الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي
في صيف عام 1920 وقعت لي كارثة؛ فقد تبيّن أن إحدى اللجّان الطبية المتعهدة بفحص المستدعين للحرب، تتقاضى رشوة. أُعدم عدد من الأطباء، أمّا المُسرّحون، فقد أُخضعوا جميعًا لفحصٍ جديد. وجدتُ نفسي في عِداد هؤلاء البائسين الذين أكّدت اللجنة الجديدة أهليتهم الكاملة للقتال، وبدافع الخوف، لم يعودوا ينظرون لأي عذر يتعلّق بهم.
قال غوركي وهو يودعني:
- ارحل إلى بطرسبورغ! لا مفرّ من الخدمة هنا، أمّا عندنا فما زالت الكتابة ممكنة.
وقد استمعتُ إلى نصيحته فانتقلت في منتصف نوفمبر إلى بطرسبورغ. في تلك الفترة كانت شقة غوركي مكتظة بالساكنين، إذ أقامت فيها سكرتيرة غوركي الجديدة، ماريا إغناتيفنا بينكيندورف (لاحقًا البارونة بودبيرغ)؛ وطالبة طب صغيرة تدعى موليكولا. فتاة لطيفة ويتيمة وهي ابنة أحد معارف غوركي القدامى؛ والفنان إيفان نيكولايفيتش راكيتسكي؛ وأخيرًا ابنة أخي مع زوجها. كان هذا الظرفُ المستجد هو الذي حدد علاقتي بغوركي، مرّة وإلى الأبد؛ ليست بالعلاقة العمليّة، ولا الأدبية، بل علاقة مختلفة جدًا، علاقة معيشية صرف. لا شكّ أن المسائل الأدبية قد نشأت بيننا في ذلك الوقت، وفي لاحق الأوقات، ولكن بصورة تبدو ثانوية. ونظرًا لاختلاف آرائنا الأدبية، وأعمارنا، لم يمكن للوضع أن يكون خلاف ذلك.
استمر الزحام في الشقة من الصباح الباكر حتى آخر المساء، وكان الناس يفدون إلى كلّ قاطنٍ فيها. غوركي نفسه كان مُحاصرًا بالزوار، يقصدونه لأعمال تتعلّق بدار الفنانين، ودار الأدباء، ودار العلماء، والآداب العالمية؛ كما زاره الأدباء والعلماء، من سكان بطرسبورغ وخارجها؛ وحضر العمّال والبحّارة، طالبين حمايته من زينوفييف، المفوّض المطلق للمنطقة الشمالية؛ وحضر الممثلون، الفنانون، المضاربون، وجهاء سابقون، وسيدات المجتمع الراقي. كانوا يقصدونه للتوسط في إطلاق موقوفين، ومن خلاله نالوا حصص إعاشة، وشققًا، وملابس، ودواء، وسمنًا، وتذاكر سكك حديد، وتبغًا، وورق كتابة، وحبرًا، وأطقم أسنان للمسنين، وحليبًا للرضّع، باختصار كلّ ما لا يمكن نيله دون واسطة.
على هذا النحو استمرت علاقتي به سبع سنوات؛ ولو جمعنا الأشهر التي عشتها معه تحت سقفٍ واحد، لكان الحاصل سنة ونصف السنة؛ لذلك لديّ السبب للاعتقاد بأني أعرفه جيدًا، وأعرف الكثير عنه.
* * *
إن فهم شهرته في أربع رياح الأرض، فهمًا وثيقًا، لا يتأتى إلّا بمعايشته عن قرب. وليس لأحدٍ من الكتّاب الروس الذين التقيتهم أن يُقارن به شهرةً. لقد تحصّل على عددٍ هائلٍ من الرسائلَ بكلّ اللغات. وأينما حلّ، كان الأغراب يتوجهون إليه ويلتمسون توقيعه. حاصره المحاورون، واستأجر المراسلون الصحفيون غرفًا في الفنادق التي أقام فيها، فكانوا ينتظرون يومين وثلاثة فقط لأجل رؤيته في الحديقة أو على سفرة الضيافة. وجلبت له الشهرة أموالًا طائلة، فكان يتقاضى نحو عشرة آلاف دولار سنويًّا، ينفق منها نزرًا قليلًا على نفسه، فهو شديد التواضع في المأكل والمشرب والملبس.
