وقـر في أذهان أكثر دارسي العولمة أن الأخيرة واقعةٌ كونية عابرة لحدود الدول والقوميات، وأن مما يعتاص على المرء - لهذا السبب - أن ينسبها إلى دولةٍ بعينها من الدول الكبرى المنخرطة فيها، محاولا البحث لها عن الموقع الذي تحتـله داخل الاستراتيجيات العليا لتلك الدولة. إن كونية الظاهرة - وهي مسلمة عند هؤلاء - تنـتـقض ما إن يشـرع في البحث في صلاتها بسياساتٍ بعينها تأتيها دولٌ أو دولةٌ ما، لأن من شأن مثل ذلك البحث - كما يظن - أن يعيد العولمة إلى نطاقات قومية لا تناسب طبيعتها كظاهرةٍ نزاعة إلى الخروج عن الحدود السياسية والاقتصادية المألوفة و، بالتالي، لا يفضي إلى قراءتها على النحو الأصـوب والأنسب.
هذا كان واحدا من أسبابٍ عدة قادت إلى إشاعة اعتقادٍ متسرع بأن العولمة آذنت بميلاد حقبةٍ جديدة في العالم هي حقبة «ما بعـد القوميات»؛ الحقبة التي تتوقف فيها فاعليات الدولة القومية - أيـا كان حجمها ومهما عظم شأنها - عن إنتاج حقائق عالمية كبرى فائضة عن حدودها لتصبح، هي بدورها، موضع أثـرٍ لفواعل كبرى من خارجها. وليس مستغربـا أن ينجب هذا اليقين بحلول حقبةٍ ما بعد قوميةٍ سيلا من «مفاهيم» نظيرٍ تدور على النهايات أو على «المابعديات» من طراز: ما بعد الدولة؛ ما بعد المجتمع؛ ما بعد السيادة؛ ما بعد الإيديولوجيا؛ ما بعد الصناعة... إلخ؛ فلقد بدا العالم «الجديد» الذي فتحته نهاية حقبة الحرب الباردة وانطلاقة الموجات الأولى للعولمة عالما «ما بعديـا» يتجاوز نظام الما قبل في ميادينه وتجلياته كافـة ويحدث قطيعة نهائية معه، ذاهبا إلى أفق عالمي مفتوح لا تحده حدودٌ أو تفصل بينه عوازل.
ما كان يسع مثل هذه الرواية عن الأس «الكوني» للعولمة أن تصمد طويلا، لا لأنها لم تكن قادرة على تبرير صدقيـتها من طريق تبرير مطابقة الاسم للمسمى به، فقط، بل لأن منشأ العولمة نفسه يكذبها ويكشف زيف القول بها؛ إذ ما من أحدٍ يملك أن يتجاهل نسب العولمة الأول الذي كشف عنه اقترانها بقوى عالمية ثلاث، في مطالع تسعينيات القرن العشرين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، أوروبا (خاصة ألمانيا وبريطانيا). كما أن أحدا ليس يذهل عن حقيقة نجاح دولٍ أخرى كبيرة في المنافسة على العولمة - في العقدين الماضيين - مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، وفي إضفاء شخصيتها الثـقافية والقيمية عليها. وهذا مما يدلـنا على أن فصل العولمة عن منابتها القومية ليس بالمسلك المفضي إلى إحسان قراءة طبيعتها بما هي ظاهرةٌ أنتجتها الدولة القومية (= الدول الكبرى) تعبيرا عن ميلها إلى مجاوزة نفوذها نطاق حدودها القومية الضيقة. نحن، هنا، أمام حقيقتين ربما كانتا في أساس ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن العولمة نشأت خارج الرحاب القومية، وجسدت لحظة القطيعة بين كونيةٍ تمثلها وقومية ولجت، بالتـبعة، طور التلاشي التدريجي:
أولى الحقيقتين أن خلطا مؤكـدا حصل، داخل تلك الرواية «الكونية» عن العولمة، بين المفاعيل والنتائج الكونية للعولمة من جهة، والديناميات الدولـتية القومية التي أطلقت فعلها من مراكز قومية بينها، من جهة أخرى، فكان أن حمل المعطى الثاني التأسيسي - حملا غير مشروعٍ - على معطى كونية نتائجها، فـبدا كما لو أنها كونية المنشأ أيضا. ما يقال عن العولمة، في هذا النطاق، يقال عن كل ظاهرةٍ نظيرٍ بدأت قومية وأنجبت نتائج كونية، ومن ذلك - مثلا- ظاهرة الاستعمار. من ينكـر أن فعـل الاستعمار فعـلٌ أوروبي بامتياز، منذ الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية في بدايات القرن السادس عشر وعلى امتداد القرن كله؟ من ينكر أن دولا أوروبية بعينها كانت مهدا لحركة استعمار العالم (إسپانيا، البرتغال، بريطانيا، فرنسا)، قبل أن تلتحق بها أخرى من أوروبا (إيطاليا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا...) ومن خارج أوروبا (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان)؟ لقد نشأت فكرته في بيئات قومية وثقافية بعينها (= في نطاق عقيدة المركزية الأوروبية)، لكن اندفاعته إلى خارج الحدود القومية وإطباقـته على بلدان القارات الأربع غير الأوروبية سرعان ما حوله إلى ظاهرة ذات نتائج كونية مست العالم برمته. هي هذه، أيضا، حال العولمة بين منطلقاتها القومية ونتائجها الكونية.
