كابوس بيروت قد يصبح مستقبل إسرائيل
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي
في الثاني عشر من سبتمبر سوف تنظر محكمة إسرائيل العليا في ما إذا كان استيلاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على السلطة القضائية قانونيا. وقد رفض نتانياهو مرارا الالتزام بالتقيد بقرار معاكس، ففي حال اتخاذ المحكمة قرارا ضد ائتلافه الحاكم، سوف تواجه إسرائيل أزمة قضائية كاملة.
سيكون على رؤساء الجيش والموساد وشين بيت والشرطة أن يقرروا لمن ولاؤهم، أهو لائتلاف سياسي متورط في انقلاب قضائي أم لمحكمة عليا تحافظ على استقلالها.
لكن حتى في حال حكم المحكمة على نفسها بالعجز عن الحفاظ على سلطاتها، فستواجه إسرائيل أيضا أزمة كاملة. لأن نتانياهو وائتلافه اليميني المتطرف من المؤمنين بالتفوق اليهودي ومن اليهود الأرثوذكس المتطرفين قد انتهكوا بالفعل العقد الاجتماعي الجوهري الذي أبقى على تماسك إسرائيل على مدار السنوات الخمس والسبعين الماضية وهو "عش ودع غيرك يعش".
وإنني أعرف الكثير عن ذلك المبدأ. فقد عشت في بلدين في الشرق الأوسط منذ أواخر السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات، هما لبنان و"إسرائيل"، وكلاهما حافظ على استقراره لسنين من خلال احترام ذلك المبدأ، إلى أن توقفا عن احترامه.
يشترك لبنان وإسرائيل في سمتين كبريين: فالبلدان صغيران حقا في الجغرافيا ومتنوعان بصورة لا تصدق في السكان، متنوعان دينيا، ومتنوعان عرقيا، ومتنوعان سياسيا، ومتنوعان لغويا، ومتنوعان تعليميا.
وحينما يكون بلد ديمقراطي صغيرا فعلا وقولا، ومتنوعا فعلا وقولا، لا يبقى من سبيل للحفاظ على الاستقرار إلا وجوب أن يحترم جميع الفاعلين المتنوعين مبدأ "عش ودع غيرك يعش". أو "لا غالب ولا مغلوب"، مثلما وصف اللبنانيون الوضع كلما انتهك فصيل هذا المبدأ فغاص البلد في حرب أهلية ثم تعيَّن عليه أن يعيد بناء التوازن بين الطوائف. على الجميع أن يلتزموا بحدود معينة لا يتجاوزونها.
غير أنه على مدار العقدين المنصرمين، عمد حزب الله المدعوم من إيران إلى إهمال هذا المبدأ. واستعمل تفوقه في العتاد والمقاتلين ودعم إيران له في فرض سلطانه على غيره من الأحزاب والطوائف اللبنانية. وبدلا من "لا غالب ولا مغلوب"، فرض حزب الله مبدأ كثيرا "حان أن نكون الآكلون"، بمعنى دهس الديمقراطية، ونيل أكثر من نصيبنا المستحق من موارد الدولة والعمل بلا حساب من سلطة مستقلة (من قبيل سلطة النظام القضائي).
وبرغم جميع الاختلافات الكثيرة بين لبنان وإسرائيل، فإن ائتلاف نتانياهو هو مثل "حزب الله"، وقد قرر أنه حان الوقت لأن يكون أعضاؤه هم الآكلين ـ برغم أنه فاز في انتخابات نوفمبر بفارق لا يعدو ثلاثين ألف صوت من 4.7 مليون صوت. فانتهك مبدأ "عش ودع غيرك يعش" وبدأ على الفور في تحويل مقادير غير مسبوقة من النقود الجديدة إلى مدارس دينية أرثوذكسية متطرفة ـ دونما إلزام لها بتدريس الرياضيات أو العلوم أو اللغة الإنجليزية أو آداب الديمقراطية ـ وتعيين وزراء لهم صحف جنائية ذات سوابق إجرامية وتوجيه الموارد الحكومية إلى توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة بهدف هلهلة عملية السلام القائمة على اتفاقات أوسلو. وقد تم هذا كله في أثناء محاولة تحييد قدرة المحكمة العليا على إيقاف أي منه.