وكانت دائرة الأشخاص المعوّلين عليه في معاشهم الدائم، كبيرة جدًا؛ ليس أقل من خمسة عشر فردًا حسب ظنيّ، في روسيا وخارجها. إنهم أناسٌ من مختلف شرائح المجتمع، بدءا ممن يُسمون بالمهاجرين، وحتى أشخاص يمتّون له بصلات قربى متفاوتة: من أقارب وأصهار وصولًا لأولئك الذين لم يرهم قطّ. عائلات بأكملها عاشت على نفقته في بحبوحة أكثر مما عاش هو بكثير. وفضلًا عن هؤلاء المتقاعدين الدائمين، كان هناك الكثير من المؤقتين. وبالمناسبة، كان يأتيه من حينٍ لآخر بعضُ الكتّابِ المهاجرين طلبًا للعون، ولم يُرَدُّ طلب أيّ منهم.
وزّع غوركي ماله دون النظر إلى الحاجة الفعلية لطالبه ومن غير اهتمامٍ على ماذا سيُنفق. كما يحدث أن يستقرّ المالُ في أيدي المراسلين، لكن غوركي يتظاهر بعدم الانتباه. وهذا قليلٌ حيال ما فعله بعض المحيطين به ممن استغلوا اسمه ومكانته، فراحوا يقترفون أفعالًا ذميمة وصلت حدّ ابتزازه. ولطالما تخاصم هؤلاء فيما بينهم على أموال غوركي، لكنهم كانوا يقظين حيال سلوكه الاجتماعي لكي يُصبح أكثر ربحيّة، وبجهودٍ متضافرة، وضغطٍ ناعم، قاموا بتوجيه أفعاله. وقد حاول مرّاتٍ قليلةٍ معصيتهم، لكنه يسلّم لهم أمره في نهاية المطاف. نسبيًّا، يقف وراء سلوكه هذا دافعٌ نفسيّ لا أبسط منه، يتمثل في العادة، والدماثة، والرغبة في تركه ليعمل بسلام. لكنّ السبب الرئيسي، الأكثر أهمية، والذي ربما غاب عن غوركي نفسه، يكمن في ظرفٍ خاصٍ بالغ الأهمية، وهو علاقته الشائكة بالصدق والكذب. تلك العلاقة التي ظهرت في وقتٍ مبكرٍ من حياته، وشكلت تأثيرًا حاسمًا، سواء على إبداعه، أو على حياته برمتها.
لقد نشأ وعاش طويلًا وسط كلّ أصنافِ القذارة اليوميّة. وكان الناس الذين صادفهم، إمّا جُناة أو ضحايا، وفي الغالب، جناة وضحايا في الآن معًا. وبطبيعة الحال، ظهر عنده (أو ربما قرأ عنه) حلمٌ بإنسانٍ آخر أفضل، بعدها تعلّم أن يميّز هذا الإنسان الفاضل ضمن الأشخاص المحيطين به. ومن خلال تطهيره إبداعيًّا ممّا علق به من البربرية، والغلاظة، والشرور، والقذارة، وصقله فنيًّا، حصل على صنفٍ شبه حقيقي، شبه خياليّ، للمتشرد النبيل، وهو في جوهره، ابنُ عمّ اللص النبيل الذي صاغته الرومانسية الأدبية.
تلقّى تربيته الأدبية الأولى وسط أناس كان معنى الأدب بالنسبة لهم يقتصر على محتواه المعيشي والاجتماعي فقط. وفي قناعة غوركي نفسه، فإن بطله سيتمتع بقيمة اجتماعيّة، وبالتالي بمسوّغٍ أدبي، فقط على خلفية الواقع وحده، وباعتباره جزءًا أصيلًا منه. وقد بدأ في إبراز أبطاله الواقعيين القلائل على خلفيّة مشهدٍ واقعيّ بحت. وكان مضطرًا أمام الجمهور، وأمام نفسه كذلك، أن يبدو كأديب للحياة اليوميّة. وحيال شبه الحقيقة هذه، ظلّ هو نفسه شبه مُصدّقٍ، شبه مُكذّبٍ، العمر كلّه.
عبْر فلسفته ومن خلال تصاديه معهم، منح غوركي أبطاله حُلمًا قويًّا بحياةٍ أفضل، أي الحقيقة الأخلاقية والاجتماعية المُرتجاة، والتي يجب أن تُشرق على الجميع، وتمهد كلّ شيء لصالح البشرية. بدايةً، لم يعرف أبطالُ غوركي كُنه هذه الحقيقة، كما لم يعرفها هو نفسه. استغرق باحثًا عنها في الدين ولم يجدها. في أوائل التسعينيات رأى مضمونها (أو علّموه أن يراه) في التقدم الاجتماعي كما فهمه ماركس. وإذ إنه لم يتمكن، في ذلك الوقت أو لاحقًا، من جعل نفسه ماركسيًّا حقيقيًّا منضبطًا، فقد اعتنق الماركسية كدينٍ رسميّ له، وباعتبارها فرضية للعمل، حاول أن يبني عليها إبداعه.
