لم تنجح المبادرات المختلفة في إيقاف الحرب بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الطرفين على أساس إعلان مبادئ الإيقاد الصادر في 20 مايو/أيار 1994 والذي وافق عليه الطرفان.
صحيح أن إعلان المبادئ ذاك صاغته دول الإيقاد وقدمته جاهزا إلى الطرفين ليوقعا عليها، لكن لابد من التنبيه إلى أن محتوى بنوده لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين بقدر ما كان إعادة صياغة وترتيب للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان.
واليوم، تظل قناعتي الراسخة أن القوى المدنية والسياسية السودانية هي وحدها المؤهلة لإجتراح إعلان المبادئ الذي يشكل المدخل أو التمهيد لإطلاق العملية التفاوضية، وكذلك إجتراح الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل هذه العملية للسير بها في اتجاه وقف الحرب ووضع أسس عدم تجددها أو إعادة إنتاج الأزمة في البلاد.
وفي هذا السياق، هنالك نقطتان متعلقتان بإعلان المبادئ، أولها ضرورة موافقة كل الأطراف عليه، بما في ذلك الأطراف المتحاربة، حتى يكون مدخلا أساسيا لعملية التفاوض، ولذلك، وهذه هي النقطة الثانية، فإن بنوده تتناول العموميات التي يسهل الإجماع حولها مثل التمسك بمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وبوحدة السودان، وبالحكم المدني الديمقراطي، وبالنظام الفدرالي الذي يراعي التعدد والتنوع، وبالجيش الواحد وبنائه كل القوات النظامية على أساس مهني وقومي، وبإصلاح الخدمة المدنية والنظام العدلي، وبالحوار السوداني سوداني… إلى غير ذلك من المبادئ التي سيتقبلها الجميع، وإن ليس مستبعدا أن بعضهم سيتقبلها تقية!
ومن الواضح أن إعلان المبادئ وحده ليس كافيا لوقف الاقتتال، لكنه يشكل معيارا لدرجة التنازلات الممكنة في العملية التفاوضية، بمعنى أن التنازلات لإنجاح العملية التفاوضية لصالح الهدف الرئيسي، أي وقف الحرب والانتقال المدني الديمقراطي، يجب ألا تصل إلى درجة التصادم بين محتوى إعلان المبادئ ومحتوى ما سيتم الاتفاق حوله في طاولة التفاوض.
وفي المقابل، فإن الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل العملية التفاوضية للسير بها في اتجاه وقف الحرب، تتكون من الإجابات المحتملة على الأسئلة المتعلقة بكيفية وقف الحرب وتداعيات ما بعد ذلك، آخذين في الاعتبار أن هذه الأسئلة ليست مجرد تهويمات نظرية بقدر ما هي نابعة من واقع البلاد الراهن المأزوم.
وبداهة، بينما تظل أسئلة الرؤية واحدة وثابتة، فإن الإجابات عليها تختلف عند هذا الطرف أو ذاك. ولكن من البديهي أيضا أن تتوافق القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب على إجابات موحدة على هذه الأسئلة، وتنتج رؤيتها التي يجب أن تطرحها في أي منبر تفاوضي يسعى لوقف الحرب.
الحرب الراهنة خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تفاصيل الأحداث
ولعل من الضروري الإشارة إلى أن تسهيل توصل القوى المدنية والسياسية إلى الرؤية المنشودة، يقتضي التوافق قبلا على مجموعة من الحقائق، منها أن الحرب الراهنة خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تفاصيل الأحداث الراهنة وتداعياتها.
وأن هذا الواقع الجديد لابد أن تكون له مستحقاته العملية التي يجب أن تبحث وتتمعن في الأسباب الجذرية للحرب، بدءا من أن الدولة السودانية فشلت منذ استقلالها في التعبير عن كافة مكوناتها الوطنية الأمر الذي أدى إلى تمكن الحلقة الشريرة والأزمة العامة في البلاد بتجلياتها العديدة والتي من بينها الانقلابات العسكرية والنزاعات واشتعال الحروب التي كانت حتى وقت قريب تستوطن الأطراف قبل أن تأخذ منحىً جديدا وصادما باندلاعها في عاصمة البلاد في 15 أبريل/نيسان الماضي.
