«أردت التعبير عن البسطاء»، بتلك الكلمات عبَّرت الفنانة السورية سلاف فواخرجى عن تجربتها فى فيلم «سلمى»، الذى شارك فى مسابقة آفاق للسينما العربية ضمن فعاليات الدورة الـ45 لمهرجان القاهرة السينمائى، ويجسد معاناة الشعب السورى مع ما يواجهه من حروب وظروف معيشية قاسية.

وأوضحت «سلاف»، فى حوارها لـ«الوطن»، أن الفيلم يُعد كوميديا سوداء لواقع صعب تخيله من شدة قسوته، لتقدم من خلال شخصية سلمى نموذجاً للمرأة القوية والشجاعة، التى تمر أيضاً بلحظات ضعف وانكسار من أجل مواجهة الحياة فى ظل رحلتها الدائمة للبحث عن زوجها المفقود، وهو حال آلاف النساء فى سوريا.

وأضافت أن شخصية سلمى تشبهها للغاية فى قوتها وشجاعتها ورفضها للاستغلال، معربة عن فخرها وسعادتها بردود الفعل الصادقة للجمهور فور انتهاء عرض الفيلم بمهرجان القاهرة الذى تشعر بالفخر للمشاركة به لأنه الأهم والأعرق فى المنطقة العربية.

كيف تلقيتِ ردود الفعل على فيلم سلمى فور انتهاء عرضه بمهرجان القاهرة السينمائى؟

- دائماً ما يفاجئنى الجمهور المصرى بردود فعله الإيجابية، حيث نفدت جميع تذاكر العرض قبل يومين من عرض الفيلم، إلى جانب تفاعل الحضور اللحظى فى المسرح من خلال التصفيق، ما أثر فىَّ بشكل كبير، وحتى حالة السعادة بفكرة الفيلم وحفاوتهم بعد انتهاء عرضه، ومشاركتى فى مهرجان القاهرة فخر وشرف لى لأنه مهرجان السينما الأهم والأعرق فى المنطقة العربية، وهذا الفيلم مقدم للجمهور العادى وليس النخبة أو المثقفين لأنه يعبر عن «الناس البسيطة العادية».

هل الفيلم يُعد كوميديا سوداء تعبر عما يعانيه الشعب السورى؟

- بالفعل، فالفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية لواقع بعض الأسر فى سوريا التى تعيش مئات القصص التى عانى منها الشعب السورى خلال السنوات الأخيرة، سواء من الحرب والحرمان والموت والزلزال والفقر، فقد أصبحنا للأسف مادة أدبية للعديد من الموضوعات التى يتم تجسيدها على الشاشة، وجميعنا نضحك فى أوقات الحزن لأنها جزء من الحياة.

والشعب البسيط الذى لديه قدرة أكثر فى التعبير عن النفس يكون أكثر تأثراً بالكوميديا السوداء فى حياته، وهو ما عبرت عنه أحداث فيلم سلمى لأنها هى المتنفس فى حالة الحزن المسيطرة على الوضع العام نتيجة العنف والدمار، والسؤال الدائم لمن ينتهى من مشاهدة فيلم سلمى هو «كيف انتوا عايشين وبتشتغلوا؟» لأن الظروف أصعب من التخيل.

باسم ياخور إضافة قوية للفيلم وشخصيته تجسد نموذجاً للفساد فى عمود المجتمع السورى

قدمتِ أكثر من مشهد «ماستر سين» بالأحداث، من بينها حالة الانهيار وقلة الحيلة فى المحكمة وضرب باسم ياخور لها.. كيف كانت الكواليس؟

- بالنسبة لضرب باسم ياخور لشخصية سلمى فى الفيلم فلم يكن حقيقياً بالطبع لأننا على قدر عالٍ من الاحتراف عدا مشهد صفعه على وجهه من قِبل سلمى، أما عن مشهد حالة الانهيار والصراخ فى المحكمة فقد كان بالفعل من أصعب المشاهد فى الفيلم، لأنه عبّر عن حالة المرأة السورية وكل الشعوب العربية التى تعيش مشاعر متناقضة بين الضعف والقوة لأننى بشكل شخصى أعيش تلك التفاصيل على أرض الواقع، وما يحدث جزء من حياتى، ولا أتعاطف معهم لمجرد أداء دور على الشاشة.

