لجريدة عمان:
2024-11-26@13:29:19 GMT

المنظومات التاريخية .. تقاطعات التاريخ والأدب

تاريخ النشر: 26th, November 2024 GMT

المنظومات التاريخية .. تقاطعات التاريخ والأدب

بعد صمت متقطع منذ كتابه الأول «الإمامة والصراع على السلطة في عُمان أواخر دولة اليعاربة» الصادر عام 2014م، يعود المشتغل بحقل التاريخ العُماني، الباحث سيف بن عدي المسكري، في كتابه الجديد الصادر عن مجلة نزوى في عددها رقم 120، للبحث في حقل المنظومات التاريخية، مشتغلا بالتحليل والنقد على منظومتين تاريخيتين شهيرتين في السياق العُماني.

حيث يرى الباحث المسكري في مقدمته لهذا العمل بأننا من الممكن أن ننظر للأدب بوصفه مصدرا للتاريخ، بالرغم من الاختزال الذي يمارسه الأديب، وبشكل خاص في الجانب النظمي على سردية الأحداث، وتأثير ذلك على السردية التاريخية والوضوح اللغوي. وهذا لا يعني بأن بقية المصادر التاريخية التقليدية كالوثيقة، والأركيولوجيا، هي المتحدثة الرسمية الحصرية عن التاريخ فقط، بل من الممكن اعتبار الأدب بمفهومه الواسع، كالشعر، والنظم، والفن، والرواية مؤخرا، أشكالا تعبيرية مختلفة عن التاريخ، حيث تستوعب هذه الأنواع الكثير من الأساليب المختلفة للقول والتعبير. وهذا نلمسه بشكل كبير ـ كما يذهب لذلك المسكري ـ في الحضارات القديمة التي تناقلت تاريخها عبر صور تعبيرية شتى، كما هو الحال لدى الإغريق، وبلاد الرافدين بحقبها المختلفة، كالسومريين، وغيرهم. والحال ينطبق أيضا على الحضارة الإسلامية التي أسهمت في هذا الشأن بنصيب وافر وعريض من التعبير الأدبي عن أحداث تاريخية مختلفة، ناهيك عن الأدب الشعبي الذي يُعد خزانة كبيرة في هذا الجانب، تتناقل من خلالها الأجيال الأحداث التاريخية بطرق شفهية، يحفظها الجميع عن ظهر قلب، ويتداولونها فيما بينهم في المناسبات والأحداث المفصلية في تاريخهم.

ومن هنا يُشكّل الأدب بشكل عام، والنظم بشكل خاص، حقلًا خصبًا للقول وسبك الروايات التاريخية، ووضعها ضمن قالب يكتنفه الكثير من الغموض والتعقيد مقارنة بالسرد التاريخي المتعارف عليه، الذي يتسم بالسلاسة في السرد، غير أن النظم يُعد عاملًا مساعدًا في تناقل الأحداث من خلال الذاكرة الشعرية العربية التي تتقاطع مع المخزون الشعري العربي، ويُذكي الذاكرة الحافظة المفتونة بالاستعارات والجماليات والخيال الواقعي.

في هذا السياق، لا يختلف التاريخ العُماني الثري بالأحداث التاريخية المختلفة، والغني بالطرق التعبيرية المتنوعة، عن بقية أصقاع العالم، حيث تعود المنظومات التاريخية – موضوع هذا العمل – في الجانب العُماني إلى القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والتي تناولت موضوعات دينية وتوحيدية بشكل خاص، وذلك على يد الفقيه العُماني أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي، ثم توالت المنظومات في المناخ العُماني حتى بلغت ذروتها في القرن 14 هـ/20م، ثم القرن 11هـ/17م. وبالرغم من الفترات الزمنية المتفاوتة في تاريخ المنظومات إلا أن سيطرة الموضوعات الدينية، والفقهية، واللغوية كان هو السائد، في حين أن المنظومات التاريخية جاءت في مراتب أقل من سابقاتها. الأمر الذي جعل الاهتمام بالمنظومات التاريخية وتحليلها، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنهما منظومتان معاصرتان زمنيا على الأقل، في حين أنهما تنتميان من حيث الأسلوب والشكل إلى حقب زمنية وتاريخية سابقة، يكتسب أهميته، ويجعلنا نطرح عددًا من الأسئلة المبدئية حولهما، مثل: هل قالت المنظومات كل شيء؟ وهل اختزلت التاريخ من أجل الضرورة النظمية لكيلا نقول الشعرية؟ أهناك تاريخ جديد، أم أننا أمام نظم تاريخي شارح ومكرر؟

من السرد التاريخي إلى المنظومات التاريخية:

يأخذنا المؤلف في هذا العمل، في منظومتين تاريخيتين معُاصرتين، كدراسة حالة ويقارن بينهما من موضوعات مختلفة. ففي المنظومة الأولى وهي للشيخ خلفان بن جميل السيابي (1891-1972م)، المعنونة بسلك الدرر الحاوي غرر الأثر، الذي عاش وولد في فترة زمنية قلقة، على المستويين الداخلي والخارجي، وعاش في ضنك من العيش، الأمر الذي انعكس على مساره الشخصي الذي أفناه في طلب العلم، وتأثير ذلك على الآراء التاريخية والسياسية التي سطرها في هذه المنظومة التاريخية. وتُعد هذه المنظومة نظمًا لكتاب «النيل وشفاء العليل» للإمام عبدالعزيز الثميني، الذي شرحه الشيخ محمد بن يوسف أطفيش. من هنا تأتي هذه المنظومة تداخلًا بين هذه الشخصيات وهذه الأعمال، لتقوم بعملية توثيق تاريخي نظمي بدءا من العصر النبوي مرورا بالخلفاء والدول الإسلامية اللاحقة، ليتطرق بعد ذلك إلى عُمان في العصور الإسلامية الأولى، ليصل إلى العصور الحديثة مع الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1624-1649م)، ساردا في ذلك الأوضاع السياسية في تلك الفترة، والأحداث الكبيرة التي كان لها تأثير كبير على التاريخ العُماني اللاحق.

بينما تأتي المنظومة الثانية للعلامة الشيخ محمد بن شامس البطاشي (1912-2000م)، في كتابه سلاسل الذهب في الأصول والفروع والأدب، والتي تقع في 124 ألف بيت، والتي تتقاطع مع المنظومة السابقة للسيابي من حيث عودتها إلى كتاب النيل وشفاء العليل كما يُصرح بذلك البطاشي. تبدأ هذه المنظومة مثل المنظومة السابقة في بداياتها على الجوانب الفقهية الإسلامية المعروفة، كالصوم والزكاة والحج وغيرها، ليحتل الجزء العاشر منها التاريخ العُماني، مُبينا أهمية التاريخ وفوائده وضرورة العودة إليه، ومزايا وضعه في صورة نظمية ليسهل على القارئ حفظه وتناقله بين الأجيال والأفراد على حدٍ سواء.

وبالرغم من جوانب التشابه بين المنظومتين في التسلسل التاريخي والخطوط العريضة للبدايات، إلا أن الفارق الجوهري بينهما يكمن في الآراء الشخصية للمؤرخ ورؤيته تجاه الأحداث التاريخية المختلفة فيما يتعلق بمسار الدولة العُمانية، وبعض أحداثها المفصلية التي أثرت على المسارات التاريخية اللاحقة، إلا أن بعضها تنفرد برؤية تاريخية تجاه بعض الأحداث المتفق عليها كما هو الحال في اقتحام حصن الجلالي إبان تحرير مسقط عام 1650م، وغيرها من الأحداث المختلفة، من جهة، وعدم ذكر الكثير من الأحداث غير السياسية فيهما من الجهة الأخرى. فبالإضافة للجانب السياسي والديني المسيطر على تفكير وتوجه المنظومتين، إلا أنهما توفران رافدا تاريخيا لم يُدرس كثيرا، ولم يجد عناية كبيرة بهذا الفن التاريخي مقارنة بالسرد المتعارف عليه، لذلك يأتي هذا العمل ليلقي المزيد من الضوء مبدئيا على الأقل عليه، لنطرح تساؤلا حول إمكانية تجدد هذا الفن التاريخي في الفترات الزمنية المعُاصرة، وهل أصبح هذا الفن من الماضي الذي لم يعد له ورثة يقومون به؟، وذلك بسبب الطابع اللغوي والنظمي المعُقد الذي يقوم عليه، وهي المواءمة بين اللغة والأحداث التاريخية والقدرة على الإتيان بجديد لم يقله السرد التاريخي.

علي الرواحي كاتب ومترجم عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأحداث التاریخیة التاریخ الع مانی هذه المنظومة المنظومة ا هذا العمل إلا أن الذی ی فی هذا

إقرأ أيضاً:

أبناء العلقمي الجدد… ما أشبه الليلة بالبارحة

حلقات التاريخ تتشابه أحيانا إلى حد مُذهل ومن يقرأ التاريخ بتمعن وروّية يندهش من تكرار الأحداث والقضايا.. وهذا التشابه حمل باحثا معاصرا في التاريخ مثل الدكتور راغب السرجاني ليقول في مقدمة أحد كتبه أنه من خلال مطالعته الواسعة للتاريخ يؤكد أنه لا جديد الآن فكل شيء قد حدث مثله في التاريخ.. أو كما قال.

ومستصحبا لمقولة الدكتور السرجاني كنت أراجع ما كتبه ابن كثير في كتاب (البداية والنهاية) عن أحداث أواخر الدولة العباسية.. وهالني ما قرأت إذ رأيت أن بعض الأحداث تتشابه مع ما نعايشه اليوم في السودان إلى حد عجيب.. غير أن الدولة السودانية لن تسقط إن شاء الله على يد التتار الجدد.