إني بصدد كتابة مذكرات عن غوركي وليس مقالًا عن إبداعه، لكني سأعود لاحقًا إلى موضوعي، حيث أراني مضطرًا للحديث عن أحد أعماله، لعله أفضل ما كتب، والأكيد أنه عملٌ مركزي في إبداعه، أعني به مسرحية «الحضيض».
موضوعها الأساسي عن الصدق والكذب، وبطلها الرئيسي العجوز المخادع لوقا. يبدو أنه يغوي سكان الـ«حضيض» بأكاذيب برّاقة عن وجود مملكة الخير في مكان ما، حيث الراحة لا تكمن في الحياة وحدها، بل وفي الموت أيضا. وبعد اختفاء لوقا الغامض، تصبح الحياة شرسة ومخيفة مرّة أخرى.
لقد تسبب لوقا في إزعاج النقد الماركسي الذي حاول قصارى جهده أن يوضّح للقرّاء أن لوقا شخصية ضارّة، تتوسل الأحلام لتخدير المحرومين، وتشتت انتباههم عن الواقع وعن الصراع الطبقي، القادر وحده على ضمانة مستقبل أفضل لهم.
وقد كان الماركسيون محقون حسب منطقهم، فلوقا المؤمن بتنوير المجتمع عبر تنوير الفرد، ضارّ حقًا في نظرهم. تنبأ غوركي بذلك، ولكي يُرسي نوعًا من التوازن، جعل لوقا في خطٍ معارضٍ لساتين - مُجَسّدُ صحوة الوعي البروليتاري. إن ساتين، إذا جاز القول، هو الواعظ الرسميّ للمسرحية، حيث يصرّح أن «الكذب دينُ العبيد والسادة، والصدق ربُّ الإنسانِ الحُرّ». إلّا أن نظرة فاحصة للمسرحية، ستظهر لنا فورًا أن شخصية ساتين، مقارنة بشخصية لوقا، مرسومة بشكل شاحب، والأكثر منه، بشكل غير محبب. لم يوفّق غوركي مع أبطاله الإيجابيين مقارنة بالأبطال السلبيين، فقد صنع الإيجابيين من أيديولوجيته الرسمية، أمّا السلبيون فصاغهم بمشاعر الحبّ والشفقة الحيّة تجاه البشر. اللافتُ أن غوركي تحوّط مسبقًا للاتهامات التي ستوّجه للوقا، فنصّب ساتين مُدافعًا عنه. فحين تقوم باقي شخصيات المسرحيّة بتوبيخ لوقا، يصرخ بهم ساتين: «اخرسوا! أنتم جميعًا متوحشون! أغبياء... فلتكفّوا عن الشيخ!... الشيخ ليس دجّالًا... أنا أفهمه... نعم، لقد كذب، ولكن من باب الشفقة عليكم، يا ملاعين! هناك الكثير من الناس يكذبون شفقةً على المقرّبين منهم... إنها أكاذيب للتطمين والترضية». ولكن الأكثر روعة عندما يعزو ساتين صحوته إلى تأثره بلوقا: «الشيخ! إنه شخص ذكيّ، وقد أثر عليّ كحمضٍ على عُملةٍ قديمة قذرة... فلنشرب بصحته!» كما أن العبارة الشهيرة: «الإنسان كائن عظيم، وهو مدعاة للفخر» جاءت على لسان ساتين.
إلّا أنّ غوركي كان موقنا في قرارة نفسه أنّ الأمرَ، مع ذلك، مدعاة للألم الجسيم. لقد تخللت حياته كلها حسرة حادّة على إنسانٍ بدا ميؤوسًا منه. وقد رأى الخلاص الوحيد لهذا الإنسان في الطاقة الإبداعية، وهو أمر لا يمكن تصوّره دون التغلّب المستمر على الواقع بالأمل. والحالُ أن غوركي لم يُعلِ كثيرًا من قُدرة الإنسان على تحقيق الأمل، ولكن القدرة على صياغة الأمل نفسها، هبة الحلُم هذه، جلبت له البهجة والانتشاء. واعتبر أن صياغة حُلمٍ قادر على استمالة البشرية، علامة من علامات العبقرية، وأن الحفاظ على هذا الحلم، عمل من أعظم أعمال الخير.