وهذا المشهد تحديداً يعبر عن آلاف النساء فى سوريا ممن يذهبن إلى ساحات المحاكم يبحثن عن أزواجهن المفقودين، سواء فى الحرب أو الزلزال أو غيره، ولا يتمكنَّ من إصدار شهادة وفاة، فقد تحولت سلمى من مجرد أم إلى معلمة ومضحية من أجل الأطفال كما ضحت أكثر بعد ترشحها فى الانتخابات لتحمى مجتمعها بعطاء أكبر، وجسدت سلمى الإنسان النقى الذى يشبه الأرض الطيبة، يتحمل البشاعة والفساد والظلم وضياع الكرامة التى تكون منغمسة بالدم.

مع عرض فيلم سلمى.. هل انتهى الخلاف مع الفنان باسم ياخور؟

- مخرج الفيلم جود سعيد أصر على مشاركته لأنه يعلم مدى صداقتنا وعلاقتنا القوية، وساعدنا على إزالة الخلاف بيننا وتجمعنا مرة أخرى، لأنه كان يرى أنه الأنسب لهذا الدور، خاصة مع حرفيته فى التمثيل، وباسم صديق عزيز منذ سنوات طويلة، وسعدت بمشاركته كضيف شرف فى الفيلم وكان إضافة حقيقية قوية للعمل، وبمثابة العدو الأكبر لشخصية سلمى وقدَّم نموذجاً للشر والفساد الذى يعانى منه الشعب السورى بحرفية شديدة.

هل تشبهك شخصية سلمى؟

- أكيد، المرأة فى حد ذاتها كائن قوى، وتستمر فى العطاء والتضحية عن طيب خاطر دون مقابل، حتى إنها قد تشعر بالذنب فى بعض الأوقات لبعض التقصير، وهى تشبهنى فى ذلك الأمر، وهو ما أسعى إليه فى أى شخصية أجسدها «لازم تكون شبهى»، كما أنها تشبهنى فى شجاعتها لأنها صاحبة رأى قوى، وهو ما عبّرت عنه سلمى فى رفضها لاستغلال باسم ياخور لها على حساب الضعفاء من أهالى البلدة فى أحداث الفيلم.

من وحى شخصية سلمى التى ترشحت لانتخابات مجلس الشعب.. هل يمكن أن تخوض سلاف تلك التجربة يوماً ما؟

- قطعاً لا، فأنا فنانة ولا أريد الدخول فى أى مجال آخر، وأعبر عن حبى لوطنى من خلال الفن، فشخصية سلمى تحولت عندما وصلت لأقصى مراحل الضعف والاستغلال، فكان عليها تحدى نفسها ومن حولها لدفع الضرر عن عائلتها، والدفاع عن حقوق مجتمعها الذى يتعرض للقهر، ونجحت فى هذا الأمر، وأصبحت بطلة.

تعرضتِ لانتقادات عديدة من الجمهور.. هل تخوفتِ بعد مشهد القبلة بالفيلم؟

- هى ليست جرأة، وكانت مشهداً فى أحداث الفيلم، والجرأة الحقيقية فى طرح الأفكار وانتقاد الفساد ومحاولة تغيير أفكار راكدة، ولكن الفيلم يشهد لحظات رومانسية ضمن حالة ضياع تعيشها البطلة التى كانت تسترجع معها ذكرياتها مع زوجها، ليرى المشاهد حال الفقدان الذى تعيشه سلمى، وقد أصبحت الانتقادات أمراً واقعاً وسهلاً، وتجاوزت تلك المرحلة لأننى أحب عملى ولى أسلوبى الخاص، والنقد أمر رائع ولكن يساء استخدامه لحد السباب، فقررت التجاهل.

نافست عدة أفلام تحمل قضايا إنسانية، مثل القضية الفلسطينية، على جوائز مسابقة آفاق للسينما العربية، ومن بينها فيلم الفنانة درة.. ألم تقلقى من المنافسة؟

- هى بالطبع صدفة، أن نشارك نحن بعمل حقيقى يعبر عن واقع قضايا إنسانية وشعور حقيقى، مثل ما يعانيه الشعب الفلسطينى أو اللبنانى أو السورى، وكذلك مشاركتنا فى مهرجان القاهرة السينمائى بهذه الأعمال كمنتجين وليس ممثلين فقط، ولكن تظل المنافسة جزءاً أساسياً من عملنا، وهى أمر صحى، ولكنى لا أنشغل بمن سيفوز بجائزة من المهرجان لأن ذلك يشتت تركيزى كممثلة، وخطوة الإنتاج بالنسبة لى ليست من أجل المكسب المادى ولكن من أجل تقديم سينما تحمل قيمة إنسانية خالدة ودائماً ما تحمل رسائل أريد توصيلها عن طريق الفن.

