الزار بين التهميش الاجتماعي ورفض الاستعمار (1)
تاريخ النشر: 26th, November 2024 GMT
ينطلق هذا المقال من دراسة بعنوان (الأرواح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار)، أجرتها الباحثة (سوزان م. كينيون). والدراسة هي إحدى الموضوعات التي وردت في كتاب بعنوان "الرق" الذي يضم مجموعات من المقالات التي ترجمها البروفسير بدرالدين حامد الهاشمي. وقد شرفني البروفسير الهاشمي مع آخرين لكتابة مقدمة الكتاب.
تحدثت كينيون في دراستها الميدانية عن طقوس الزار وتلبس الأرواح. من بين ذكرت كينيون أن من يقوم بتنظيم طقوس الزار (في منطقة سنار تحديدا) هم أسر أو جماعات ترجع أصولها لجنوب السودان (السودان الجنوبي حاليا) لقبائل مثل الدينكا والنوير...إلخ. وقد ربطت الباحثة بالتالي بين ممارسة تلك الطقوس من قبل تلك الجماعات وبين تاريخ من الاسترقاق لأسلاف هؤلاء الأسر. وأن تلك الأسر تستعيد من خلال طقوس الزار ذكرى أسلافهم، وما كابدوه من عذابات ومعاناة خلال رحلة الاسترقاق، التي استبيحت فيها أرواحهم وحرياتهم. تعتبر تلك الطقوس وفق تفسير الباحثة بمثابة ارتباط واتصال روحي مع أسلافهم وهي كذليك تأكيد على أوضاعهم الهامشية في المجتمع. الجدير بالذكر أنه تمت مناقشة الكتاب في قاعة الشارقة في حوالي 2014. وقد شارك في مناقشة الكتاب لفيف من المهتمين بهذه الظاهرة ب إلقاء الضوء على عدة جوانب كانت قد وردت في الكاتب.
تعليقا على استنتاجات كينيون في بحثها الذي اطلعت عليه من الكتاب الذي أشرت إليه آنفاً فهناك عدة نقاط سأحاول التعليق عليها. من بين أهم تلك النقاط أن طقوس الزار في السودان ليست وقفاً على منطقة جغرافية معينة، أو قبيلة أو إثنية بعينها. ظلت طقوس الزار (وربما زالت) منتشرة في كثير من مناطق ومدن السودان، (وإن صارت أقل كثيرا من الفترة التي أُجري فيها البحث). وتأكيداً على ذلك فقد ذكرتٍ كثير من المصادر أن الزار موجود في العديد الدول في شرق أفريقيا وغربها كما هي موجودة في مصر وبعض دول الحجاز. تؤكد مصادر عدة أن الزار جاء إلى السودان، من الخارج لربما من الحجاز أو أثيوبيا. هناك رأي يقول بأن اسم الزار نفسه مشتق من الأمهرية (إثيوبية) كما ورد في كتاب (الزار والطمبرة) للدكتور أحمد الصافي ود. سميرة أمين وغيره من المصادر. وبالتالي فإن حصر الظاهرة في إثنية أو منطقة محددة كما ورد في تفسير كينيون، يعتبر مخالف للواقع. بناء عليه يمكن القول أن الربط بين طقوس الزار وحالة التهميش لدى طيف أوسع من الإثنيات المختلفة أو في مناطق مختلف هو الاستنتاج الأقرب للمنطق والواقع ولإمكانية استخلاص نتائج يمكن قبولها بكل ثقة.
عند مناقشة بحث كينيون تتبادر إلى الذهن عدة أسئلة من بينها: هل يمكن أن ينطبق التصوّر الذي قدمته كينيون عن الجماعات التي تنظم طقوس الزار في سنار على كل مناطق السودان؟ وهل يمكن اعتبار مدينة سنار مثالا يمكن تعميمه على كل مناطق السودان الأخرى؟ ثم أيضاً ما هو موقع أو دور المشاركين في تلك الطقوس من الذين تنظم تلك الحفلات لأجلهم من التفسير أعلاه؟
يمكن القول إن حصر ممارسة الطقوس الزار على الأسر المنحدرة من جنوب السودان فقط هو استنتاج لا ينطبق ولا يمكن تعميمه على كثير من مناطق السودان ولا على من يقومون من ناحية أخرى. كذلك ليس هناك رابط واقعي أو فعلي يربط بين ممارسة الزار وبين معارضة الاستعمار على الأقل في وقت إجراء البحث في مدينة سنار، (وفي معظم مناطق السودان). من ناحية أخرى فإن ربط طقوس الزار بالتهميش الاجتماعي أو السياسي (أو الجندري كما ذكرت بعض المصادر) قد يكون أكثر شمولا وواقعية.
