الفلسفة.. شكّلت في تفكيرنا الإسلامي على مدى تأريخه الطويل حضورا وغيابا، بيد أنه في الآونة الأخيرة غلب الغياب، لأسباب منها:
- غموض الفلسفة؛ مصطلحا ومفهوما وأقضية على لغة العصر، فحقولنا الأكاديمية لم تستطع أن تخرج كادرا قادرا على التعامل مع الفلسفة، ووصل الحال بها إلى إغلاق أقسامها في بعض الجامعات العربية.
- اكتساح السلفية العقل المسلم خلال النصف الأخير من القرن العشرين الميلادي، والذي كان من أدواتها في الانتشار التحذير من العقل والفلسفة. فعلت ذلك خوفا على مقولاتها، فهي تدرك أن التفكير العقلاني قد تجاوز كثيرا منها.
- ظهور «نزعة عقلانية» ترى أن الفلسفة ماتت، وتدلل على ذلك بأن الجامعات الغربية أصبحت تغلق أقسامها، وكأن الغرب هو المعيار. إن في ذلك إغفالا لمتغيرات الحقل المعرفي، الذي لم يعد مصدر التعلّم وممارسة العلم الحقل الأكاديمي وحده.
بدخول القرن الحادي والعشرين.. حصلت تحولات كبرى في سرعة التواصل بين البشر، مما أدى إلى تشظٍ في مرافق الحياة؛ وفي مقدمتها المعرفة، أسفرت عن شعور الشباب بالظمأ الفكري والأنطولوجي، نتيجة التحرر من بوتقة السلفية، فطفقوا يقرأون في فنون المعارف؛ ومنها الفلسفة. ولأن الوضع السلفي قد ترك أثره العميق في الفكر؛ اتجه بعض الشباب إلى «قراءة سلفية» للفلسفة، أي تبني مقولاتها السابقة؛ لا سيما مقولات عصر التنوير، وليس ممارسة التفلسف بشروطه الموضوعية. وما نسمعه من اللاهجين بالفلسفة لدينا غالبا هو رضف لمقولات الفلاسفة دون قدرة على إنتاج مقولات جديدة، فضلا عن عدم القدرة على نقدها، وهذه «السلفية الفلسفية» كسلفية الفقيه الذي يستدعي مقولات أسلافه فيعيد إنتاجها بلغة العصر، أنا مع دراسة الفلسفات، فدراستها تفرضها الضرورة العلمية، بيد أن هذا ليس تفلسفا، وإنما استعراض معرفي للفلسفة.
وبعد.. فما الفلسفة؟ قُدِّمت عشرات التعريفات لها، وفي هذا ثراء، بيد أن التعريف يخنق المفهوم، ويجعل الكاتب أسيرا له في تحليله الفلسفي، كما أنه يُوقِع القارئ خاصة المبتدئ في حيرة المواءمة بين الرؤى الفلسفية؛ لا سيما الآخذة في التشكل، وبين ضبطها وفق التعريف. ولأجل هذا؛ أرى التخفف من ثقل التعريفات، لكن لا بد من وضع قدر من التعريف للمصطلح الفلسفي، لكي يعطي القارئ مدخلا لمعالجة القضية المراد مناقشتها، وضبط مسار تحليلها، فلا يند عن موضوعها.
للفلسفة تعريفات عديدة.. فمثلا؛ فيراها أبو نصر الفارابي (ت:260هـ) بأنّها: (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، وهذا التعريف أقرب إلى العلم منه إلى الفلسفة. ويعرّفها يعقوب بن إسحاق الكندي (ت:256هـ) بأنها (علم الأشياء بحقائقها الكليّة)، وهذا جيد، إلا أن «علم الحقائق» صعب المنال على العقل، والأحرى؛ أن يقال: فهم سَيْر الأشياء بقواعد كلية. أمّا عمانويل كانط (ت:1804م) فيرى أنّ الفلسفة (هي المعرفة الصادرة من العقل)، وهذا جيد أيضا.. بل ومهم، لكنه ملتبس، فإن كان يقصد بـ«المعرفة» العلم، فالتأمل العقلي.. ليس من وظيفته أن ينشئ علما، إلا إن تحوّل إلى تجربة تثبت ما ذهب إليه العقل، فحينها سيكون الصدور غير مباشر عن العقل، والفلسفة.. هي ما يصدره العقل بتأمله مباشرة. أما إن كان يقصد بـ«المعرفة» التأمل الصادر عن العقل، فإن التأمل فعلا يتحول خارج العقل إلى معرفة.