أتجاهل الانتقادات التى تحمل تجاوزات.. ولا أسعى لتحقيق مكاسب مادية من مجال الإنتاج 

ولماذا كانت نهاية الفيلم صادمة للجمهور؟

- نهاية الفيلم كانت تعنى أنها كانت تبحث عن سراب، وأن زوجها الذى ظلت تنتظره لن يعود، وعليها أن تستمد قوتها وشجاعتها فى الحياة من ذاتها، فقد قضت سنوات فى البحث عنه داخل المحاكم وتعرضت للنصب من العصابات من أجل مساعدتها فى الوصول إليه، والتعايش مع الورق والأرقام والصور للمفقودين وضياع الهوية.

وفى نهاية الأمر أدركت الحقيقة، بأن الفقدان الحقيقى هو الأرض والأمان والعائلة والشغف بالحياة، والهوية السورية متجذرة داخل النفوس لا تتزعزع، فهى ليست بطاقة أو ورقة يتم طباعتها، كما أدركت كيفية الوصول إلى الخلاص الجماعى من المعاناة وليس الفردى لأنه سيحقق كل المكاسب بعد ذلك.

النجمة السورية:الفيلم كوميديا سوداء.. وفخورة بمشاركته فى مهرجان القاهرة السينمائى

بصفتك تحملين الجنسية الفلسطينية.. كيف رأيتِ دعم وتضامن مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الحالية للسينما الفلسطينية؟

الفنان حسين فهمى قدَّم دورة مُشرفة لأقدم مهرجان سينمائى فى المنطقة العربية

- أرى مجهوداً غير محدود من الفنان الكبير حسين فهمى فى الدورة الحالية من مهرجان القاهرة السينمائى وفخورة به، خاصة مع ما يمر به من حزن كبير لرحيل شقيقه الفنان مصطفى فهمى، ولكنه يدير المهرجان بحرفية شديدة وناجحة، وجذب انتباهى التبنى القوى للمهرجان للقضية الفلسطينية، سواء من خلال مشاركة عروض الأفلام أو المسابقات الخاصة أو الجوائز الخاصة، وأعطى نموذجاً مشرفاً لتحمل المسئولية.

وكما قال فى كلمته «لدينا على الأرض ما يستحق الحياة والعرض مستمر»، ولا يوجد أى حديث يكافئ حق ما يتحمله الفلسطينى وفى غزة وما يواجهونه، فنحن نعيش بهذا العنف والدمار والإبادة، وهناك حالة كبيرة من الحزن داخل قلوبنا للضحايا الذين يدفعون حياتهم ثمناً للحرية، والدفاع عن أرضهم وكرامتهم، وسعيدة بعودة البوصلة الأساسية للقضية الفلسطينية للعالم الذى كان مغيباً، ولكن تحول العالم لداعم كبير لاسم فلسطين، وفخورة بأننى أحمل الجنسية الفلسطينية لأنها شرف كبير.

«رسائل الكرز» أول عمل عن قضية إنسانية تناولت هضبة الجولان فى سوريا

هل تفكرين فى إنتاج فيلم عن القضية الفلسطينية؟

- بالطبع، دائماً ما أفكر فى ذلك، وقدمت من قبل فيلماً عن هضبة الجولان فى سوريا بعنوان «رسائل الكرز» عام 2020، وكان أول عمل عن قضية إنسانية، والفيلم المقبل سيكون عن القضية الفلسطينية.