وثانيهما أن فكرة التجافي الماهوي بين القومي والكوني في العولمة ليست تصح على مراكز العولمة بل على هوامشها وأطرافها. هي لا تصح على الدول/القوميات الكبرى التي تنتج حقائق العولمة لسببٍ معلوم أن نتائج تلك العولمة تصب في رصيد تلك الدول، بل تزيد من تعظيم مواردها وقواها بما يعـزز مراكزها القومية في العالم. لذلك لا محل للقول بقطيعة العولمة مع حقبة نموذج الدول القومية الكبرى. وليست تلك حال هوامش العولمة وأطرافها من كيانات الدول الوطنية أو القومية الصغرى؛ ذلك أن هذه الدول والكيانات القومية الصغرى - أو الضعيفة - هي أول من يدفع أثمان تلك العولمة الزاحفة على داخلها الاقتصادي والسياسي الوطني، المطيحة بسياداتها، بل كثيرا ما تأتي على كيان الدولة فيها بمعاول الهدم. إن قياس العلاقة بين القومي والكوني في العولمة على مقاس حالة البلدان والوطنيات الصغرى ليس أساسا صالحا لترتيب قاعدةٍ عامة عليه وسحبها على حالات البلدان والدول والأمم كافـة.
هذا التدقيق في الحدود بين القومي والكوني في العولمة ضروري لبناء جملةٍ من الموضوعات التي يبـنى عليها تفكيرٌ دقيق في مسألة العولمة، وفي جملتها: التشديد على الإطار المرجعي القومي للعولمة؛ النظر إليها بما هي تعبير عن علاقاتٍ متغيرة بتغير موازن القوة بين الدول. هذه أسسٌ لا غنى عنها لتأسيس قراءة واقعية وتاريخية للعولمة بوصفها ظاهرة تجاذبٍ وصراع لا كما يرغب كثيرون في تقديمها في هيئةٍ قدرية ميتاتاريخية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما بعد
إقرأ أيضاً:
معلومات الوزراء يصدر عددا من نشرة القاعدة القومية للدراسات متعلقة بتكتل البريكس
أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، عددًا جديدًا من نشرته الشهرية القاعدة القومية للدراسات، الذي جاء بعنوان «قائمة ببليوجرافية عن البريكس وخلاصة توصيات الدراسات».
وأوضح المركز أن النشرة تحتوي على 16 بيانًا باللغة العربية بشأن تكتل البريكس والمتاحة على قاعدة بيانات الدراسات عن مصر حتى عام 2024، كما تقدم النشرة خلاصة توصيات هذه الدراسات التي صدرت عن مجموعة من الجهات البحثية والأكاديمية.
وأوضح مركز المعلومات أن التكتلات الاقتصادية الدولية تعتبر من أهم أركان النظام الاقتصادي الدولي المعاصر سواء كانت اقتصادية خالصة مثل الميركسور، أو ذات طابع متعدد الأطياف مثل الاتحاد الأوروبي.
وبين أن الانضمام إلى التكتلات الدولية أصبح عاملًا مهمًا من عوامل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومنها تكتل مجموعة بريكس الذي تعد من أهم التكتلات الدولية وأكثرها حداثة، وإحدى أسرع الأسواق العالمية نموًا في العالم ليس فقط من الناحية الاقتصادية ولكن أيضًا من الناحية السياسية، كما أن تأسيس مجموعة البريكس ومعدلات النمو الاقتصادي السريع لأعضائها يزيد وتيرة التحول التدريجي في مركز الثقل للتوازن الاقتصادي العالمي، كما أن ذلك يدعم الحاجة إلى سرعة تشكيل نظام اقتصادي دولي جديد والاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب لإحداث توازن أمام القوة المطلقة لعدد قليل من الدول الصناعية.
وأضاف المركز أن عدد النشرة هذا يقدِّم مجموعة من الدراسات الصادرة عن المراكز البحثية المختلفة حول موضوع البريكس وأبرز توصياتها والتي جاء منها، تشجيع الحوار السياسي بين قادة الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة بريكس والقارة الإفريقية من أجل بناء شراكات صناعية حقيقية لدفع تحول الطاقة، وإنشاء فريق عمل يضم مجموعة من الخبراء في مجال الطاقة في مصر ومجموعة دول بريكس والاتحاد الأوروبي، لمناقشة السياسات اللازمة لتعزيز عملية التحول إلى الطاقة النظيفة والمتجددة على المستويين الإقليمي والثنائي، وكذلك من أجل التقريب في وجهات النظر المتباينة بين الاتحاد الأوروبي ودول بريكس والقارة الإفريقية بشأن تحول الطاقة، فضلًا عن وضع خريطة طريق مشتركة تتناول مشروعات الطاقة المتجددة، وتسمح بتقسيم التكاليف ومخاطر الاستثمار، فضلًا عن توسيع الفرص السوقية ودعم احتياجات إفريقيا على نحو أفضل.
بجانب عقد اجتماع وزاري سنوي تستضيفه مصر بين دول مجموعة بريكس والاتحاد الأوروبي حول تحول الطاقة في العالم وإفريقيا فضلًا عن تشجيع المبادرات التي يطلقها القطاع الخاص ذات الصلة مثل إقامة منتدى للطاقة النظيفة ما قد يتمخض عنها المزيد من المبادرات المشتركة الملموسة، زيادة التعاون التنظيمي بين مصر من جهة، وبين كل من مجموعة دول بريكس والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى لتحقيق الترابط بين البنية التحتية لنقل الكهرباء ودعم تطوير الطاقة المتجددة وزيادة كفاءة الطاقة وتعزيز إنشاء أسواق تنافسية تتيح التجارة في الطاقة المتجددة دون قيود على الصادرات أو تشوهات في الأسعار.
فضلا عن تطوير الشراكة بين مصر من جهة وبين كل من مجموعة دول بريكس والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى في التمويل المستدام بما في ذلك الشراكة بين المؤسسات المالية المصرية والأوروبية والصينية والخليجية بما يحقق الموازنة بين الاستثمارات الأوروبية والصينية والخليجية، إنشاء مؤسسة بحثية متخصصة تسمح بتبادل الخبرات بين مصر ودول بريكس والاتحاد الأوروبي في مجال سياسات تحول الطاقة واستكشاف فرص التعاون الثلاثي، دعوة الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة بريكس، خاصة الصين والسعودية والإمارات، إلى تقديم الدعم المالي والفني لمشروع الربط الكهربائي بين مصر واليونان وقبرص والربط الكهربائي بين مصر والسودان، وغيرها من مشروعات طموحة في هذا المجال.
بالإضافة إلى تعزيز التعاون الثلاثي بين مصر ودول بريكس والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بزيادة الاستثمار في سلاسل التوريد من أجل تحفيز مشروعات تحول الطاقة وتشجيع البحث والابتكار في علوم وتكنولوجيا الطاقة وبناء القدرات والمهارات اللازمة على كلا المستويين سواء الفني أو الحكومي في مجال الطاقة المتجددة وتقنيات تحول الطاقة.
ولفت إلى تدشين مبادرة جديدة لتعزيز التعاون بين دول بريكس بشأن الحياد التكنولوجي والدعوة إلى اعتماد معايير وقواعد مشتركة وفعالة وواضحة وعادلة وشفافة لتقييم الانبعاثات ووضع تصنيفات متوافقة للمشروعات المستدامة وكذلك حساب وحدات الكربون ودفع التعاون البحثي والفني المشترك ضمن منصة التعاون في أبحاث الطاقة لمجموعة بريكس.
ونوه بأن تعزيز سياسات الاستثمار الأجنبي في مصر للحفاظ على استقرار وجاذبية البيئة الاستثمارية والتركيز على تطوير البنية التحتية والسياسات التي تشجع التجارة البينية مع دول بريكس، ودعم الشراكات والمشروعات البحثية متعددة الجنسيات لتعزيز التفاهم وتبادل الخبرات بين مصر ودول مجموعة بريكس وتشجيع تبادل الوفود التجارية والفنية والبحثية بين مصر وهذه الدول لإنشاء شبكات اتصال تفضي إلى إقامة مشروعات مشتركة وتعميق دراسة الآثار المتوقعة للتحولات الجيوسياسية الناتجة عن انضمام مصر إلى هذه المجموعة وكيفية تأثيرها في السياسات الاستثمارية والاقتصادية محليًا.
بالإضافة إلى القيام بمقارنات بين مصر والدول الأخرى التي انضمت حديثًا لمجموعة بريكس للتعلم من تجاربهم وتحديد أفضل الممارسات وتحليل الآثار المحتملة على التوازن السكاني والبيئي في مصر نتيجة للتدفقات الاستثمارية الجديدة.
فضلا عن تفعيل دور القطاع الخاص من خلال إشراكه في عملية التنمية الاقتصادية بتوجيه استثماراته داخل مجموعة البريكس مع تقديم ضمانات وعوامل جذب تجعل المستثمر أكثر ميلًا إلى الاستثمار داخل التكتل، والعمل على تعديل السياسات التجارية التصديرية للتغلب على المنافسة داخل مجموعة البريكس.
واظهر الفصل بين الجوانب السياسية والجوانب الاقتصادية قدر الإمكان، والتركيز على المكاسب الاقتصادية، والسعي إلى توقيع أكبر قدر من اتفاقيات التجارة التفضيلية مع الدول الأعضاء في التكتل لفتح المزيد من الأسواق أمام الصادرات المصرية، والعمل على إنشاء خطوط ملاحية مباشرة بين مصر ودول البريكس، لتسهيل حركة رجال الأعمال، وإزالة كافة المعوقات كافة أمام حركة التجارة والاستثمار، بشرط أن تكون المعاملة بالمثل.
بجانب تعزيز تمويل التجارة والاستثمار داخل المجموعة من خلال إنشاء آليات تمويل مشتركة مع تشجيع حركة رأس المال والاستثمارات المشتركة وتنفيذ مشروعات بنية تحتية مشتركة في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات وإزالة العوائق الجمركية وغير الجمركية أمام التجارة والاستثمار بين دول المجموعة، وتنويع مصادر الطاقة في مصر والاستفادة من الخبرات التقنية لدول البريكس في هذا المجال مع تطوير البنية التحتية والخدمية، واعتماد سياسات نقدية ومالية مرنة في مصر للتكيف مع المتغيرات الاقتصادية العالمية والإقليمية والتنسيق مع دول البريكس لوضع استراتيجية موحدة لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية مع تفعيل دور القطاع الخاص في مصر وإشراكه بفاعلية في عملية التنمية الاقتصادية والاستفادة من البريكس من خلال إنشاء مجلس أعمال مصري - بريكس لتمثيل القطاع الخاص والتنسيق بينه وبين الحكومات.
ولفت إلى العمل على رفع القدرة الإنتاجية لمصدري الحاصلات الزراعية الخضرية والانتباه لتفادي مخاطر التركز الجغرافي الشديد المتمثلة في الضغوط السياسية أو الاقتصادية.
بجانب وجود شراكة حقيقية بين مصر والبرازيل عبر مضاعفة حجم التبادل التجاري ورفع معدل تدفق الاستثمارات البرازيلية إلى مصر بما يؤسس لتعاون حقيقي، مع اعتبار أن الانطلاق نحو البرازيل يجب أن يبنى على أسس من الجدية والاستمرارية والدراسة الموضوعية للفرص والمصالح المشتركة، وفتح السوق البرازيلية أمام الصادرات المصرية والاستفادة من التجارب البرازيلية الناجحة في شتى المجالات والسعي إلى الاستفادة من تجربة البرازيل في مجال الزراعة.
والاستفادة من الخبرات الصينية والهندية في مجالات المفاعلات الصغيرة، والاستفادة بالخبرات والتجارب البرازيلية والهندية في مجالات تحقيق الأمن الغذائي والتنمية الريفية واستخدام الطاقة المتجددة لتقليص الاعتماد على السولار وكذا الاستفادة من تميز دول البريكس بوجود قطاع مصرفي ضخم لديها وفتح أفرع له في مصر لما سيوفره من فرص لتمويل المشروعات التي تعتزم إنشاءها خاصة في منطقة قناة السويس.
اقرأ أيضاًمعلومات الوزراء يستعرض تقرير «كابيتال إيكونوميكس» حول التوقعات الاقتصادية العالمية 2025
«معلومات الوزراء» يكشف قصص نجاح الاستثمارات باقتصادية قناة السويس.. فيديو
معلومات الوزراء يستعرض مستقبل مراكز الفكر في عصر الذكاء الاصطناعي
معلومات الوزراء يطلق العدد الثامن من مجلة «آفاق صناعية» تحت عنوان «الصناعات الدوائية»