صحيفة التغيير السودانية:
2025-01-27@17:18:41 GMT

حرب السودان والأسئلة الصعبة

تاريخ النشر: 26th, November 2024 GMT

حرب السودان والأسئلة الصعبة

حرب السودان والأسئلة الصعبة
د. الشفيع خضر سعيد
لم تنجح المبادرات المختلفة في إيقاف الحرب بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الطرفين على أساس إعلان مبادئ الإيقاد الصادر في 20 مايو/أيار 1994 والذي وافق عليه الطرفان.
صحيح أن إعلان المبادئ ذاك صاغته دول الإيقاد وقدمته جاهزا إلى الطرفين ليوقعا عليها، لكن لابد من التنبيه إلى أن محتوى بنوده لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين بقدر ما كان إعادة صياغة وترتيب للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان.

واليوم، تظل قناعتي الراسخة أن القوى المدنية والسياسية السودانية هي وحدها المؤهلة لإجتراح إعلان المبادئ الذي يشكل المدخل أو التمهيد لإطلاق العملية التفاوضية، وكذلك إجتراح الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل هذه العملية للسير بها في اتجاه وقف الحرب ووضع أسس عدم تجددها أو إعادة إنتاج الأزمة في البلاد. وفي هذا السياق، هنالك نقطتان متعلقتان بإعلان المبادئ، أولها ضرورة موافقة كل الأطراف عليه، بما في ذلك الأطراف المتحاربة، حتى يكون مدخلا أساسيا لعملية التفاوض، ولذلك، وهذه هي النقطة الثانية، فإن بنوده تتناول العموميات التي يسهل الإجماع حولها مثل التمسك بمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وبوحدة السودان، وبالحكم المدني الديمقراطي، وبالنظام الفدرالي الذي يراعي التعدد والتنوع، وبالجيش الواحد وبنائه كل القوات النظامية على أساس مهني وقومي، وبإصلاح الخدمة المدنية والنظام العدلي، وبالحوار السوداني سوداني… إلى غير ذلك من المبادئ التي سيتقبلها الجميع، وإن ليس مستبعدا أن بعضهم سيتقبلها تقية! ومن الواضح أن إعلان المبادئ وحده ليس كافيا لوقف الاقتتال، لكنه يشكل معيارا لدرجة التنازلات الممكنة في العملية التفاوضية، بمعنى أن التنازلات لإنجاح العملية التفاوضية لصالح الهدف الرئيسي، أي وقف الحرب والانتقال المدني الديمقراطي، يجب ألا تصل إلى درجة التصادم بين محتوى إعلان المبادئ ومحتوى ما سيتم الاتفاق حوله في طاولة التفاوض.
وفي المقابل، فإن الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل العملية التفاوضية للسير بها في اتجاه وقف الحرب، تتكون من الإجابات المحتملة على الأسئلة المتعلقة بكيفية وقف الحرب وتداعيات ما بعد ذلك، آخذين في الاعتبار أن هذه الأسئلة ليست مجرد تهويمات نظرية بقدر ما هي نابعة من واقع البلاد الراهن المأزوم.
وبداهة، بينما تظل أسئلة الرؤية واحدة وثابتة، فإن الإجابات عليها تختلف عند هذا الطرف أو ذاك. ولكن من البديهي أيضا أن تتوافق القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب على إجابات موحدة على هذه الأسئلة، وتنتج رؤيتها التي يجب أن تطرحها في أي منبر تفاوضي يسعى لوقف الحرب. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن تسهيل توصل القوى المدنية والسياسية إلى الرؤية المنشودة، يقتضي التوافق قبلا على مجموعة من الحقائق، منها أن الحرب الراهنة خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تفاصيل الأحداث الراهنة وتداعياتها، وأن هذا الواقع الجديد لابد أن تكون له مستحقاته العملية التي يجب أن تبحث وتتمعن في الأسباب الجذرية للحرب، بدءا من أن الدولة السودانية فشلت منذ استقلالها في التعبير عن كافة مكوناتها الوطنية الأمر الذي أدى إلى تمكن الحلقة الشريرة والأزمة العامة في البلاد بتجلياتها العديدة والتي من بينها الانقلابات العسكرية والنزاعات واشتعال الحروب التي كانت حتى وقت قريب تستوطن الأطراف قبل أن تأخذ منحىً جديدا وصادما باندلاعها في عاصمة البلاد في 15 أبريل/نيسان الماضي، وأن من النتائج المباشرة لهذه الوضعية إضعاف الدولة السودانية وعدم قدرتها على توظيف كل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية للتوافق على مشروع وطني نهضوي ينتشل البلاد من وهدتها المتمكنة منها منذ فجر الاستقلال قبل ثمانية وستين عاما، وهو مشروع لايزال السودانيون يتمسكون به حتى في أتون هذه الحرب المجرمة، وأن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني والوطن، وكل يوم جديد في الحرب يحمل معه مزيدا من الجراح والآلام لشعبنا ومزيدا من التدمير لبنية الوطن، وأن جوهر هذه الحرب يحمل عداء سافرا لثورة ديسمبر المجيدة.
ونحن نؤسس وجهة نظرنا حول ماهية الرؤية لإنهاء الحرب، على رفض أن تكون الحرب بديلا للحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية مهما بلغت من الحدة والتعقيد، وأن مسألة وقف الحرب يجب أن يتم التعامل معها كحزمة واحدة مكونة من ثلاث حزم فرعية تتكامل مع بعضها البعض، تشمل وقف الاقتتال، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة وحماية المدنيين، وإطلاق عملية سياسية جديدة.
وإذا كان للمجتمع الدولي والإقليمي دور رئيسي في الحزمتين الأولى والثانية، فإن الحزمة الثالثة، العملية السياسية، حصريا من مهام القوى المدنية والسياسية السودانية، وأن دور المجتمع الدولي والإقليمي في الحزمتين الأولى والثانية لن يأتي أكله إلا من خلال الرؤية التي ستجترحها القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب.
أما جوهر هذه الرؤية فهو، من وجة نظرنا، مجموع الإجابات على ما أسميناه بالأسئلة الصعبة المتعلقة بحرب السودان، نوردها هنا باختصار على أن نتوسع حولها في مقالاتنا القادمة، وتشمل:
1 ـ ماهي الخيارات المتاحة حول مستقبل ودور قيادة القوات المسلحة في السودان بعد انتهاء الصراع؟
2 ـ ما هي الخيارات حول مستقبل قوات الدعم السريع ومستقبل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى على أساس مبدأ بناء الجيش المهني الواحد في البلاد؟
3 ـ كيف نطور إطارا للعدالة والعدالة الانتقالية يضمن إنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب؟
4 ـ كيف نتعامل مع البعدين الدولي والإقليمي في الحرب؟
5 ـ ما هي تفاصيل العملية السياسية من حيث أجندتها وأطرافها؟
سنتناول هذه الأسئلة وإجاباتها بالتفصيل بدءا من مقالاتنا القادمة.