***
توفي غوركي جرّاء التهابٍ رئويّ. ومما لا شك فيه أن هناك علاقة بين مرضه الأخير والسلّ الذي أصابه في شبابه. ولكنه شفي من علّته تلك منذ أربعين عامًا، وإن ظلّت تذكّره بنفسها عبر السعال، والتهاب الشعب الهوائية، والكشح، فإنها ليست بالسوء الذي ظنّه الناس وكتبوا عنه. فبصورة عامّة، كان غوركي نشيطًا، متين البنية، وليس عبثًا أن عاش حتى الثامنة والستين.
لقد اعتاد منذ فترة طويلة على استغلال شائعة مرضه العضال في كلّ مرّة أراد فيها الامتناع عن الذهاب إلى مكان ما، أو العكس، حين يحتاج إلى مغادرة مكانٍ ما. وبحجة مرضه المفاجئ، تجنب المشاركة في مختلف الاجتماعات واستقبال الزوار غير المرحّب بهم. ثم إنه، بعد أن شعر بحقيقة مرضه، أشاح عن الحديث عنه في منزله وأمام عائلته.
تحمّل غوركي الألم الجسدي ببسالة بيّنة. حين كان يخلع أسنانه في مارينباد، امتنع عن أيّ نوعٍ من أنواعٍ التخدير، ولم يتذمر من ذلك ولا لمرّة واحدة. ذات مرّة، وما زال في بطرسبورغ، كان يستقل عربة ترام مزدحمة، واقفًا على الدرجة السفليّة من سلّمها. قفز جنديّ إلى الترام بأقصى سرعته، وبكعبه العالي، سحق خنصر قدمه. لم يعاود غوركي الطبيب، لكنه، وخلال ما يقارب من ثلاث سنوات، كان يستغرق في عملٍ مسائي غريب، ثم اتضح أنه كان ينتزع فتات العظم من الجرح بيديه.
*شاعر وناقد روسي (1886 – 1939)
** أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لاحق ا
إقرأ أيضاً:
3 يحبهم الله ويضحك لهم .. حاول أن تكون منهم
ثلاثة يحبهم الله ويضحك لهم يوم القيامة، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ، الَّذِي إِذَا انْكَشَفَتْ فِئَةٌ، قَاتَلَ وَرَاءَهَا بِنَفْسِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَكْفِيهِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي كَيْفَ صَبَّرَ لِي نَفْسَهُ، وَالَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ، وَالَّذِي يَكُونُ فِي سَفَرٍ وَكَانَ مَعَهُ رَكْبٌ، فَسَهَرُوا وَنَصَبُوا ثُمَّ هَجَعُوا، فَقَامَ فِي السَّحَرِ فِي سَرَّاءٍ أَوْ ضَرَّاءٍ»، رواه الحاكم فى المستدرك، حديث حسن.
الله يضحك لرجلينأَلَا إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ : رَجُلٍ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ ، فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلَاةٍ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا ، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ ))
ثلاثة يحبهم الله ويضحك لهمذكر علماء الحديث فى شرح مستدرك الحاكم، أن المراد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- « ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ» هو إخبار المسلمين بأن هؤلاء الثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم تعالى، فالأول: رجل قاتل في سبيل الله فإذا انهزمت فئة من أصحابه ثبت هو وقاتل من ورائها صابرا محتسبا يحمي المسلمين، ولم يفر أو يجبن أو يضعف؛ لأنه موقن بنصر الله أو الموت في سبيله.
وتابعوا: «ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم- في الحديث:«وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَكْفِيهِ»، أى يكفيه عدوه ويحفظه ويكلؤه، فيقول الله عز وجل : « انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي كَيْفَ صَبَّرَ لِي نَفْسَهُ» أي كيف حبسها لله وهيأها للقتل في سبيله» .
وأضاف العلماء أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: « وَالَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ»، أى أن الثاني هو الرجل الذى له زوجة حسنة وفراش ناعم مريح فترك ذلك لله وقام للتهجد بالليل، فيقول الله تعالى: « فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ»أى يدع شهوته وحاجة نفسه إلى النوم أو إلى امرأته من أجل مناجاتي وذكري ولو شاء نام ولم يقم .
وأوضح العلماء فى شرح المستدرك، أن الإمام الحافظ ابن رجب -رحمه الله- قال: "إن من فضائل التهجد: أن الله تعالى يحب أهله، ويباهي بهم الملائكة ويستجيب دعاءهم "، أما قوله –صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِي يَكُونُ فِي سَفَرٍ وَكَانَ مَعَهُ رَكْبٌ، فَسَهَرُوا وَنَصَبُوا ثُمَّ هَجَعُوا»، أى أن الثالث هو رجل سافر مع رفقة، فسهروا بالليل حتى تعبوا ثم هجعوا أي ناموا ولا شيء هو أحب وأشهى للمسافر من النوم بعد التعب والسهر.
