هل العولمة محايدة تجاه الهوية والقيم؟
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
عندما بدأ الحديث عن العولمة وتطبيقاتها المتعددة في الاقتصاد والتنمية وعالم المعرفة والاتصال، في أواخر تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الثانية، وما تبعها من تطورات في عالم التقنيات الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي هي نتيجة طبيعية للعولمة وتأثيراتها المختلفة والمتطورة في عالم اليوم، كانت بداية ظهور هذا النموذج الذي بدأ اقتصاديا كما في بداياتها، مع اتفاقية الجات، وغيرها من الآثار التي صاحبت هذا النموذج الجديد، الذي اُعتبر مفروضاً وليس اختياراً حراً من ناحية فتح الأبواب، لكل ما تأتي به العولمة من مؤثرات وتأثيرات في العوالم الأخرى.
ومن الباحثين العرب الذين كتبوا في هذا الجانب بعد ظهور العولمة، المفكر العربي المصري د, جلال أمين، الذي اعتبر إن الذين يهللون لهذه الظاهرة الجديدة:"يقعون في رأي في خطأ فادح، فهم يفهمون العولمة أو يحاولون تصويرها على أنها تنطوي على عملية "تحرر" من ربقة الدولة القومية إلى أفق الإنسانية الواسع، تحرر من نظام التخطيط الآمر الثقيل إلى نظام السوق الحرة، تحرر من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعا، تحرر من التعصب لإيديولوجيا معينة إلى الانفتاح على مختلف الأفكار من دون أي تعصب وتشنج"، كما أن د. جلال أمين اعتبر أن هذه المعلومات التي تنساب من معلومات التي ظهرت عن العولمة بأنها(ملغّمة.. أي محملة بالألغام )!. والبعض الآخر من المتابعين والمهتمين لهذه التطورات، وهم في الأصل من المبهورين بكل ما يأتي من الغرب، بغض النظر عن ما يصاحب ذلك من مؤثرات وسلبيات، قد تلحق بمقدرات ومقومات الآمة وشخصيتها الذاتية، فأنهم اعتبروا هذه العولمة، وما يتبعها جوانب أخرى، مكسباً لا بد من قبولها، وأهمية التمسك بها، دون أن نخاف أو نتشاءم مما تنتجه من تطورات علمية أو فكرية، أو غيرها من المؤثرات المصاحبة لهذه العولمة، ومن هؤلاء المبهورين بهذه العولمة د.علي حرب الذي وصفها بأنها إحدى (فتوحات العصر الحديث)، ويتهم الناقدين للعولمة بالعجز والفشل في مناهضتهم لظاهرة العولمة حيث يخلقون المتاريس:"لكل جديد ثم يسبقهم الحدث فلا يجدي نفعا اختزال هذه الظاهرة الحضارية وهذه المنجزات التقنية إلى شكل جديد من أشكال النهب والهيمنة، بذلك تجرفنا العولمة ونتحول إلى جيب تاريخي يقع على هامشها، بقدر ما نتحدث عنها بلغة نضالية خلقية فقدت قدراتها على الفهم والتفسير. ومن يتخلى عن مهمة الفهم لا يحصد سوى العماء". وهذه الآراء المتباينة متوقعة بحسب الحمولة الفكرية لصاحبها وخلفيته الثقافية، وهي من الاختلافات الطبيعية، لكن مع ذلك نجد الكثير من بعض هؤلاء، عندما يندفعون إما بالتأييد أو الرفض يراجعون بعض ما تبنوه من رؤى فكرية بعد ذلك.