كيف أعرّف الفلسفة؟ استعمالي «كيف» عن قصد، لأن آلية التعريف مهمة كالتعريف ذاته، لكي نعرّف الفلسفة فعلينا قبل ذلك أن نفهم بأن التأمل الفلسفي يجري بأداة ظنية؛ أي أن العقل الذي ينشئ «الحل الفلسفي»؛ مهما بدا أنه قوي ومتماسك يظل منتَجا ظنيا.
فإن قلتَ: أليست الفلسفة مَن وضعتْ قواعد التفكير الرصينة التي نتأمل بها الموجودات؟
قلتُ: هذا صحيح. لكن وضعها يتعلق غالبا بإحكام المنطق، والمنطق.. خاضع للحس، أي قابل أن تنزله على الواقع المشخَّص، فعندما تقول: الكل أكبر من الجزء، فهذه قاعدة كلية مجردة، بإمكانك استعمالها في المشخَّصات، فالبرتقالة أكبر من أي جزء منها. وهذه القواعد الكلية المحكمة قليلة، مع وجود نزاع في إحكامها. أما خارج هذه الكليات التي ينطق بها الوجود قبل أن تنطق بها عقولنا؛ فإن التفكير ظن.
وإن قلتَ: إذا كان التفكير ظنا، فهذا يعني أن الأنظمة المعرفية التي تشكّل عقولنا قائمة على الوهم، فهل يمكن أن يقوم عالمنا على الوهم؟
قلتُ: إن الأنظمة المعرفية في عالمنا بالأساس قائمة على الوهم، ولولاه لما تمكن الناس من بناء حياتهم وتدبير شأنهم وإدارة مؤسساتهم، وقد تحدثت عن ذلك في مقالي «الوهم.. وحتميته في بناء الحياة»، نشرتْه مشكورة جريدة «عمان» بتاريخ: 26/ 12/ 2023م. إننا لا نخشى الظن بشرط ألا نعتبره علما، فالعلم.. بمعنى إدراك الشيء على حقيقته هو وحده القطع، وهذا له سياقه الذي ينبغي ألا يخلط بالفلسفة. أما الظن فهو الأفق الأوسع لتطوير أنظمة معارفنا، وإعادة ضبط بوصلة تفكيرنا باستمرار بما يتواكب مع مستجدات الحياة. وقوة الفلسفة.. أنها تمنحنا الظن والشك؛ لا اليقين والقطع، فهذان الأخيران قَتْلٌ للتفلسف.
في تعريف الفلسفة.. ينبغي كذلك أن نعي المنهج الذي يسير عليه تفكيرنا في توليد القضايا؛ نقدا وتفكيكا وتحليلا وبناء.. بل علينا أن نبني منهجنا، فلا تفلسف بمنهج الغير، ولا يجوز تقليده، وإنما علينا نقده. ففي عالم الفلسفة لا فكرة تنجو من النقد، ولا يقين من دون شك، ولا بناء قبل اختبار صلابة القواعد.
قبل التفلسف.. علينا أن ندرك بأن العقل يتأمل في الماورائيات المعرفية؛ أي في تحليل الأنظمة التي تقبع خلف الظواهر الوجودية الكلية والاجتماعية التفصيلية، فالعقل.. لا يسبق الظاهرة. ويفعل ذلك بأداة بيولوجية محضة؛ قد يصيبها العطب كما أنها قابلة للخداع. بعكس العلم القائم على التجربة؛ فما هو إلا ما تنتجه التجربة على وجه القطع بشروطها الموضوعية، لا أنكر بأن للعلم ظنونه وأوهامه، ولكن هذا شأن آخر. هناك علاقة بين الفلسفة والعلم.. وهي أنه لا يجوز لها أن تتخطى «قطعيات العلم».. بل عليها أن تبني على هذه القطعيات، وإنما للفلسفة أن تفترض خطأ القطعيات حتى تدفع بالعلم إلى تجاوز أوهامه.
