ثمة مفاهيم تجعل منها الأُلفة والعادة والتقليد ما يدرج معناها في حيز البداهة التي لفرط عاديتها قد تمنع المرء من النظر إلى الحقائق الكامنة ما وراء تلك المفاهيم.
وإذا كانت القيم الدينية وأمثال الشعوب قد عممت خلاصات حكيمة في مقولات رمزية مكثفة حول معنى القرابة، بحيث بدت هي الأخرى لفرط تداولها حقلاً دلالياً مستهلكاً، فإن ما لا ينتبه له الكثيرون هو أنه أحيانا تكمن القيمة والمعنى في ذات منطوق المفهوم الذي متى ما تأمل الفرد فيه بعقل واع مدرك لعرف الكثير من أسرار المعاني!
الدلالة التي تدلنا عليها كلمة "حميم" ربما كانت من أعمق الدلالات التي يمكن أن نكتشف من خلال استعمالاتها معنى الحميمية الذي يتأوله كثيرون في معانٍ جميلة تعكس الألفة والمحبة، فهناك الصديق الحميم، لكن متى ما تأملنا في الكلمة سنجد أن كلمة حميم تدل في معناها على القريب جداً.
ولهذا فإن القرابة في الحقيقة علاقة حميمة تنطوي على قيمة ومعنى لا يمكن تجديد دلالته إلا بنقله وتأمله في حقول تكشف معناه المحدد، فالصديق الحميم هو الصديق المقرب، وكذلك العلاقة الحميمة هي في مطلق معناها علاقة تعكس القرب الشديد.
هذه الدلالة التي يتناسها الكثيرون ويمارسون انزياحاً لا واعياً عن حقل دلالتها الأصلية التي اشتقت منها وهي القرابة؛ تعد علاقة تحتاج باستمرار إلى إعادة فحص تنسيب لقيمتها من خارج مناظير الرؤية التقليدية، فالأِلف والتقليد يعميان المرء عن الحقائق.
علاقة القرابة قد لا تحتاج إلى تعريف لفرط حميميتها، فإذا قلت لأحدهم أن فلانا شقيقي لن يحتاج منك إلى المزيد كي تشرح له لأنه سيدرك على الفور كل المعاني التي تتداعى في ذهنه مجرد أن يدرك مستوى علاقة القرابة بينك وبين شقيقك.
علاقة القرابة لا تحتاج، إذاً، إلى شرح، لكن ما يحتاج إلى ذلك هو التأمل في دلالاتها فالبديهة والإلف أحيانا يسقطان من حساب المرء ضرورة الانتباه إلى استحقاق القرابة وتثمين قيمتها باستمرار، فقيمة القرابة في كونها علاقة حميمة هي الأخرى لا تحتاج إلى تعريف فائض عن معناها، لكن بوصفها قيمة ينبغي أن تكون دائمة الاستحضار في وعي الفرد لدائرة العلاقات الحميمة التي تجمعه بأقاربه.
وإذا ما بدت مجرد علاقة القرابة للناس في أزمنة ماضية علاقة لا يحتاج الفرد إلى إدراك قيمتها نظراً للعلاقات القوية التي كانت تجمع الأسر الممتدة والمجمعات القبلية التي كانت هي الإطار الأوسع لدائرة القرابة بوصفها منظومة تكترث لصيانتها وحقوق أفرادها بمجرد تلك الصلة القرابية الصريحة.
هناك مفهوم آخر يرادف معنى القرابة وتكشف دلالته عمق العلاقة مع كلمة القرابة والحميمية، ونقصد به مفهوم: "الرحم" الذي هو مشتق من مصدر الرحمة، فالرحمة أيضاً مفهوم لا يحتاج إلى شرح لأن معناه القائم بذاته على دلالته لا يحتاج إلى مزيد.
والعلاقة بين القرابة والرحم تكشف لنا طبيعة المعنى العميق بينهما وحقيقته، إذ سنرى بشكل واضح جداً أن علاقة القرابة بوصفها رحم تقتضي معنى الحميمية والرحمة التي هي أعلى مراتب العلاقات الطيبة العليا بين البشر.