شهدت الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائى ترميم الأفلام الكلاسيكية المصرية.. كيف رأيتِ تلك الخطوة؟

- هى فكرة رائعة وأحترم الفنان حسين فهمى على قراره بالترميم، لأنه يحمى تراث السينما المصرية، والتى هى أساس الفن فى الوطن العربى، وهى من صنعت التاريخ، وأتمنى ترميم مزيد من الأفلام المصرية القديمة الكلاسيكية، وخاصة الأبيض والأسود لأننى أعشقها، وبصفة خاصة أفلام نعيمة عاكف، فهى سبب دخولى مجال التمثيل وحبى للفن منذ عمر 4 سنوات، وكنت أُشبع تلك الرغبة من خلال الرسم، وتتابعت دراستى حتى أتيحت لى الفرصة المناسبة لاحتراف التمثيل.

نفاد تذاكر الفيلم قبل عرضه أشعرنى بقيمته.. والجمهور المصرى ذواق للفن الجيد

ومتى تعودين للدراما والسينما المصرية؟

- الجمهور المصرى مختلف تماماً، والوقوف أمامه أو تقديم عمل فنى له أمر صعب، لأنه ذواق للفن، لذلك أنتظر عروضاً مميزة لأعود للجمهور المصرى بها، وكل ما يسعدنى طوال فترة غيابى عن الأعمال المصرية واستقرارى فى سوريا هو توالى العروض الفنية علىَّ، وهو ما أسعدنى للغاية، وسأعود قريباً.

ولماذا لم تفكرى فى الاستقرار بمصر والتركيز على تقديم أعمال درامية بشكل مكثف؟

- لأننى لا أستطيع التخلى عن بلادى فى أوقات الدمار والشدة وهو واجب علىّ، فهى وطنى وسأظل بها ولن أتركها، خاصة أن ذلك كان فى ظل وجود أهلى معى قبل وفاتهم، وعملت بالعديد من الأعمال الدرامية السورية وحققت بها نجاحات بفضل الله، ولكن هذا لا يمنعنى من المشاركة فى أعمال درامية مصرية، خاصة أن الجمهور المصرى منحنى فرصة كبيرة للنجاح وجماهيرية أعتز بها، لكن ظروفنا فى سوريا تمنعنى أحياناً من الوجود المستمر بمصر ولكنها بلدى الثانى، مصر تسحر، وهى بالنسبة لى هوليوود الشرق وجواز مرور أى فنان لقلوب الوطن العربى بأكمله.

بمناسبة اللوك الجديد.. هل توافقين على عمليات التجميل للحد الذى يغير الشكل؟

- بالطبع التجميل أمر مهم لكل فنانة، ولكنى ليس لدىّ حرب مع العمر لكى أحاول السيطرة عليه بعمليات التجميل، كل مرحلة لها متطلباتها، ولكنى أفضل الاهتمام الطبيعى ببشرتى، ويمكن الخضوع لبعض الأمور التجميلية من أجل دور فى عمل فنى فقط.

سلاف فواخرجى.. ممثلة ومخرجة وكاتبة ومؤخراً منتجة، فأيها الأقرب لكِ؟

- بالطبع التمثيل هو المحرك الأساسى لشغفى وعملى فى مجال الفن، ويحرك وجدانى لتقديم رسالة أو قضية وانفعالاتى وخيالى، وعندما دخلت مجال الإخراج فى أولى تجاربى من خلال فيلم «رسائل الكرز» شعرت بأن مجال الإخراج قد يكون مكانى لأنه أضاف لى الكثير من المتعة والاكتشاف والتعلم، ولكنى لن أكرر تلك التجربة إلا من خلال قصة تؤثر فى وجدانى، أما الكتابة فساعدتنى خبرتى فى تقديم عدة سيناريوهات ولكنها ليست الأقرب لقلبى سوى فى حالات المقالات أو التعبير عما بداخلى ليحقق شغفى، أما مرحلة الإنتاج فكانت الأهم لى فى فيلم «سلمى» الذى يشارك بالدورة الحالية من مهرجان القاهرة، وفخورة بها لأننى قدمت من خلالها تجربة حقيقية عن معاناة الشعب السورى.