هذا اللون من الاستيلاء على الموارد والسلطة غير مسبوق في السياسة الإسرائيلية، وإنه ليزداد إزعاجا عند الأخذ في الاعتبار أنه يتم، جزئيا، على أيدي أحزاب أرثوذكسية متطرفة لا يدفع أعضاؤها إلا القدر الأدنى من الضرائب وهم الأقل خدمة في الجيش.
لقد علم الجميع حدودهم، حتى الآن، في ما عدا استثناءات قليلة، فعلم العلمانيون إلى أي مدى يمكن الضغط على الأورثوذكس لفتح المطاعم يوم السبت، وعلم الأرثوذكس إلى أي مدى يمكن الضغط على العلمانيين في حقوق المثليين. ومع أن مستوطني الضفة الغربية كرهوا اتفاقات أوسلو، لكنهم لم يحاولوا قط تفكيك السلطة الفلسطينية التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية. بل إن المحكمة العليا نفسها أصبحت في السنوات الأخيرة تتسم بالمزيد من التوازن الأيديولوجي بين المحافظين والليبراليين، برغم ما يضلل به نتانياهو البلد من تصريحات.
يحكي صديقي ديفيد ماكوفسكي ـ زميل معهد واشنطن المخضرم ـ قصة ابنه الذي ولد في القدس سنة 1998، وأراد ديفيد أن يكون بجوار زوجته فاردا عند ولادته، فأخبره طبيب التوليد الخاص بها أن لا بأس في ذلك ما دامت الممرضة الأرثوذكسية المتطرفة الوحيدة العاملة في غرفة الولادة والتي يمكن أن تعترض على حضوره لن تكون في العمل. ظل الطبيب يفحص الزوجة طوال شهور الحمل كما حكى ديفيد وتمكن من تحديد ميعاد الولادة بعد انتهاء يوم عمل تلك الممرضة المتدينة بالضبط.
حكى ديفيد أنه "عندما حان الوقت الذي قال فيه الطبيب لفاردا ’ادفعي’، كنت حاضرا في غرفة الولادة. بدت الغرفة مصغرا لإسرائيل، حيث يمكن أن يتشبث الناس بالمبادئ، ومع ذلك يجدون طرقا خلاقة للتعايش".
بانتهاك توازن "عش ودع غيرك يعش" بالقوة المحضة، بفضل ميزة برلمانية سياسية ضئيلة وعابرة، انتهك نتانياهو وائتلافه شيئا أهم كثيرا من القانون. فقد انتهكوا العرف غير المكتوب الذي يحافظ لإسرائيل على تماسكها. ومن الصعب أن نتبين كيف سيصبح البلد بعد هذا مثلما كان.
في حال إعلان المحكمة العليا أنها لا تملك سلطة إيقاف انقلاب نتانياهو القضائي، أو في حالة رفض نتانياهو الالتزام بحكم ضد استيلائه على السلطة، فإن النظام الإسرائيلي قد يخرج تماما عن السيطرة، مع ملاحظة أنه الآن متصدع بالفعل من جراء رفض العديد من جنود احتياط الجيش والقوات الجوية خدمة حكومة باتوا يعدونها دكتاتورية لا ديمقراطية.
إليكم وصفا للأمر قدمه يوهانان بليسنر رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (وهو مركز أبحاث غير حزبي، وأنا أحد المتبرعين له) في مقال حديث على موقع المنظمة:
"لقد قامت حكومة منتخبة بإجراء تعديلات دستورية يحتمل أن تكون واسعة المدى بناء على خطوط حزبية ضيقة. ومهما يكن رأي المرء في التعديل المعني، فقد تم تجاوز خط أحمر... لأن تنفيذ هذا الاستيلاء على السلطة قد تم في مواجهة أضخم وأطول مظاهرات في تاريخ البلد، وضد إرادة أغلبية الشعب، ودونما اعتبار لتحذيرات قوية من خبراء في الأمن والقانون والاقتصاد، بما تسبب في تهديد لملايين الإسرائيليين".
وأضاف بليسنر ـ في تحليل له أصداء حقيقية بالنسبة للديمقراطية الأمريكية أيضا ـ أنه اعتبارا من هذه اللحظة "سيكون لدى كل مواطن إسرائيل، في كل مرة يذهب فيها إلى صندوق الانتخاب، وعي مرعب بأن هزيمته قد تساوي طريقته كاملة في الحياة. سيدلي المتدين بصوته وهو يخشى أن حكومة ذات قيادة علمانية قد تقوض منفردة الشخصية اليهودية للدولة إن تراءى لها هذا. وسوف تدلي امرأة علمانية بصوتها وهي ترتعش خوفا من تداعيات فوز اليمين على حقوقها".