وأشاروا أن قول رسول الله: « فَقَامَ فِي السَّحَرِ فِي سَرَّاءٍ أَوْ ضَرَّاءٍ »، أى فقام هو من دونهم يصلي بالسحر وهو جوف الليل الآخر وترك النوم لله تعالى وقام يناجيه بالسحر ويدعوه فى السراء والضراء وهذا القول يدل على أن حاله مع ربه لا يختلف يذكر الله على كل حال سواء كان في مسرة أو في مضرة .
وبينوا أن هؤلاء الثلاثة يحبهم الله تعالى، لأن كلا منهم آثر أمر الله على شهوته وحظ نفسه وأعظمهم درجة الأول الذي قاتل بعد انهزام أصحابه؛ لأنه آثر أمر الله على حظ نفسه من الحياة، ويليه الثاني؛ لأنه آثر أمر الله على حظ نفسه من الزوجة ومن النوم، ثم الثالث الذي آثر أمر الله على حظ واحد من حظوظ نفسه.
طرق التقرب إلى الله تعالىيسعى المسلم الحق إلى التقرب من الله- تعالى- واتباع أوامره، واجتناب نواهيه؛ فالتقرب من الله – سبحانه وتعالى- يجعلنا نفوز بجنّات النعيم ورضوان الله وتوفيقه في الدنيا والآخرة، ومن أبرز الطرق التي تقربك إلى المولى -عز وجل-:
1- أداء الصلاة في أوقاتها: تعتبر الصلاة الركن الأول من أركان الإسلام، وهي عمود الدين، كما أنّها أوّل ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، ومن أحب الأعمال إلى الله أداء الصلاة في وقتها، أي بعد الآذان مباشرة، كما أن الصلاة في المسجد مع الجماعة لها أجر مضاعف أكثرمن أجر صلاة الشخص بمفرده.
2- أداء صلاة التطوع: يقصد بها أداء الصلوات المشروعة وغير الواجبة، مثل صلاة: السنة، والتراويح، والضحى، والتهجّد، والوتر، وتحية المسجد، فينال من يؤدّي مثل هذه العبادات أجرًا عظيمًا، ويتقرّب إلى الله ويفوز برضوانه وجنته يوم القيامة.
3- الحرص على المداومة على الطاعات؛ فمن أحب الأعمال إلى الله هي أدومها، لذلك يجب على المسلم المداومة على طاعة الله، وفعل الخير، فهي السبيل للتقرّب إلى الله ونيل رضاه ومحبته.
4- بر الوالدين: ويقصد ببر الوالدين معاملتهما معاملة حسنة، وطاعتهما في الأمور التي ترضي الله، قال – تعالى-: « وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ»، [سورة لقمان: الآية 14].
5- الصيام: فقد جعل الله - سبحانه وتعالى- الصوم من الأعمال المحببة إليه، والتي تشفع لصاحبها يوم القيامة، فيتقرب المسلم إلى ربه عن طريق صيام شهر رمضان، وصيام التطوع كصيام يوم عرفة لغير الحاج، وصيام يومي الإثنين والخميس، وصيام الأيام البيض من كل شهر وهي يوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر.
6- التوبة عن المعاصي والآثام التي ارتكبها المسلم: ويجب أن تكون توبته صادقة وصحيحة، وأن يعاهد الله على عدم العودة إلى المعاصي.
7 - قراءة القرآن الكريم: لقوله -عليه السلام في الحديث الشريف: « من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها»، [صحيح الجامع].
8- الإكثار من الصلاة على النبي -عليه السلام-: تصديقًا لما جاء في الحديث الشريف التالي: «من صلّى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا»، [رواه مسلم].
9- لزوم الصحبة الصالحة: حيث إن الأصحاب الأخيار يعينون المسلم على طاعة الله، وترك المعاصي والآثام.
10- التصدق على الفقراء والمساكين.
11- الحرص على ذكر الله: فهو من أعظم الأفعال التي يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-، ومن الأذكار التي جعل الله لها أجرًا عظيمًا التسبيحات الأربعة وهي: سبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا آله إلا الله، بالإضافة إلى قراءة الأذكار في الصباح والمساء، وقد جعل الله لمن ذكره الأجر العظيم، وأزال عنه الهموم، وأعانه على قضاء حوائجه، وخصّه الله بمحبته، ووسع له في رزقه، وجعله ممن يدخلون الجنة يوم القيامة، قال – تعالى-: « يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»، [ سورة الاحزاب: 42،41].