وأن من النتائج المباشرة لهذه الوضعية إضعاف الدولة السودانية وعدم قدرتها على توظيف كل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية للتوافق على مشروع وطني نهضوي ينتشل البلاد من وهدتها المتمكنة منها منذ فجر الاستقلال قبل ثمانية وستين عاما، وهو مشروع لايزال السودانيون يتمسكون به حتى في أتون هذه الحرب المجرمة، وأن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني والوطن، وكل يوم جديد في الحرب يحمل معه مزيدا من الجراح والآلام لشعبنا ومزيدا من التدمير لبنية الوطن، وأن جوهر هذه الحرب يحمل عداء سافرا لثورة ديسمبر المجيدة.
ونحن نؤسس وجهة نظرنا حول ماهية الرؤية لإنهاء الحرب، على رفض أن تكون الحرب بديلا للحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية مهما بلغت من الحدة والتعقيد، وأن مسألة وقف الحرب يجب أن يتم التعامل معها كحزمة واحدة مكونة من ثلاث حزم فرعية تتكامل مع بعضها البعض، تشمل وقف الاقتتال، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة وحماية المدنيين، وإطلاق عملية سياسية جديدة.
وإذا كان للمجتمع الدولي والإقليمي دور رئيسي في الحزمتين الأولى والثانية، فإن الحزمة الثالثة، العملية السياسية، حصريا من مهام القوى المدنية والسياسية السودانية، وأن دور المجتمع الدولي والإقليمي في الحزمتين الأولى والثانية لن يأتي أكله إلا من خلال الرؤية التي ستجترحها القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب.
أما جوهر هذه الرؤية فهو، من وجة نظرنا، مجموع الإجابات على ما أسميناه بالأسئلة الصعبة المتعلقة بحرب السودان، نوردها هنا باختصار على أن نتوسع حولها في مقالاتنا القادمة، وتشمل:
1 ـ ماهي الخيارات المتاحة حول مستقبل ودور قيادة القوات المسلحة في السودان بعد انتهاء الصراع؟
2 ـ ما هي الخيارات حول مستقبل قوات الدعم السريع ومستقبل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى على أساس مبدأ بناء الجيش المهني الواحد في البلاد؟
3 ـ كيف نطور إطارا للعدالة والعدالة الانتقالية يضمن إنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب؟
4 ـ كيف نتعامل مع البعدين الدولي والإقليمي في الحرب؟
5 ـ ما هي تفاصيل العملية السياسية من حيث أجندتها وأطرافها؟
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السودان العملية السياسية الدعم السريع الجيش السودان الجيش العملية السياسية الدعم السريع سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوى المدنیة والسیاسیة العملیة التفاوضیة إعلان المبادئ وقف الحرب یجب أن
إقرأ أيضاً:
السودان: حكومات الحرب الموازية
ناصر السيد النور
إن طرح إقامة حكومات في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع لم يكن مشروعا سياسيا وراء اندلاع الحرب ولكن بالتسلسل المنطقي للأحداث نتيجة للأزمات التي خلفتها الحرب. وعلى ما أثاره هذا المقترح الانفصالي أو الذي يؤسس لانفصال كإحدى استحقاقات إن لم يكن ثمنا فادحا لحرب في البلاد. فقد جاء في الأخبار أن قوات الدعم السريع وقوى سياسية “مدنية” عقدت في العاصمة الكينية نيروبي بهدف مناقشة آلية تكوين حكومات في مناطق سيطرة الدعم أي المواقع التي اخرج منها الجيش أثناء الحرب الجارية بين الطرفين. وهي مناطق وأقاليم بالمعنى الجغرافي تشغلها مساحات واسعة من أقصى الغرب إلى وسط وجنوبي البلاد وعلى الرغم من أن هذه المناطق تعد نقاط انطلاق خاصة في دارفور لقوات الدعم السريع أو حواضن بالمفهوم الاجتماعي الجديد للحرب لتلك القوات بما يشمل الكيانات القبلية المنتمية إليها.