بل إن حقوق 1.6 مليون من المواطنين العرب في إسرائيل، الذين تمثل المحكمة العليا حاميا جوهريا لهم، قد تصبح كاملة تحت رحمة الأغلبية اليهودية في حال استمرار هذا القانون. وما كان لهذا أن يحدث مطلقا في بلد متنوع يقوم على مبدأ عش ودع غيرك يعش.
خلص بليسنر إلى أن "الانتخابات لا ينبغي أن تكون تنافسا يحصل فيه الفائز على كل شيء، ويستولي المنتصر على كل شيء، ويخاطر الخاسر بكل شيء. فما هذه بديمقراطية، إنما هي وصفة لحرب أهلية".
والحقيقة أنني سألت الكاتب الإسرائيلي آري شافيت عن أكثر ما يخشاه اليوم في بلده. فقال إنه لا يخشى أن تتحول إسرائيل إلى "دكتاتورية انتخابية ـ تشبه المجر أو بولندا أو روسيا. وذلك لأن الميراث السياسي اليهودي لا يمكن أن يقبل سلطة الحكم المطلق، ولأن اليمين المتطرف في إسرائيل لا يملك القوة الكافية لفرض إرادته على الليبراليين".
قال إن الخطر الحقيقي على إسرائيل هو أنها سوف تهوي إلى الفوضى والتفكك.
أضاف شافيت أن "الشبح القادم هو لبنان. جارنا الشمالي الذي عانى الكثير من التمزق حينما تهاوى نظامه الطائفي الرهيف". والآن، في إسرائيل، انهارت التسوية التاريخية التي أتاحت للمجتمعات شديدة التنوع أن تعيش معا في سلام ـ مع سيطرة اليمين على السلطة السياسة في أغلب السنوات العشرين الماضية، وسيطرة الوسط واليسار على المحاكم والإعلام والجامعات".
قال شافيت إنه كما في أيام المعبد الأول والمعبد الثاني "يمزقنا التعصب والتطرف ويهدد بتدمير الأمة التي أقمناها هنا. ولذلك فإن الكابوس الذي يوقظني في جنح الليل ليس بودابست أو وارسو، وإنما هو بيروت".
ولما كنت شخصيا قد عشت في كابوس بيروت في أواخر السبعينيات، يمكنني أن أجزم بأن الاحتمال قائم تماما بالنسبة لإسرائيل اليوم. فمن يكسر ما لديه، يخسره، ولا راد له.
• توماس فريدمان كاتب عمود رأي في السياسة الخارجية في صحيفة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب "من بيروت إلى القدس".
** "خدمة نيويورك تايمز"
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المحکمة العلیا على السلطة فی حال
إقرأ أيضاً:
غانتس يتهم نتانياهو بتدمير صفقة الرهائن
اتهم رئيس حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي، بيني غانتس، رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بتدمير مفاوضات صفقة الرهائن مع حركة حماس، مبدياً استياءه من طريقة تعامله مع القضية.
وقال غانتس إن إسرائيل تمر بمرحلة حساسة، ولكن رئيس الحكومة يواصل التحدث لوسائل الإعلام الأجنبية، ويعقد الوضع بشكل أكبر في غزة.
كما أضاف أن نتانياهو لا يمتلك تفويضًا لإحباط عودة الرهائن من حماس لأسباب سياسية، مؤكدًا أن التوصل إلى صفقة يعد خطوة ضرورية لأسباب إنسانية وأمنية.
وجاءت تصريحات غانتس ردًا على ما قاله نتنياهو في مقابلة صحافية، حيث أكد أنه لن يوافق على إنهاء الحرب مع حماس، إلا بعد القضاء عليها.
في المقابل، كانت حماس قد أعلنت في وقت سابق أنها لن توافق على أي وقف لإطلاق النار، أو الإفراج عن الأسرى، دون ضمانات إسرائيلية بإنهاء الحرب.
لكن التقارير الأخيرة تشير إلى أن حماس قد تكون مستعدة للإفراج عن عدد من الرهائن في مرحلة أولى، دون التزام بإنهاء الحرب بشكل كامل في تلك المرحلة.