ميم" تملك قدمًا حداثية وأخرى كلاسيكية.. ما تعليقك؟
• لديَّ إحداثيات خاصة نسبيًا بالمفاهيم السائلة هذه، فما الحداثة والكلاسيكية؟ هل يمكن أن نحيل النص المؤثث معماريًا على تفعيلات إلى منطقة "الكلاسيكي" بغضِّ النظر عن حمولته الشعرية وكثافته و"حداثة" ترميزاته ورؤيته الصافية؟
أعتقد أن الشعر هو اللحظة المترعة بالشجن الفتَّان وهو الدهشة التي تبحث عن المتعة والمعرفة وفق مختلف الأدوات التي لا تستسلم "لعنف السلطة"، سلطة الشكل والتنميط والمصادرة لأي جنس أو قالب، فما دام هنك تبرير نقدي وجمالي ومعرفي لتفضيلات الشاعر الظاهرة منها والمضمرة فليختر الشكل والعدة الجمالية التي يريد.
-لماذا وضعتَ قصيدتيْ تفعيلةٍ في ديوان نثري؟
• الديوان نثري كما تفضَّلت، القصيدتان لأنهما تعبِّران عن فضاء ومجال معنوي موسيقي. جاءت الأولى كأغنية للأشجار لزم معها الإيقاع الخارجي، وأما الثانية فكانت لتتماهى مع لحظة السماع في حلقات الهيام الصوفي الذي يتطلب وعيًا موسيقيًا متِّسقًا مع السياق الجمالي والإحالي، السماع هو الهيام المقفَّى، والشعر هنا كان محاولة لاكتشاف ممكناته في ترويض المواجيد والعبور إلى نواتها الطروبة.
- يبدو من خلال قصيدتي التفعيلة تمكُّنك التام من الموسيقى. هل يجب أن يتمكَّن الشاعر من كل الأدوات الشعرية قبل أن يكتب قصيدة النثر؟ *هل أردت ألا يعكس أول ديوان لك تحيُّزَك للونٍ شعري محدَّد؟
• ليس بالضرورة، قاسم حداد الذي فاز مؤخراً بجائزة الأركانة الشعرية يقول إنه لا يعرف البحور الشعرية، وهذا لم ينقص من القيمة الشعرية والأيقونية لقاسم حداد وشعريته الفارقة في مسيرته الناضحة بالجمال والعذوبة والتميز الإبداعي، المهم كما ذكرت وجود تبرير أسلوبي ونقدي وقيم فنية تحافظ على الشفرة الجمالية على مستوى المشروع الشعري أو النص الواحد.
- برغم بساطة مفردات الديوان وتأمُّلاته الجميلة إلا أن المجاز بشكله الكلاسيكي حاضر فيه.. ألم تواتِك رغبةٌ في التحرر بشكل كامل منه؟
• التحرر لا ينبغي أن يكون من المجاز بل من التعالي على الأدوات فلا تُستدعى بحجة أنه تم تجاوزها، المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها ما هي إلا أدوات لتحقيق شروط النص المضموني والنظر إلى نواته من زواياها المتعددة.