وإذا كانت الحكومات الموازية المزمع بحثها أو تطبيقها من قبل الدعم السريع تبدو للوهلة الأولى مشروعا سياسيا يعززه الموقف العسكري أكثر من دواعي شرعية أو قانونية وإدارية تستدعي إقامة حكومات مجهولة المهام والاختصاصات هذا إذا لم تعنِ غير إقامة كيانات مستقلة شبه دولة. ولعل الخلط بين مفهومي الحكومة والدولة في فكرة المشروع مع تداخل ما أفرزته الحرب من حالات استقطابات جهوية تطالب بفصل الأجزاء الغربية من البلاد على أسس عنصرية لها جذورها التاريخية والاجتماعية في البلاد يجعل من هذا الطرح مشروعا محتملا في المستقبل القريب. وقد زادت الحرب وبررت لهذه النزعات الانفصالية بما أحدثته من شروخات مجتمعية مفسحة المجال إلى بروز تيارات انفصالية أعلنت عن مسميات كياناتها المنفصلة عقيب اندلاع الحرب، وتستنسخ هذه الكيانات من تجارب الانفصال في التاريخ السياسي للبلد الذي لم يشهد استقرارا سياسيا يدعم من وحدته بين المكونات المتنافرة.
ومن ناحية أخرى يعد هذا الطرح تراجعاً في موقف وخطاب الدعم السريع السياسي الذي تكون على أسس عسكرية بحتة تبحث الآن وسط نيران المعارك عن تشكيل سياسي إلى جانب شعارات أخرى مختطفة عن قوى سياسية هامشية لم تكن ضمن أجندة قوات الدعم السريع، بل على النقيض من ذلك فقد عمل الدعم منذ تكوينه على محاربتها. فجاء تبنيه لها لجوء اضطراريا لملء فراغ سياسي في حاجة لتبرير حربه وإن تكن ما ينسب إليه من انتهاكات قد دحض أكثر هذه الشعارات وأفرغها من مضمونها. وقد يتيح تمدد القوة العسكرية إعادة التشكيل الإداري في مناطق سيطرته ولكن يكمن التحدي في التوافق السكاني عليها. ومن سياق تطورات الأحداث فإن فكرة الحكومة الموازية ما هي إلا تطورا لفكرة إدارية سبق للدعم السريع تطبيقها في مناطق سيطرته ما عرف بالإدارة المدنية رحبت بها قوى سياسية أخرى على العكس مما يقابله مقترح الحكومة الموازية المطروح.
ولكن ما الذي يعنيه إقامة حكومة في تلك المناطق بعد مضي عشرين شهراً من الحرب؟ فالتوقيت أي تكن دلالته العسكرية لا يسعفه منطق بالمعنى السياسي حيث إن الفراغ الديمغرافي وانهيار بنية الدولة التحتية تجعل من قيام هذه الحكومات اشبه ما تكون بحكومات المنفى تبحث عن موضع وسط ركام خراب الحرب. وما حققته الحرب من سيطرة قد لا يحققه الإعلان عن اجسام إدارية لا تحمل من صفة الحكومة أكثر من اسمها وليس وظيفتها. فإذا قامت قوات الدعم بتطبيق هذا المقترح فإنه سيظهر تقسيمات مجتمعية وقبلية حادة، فجّرتها الحرب وساعدت في ظل تنامي خطاب العنصرية والكراهية على تقبلها كحقائق أكثر منها حدودا جغرافية إدارية افتراضية. وهذا الطرح لم يكن جديدا من قبل الدعم فقد صرح من قبل قائده محمد حمدان دقلو بإعلان حكومة موازية في مناطق سيطرته إلا أن هذا الطرح الجديد في ظل التراجعات العسكرية التي تشهدها قوات الدعم السريع قد يفرض إن لم يكن بسبب شرعية الواقع فقد يكون بضرورة الظرف.