* نقلا عن القدس العربي

الوسومالسودان المجتمع الدولي ثورة ديسمبر حرب السودان د. الشفيع خضر سعيد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان المجتمع الدولي ثورة ديسمبر حرب السودان القوى المدنیة والسیاسیة العملیة التفاوضیة إعلان المبادئ وقف الحرب یجب أن

إقرأ أيضاً:

معضلة الجيش والسياسة في السودان و أثمان الحرب الإنسانية والسياسية

يمثل المشهد السوداني اليوم لوحة معقدة تتشابك فيها قضايا السياسة والأمن والإنسانية، حيث تبرز معضلة العلاقة بين الجيش والسياسة كعامل مركزي في تأجيج الصراعات وإطالة أمد الأزمات. ومنذ استقلال السودان، ظل الجيش لاعبًا رئيسيًا في الحياة السياسية، متأرجحًا بين أدوار التحرير والبناء الوطني من جهة، والانقلاب والتسلط من جهة أخرى. ومع اندلاع الحرب الحالية، تتجلى بصورة أوضح الأثمان الباهظة لهذه العلاقة الملتبسة.

شهد السودان أكثر من 16 انقلابًا عسكريًا منذ الاستقلال عام 1956، مما جعله واحدًا من أكثر دول العالم التي تأثرت بتدخل الجيش في السياسة. وفي كل مرة، كانت المؤسسة العسكرية تسوق مبررات تتعلق بحماية الأمن القومي، أو إنقاذ البلاد من الفوضى السياسية، لكن هذه التدخلات غالبًا ما قادت إلى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي. تحولت المؤسسة العسكرية إلى أداة لتحقيق مصالح فئوية وشخصية، حيث أدى التداخل بين الجيش والسياسة إلى إضعاف كفاءة الجيش في أداء مهامه الأمنية. وبمرور الوقت، أصبح الجيش طرفًا في الصراعات بدلاً من أن يكون وسيطًا محايدًا. ساهمت الخلافات بين القوى المدنية وعدم قدرتها على بناء جبهة موحدة في تعقيد المشهد. هذا التشرذم أتاح للجيش فرصة لاستغلال الفراغ السياسي، ما أدى إلى تعطيل مشاريع التحول الديمقراطي.

اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع أدى إلى موجات نزوح واسعة، حيث تقدر الأمم المتحدة عدد النازحين داخليًا بأكثر من 4 ملايين شخص، بالإضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين عبروا الحدود إلى دول الجوار. تدهور الأوضاع الإنسانية انعكس في نقص حاد في الغذاء والدواء، وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية. أصبحت المدن الكبرى مثل الخرطوم ودارفور ساحات حرب مفتوحة، مع استهداف مباشر وغير مباشر للمدنيين. جرائم القتل الجماعي، والاغتصاب، والاختطاف باتت واقعًا يوميًا، ما يشير إلى تدهور خطير في القيم الإنسانية. الحرب ليست مجرد صراع لحظي؛ بل تُنتج آثارًا ممتدة على الأجيال القادمة، سواء من حيث التعليم الذي توقف في معظم أنحاء البلاد، أو من حيث انتشار ثقافة العنف التي تهدد النسيج الاجتماعي.

أدت الحرب إلى تقويض مؤسسات الدولة، حيث انهارت البنية التحتية، وتعطلت أجهزة الحكم المدني. تحول السودان إلى "دولة فاشلة" في عيون المجتمع الدولي، ما يهدد بفقدان السيادة الوطنية لصالح التدخلات الخارجية. شهدت العلاقة بين الجيش والشعب تدهورًا غير مسبوق نتيجة الأدوار التي لعبتها المؤسسة العسكرية في الصراعات. كثير من السودانيين يرون الآن في الجيش عقبة أمام تحقيق السلام والاستقرار. الحرب الحالية أعادت إلى الواجهة أسئلة حول مستقبل القوى المدنية ودورها في السودان. تزايد تهميش هذه القوى يعكس هيمنة الخطاب العسكري على حساب الحوار السياسي.

لا يمكن تحقيق استقرار سياسي في السودان دون فصل واضح بين الجيش والسياسة. يتطلب ذلك إعادة هيكلة الجيش ليكون مؤسسة وطنية غير مسيسة، ملتزمة بحماية السيادة دون التدخل في الشأن المدني. على القوى المدنية تجاوز خلافاتها التاريخية، والعمل على بناء جبهة موحدة قادرة على طرح رؤية متكاملة لمستقبل السودان. الوحدة ليست خيارًا بل ضرورة لتغيير موازين القوى. لا يمكن للسودان الخروج من أزمته بمعزل عن الدعم الإقليمي والدولي. يحتاج المجتمع الدولي إلى لعب دور أكثر فاعلية في تسهيل الحوار بين الأطراف المتصارعة، وتقديم الدعم الإنساني العاجل.

إن معضلة الجيش والسياسة في السودان ليست مجرد أزمة محلية؛ بل هي انعكاس لصراعات أعمق تتعلق بالهوية الوطنية، وبناء الدولة، وآليات توزيع السلطة. ورغم التحديات الهائلة، يظل الأمل في أن تُشكل هذه الأزمة فرصة لإعادة صياغة علاقة الجيش بالسياسة، وبناء نظام حكم يعبر عن تطلعات السودانيين للسلام والعدالة والتنمية. ومع ذلك، قد يلجأ الجيش إلى مثقفين تنويريين لوضع فلسفة حكم تسعى لاحتواء القوى المدنية كشركاء بلا تأثير فعلي، في محاولة لشرعنة الهيمنة العسكرية وإبقاء السلطة بيد المؤسسة العسكرية. مثل هذا السيناريو يهدد بتعميق الأزمة السياسية ويضع القوى المدنية أمام معضلة جديدة تتعلق بإعادة بناء دورها وتأثيرها في المشهد الوطني

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • منظمات دولية تدعو لوقف استهداف المرافق المدنية الحيوية في السودان
  • ثلاث معضلات رئيسية شهدها السودان
  • دور التعايش السلمي في وأد الفتن
  • الحرب ومستقبل السياسة في السودان
  • المبادرة الغائبة التي ينتظرها الفلسطينيون
  • كاميرون هدسون: ترامب وحده قادر على صنع السلام في السودان
  • سلطة النقد تكشف حجم الأموال التي نُهبت من بنوك غزة خلال الحرب
  • معضلة الجيش والسياسة في السودان و أثمان الحرب الإنسانية والسياسية
  • التاريخ يقف محتفلا وسط دموع نصر المقاتلين
  • تجمع قوى تحرير السودان: الإنتصارات التي تحققت تؤكد عزيمة القوات المسلحة والقوات المشتركة والمقاومة الشعبية