علينا كذلك أن نفرز بين عمل الفلسفة وعمل الدين، بكون الدين لا يجوز أن تتدبر مقولاته خارج مظلته النصية، أما الفلسفة فهي تأمل خارج نطاق أية مظلة؛ بما فيها الدين. وكما أن الفلسفة غير مقطوعة الصلة بالعلم فكذلك هي مع الدين، عمل الدين في الفلسفة أن يوسع نطاقها في المطلق، لأن تأملها في «الماورائيات المعرفية»، وبعض الماورائيات تشكّل معتقد الدين، وعمل الفلسفة أن تتأمل في قضايا الدين لا أن تحتكم إليه.
إن الفلسفة تأمل عقلي خالص، وهذا لا يعني أن العقل عليه أن يرفض كل المعارف السابقة، هذا مستحيل، فما العقل إلا آلة تقوم بعمليات الإدراك والتحليل والتفكيك والبناء والتركيب والنقد والتصنيف والترتيب، وهذه لا بد لها من تغذية، فالعقل.. لا يقوم بها في فراغ، فلا بد له من معرفة أولية، وهي التي يتحصل عليها من الحواس. وإنما المقصود بأن على العقل وهو يتفلسف أن ينقد كافة المقولات السابقة، وألا يضع حاجزا أمامه لا يتجاوزه، إلا المنهج الذي يرتضيه وفقا لمقدمات وقواعد رصينة شكّلته.
الفلسفة.. هي تأمل عقلي خاضع للبُنية المنطقية والمنهجية المُفكَّر بها فقط، المستقل عن أية مقدمات تسبقه وشروط تحكمه، في قضايا الوجود، بداية من الإنسان نفسه، وانتهاء بالكون ومجراته وكائناته، وفق منهج يرتضيه الفيلسوف لنفسه لا يتناقض مع سنن الوجود، فالتناقض معها هو أحد كواشف زيف المنهج.
وختاما.. علينا التمييز بين تعريف الفلسفة ومعناها ومفهومها، وهذا ما أرجوه مستقبلا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بعد "واقعة العلم".. الاتحاد البحريني يقدم اعتذارا للعراق
تقدم الاتحاد البحريني لكرة القدم باعتذار للعراق، الخميس، بعد ظهور العلم القديم للعراق على الشعار التذكاري قبل مواجهة البلدين في كأس الخليج العربي لكرة القدم (خليجي 26) المقامة في الكويت.
وتأهل منتخب البحرين إلى المربع الذهبي لخليجي 26 بعد فوزه على أسود الرافدين 2 -0 الأربعاء، لكن تزامن ذلك مع ظهور العلم القديم للعراق على الشعار التذكاري الذي تبادله قائدا المنتخبين قبل بداية اللقاء.
ونشر اتحاد الكرة البحريني بيانا عبر حسابه على منصة "إنستغرام" قال فيه : "يود الاتحاد البحريني لكرة القدم توضيح الآتي بخصوص الشعار التذكاري الذي تم تبادله بين قائدي منتخبي البحرين والعراق، ضمن الجولة الثانية لكأس الخليج العربي خليجي (26) المقامة حاليا في دولة الكويت، والذي احتوى على العلم القديم لجمهورية العراق".
وأضاف البيان أن "طباعة العلم القديم لجمهورية العراق على الشعار التذكاري كان خطأ مطبعيا من المطبعة التي تعاقد معها الاتحاد لتجهيز الشعارات التذكارية الخاصة بمباريات المنتخب الوطني في خليجي 26، إذ لم تتم عملية التدقيق من قبل الاتحاد بعد استلام الشحنة المذكورة الخاصة بشعارات المباريات الثلاث لدور المجموعات".
وتابع: "وفي هذا الإطار، يقدم الاتحاد البحريني لكرة القدم اعتذاره إلى الأشقاء في العراق قيادة وحكومة وشعبا، وذلك عن الخطأ غير المقصود بوضع العلم القديم".
وأكد على أن "هذا الخطأ لا يؤثر على العلاقات الطيبة التي تربط البلدين الشقيقين، مشيرين إلى أن البحرين والعراق بلدان تجمعهما علاقات قوية على جميع الأصعدة، ولا يعكر صفوها مثل هذه الأخطاء غير المقصودة، إذ يكن الاتحاد البحريني لكرة القدم كل الاحترام والتقدير للأشقاء العراقيين".