والمقارنة التي يركن إليها الدعم السريع في حكومة السودان القائمة بشرعية الأمر الواقع التي لجأت إلى مدنية بورتسودان الساحلية واتخذتها مقرا لمؤسساتها وسلطاتها السيادية لا تعني سهولة انتقال أجهزة الدولة بذات الطريقة كما يرغب فيها الدعم السريع، ولأن الفرق بين حكومة تقليدية ترسخت ومعترف بها عالميا يختلف عن أي تشكيل حكومة طارئ تفرضه قوة السلاح وتغيب فيها معطيات إدارة الدولة. والتجاء الحكومة إلى خارج عاصمتها شكل من جانبه فراغا للمرة الأولى في مركزية الدولة الرمزية، وفي الوقت نفسه منح الحكومة في “بورتسودان” تحكما في خدمات الدولة تفسيرا على الموقف من الحرب استخدم ضد المواطنين تمييزا على أساس الانتماء العرقي والجهوي. وعلى الرغم من دعوات سابقة طالبت بها قوى سياسية من بينها الدعم السريع -بالضرورة- من نزع الشرعية عنها وبل عدم الاعتراف بها دوليا ولكن ظلت الحكومة قائمة تمارس سلطاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية بما فيها استبدال العملة النقدية في مناطق سيطرتها أيضا. وبعض من تلك الممارسات التمييزية شكلت ضغطا على مواطني مناطق سيطرة الدعم السريع مما جعلها ينظر إليها كحكومة موازية لسيطرة الدعم السريع تعمل ضد مصالحهم.
وقد لاقى هذا المقترح اعتراضات وصلت إلى حد الانتقادات مما يشير إلى خطورة المشروع برمته على وحدة السودان كما يبرر المعترضون من داخل القوى المدنية تنسيقية القوة الديمقراطية (تقدم) بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك التي تناوئ الحرب وضد الحكومة العسكرية القائمة في السودان بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان. وهذه الاعتراضات السياسية قد لا توقف مبدأ هذا المشروع لأنه يقوم بالأساس على عوامل عسكرية لها نتائج متحققة سيطرة على مناطق بعينها ولا يعتقد بأن يأخذ الدعم السريع بالمخاوف التي يبديها السياسيون من القوى المدنية التي تتهم من قبل مشعلو الحرب بممالأتها للدعم السريع في ظل الخصومة السياسة قبل وبعد الحرب بين الأطراف السياسية المتنازعة. وما يبرر لهذه الاعتراضات على مشروع الحكومة الموازية ما يعقبها من واقع انفصالي سيكون من الصعب التعامل معه أو الحد من تداعياته ولأنه يعرض البلاد فيما تبقى من وحدتها الترابية إلى دويلات عدة وستستعد كل المكونات القبلية والجهوية على المضي على هذا الاتجاه مما يعني عمليا تحول السودان دولة وشعبا إلى انقسامات أكثر حدة مما هي عليه. ومن ثم فإن هذه المناطق التي تبسط قوات الدعم السريع سيطرتها عليها وبما أحدثه التحول في الموقف العسكري للجيش بدخول الحركات المسلحة الدارفورية بما يعرف بالقوات المشتركة والتي تقاسم اثنيا مجموعات الدعم السريع مناطق السيطرة نفسها لن تخضع لمقترح المشروع بتصور الدعم السريع.
والتحدي الأبرز الذي يواجه هذا الطرح (الحكومة الموازية) لا يتوقف عند المستوى السياسي وربما العسكري فتكوين إدارة مدنية كما حدث في ولاية الجزيرة عندما اجتاحتها قوات الدعم السريع ومناطق أخرى وما مثله من سيطرة مطلقة لهذه القوات وهي عسكرية بالأساس لا يمكن لأي إدارة مدنية أن تتمكن من تنفيذ مهامها تحت ظل واقع أمنى غير مستقر. وكثيرة هي العوامل التي تحول دون تنفيذ هذا المقترح منها ما هو استراتيجي ولوجستي وغيرها مما يعد من الأمور التأسيسية في إدارة الدولة وخدماتها المدنية. ولكن مع تمدد نطاق العمليات العسكرية بين الطرفين وغياب لحل تفاوضي مدني لإنهاء الحرب سيكون قيام كيانات موازية بقوة السيطرة واقعا ستفرضه الأحداث أكثر من مقترحات التصورات السياسية المطروحة على موائد التداول السياسي.
كاتب من السودان
نقلا عن القدس العربي اللندنية_26/12/2024م
الوسومناصر السيد النور