ولا شك القراءة المتأنية لكل الآراء تحدثت عن العولمة من أفكار وأحكام مسبًقة، وهو أن الغرب في كل سعيه وتحركاته، يريد أن يهيمن وأن تكون له السطوة، عندما يتم تعميم هذا النموذج عالمياً، وهذا يعطي الدليل أن كل ثقافة تريد أن تتسيد على بقية الثقافات الأخرى، وقد حدث هذا ويحدث بين كل الحضارات عبر التاريخ، ولذلك يتم الرفض لنموذج واحد أوحد، وكذلك ترفضه كل ثقافة تعتز بفكرها وثقافتها وقيمها، وحتى في الغرب نفسه هناك من يرفض تعميم النموذج الأمريكي في العولمة وشروطها على الثقافات الأخرى، أو مزاحمتها، مع أنهم ينتمون لفكر وديانة وثقافة واحدة, والجمهورية الفرنسية عندما جاءت اتفاقية الجات المتعلقة بحرية التجارة العالمية، كنتاج للعولمة، اعتبرت ذلك تهديداً لهويتها وثقافتها، ومن هنا فإنها ترى أن كل ثقافة أو هوية، تريد لنفسها أن تبقى في ضمير الأمة، وليست مهمشة من الثقافات الأخرى، وحتى الدول القريبة منها في الكثير من التجانس والتقارب، ففرنسا رفضت وانتقدت أي اكتساح من الثقافة الأمريكية، وتحدث عن ذلك حتى بعض المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، مع أنهم عادة لا يهتمون بقضايا الهويات، من خلال توجههم الفكري الذي لا يلقى بالاً لمثل هذه القضايا، كونهم متحررين كثيراً من ذلك، وأن الخلاف مع الغرب نفسه التي تجمعهم معه أهم الصلات الفكرية والسياسية، ومع ذلك استنكروا ما تفعله الولايات المتحدة من تعميم رؤيتها ونظرتها السياسية والفكرية عليهم، ومن جانب آخر ـ وهذه من إشكالية التقلبات الفكرية والسياسية، في النظرة كما تفعلها فرنسا من جانبها تجاه من تنتقده، وما تفعله هي بنفس الطريقة تجاه الآخرين، ولذلك تتحرك هي نفسها بقوة وأكثر تجاه دول أخرى، في محاولة فرض نموذجها الثقافي والفكري على الآخرين، مع انتقادها أمريكا في تعميم نموذج العولمة عليها، خاصة في بعض البلدان العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوبها من خلال تعميم (الفرانكفونية) اللغة الفرنسية وثقافتها، ومما قاله وزير الثقافة الفرنسي الأسبق في أحد المؤتمرات الدولية، مهاجماً الولايات المتحدة من أنها علمتنا قدراً كبيراً من الحرية، ودعت الشعوب إلى الثورة على الطغيان، أصبحت لا تملك اليوم منهجاً أخلاقياً سوى الربح، وتحاول أن تفرض ثقافة شاملة على العالم أجمع" ـ وأضاف قائلاً " أن هذا هو شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، بل يصادر الضمائر ومناهج التفكير وطرق العيش".
ولا شك أن هذه النزعة التوسعية في الهيمنة التي شعر بها الأقربون من الغرب، فما بال الدول البعيدة البعيد والمختلفة مع الغرب في جوانب كبيرة وخاصة العلم العربي والإسلامي، ودول أخرى كثيرة، ومنها حتى الدول في آسيا تتحدث عن اختراق لثقافتها وهويتها الفكرية، ومنها حتى الصين، فهذه النزعة التي يسخًرها الغرب لتحطيم الثقافات والهويات الأخرى، هي مسألة واقعية، وليست مجرد توهمات أو مجرد توقعات، كما أن العولمة وإن كان الجانب الاقتصادي يأخذ الأولوية لهذا الجانب، لكن العولمة ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية، وتسعي لإزاحتها من التأثير لدى هذه الشعوب، ولكنها تبرر هذا الاكتساح العملاق من القدرات والإمكانيات لديها، بمقولات حديثة وجذابة، مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية، وغيرها من المفاهيم التي لا شك في جاذبيتها ظاهرياً، لكن البعض يشكك في هذه المقولات ويعتبرها مجرد طرح فضفاض ومغاير للواقع، الذي تستهدفه هذه العولمة، وما سبقها من مفاهيم في هذا السياق، ولا شك أن أية ظاهرة من الظواهر الإنسانية، ومنذ فجر التاريخ وحتى عصرنا، فيها من الايجابيات وفيها من السلبيات، وليست تحمل إلا جانباً واحداً مما تحمله، ولكنها في المقابل تقاد من عقول لهم فكرهم ورؤيتهم وثقافتهم، وهي واقع نعيشه، سواء أردنا أم لم نرد، لكنها تدار من أشخاص يريدون مصالحهم ورؤيتهم الخاصة، وفيها الجانب السياسي والاقتصادي والفكري، ويملكون أيديولوجية لا تخفى على المتابع الحصيف، فالمخاوف من هذا التمدد والاكتساح واقعة، من هنا تأتي أهمية الفرز والانتقاء، مما نأخذه، ومما يجب تركه والتحذير والانتباه له.