إن علاقة الرحم في ارتباطها بالإرث في التشريع القرآني تعكس معنىً شرعيا عميقا لمفهوم القرابة لكن لها وجه آخر في التشريع القرآني ذاته أي تلك التشريعات العقابية التي تنجم عن إخلال بالفرد بعلاقة القرابة كقطع الرحم وعصيان الوالدين.
إن القيمة التي تفسر لنا قوة علاقة القرابة ودلالتها وإيجابية معناها نجدها في حديث الجار الذي قال فيه النبي الكريم "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه" فالتشديد على علاقة الجيرة إلى الدرجة التي أوشكت أن تترفع إلى مصاف القرابة حديث عميق في شرح المعنى الفلسفي للقرابة؛ ولهذا فإن معنى القرب هنا بوصفه مفهوم عام يجد له دلالة حتى في الصديق والجار، بمعنى أن الجار الجنب يصل إلى مرتبة أهم من القريب البعيد، ولعل هذا المعنى هو الذي نستشفه من حكمة الأحنف بن قيس التميمي حين وأد الفتنة بحكمته في مهدها بين قبيلتي تميم والأزد عندما شجر بينهما خلاف في البصرة، بقوله مخاطباً الأزد: "يا معشر الأزد؛ والله أن أزد البصرة أقرب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أقرب إلينا من تميم الشام".
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كريم خالد عبد العزيز يكتب: قوة المقاومة.. مفتاح التغلب على التحديات
المقاومة جزء لا يتجزأ من حياتنا، بها نتغلب على الصعوبات، نتخطى العراقيل، ونجتاز الأحزان .... مقاومة الضغوطات النفسية تعزز من قوتنا الداخلية وتمكننا من الاستمرار في مواجهة الحياة بكل تحدياتها .... المقاومة ليست فقط سلاحًا نحارب به الطاقات السلبية، بل هي أيضًا دليل على قوة الشخصية واستطاعتها التغلب على التحديات .... عندما نقاوم، نثبت لأنفسنا وللآخرين أننا أقوياء وقادرون، لأن المقاومة تعزز من ثقتنا بأنفسنا وتجعلنا نواجه المواقف الصعبة، مما يجعلنا أكثر قدرة على تحقيق أهدافنا والوصول إلى ما نريد في الحياة.
الضعفاء الذين لا يستطيعون المقاومة غالبًا ما يكونون عرضة للاستغلال والظلم في حياتهم، وهذا ما يجعلهم يستسلمون بسهولة .... هؤلاء الأشخاص قد يحتاجون إلى دعم ومساندة من الآخرين لمساعدتهم على المقاومة من أجل التغلب على تحدياتهم والوصول إلى حياة أكثر استقرارًا ورفاهية .... علينا أن نقدم الدعم والمساعدة والمساندة لهؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيعون المقاومة؛ يمكننا مساعدتهم على بناء قدراتهم وتحسين ظروف حياتهم، حتى لو من خلال النصيحة، وذلك أضعف الإيمان.
ورغم تأثير المقاومة الإيجابي على حياة الفرد، هناك نوع من المقاومة يجب تجنبه، أو ما يعرف بالمقاومة السلبية، على عكس المقاومة النشطة التي يجب أن نطبقها .... المقاومة السلبية هي المقاومة بالتجنب والإهمال والإنكار والتجاهل، ومن ثم الهروب من المشكلة الحقيقية. هذا النوع يوفر للشخص راحة مؤقتة، ثم يزيد فيما بعد عليه الضغوطات .... أما المقاومة النشطة فتتضمن إجراءات فعّالة وردود أفعال حازمة لمواجهة ما يعكر صفو أيامنا سواء بالإصرار على الفرح، أو إيجاد حلول لمشكلة تحتاج لحل أو هجوم من شخص يحتاج لردع .... علينا أن نميز جيدًا بين المواقف وندرك أن هناك مواقف تحتاج منا رد فعل بالتجاهل، وهناك مواقف أخرى تحتاج منا رد فعل قوي.
تطبيق المقاومة النشطة في حياتنا هو أفضل خطوة لحياة إيجابية وصحية، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك بعض المواقف الاستثنائية تحتاج إلى تجاهل، وهذا لا يعني تبني فكرة المقاومة السلبية .... قاوموا الطاقات السلبية في حياتكم والضغوطات النفسية لتكونوا قادرين وأقوياء.