في أواخر الدولة العباسية كان وزير الخليفة (رئيس الوزراء) يسمى ابن العلقمي.. وهو وزير خائن كان ( يراسل) الأعداء ويخون أمته وشعبه وساهم بذلك في سقوط بغداد وتسليمها الأعداء.

ولنراجع بعض ما كتبه ابن كثير عن تلك الحقبة.. ثم نقارنه بما حدث عندنا في السودان.. قال ابن كثير في الجزء الثالث عشر من (البداية والنهاية) ما يأتي : ( وكان الوزيرُ ابنُ العلقمي يجتهدُ في صرفِ الجيوشِ ، وإسقاطِ اسمهم من الديوانِ ، فكانت العساكرُ في أخرِ أيامِ المستنصرِ قريباً من مائةِ ألفِ مقاتلٍ .. فلم يزلْ يجتهُد في تقليلهم ، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف.).. أليست هذه هي نفسها قضية إعادة هيكلة الجيش والتضييق عليه في الميزانيات والسخرية منه كمؤسسة؟ وابن العلقمي المعاصر ليس بالضرورة أن يكون شخصا طبيعيا فحسب فقد يكون وزيرا أو رئيس وزراء أو تحالفا سياسيا أو قوى سياسية مرتبطة بالخارج.

ونمضي مع ابن كثير يحكي لنا طرفا مما فعله ابن العلقمي الأول.. ثم نرجع البصر في أفعال أبناء العلقمي الجدد.. يقول ابن كثير: ( ثم كاتب التتارَ ، وأطمعهم في أخذِ البلادِ ، وسهل عليهم ذلك ، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ ، وكشف لهم ضعفَ الرجالِ).. والتتار الجدد يمثلون القوى التي تريد أن تقوّض الدولة وتهدم مؤسساتها القائمة.. هل تذكرتم الذي راسل الأمم المتحدة من وراء ظهر مجلس السيادة لاستقدام بعثة الأمم المتحدة؟ والعجيب أن من فعل هذا حديثا يتولى نفس الموقع الذي كان يتولاه ابن العلقمي الأول.

وتتعدد الأحداث والقضايا المتشابهة… لكننا نختم خشية الإطالة بهذه الإفادة التي أوردها ابن كثير عن التتار القدامى لنقارنها بالتتار الجدد الذين مهّد لهم حديثا مجموعة من أبناء العلقمي الجدد.. يقول ابن كثير : ( وقُتل الخطباءُ والأئمةُ ، وحملةُ القرآنِ ، وتعطلت المساجدُ والجماعاتُ والجمعاتُ مدة شهورٍ ببغداد).. ما أشبه الليلة بالبارحة.. فبعد أن مهّد أبناء العلقمي الجدد للتتار الجدد تواترت الأخبار أن التتار الجدد في السودان خاصة في العاصمة ووسط السودان كانوا يمنعون الأذان وإقامة الصلوات والجُمع وتورطوا في قتل كثير من الأئمة وهذه الدماء يتحملها كل أبناء العلقمي الجدد من الذين عاونوا التتار الجدد.

صحيح أن كثير من الأحداث التي سردناها عن أواخر الدولة العباسية تتشابه الي حد كبير مع الأحداث التي تجري منذ فترة في السودان.. غير أن النهايات لن تتشابه بإذن الله.. فإن الدولة السودانية لم تسقط كما كان يخطط التتار الجدد وأعوانهم من أبناء العلقمي الجدد.. والجيش السوداني لم ينكسر بحمد الله.. والأمور تمضي في اتجاه تطهير أرض السودان من التتار الجدد… أما أبناء العلقمي الجدد ممن عاون التتار الجدد فإن حسابهم مع الشعب السوداني عسير… إلا إذا قرروا البقاء مع أولياء نعمتهم بالخارج.. وحتى إذا فعلوا ذلك فإن يد ( الإنتربول) ستطالهم بسبب مشاركتهم الجنائية في جرائم التتار الجدد.. أما لعنات الشعب السوداني فقد طالتهم منذ زمن بعيد.

حسن عبد الحميد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في مراجعات ريتا
  • أبناء العلقمي الجدد… ما أشبه الليلة بالبارحة
  • إشارة غامضة قبل أقوى انفجار بركاني في التاريخ.. ما الذي كشفه العلماء؟
  • أحمد حسام عوض يشارك في ماجستير تنظيم الأحداث الرياضية العالمية
  • أين يقف سوق المال العُماني؟
  • البنك الوطني العُماني ينظم فعالية توعوية حول "مخاطر الاحتيال"
  • الفريق العُماني يودع بطولة العالم للتزلج من دور الـ 16
  • ماني أفضل.. ديني: محمد صلاح ليس من الطراز العالمي
  • 54 عامًا من المجد العُماني