دعم القضية الفلسطينية أعاد وعى العالم المُغيب

لاحظنا فى أكثر من مناسبة فنية حرص أبنائك على الوجود.. هل ينضمون للمجال؟

- حمزة وعلى، لديهم حس فنى عالٍ ويحبان الفن بكل أشكاله، وهى جينات منى ومن والدهما وائل رمضان، وخاصة على، لأنه شارك معى فى تجربة درامية بسوريا عام 2023 بالموسم الرمضانى، ولكننى قررت الانتهاء من دراستهما أولاً ثم الانضمام لمجال التمثيل.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: دعم القضية الفلسطينية مصر هوليوود الشرق مهرجان القاهرة السینمائى القضیة الفلسطینیة من مهرجان القاهرة الجمهور المصرى باسم یاخور شخصیة سلمى فیلم سلمى فى سوریا من خلال یعبر عن وهو ما من أجل

إقرأ أيضاً:

د. يسرى عبد الله يكتب:  «الكتاب».. الحقيقة والاحتفاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق معرض القاهرة الدولى للكتاب إحدى الأدوات الفاعلة للتعبير عن القوة الناعمة المصرية

يظل الكتاب الورقى وثيقة خالدة، ويحمل بهجة خاصة لدى الكتاب والمؤلفين، وهذا لا ينفى الحراك الحيوى الذى صنعه الكتاب الإلكتروني، القادر على الوصول إلى قطاعات أوسع من المتلقين، من جهة، والذى يمكن أن يعضد من صناعة النشر من جهة ثانية، وبما يتطلب مدونة من التشريعات المحددة، التى تحفظ حقوق الجميع.

وتكمن أهمية معرض القاهرة الدولى للكتاب فى كونه إحدى الأدوات الفاعلة للتعبير عن القوة الناعمة المصرية، ويحسب للدولة المصرية أنها وضعت كافة الإمكانات المادية والتقنية كى تظهر الثقافة فى وضعية أفضل فى (مركز مصر للمعارض الدولية).

إن وصول الثقافة إلى قطاعات متعددة من المتلقين مسألة حيوية، وهذا ما يوجب علينا جميعًا عملًا مستمرًا من أجل تعزيز معنى الثقافة فى الفضاء الاجتماعي، والاهتمام بمكونات صناعة العقل العام.

إن المثقف الذى وصفه المفكر إدوارد سعيد بأنه أعلى تمثيلات الحقيقة، يجد فى المعرض نقطة التماس مع الجمهور العام الذى لا تجده فى الندوات النوعية التى يرتادها جمهور متخصص فى الغالب، هنا تجد انفتاحًا على قطاعات أوسع من الجمهور، وبما يعنى ضرورة تعزيز قيم التقدم والاستنارة والانتماء، وتأكيد معنى الهوية المصرية ذات الجذور الحضارية المركبة.

ويشكل معرض القاهرة الدولى للكتاب جزءًا من الذاكرة الجمعية للنخب، والجماهير على حد سواء، وربما أستعيد وقائع الفعاليات الأولى التى شاركت فيها منذ أكثر من عشرين عامًا، وكنت لم أزل معيدًا فى الجامعة، غير أننى أجد نفسى أعود إلى الوراء قليلًا، واسترجع كتبًا ومؤلفات مركزية اقتنيتها قبل ذلك، ومن أهمها وأقربها إلى نفسى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» للدكتور طه حسين الذى يُعد ملهمًا بالنسبة لي، ويكتسى هذا الكتاب بأهمية موضوعية لم تجعله يفقد بريقه على الرغم من مرور عشرات السنين على تأليفه، وقد جاء فى ظل سياقات سياسية وثقافية مركبة، فعقب معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا، جاء كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، مشيرًا إلى الجذر الحضارى للأمة المصرية، بانتمائها إلى الحضارة المصرية القديمة التى خرجت من عباءتها، ونبه إلى الانتماء المصرى لثقافة البحر المتوسط، ومن ثم فالصلة بين مصر وأوروبا وثيقة للغاية، ولذا كان البناء الجديد الذى يأتى عقب الاستقلال النسبى لمصر عن بريطانيا يجب أن ينهض من وجهة نظره على قيم الحداثة لإمكانية اللحاق بالعالم المتقدم. كان طه حسين أيضًا مفكرًا إجرائيًا، لا يمنح لقرائه تصورات نظرية محضة فحسب، ومن ثم نبه إلى إشكاليات التعليم الديني، وحذر من ازدواجية التعليم لدينا ما بين مدنى وديني، وربما تكمن الأهمية الحقيقية لكتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» فى كونه تأسيسًا لفلسفة تقدمية تحوى أفكارًا مؤسسة عن التعليم وإمكانية تطويره وعصرنته.