من بين تلك الأبحاث التي أشرت إليها، بحث بعنوان:( المتلازمات الإثنية كاحتجاج مستتر على الاستعمار: ثلاثة أمثلة إثنوغرافية). وهو بحث كانت قد أجرته إليزابيث هيغيمان، المتخصصة في علم النفس. تذكر هيغيمان ثلاثة نماذج مختلفة لبحثها عن الزار وبعده الإثني كممارسة في ثلاثة مناطق مختلفة من بينها جنوب السودان. تربط هيغيمان في هذا البحث بين طقوس الزار، وبين تلبس الأرواح كوسيلة خفية لمقاومة الهيمنة الاستعمارية والصدمات النفسية والفواجع في بورتريكو. في اعتقادي أن تفسير هيغيمان لممارسة الزار هو الذي قاد كينيون للتماهي معه في الربط بين ممارسات الزار وبين معارضة الاستعمار. وكذلك في فكرة تلبس الأرواح كنوع من التداعي النفسي المرتبط بذكريات سابقة من الاسترقاق وبحالة من التهميش الراهن.
في الختام أشير إلى أن الموضوع بامتداداته المتشعبة والممتعة قادني للاطلاع على بعض الكتابات حول نفس الموضوع وإن اختلفت زاوية التناول واختلف بالتالي التفسير. يعتبر بحث إليزابيث هيغيمان من بين الكتابات التي تثير الانتباه عند البحث في ظاهرة الزار. تأتي بأهمية بحث هيغيمان لأنه يتجاوز تناول الموضوع من جانبه الاجتماعي و/ أو الأنثروبولوجي، ليضم إليها الجانب النفسي والجانب المرتبط بالأسرة والجندر.
د. محمد عبد الله الحسين
Mohabd505@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مناطق السودان من بین
إقرأ أيضاً:
علماء يكتشفون آلات موسيقية صُنعت من عظام بشرية في تكساس!
كشفت دراسة رائدة عن أدلة تشير إلى أن قبيلة قديمة، غير معروفة الهوية، ازدهرت على طول الساحل الجنوبي لولاية تكساس الأمريكية، قامت بتصميم آلات موسيقية باستخدام عظام بشرية معدلة.
وتُسلط هذه النتائج الضوء على ممارسات ثقافية غير مسبوقة، وربما تشير إلى تواصل غير مباشر مع حضارات أكثر تعقيداً وسط المكسيك.
اكتشاف آلة “أوميتشيكاهواتزتلي” في تكساسأثناء فحصه لمجموعة من القطع الأثرية في أحد المتاحف، عثر الدكتور ماثيو تايلور، عالم الأنثروبولوجيا البيولوجية بجامعة أوغوستا في جورجيا، على مبرد موسيقي مصنوع من عظمة عضد بشرية.
وعلى الفور، لفتت القطعة انتباهه لتشابهها الكبير مع آلة موسيقية مروعة تُعرف باسم “أوميتشيكاهواتزتلي”، التي كانت تُستخدم في طقوس جنازة ملوك ومحاربين مشهورين بثقافات ما قبل الغزو الإسباني مثل الأزتك، بين عامي 1250 و1521 ميلادياً.
29 قطعة أثرية مصنوعة من عظام بشريةحلّل تايلور ما مجموعه 29 قطعة مصنوعة من عظام بشرية تعود إلى أواخر عصور ما قبل التاريخ (حتى القرن السادس عشر).
وصُنعت معظم هذه القطع من عظام عضد أو فخذ، بينما صنعت قطعتان فقط من الأضلاع. ويُرجّح أن تفضيل العظام الطويلة يرجع إلى حجمها وسلامتها الهيكلية.
وأوضح تايلور أن صناعة هذه القطع اتبعت تقنية تُعرف بـ”الأخدود والكسر”، حيث يُقطع العظم بحركة دائرية حول الجذع للوصول إلى تجويفه الداخلي، ما يسمح بكسره بطريقة محكمة. ويُشير تعقيد هذه العملية إلى وجود هدف ديني أو شعائري واضح.
هل كانت طقوساً دينية أم أكل لحوم بشر؟رغم شيوع استخدام العظام البشرية في طقوس تبجيل الأسلاف أو كغنائم حرب في بعض الثقافات القديمة، فإن الأدلة على مثل هذه الممارسات في جنوب تكساس نادرة. وأشار تايلور إلى حالة واحدة فقط وثّقها المستكشف الإسباني ألفار نونيز كابيزا دي فاكا، حيث ذكر أن بعض سكان تكساس الأصليين كانوا يشربون من عظام رجال دين محروقة، في طقوس قد تُعد شكلاً من أشكال عبادة الأسلاف أو حتى أكل لحوم البشر.
مبرد موسيقي محفور بدقةمن أبرز ما كشفته الدراسة، قطعة أثرية على شكل مبرد موسيقي مصنوع من عظمة ذراع بشرية، تحمل 29 شقاً محفوراً بدقة. وصُمّمت هذه الشقوق على الأرجح لإصدار صوت عند حكّها بأداة أخرى. كما زُيّنت الجهة الأخرى بأنماط هندسية متعرجة تضيف لمسة جمالية على الأداة، ما يعزز فرضية استخدام القطعة في طقوس شعائرية.
ورغم عدم العثور على أدوات مماثلة من قبل في جنوب تكساس، إلا أن نماذج شبيهة ظهرت في المرتفعات الوسطى للمكسيك، وتُعرف هناك باسم “أوميتشيكاهواتزتلي” بلغة الناهوا. وكانت هذه الأدوات تُصنع عادة من عظام الفخذ، ما دفع تايلور إلى الاعتقاد بأن القطعة التكساسية قد تعكس محاكاة لتلك الممارسات المكسيكية.