والبعض بتحدث عن أهمية التفاعل الحضاري، كضرورة إنسانية، وهذا رأي مقبول في مسألة التفاعل مع الثقافات الأخرى، ورفض الانغلاق والانكفاء على الذات، وهو أيضاً مستحيل أن يحصل في عصر هذا الانفتاح الكبير، لكن هناك فارقاً كبيراً بين التفاعل الحضاري، والتبعية الحضارية من قبل ثقافة أخرى، كونها ضد التميز والإبداع، وهو ما ينبغي يسود في كل الحضارات والثقافات.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بغداد إلى الترقيم الانتخابي: سباق الهوية والسلطة من بوابة “الرقم واحد”
11 يوليو، 2025
بغداد/المسلة: تمضي بغداد نحو الانتخابات السادسة منذ سقوط نظام صدام حسين، حاملةً فوق أكتافها أوزار التاريخ وتناقضات الحاضر، لا كعاصمة إدارية لدولة مركزية، بل كساحة رمزية يتنازعها مشروعان، لا يقلّان ضراوة عن النزاعات المسلحة التي عرفتها المدينة منتصف العقد الأول من القرن الحالي.
ويتحول التنافس في بغداد، التي تُعدّ اليوم الثقل السكاني والرمزي الأكبر في العراق، إلى “معركة هوية”، تتجاوز الأوزان الحزبية والتمثيل النيابي، لتعيد إنتاج الأسئلة الكبرى التي لم يُجب عنها الدستور العراقي منذ 2005، رغم مرور عقدين على ولادته المثقلة بالتوافقات الخارجية والصفقات الداخلية.
ويُستشعر في الحملات الانتخابية خطاب مستتر عن إعادة ترسيم خرائط السيطرة الطائفية، تحت عناوين وطنية أو تنموية أو إصلاحية، في وقت تخلّت فيه قوى رئيسية عن ساحة المنافسة، أبرزها “التيار الصدري”، الذي لا تزال بوصلته معلّقة على شرط التغيير الجذري، مما يمنح اللاعبين المتبقين فسحة واسعة لإعادة هندسة “الرقم واحد” في العاصمة.
وتبدو المفارقة جلية في كون أبرز المتنافسين على قيادة بغداد ليسوا من أهلها، وهو ما يُعيد إلى الواجهة سرديات ما قبل الدولة حول “ملكية العاصمة”، التي طالما تغذّت على الصراعات المذهبية والعرقية منذ انهيار الملكية، ومروراً بسنوات ما بعد 2003، حين تحولت أحياؤها إلى خطوط تماس مذهبي، قبل أن تُعاد هيكلتها أمنياً وديموغرافياً بيد الداخل والخارج.
ويتموضع نوري المالكي اليوم على تخوم العودة، مدعوماً بسابقة “الكتلة الأكبر” عام 2010، التي وضعت حجر الأساس لتحويل بغداد إلى “غنيمة دستورية”، لا مجرد دائرة انتخابية، في وقت يسعى فيه رئيس الحكومة الحالي محمد شياع السوداني، ورئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، لاقتحام معركة لا تُحسم بالصناديق وحدها، بل بتحالفات اللحظة الأخيرة وتفسيرات القضاء والسياسة.
وتُشير أرقام مفوضية الانتخابات إلى زخم غير مسبوق في الترشيح داخل العاصمة، حيث يتنافس أكثر من 2300 مرشح على مقاعد بغداد، مما يعكس حجم الرهان السياسي على هذه الدائرة، ليس فقط بوصفها قلب العراق، بل كمعمل لاختبار توازنات ما بعد “الكتل التقليدية” والاصطفافات الطائفية الخشنة.
وتغيب عن الخطاب الانتخابي سردية وطنية قادرة على تجاوز لحظة الانقسام، في ظل دستور كُتب تحت استعجال الاحتلال، وأُقرّ رغم الاعتراض الشعبي، وتحوّل مع الزمن إلى مرجع لأزمات مزمنة لا إلى عقد اجتماعي جامع.
ويبدو أن “اغتيال الدستور” بدأ لحظة وُلد، واستُكمل عبر ممارسات تفسيرية فتحت الباب لتغليب التحالفات على النتائج، والنيات على النصوص.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts