لجريدة عمان:
2024-12-18@17:05:25 GMT

القومي والكوني في العولمة

تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT

وقـر في أذهان أكثر دارسي العولمة أن الأخيرة واقعةٌ كونية عابرة لحدود الدول والقوميات، وأن مما يعتاص على المرء - لهذا السبب - أن ينسبها إلى دولةٍ بعينها من الدول الكبرى المنخرطة فيها، محاولا البحث لها عن الموقع الذي تحتـله داخل الاستراتيجيات العليا لتلك الدولة. إن كونية الظاهرة - وهي مسلمة عند هؤلاء - تنـتـقض ما إن يشـرع في البحث في صلاتها بسياساتٍ بعينها تأتيها دولٌ أو دولةٌ ما، لأن من شأن مثل ذلك البحث - كما يظن - أن يعيد العولمة إلى نطاقات قومية لا تناسب طبيعتها كظاهرةٍ نزاعة إلى الخروج عن الحدود السياسية والاقتصادية المألوفة و، بالتالي، لا يفضي إلى قراءتها على النحو الأصـوب والأنسب.

هذا كان واحدا من أسبابٍ عدة قادت إلى إشاعة اعتقادٍ متسرع بأن العولمة آذنت بميلاد حقبةٍ جديدة في العالم هي حقبة «ما بعـد القوميات»؛ الحقبة التي تتوقف فيها فاعليات الدولة القومية - أيـا كان حجمها ومهما عظم شأنها - عن إنتاج حقائق عالمية كبرى فائضة عن حدودها لتصبح، هي بدورها، موضع أثـرٍ لفواعل كبرى من خارجها. وليس مستغربـا أن ينجب هذا اليقين بحلول حقبةٍ ما بعد قوميةٍ سيلا من «مفاهيم» نظيرٍ تدور على النهايات أو على «المابعديات» من طراز: ما بعد الدولة؛ ما بعد المجتمع؛ ما بعد السيادة؛ ما بعد الإيديولوجيا؛ ما بعد الصناعة... إلخ؛ فلقد بدا العالم «الجديد» الذي فتحته نهاية حقبة الحرب الباردة وانطلاقة الموجات الأولى للعولمة عالما «ما بعديـا» يتجاوز نظام الما قبل في ميادينه وتجلياته كافـة ويحدث قطيعة نهائية معه، ذاهبا إلى أفق عالمي مفتوح لا تحده حدودٌ أو تفصل بينه عوازل.

ما كان يسع مثل هذه الرواية عن الأس «الكوني» للعولمة أن تصمد طويلا، لا لأنها لم تكن قادرة على تبرير صدقيـتها من طريق تبرير مطابقة الاسم للمسمى به، فقط، بل لأن منشأ العولمة نفسه يكذبها ويكشف زيف القول بها؛ إذ ما من أحدٍ يملك أن يتجاهل نسب العولمة الأول الذي كشف عنه اقترانها بقوى عالمية ثلاث، في مطالع تسعينيات القرن العشرين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، أوروبا (خاصة ألمانيا وبريطانيا). كما أن أحدا ليس يذهل عن حقيقة نجاح دولٍ أخرى كبيرة في المنافسة على العولمة - في العقدين الماضيين - مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، وفي إضفاء شخصيتها الثـقافية والقيمية عليها. وهذا مما يدلـنا على أن فصل العولمة عن منابتها القومية ليس بالمسلك المفضي إلى إحسان قراءة طبيعتها بما هي ظاهرةٌ أنتجتها الدولة القومية (= الدول الكبرى) تعبيرا عن ميلها إلى مجاوزة نفوذها نطاق حدودها القومية الضيقة. نحن، هنا، أمام حقيقتين ربما كانتا في أساس ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن العولمة نشأت خارج الرحاب القومية، وجسدت لحظة القطيعة بين كونيةٍ تمثلها وقومية ولجت، بالتـبعة، طور التلاشي التدريجي:

أولى الحقيقتين أن خلطا مؤكـدا حصل، داخل تلك الرواية «الكونية» عن العولمة، بين المفاعيل والنتائج الكونية للعولمة من جهة، والديناميات الدولـتية القومية التي أطلقت فعلها من مراكز قومية بينها، من جهة أخرى، فكان أن حمل المعطى الثاني التأسيسي - حملا غير مشروعٍ - على معطى كونية نتائجها، فـبدا كما لو أنها كونية المنشأ أيضا. ما يقال عن العولمة، في هذا النطاق، يقال عن كل ظاهرةٍ نظيرٍ بدأت قومية وأنجبت نتائج كونية، ومن ذلك - مثلا- ظاهرة الاستعمار. من ينكـر أن فعـل الاستعمار فعـلٌ أوروبي بامتياز، منذ الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية في بدايات القرن السادس عشر وعلى امتداد القرن كله؟ من ينكر أن دولا أوروبية بعينها كانت مهدا لحركة استعمار العالم (إسپانيا، البرتغال، بريطانيا، فرنسا)، قبل أن تلتحق بها أخرى من أوروبا (إيطاليا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا...) ومن خارج أوروبا (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان)؟ لقد نشأت فكرته في بيئات قومية وثقافية بعينها (= في نطاق عقيدة المركزية الأوروبية)، لكن اندفاعته إلى خارج الحدود القومية وإطباقـته على بلدان القارات الأربع غير الأوروبية سرعان ما حوله إلى ظاهرة ذات نتائج كونية مست العالم برمته. هي هذه، أيضا، حال العولمة بين منطلقاتها القومية ونتائجها الكونية.

وثانيهما أن فكرة التجافي الماهوي بين القومي والكوني في العولمة ليست تصح على مراكز العولمة بل على هوامشها وأطرافها. هي لا تصح على الدول/القوميات الكبرى التي تنتج حقائق العولمة لسببٍ معلوم أن نتائج تلك العولمة تصب في رصيد تلك الدول، بل تزيد من تعظيم مواردها وقواها بما يعـزز مراكزها القومية في العالم. لذلك لا محل للقول بقطيعة العولمة مع حقبة نموذج الدول القومية الكبرى. وليست تلك حال هوامش العولمة وأطرافها من كيانات الدول الوطنية أو القومية الصغرى؛ ذلك أن هذه الدول والكيانات القومية الصغرى - أو الضعيفة - هي أول من يدفع أثمان تلك العولمة الزاحفة على داخلها الاقتصادي والسياسي الوطني، المطيحة بسياداتها، بل كثيرا ما تأتي على كيان الدولة فيها بمعاول الهدم. إن قياس العلاقة بين القومي والكوني في العولمة على مقاس حالة البلدان والوطنيات الصغرى ليس أساسا صالحا لترتيب قاعدةٍ عامة عليه وسحبها على حالات البلدان والدول والأمم كافـة.

هذا التدقيق في الحدود بين القومي والكوني في العولمة ضروري لبناء جملةٍ من الموضوعات التي يبـنى عليها تفكيرٌ دقيق في مسألة العولمة، وفي جملتها: التشديد على الإطار المرجعي القومي للعولمة؛ النظر إليها بما هي تعبير عن علاقاتٍ متغيرة بتغير موازن القوة بين الدول. هذه أسسٌ لا غنى عنها لتأسيس قراءة واقعية وتاريخية للعولمة بوصفها ظاهرة تجاذبٍ وصراع لا كما يرغب كثيرون في تقديمها في هيئةٍ قدرية ميتاتاريخية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما بعد

إقرأ أيضاً:

الأمن القومي العربي عند مفترق طرق

الأحداث المتسارعة في المنطقة العربية وسقوط النظام السوري الدراماتيكي والخطط الاستراتيجية التي تنفذ الآن من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي وعدد من دول الإقليم سوف تكون كارثة على النظام العربي وعلى الأمن القومي العربي إذا لم يتحرك القادة العرب بشكل أسرع لفهم ما يجري من مخططات مشبوهة ضد المقدرات العربية وضد الأوطان نفسها من خلال المشهد الذي يتشكل بصورة مخيفة.

إن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن الكيان سوف يقود الشرق الأوسط ليس كلاما عابرا ولكن ما يجري على الأرض من مخططات ينذر بخطر حقيقي؛ فاتفاق سايكس بيكو عام ١٩١٧ لم يكن حلما مزعجا بل تحقق على الأرض من قبل الاستعمار البريطاني والفرنسي، ورغم زوال الاحتلال منذ عقود لكن آثاره الفكرية ومصالحه وجذوره لا تزال باقية. صحيح أن الظروف السياسية ليست متماثلة بين اتفاق ١٩١٧ والآن ولكن ما يحدث من مخططات توحي بأن هناك «سايكس بيكو» جديدة، خاصة مع المتغيرات الجيوسياسية بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وتواصل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والحديث عن ضم الضفة الغربية للكيان الإسرائيلي. كما أن وصول الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب في العشرين من يناير إلى السلطة في البيت الأبيض قد يُسفر عن خطوات كبيرة لصالح المشروع الصهيوني العالمي. وعلى ضوء ذلك فإن العالم العربي مهدد بشكل صريح حيث العودة إلى منطق الشرق الأوسط الجديد وقطار التطبيع وهيمنة الكيان الإسرائيلي على قيادة المنطقة، كما أن إثارة القلاقل والمتاعب لن ينتهي في سوريا كما يتوقع البعض بل إن هناك إشارات إلى تغيير جوهري في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من خلال تغيير الجغرافيا، حيث احتلت إسرائيل جزءا من سوريا في الجولان المحتل ولا تزال تحتل أجزاء من الأراضي اللبنانية وتمددها قرب الحدود المصرية في رفح ومعبر فيلادلفيا، كما أن المخططات الصهيونية ظهرت آثارها خلال العدوان على لبنان وفلسطين حيث التنسيق السياسي والعسكري والاستخباراتي مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية.

ومن هنا فإن المشهد السياسي في غاية التعقيد على صعيد الأمن القومي العربي، وفي تصوري بأن أمام العرب أوقات صعبة، وأمام القيادات العربية مسؤولية قومية من خلال التضامن والتنسيق السياسي على كل المستويات وينبغي أن تكون هناك إستراتيجية عربية موحدة في ظل الظروف السياسية الصعبة، وفي تصوري أن الحديث عن التحالفات الفردية مع هذا الطرف أو ذاك لن يفيد حيث رأينا ذلك مجسدا في سوريا إذ إن حلفاء النظام السوري (روسيا الاتحادية وإيران) لم يقدموا المساعدة المطلوبة لنظام بشار الأسد لأن المصالح تغيرت في لحظة ما، وهذا سوف ينسحب على بقية الدول العربية حيث إن الضامن الوحيد لتماسك الجبهة الداخلية هو الشعوب العربية نفسها ولا يمكن التعويل على أحلاف خارجية إقليمية أو داخلية.

إن ما حدث في سوريا من سقوط دراماتيكي هو درس كبير ينبغي الاستفادة منه ووضعه تحت المجهر، كما أن اللحمة الداخلية بين أي نظام سياسي وشعبه تبقى هي البوصلة الحقيقية التي من خلالها تصان الأوطان ولا تكون حقل تجارب لمخططات مشبوهة. ومن هنا فإن المخطط الاستراتيجي الذي ينفذ الآن عبر خطط موازية هو مخطط حقيقي ينهي أولا القضية الفلسطينية بكل أبعادها التاريخية والجغرافية والقانونية وإنهاء المقاومة الفلسطينية واللبنانية وكل حركة مقاومة تتصدى للمشروع الصهيوني العالمي للسيطرة على مقدرات العالم العربي تحديدا، ولعل متابعة النموذج السوري سيكون حاضرا في قادم الأيام ومن الصعب الآن الحكم على المشهد السياسي في دمشق وسط متغيرات داخلية وخارجية غير واضحة. لقد أصبح التضامن العربي ضرورة لأن المسألة تتعلق بمستقبل الأوطان وأجيالها، ولعل المشروع الصهيوني العالمي الاقتصادي سوف تظهر ملامحه بشكل أوضح مع دخول ترامب للبيت الأبيض من خلال إنهاء الحروب والصراعات في منطقة الشرق الأوسط والتفرغ لرسم خريطة المنطقة كما تروج لذلك وسائل الإعلام الأمريكية والغربية والصهيونية، حيث إن المخطط موجود ونفذ بشكل واضح وصريح في سوريا ولن يقف الأمر عند هذا الحد؛ فالوضع في اليمن على سبيل المثال قد يكون ضمن المخطط وهناك أجزاء أخرى من الجغرافيا العربية. كما أن محور المقاومة الذي واجه العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة وعموم فلسطين ولبنان وأدى دورا محوريا في تهديد الكيان الصهيوني على مدى أكثر من عام أصبح الآن تحت المجهر، حيث تتحدث تقارير استخباراتية عن مواجهات عسكرية مرتقبة خاصة مع إيران وجماعة أنصار الله (الحوثيين) من خلال إنهاء محور المقاومة بشكل يجعل المنطقة في حالة سكون تام حتى يتم تنفيذ المخطط الصهيوني العالمي في المنطقة وتشكيل خريطة المنطقة بشكل تجعل إسرائيل هي التي تقود المشروع بكل مكوناته وأبعاده الخطيرة على الأمن القومي العربي وعلى مستقبل الأمة وأجيالها.هذا المشروع الصهيوني العالمي ليس بجديد؛ فقد تحدث عنه عدد من المفكرين في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ومنهم هانجتون وآخرون وأيضا كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة من خلال المشروع المسمى «الفوضى الخلاقة في المنطقة» وهناك خطط موجودة وليس بالضرورة أن تنفذ بشكل كامل خلال فترة ترامب بل هي عملية متواصلة كمنهجية مشروع للسيطرة على مقدرات المنطقة وإدخالها في عالم الرأسمالية بكل أبعاده الشريرة حيث فقد الهوية الوطنية والحفاظ على العادات والقيم وانسلاخ الشعوب عن مرتكزاتها وتاريخها وإرثها.

المنطقة العربية تشهد موجة متلاحقة من المتغيرات بدأت ملامحها في الظهور في سوريا وهناك ملامح أخرى سوف تظهر وهذا ليس بشيء جديد؛ فالذي يتابع مراكز البحوث الاستراتيجية والاقتصادية الغربية وتحديدا في واشنطن وتحليلات الصحف والمفكرين يدرك أن هناك مخططا حقيقيا ينفذ بشكل متدرج، وهنا تكمن الخطورة وإذا تحدث البعض عن مبالغات فإن نموذج الحرب الروسية الأوكرانية سوف تشهد نهاية موضوعية بعد وصول ترامب للبيت الأبيض في العشرين من يناير القادم، وهذا جزء من الصفقة التي أطاحت بالنظام السوري، وبناء عليه فإن مسألة التحالفات ليست هي الضامن الدائم فقد تتغير المصالح والأحوال ويتم التخلي عن الحليف في لحظة ما لصالح منافع إستراتيجية كبرى وهذا هو منطق السياسة الذي لا يعرف إلا المصالح، فهل تكون هناك خطوات جادة من العرب لبحث القادم من المتغيرات الاستراتيجية أم لا يزال الرهان على الحلفاء في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، سؤال مهم ينبغي النظر إليه بتمعن وفكر عميق حتى لا نشهد «سايكس بيكو» جديدة ولكن بمنظور إستراتيجي وخطط أقرب إلى التبعية وإلى قيادة الكيان الصهيوني الذي سوف يتحكم في مقدرات المنطقة وشعوبها ومصالحها.

مقالات مشابهة

  • الطب البيطري بالمنصورة يحصل على ثقة الهيئة القومية لضمان جودة التعليم
  • رئيس جامعة المنصورة يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد
  • الأمن القومي العربي عند مفترق طرق
  • مشروعات مصر القومية تحصد على الإشادة في مؤتمر الإسكان العربي بدولة الجزائر
  • سقوط آخر سجون القومية الاستبدادية
  • تفاعلات كونية عنيفة تفسّر لغز نشأة المجرات الإهليلجية
  • الشوربجي: المؤسسات الصحفية القومية مستمرة في القيام بدورها لدعم جهود الدولة
  • "الشوربجي": المؤسسات الصحفية القومية مستمرة في دعم جهود الدولة على جميع المسارات
  • سؤال عبثي: ربيع عربي أم مؤامرة كونية؟
  • جامعة كفر الشيخ تستقبل فريق الهيئة القومية لجودة التعليم