- ما الذي وجدته في تجربة شاكر حسن آل سعيد لتكون نواة لتأملاتك في هذا العمل؟
• حين تقرأ لمحمود درويش يحضر المتنبي ويوسف وأوديب، وعند أدونيس مهيار الدمشقي وجلجامش والنفَّري وعند البياتي يحضر المعرَّي والحلاج وعمر الخيام وعند عبدالعزيز المقالح وضَّاح اليمن وسيف بن ذي يزن وعند قاسم حداد الجاحظ وطرفة بن الوردة وغيرهم، في محاولة للاستعانة بتقنية "القناع" الذي يكتشف من خلاله الشاعر تخومه المعنوية والفلسفية والرؤيوية فيما لا يقوى النص مجردًا على سبره واكتشافه، منذ أمد بعيد وأنا مهجوس بالتعالق بين المنظومات المعرفية، كالشعر والتشكيل والتصوف والفلسفة، هنك مثلًا منطقة تحتدم فيها هذه المنظومات وتلتقي، منطق التماس العميقة، ذات القاع الرخامي الكثيف، وشاكر حسن آل سعيد مقيم رؤيويًا ومعرفيًا ووجوديًا في هذه المنطقة التي تحدث فيها جلبة التماس بين الأسطورة والفن والفلسفة والتصوف، هو تجربة فارقة وكونية بالمعنى الجمالي البصري، والمعنى التخريجي والنقدي فهو دائماً ما يكرِّر أن أعماله المقروءة والمرئية متواشجتان، ذهب شاكر حسن للعرفان من بابه المتمنِّع على الكثيرين وهو الحرف، واستطاع لا بالعدة الجمالية فحسب إدراك أسراره ولكن بالعدة الروحية، فالمقام هنا مقام ذوقي ومَن ذاق عرف بتعبير المتصوفة، كتابي الشعري هذا إذن كان تأملاً في التأملات وتقشيرًا "شعريًا" لطبقات اللون بحثًا عن جذور الأفكار وضراوة الالتحام بين المنظومات المعرفية في المناخ المعنوي الذي رسم إحداثياته شاكر حسن بكل كثافة وأناقة.
- ماذا أردت من وراء استدعاء الشخصيات الأيقونية كالغزالي والجيلاني والحلاج؟
• هذه الأسماء وغيرها هي عناصر المجال الحيوي المعرفي في تجربة شاكر حسن آل سعيد وهي في منزلة الحتمي الذي يتداخل بحضوره الكثيف في محاولتي الشعرية أنا أيضًا؛ لأن الكتاب تأملات في روح الفنان المبثوثة في كتبه وفي أعماله، فهي تأملات أيضًا في روافده وجداول تغذية نهره السابح في الفكرة، نحن إذن أمام جهاز اصطلاحي لشاكر حسن بأسمائه وشخوصه ومفاهيمه وعباراته وإشاراته وطقسه وإحالاته لذا لزم الاستدعاء لهذا الجهاز وعناصره الرئيسية.
- لماذا تأخَّر صدور أول ديوان لك مع أنك بدأت النشر في الصحف والمجلات منذ نهاية التسعينيات؟
• أنا أفرِّق بين التوثيق والنشر فقد كنت أنشر في الصحافة وفي مختلف الأوعية الناقلة ولكن توثيق الأعمال في مجموعة شعرية يعني الانطلاق في مشروع كتابي بما يتطلبه من عتبة تأسيسية صافية وأظن أنها تحققت في هذا العمل.
- لماذا تعاملتَ على أنك في حالة تمرينٍ طويلة على الكتابة قبل نشر الديوان؟
• الكتابة برمَّتها تمارين، تمارين على كتابة ستأتي، تمامًا كالعُرب الصوتية الناقلة للتنغيم واللحن من مقام موسيقي لآخر.
- مَن هم أبناء جيلك على مستوى عُمان أو العالم العربي؟!
• أعتقد بأن الشاعر لا يجب أن يُعنى بجيله الشعري بقدر ما يهتم وينظر فيما يمنح النص والتجربة كثافة شعرية وعمقًا ومعنى، التجييل إذن ينصرف للشعر قديمه وحديثه، موازيًا للتجربة أم سابقًا لها، لذلك لا أحبِّذ التحقيب بالأسماء بل بالقيم الفنية العابرة للزمن والتقنيات المتطورة والمستحدثة في كل حقبة.
- أنت باحث رصين كذلك.. فما تأثير الأكاديمي على الشاعر داخلك؟
• الشعر معرفة، كما هو متعة ودهشة وتخييل، الاطلاع والمقروئية في أي مجال هي مما يرفد التجربة ويغذِّي الخيال ويخدم تماسك الإحالات والدوال، كما أن الاطلاع يسهِّل تأثيث المعمار النصي على طبقته الأعمق، تلك التي تستريح في قاع البناء الشعري وينطلق منها رؤيويًا ومعرفيًا.