وفى الحقيقة، فإن كتب طه حسين جميعها تُعد ملهمة لي، ولغيرى من النقاد، والمفكرين، فحين تقرأ بتمعن المشروع الفكرى والإبداعى لطه حسين، تشعر وكأنه كان معنيًا بالتأثير الفعلى فى حياة أمته، فنصوصه الإبداعية بدت تأسيسًا ملهمًا للسرد فى بواكير علاقة العرب بالرواية الحديثة، ونصوصه المكتملة مثل «دعاء الكروان»، و«الحب الضائع» تمثل نقلة نوعية فى مسار السردية العربية، وأعماله النقدية، وفى المتن منها «حديث الأربعاء»، و«من أدبنا المعاصر» بدت زوايا نظر عميقة للنص العربى قديمه وحديثه، وأحيانًا تأسيسًا مبكرًا للغاية لطروحات فى نقد النقد، أو درسًا تطبيقيًا رفيعًا فى الأدب المقارن من زاوية التأثير والتأثر بين نصين ينتميان لثقافتين وأدبين مختلفين. وفى مناخات العتامة والتطرف الدينى تصبح استعادة طه حسين واجبة، ويصبح استكمال ما بدأه أمرًا لا غنى عنه فى استئناف مشروع التحديث المصرى والعربى من جهة، وتكريس فكرة الدفاع عن العقلانية بوصفها جوهر التنوير من جهة ثانية.

ومن بين الكتب الملهمة بالنسبة لى أيضًا كتاب إدوارد سعيد «العالم والنص والناقد»، حيث يمثل نظرة وسيعة ومعمقة للفكر النقدى، وللنظرية الأدبية المعاصرة.

ولا يمكن ذكر إدوارد سعيد من دون الإشارة إلى مؤلفه المهم «صور المثقف»، وقد بدا إدوارد سعيد مشغولًا دائمًا بمعنى المثقف، وتعبيره عن محيطه الاجتماعى، والمثقف لديه يجب أن يكون أعلى تمثيلات الحقيقة، وهو أيضا عينة ممثلة لجمهوره، فلا يجب أن يخذلهم.

وربما يعد الكتاب مركزًا للمعرض، إنه الحقيقة، والاحتفاء معًا، وصاحب التأثير الفاعل الخلاق. وفى الآونة الأخيرة التى سبقت معرض القاهرة الدولى للكتاب انتهيت من قراءة المجموعة القصصية «حفيف صندل» للدكتور أحمد الخميسي، وهى مجموعة قصصية لافتة، تعزز من تنويعات القصة وتحولاتها فى اللحظة الراهنة، مع الوعى النافذ بخصوصية هذا الفن، وقدرته على الوجود فى صيغ سردية متعددة على مستوى المتن القصصى من جهة، وعلى مستوى التكنيكات المستخدمة من جهة ثانية. إنها إضافة نوعية وجمالية لفن القصة القصيرة.

ومن اللافت أيضًا استعادة القصة القصيرة لعافيتها فى السنوات القليلة الماضية، وقد تجلى ذلك فى عشرات الإصدارات الإبداعية التى سيكون للمعرض فى ٢٠٢٥ حظ وافر منها.

وبعد.. معرض الكتاب عيد حقيقى للكتاب، وانحياز للتفاعل الخلاق والممتد بين الثقافة وجمهورها العام.

مقالات مشابهة

  • "أخلاقنا".. التى كانت
  • المضاعفات الطبية ومخاطر العمل الطبى
  • أحمد غزي: قبلت التحدي بـ«ششتاوي» لاختلافه عن شخصيتي الحقيقية
  • درة : “وين صرنا” وثيقة تاريخية عن معاناة الشعب الفلسطينى.. كنت أتمنى التصوير فى قطاع عزة .. حوار
  • داليا عبدالرحيم تكتب: الدرس
  • سوريا بعد الأسد.. تعرف على 3 مزارات بريف اللاذقية
  • د. يسرى عبد الله يكتب:  «الكتاب».. الحقيقة والاحتفاء
  • «إقامة جبرية».. دراما جريئة تكشف أسرار النفس البشرية
  • الفن قاطرة التقدم والتنمية
  • الأسيرة الفلسطينية المحررة آيات محفوظ: نزفت 20 يوما بسبب تعرضي للضرب.. وفقدت نظري 90%