- لا زلت تكتب القصيدة العمودية، فما الذي يشدُّك إليها حتى الآن؟
• النص السلفي أو العمودي هو وعاء كحال باقي الأوعية الأخرى، الفكرة هي محدد المفاضلة بين الأشكال والأنواع والأوعية، الشكل هو "قصيدة بالقوة" و"فكرة بالقوة" و"المعنى المضمر بالقوة"، أستعير هنا في مصطلح الفلاسفة والمناطقة، فالشكل "يقوى" على استيعاب المعاني والأفكار وهو يأتي لاحقًا في أحايين كثيرة، بمعنى أن الجذوة الأولى بكامل أناقة دهشتها هي مَن تضع يدها على الشكل المناسب ليتحوَّل إلى معادل شعري بكل غزاراته وحمولاته، على الأقل هذه وجهة نظري.
- ما سرُّ النَفَس الصوفي في قصائدك؟
• هذه المجموعة تحديدًا تنزاح بوضوح لهذه المنطقة لأنها محاولة للتماس مع تجربة شاكر حسن آل سعيد وهو كما تعلم أقام مشروعه الجمالي على العرفان والتصوُّف بشكل عميق وآسر، من وجهة نظري، محاصرة الفكرة من عدة زوايا ومن خلال عدَّة معرفية تنهل من التصوف والفن والشعر والفلسفة يساعد على النفاذ للطبقات الأعمق في قاع الأفكار، في الشعر الصوفي مثلًا تجد شبكة ترميزات مختلفة عمَّا سواها فهي تنزع لوصف المجرَّد بالحسِّي فتشبه الحب الإلهي بكأس المدام، وفي المقابل تنزع الشعرية السائدة لتشبيه الحسِّي بالمجرَّد، وعليه فالنظر بعين العارف وروح المتصوف يريك النقطة العمياء في المعنى.
- في تقديرك، ما المختلف بين قصيدة النثر العربية ونظيرتها الغربية.. ما المشتركات الجمالية والإنسانية وما الاختلافات بينهما؟
• تجربة قصيدة النثر في الغرب تمتعت بقبول وحضور باعتبارها شكلًا من أشكال التعبير وبالتالي دخلت إلى الفضاءات النقدية باكرًا وتطوَّرت قدرتها على النفاذ للمعاني الفلسفية والذاتية والوجودية بينما تحديات الاعتراف أودت بالنص النثري في الفضاء العربي لتقديم تنازلات من قبيل الانصراف لموضوعات سياسية واجتماعية وغيرها في تمسُّح واضح للمخيال العمومي والتلقي البارد الذي تواجهه، نعم هناك تجارب متحققة خارج هذا المعنى ولكن سؤال المشروعية الجمالية كان منهكًا لقصيدة النثر طويلًا، فضل عن تباين الجذور الثقافية والمعرفية التي تنطلق منها التجربتان. أعتقد أن النص النثري لا بالمعنى الشعري الوظيفي المباشر بل بمعاني الكثافة والتخييل والجذوة التعبيرية حاضر بوضوح في أدبياتنا وتراثنا كما هو الحال في الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري والمواقف للنفَّري وغيرهم، بل حتى في القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية، تأمل هذه القاعدة الفقهية عند المالكية مثلًا: "الحياة المستعارة كالعدم"، فهناك شذريات تنطوي على كثافة أسلوبية وحمولة معرفية وجمالية لا يمكن تجاوزها، ما أردت قوله هنا، أن لدينا في تراثنا وأفقنا المعرفي ما قد يفوق التجربة الغربية ويحتضن برحابة أشكالًا إبداعية وتعبيرية أبعد بكثير من النص النثري وهذا ما سيحدث حتمًا، ولكن كيف ومتى؟ لا أعلم.
- أخيرًا.. ماذا تنتظر من الشعر؟
• في أحد نصوص المجموعة قلت: "ليسْت لديَّ أمنية قبل الموت، سوى أن أزرع شجرًة تتسلُق البيت، ثم لا تعرف طريق النزول"، وهكذا فأنا أنتظر من الشعر أن يدلَّني على الطريق لتحقيق هذه الأمنية.