مصالح البلاد العليا : دقة الذكاء بين الواقعية والأيديولوجية.
تاريخ النشر: 25th, November 2024 GMT
بقلم : مظهر محمد صالح ..
ليست بلادنا جزيرة منعزلة يتقاذفها المحيط الدولي فيما بينه من مصالح وقوى وصراعات سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها لنجد انعكاساتها في منأى على استقرار بلادنا بشكل او بآخر. فالسياسة الخارجية الناجحة التي توفر الامن والاستقرار في التعاطي مع الأزمات التي تعصف في المجتمعين الدولي والاقليمي ،تقتضي على الدوام توافر سياسات واقعية ذكية و مرنة وفعالة ومقتدرة على فك سلاسل القيود المحيطة بنا مهما بلغت مصاعبها وتحدياتها .
اذ تعد المصالح العليا للبلاد خطًا أحمر يتقدم على أي اعتبارات أخرى (أيديولوجية وسياسية أو حتى تحالفات دولية).
فعادةً ما تسعى الدول لتحقيق هذه المصالح بأسلوب واقعي، يوازن بين الضغوط الدولية والاحتياجات الوطنية ،مع اهمية الحفاظ على حرية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو التبعية لدول أخرى.
وبالرغم من ذلك يبقى الفرق( بين التعاطي الإيديولوجي والتعاطي الواقعي في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية) يكمن في الأساسيات التي توجه صنع القرار والأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها والتي منها على سبيل المثال ، السعي لنشر قيمها وأيديولوجياتها، أو تعزيزها على الصعيد الدولي، دون ان يكون ذلك على حساب المصالح المادية أو التوازنات الواقعية.
اذ ان مرتكز ذلك هو الواقعية السياسية و التي تركز أيضاً على القوة والمصلحة الوطنية كأولوية مطلقة.
فتقديم المصالح الإيديولوجية و التعاطي بها بمفردها ، قد يؤدي إلى صراعات أو عزل دولي إذا كانت القيم التي تسعى الدولة لنشرها تتعارض مع مصالح الآخرين الى درجة الصدام التناحري.
أما تقديم المصالح المجردة بواقعية شديدة ، او مايسمى( التعاطي الواقعي (فقد يؤدي إلى انتقادات داخلية وخارجية بسبب التنازل عن القيم أو التعاون مع أنظمة غير ديمقراطية أو قمعية ).
ففي احدث مقال للمفكر السياسي ابراهيم العبادي بعنوان :نحو تقدير مخاطر جديدة ، يقول العبادي(( اذا شئنا التفريق بين اتجاهي التفكير هذين ،يمكننا ان نصنف مدرستين في القراءة والتحليل ،المدرسة الواقعية والمدرسة المثالية او لنقل المدرسة الايديولوجية ،المدرسة الواقعية تدرس الوقائع وتحاول قراءتها من منظور عملي مادي حسابي ، لاتدخل فيه الامنيات والرغبات والمثل ،انها تسعى لتقدير المخاطر وحساب الكلف وتحصيل المصالح وجني المكاسب وتجنب الخسائر أو تقليلها الى ماأمكن ، المدرسة الواقعية تريد الاستعداد المبكر للطواريء من اجل حساب الامكانات والتكيف مع المتغيرات السياسية والامنية والعوامل الاقتصادية المفاجئة ،ان جمع الادلة والمعلومات واعتماد الارقام وقياس المدخلات والمخرجات ، اصول اساسية في حساب المخاطر ،ولاتدخل الحسابات الشخصية والتصورات والتوقعات ذات الاحتمال القليل في هذه التقديرات ،لاشك ان احدى المشاكل الكبرى في اضعاف تقدير المخاطر هو المراهنة على عوامل غير مرئية، لايمكن حسابها بناء على وثوقية عقائدية أو نبوءات دينية ، او انزال اخبار او مرويات منزلة المصاديق الواقعية )).
ولكن ينبغي ان لا ننسى دور المرجع الديني الاعظم سماحة السيد علي السيستاني عند استقباله ممثل الامين العام للامم المتحدة في تاريخ 4 /تشرين الثاني / نوفمبر 2024 حيث اشار سماحته الى حجم المعاناة التي تعاني منها البلاد على أكثر من صعيد، داعياً العراقيين، وعلى وجه الخصوص “النخب الواعية”، إلى أن يستلهموا العِبر من التجارب الماضية ويتحملوا مسؤولياتهم في تجاوز إخفاقاتها.
اذ يشير المفكر الدكتور عقيل الخزعلي في مقال له بهذا الشان تحت عنوان : النُخَبُ الواعِيّةُ: رهان المستقبل للعراق بين التحديات والطموحات،قائلاً ((انها ليس ذلك مجرد دعوة عابرة، بل هو نداء يحمل بين طياته أبعاداً استراتيجية تستهدف إيقاظ وعي هذه الفئة المؤثرة، وتوجيه بوصلتها نحو تحمل الدور المحوري في قيادة العراق نحو مستقبل ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرُّقي.
ولكن، من هم النخب الواعية التي قصدتها المرجعية؟ وما الدور الذي تنتظره منهم في هذه المرحلة الحرجة؟ ولماذا ركزت المرجعية على هذه الفئة تحديداً دون غيرها؟ وما الأدوات التي يجب أن تمتلكها لتتمكن من أداء هذا الدور الجوهري…. ؟؟ إن المهام التي تنتظرها المرجعية من هذه النخب ليست بالهينة؛ فهي تدعوهم إلى استيعاب دروس الماضي بكل مرارتها وفشلها، والعمل الجاد على صياغة خطط علمية وعملية قائمة على مبدأ الكفاءة والنزاهة. كما طالبتهم المرجعية بتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد بكل أشكاله، ومنع التدخلات الخارجية التي تستهدف سيادة العراق واستقلاله. هذه المهام تمثل ركائز أساسية لأي عملية إصلاح شاملة، ولكنها تتطلب جهداً استثنائياً وإرادة حقيقية من النخب، تتجاوز مجرد التنظير إلى العمل الميداني الفعّال.
ولكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا كما يقول الخزعلي : كيف يمكن للنخب أن تؤدي هذه الأدوار الكبيرة؟ الإجابة تكمن في تبني منهجية شاملة تقوم على عدة محاور أساسية. أولها؛ الوعي الكامل بالمشكلات الحقيقية التي يعاني منها العراق، من خلال دراسة معمقة تستند إلى بيانات دقيقة وتحليل علمي موضوعي. ثانيها؛ تطوير المهارات القيادية للنخب من خلال التدريب والتأهيل المستمر، بما يمكنهم من قيادة عمليات الإصلاح بفعالية. ثالثها؛ بناء شبكات تعاون قوية بين مختلف مكونات النخب، سواء كانت أكاديمية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لضمان تكامل الجهود وتوحيدها نحو تحقيق الأهداف المشتركة. رابعها؛ تعزيز القيم الأخلاقية كالشفافية والنزاهة، لتكون النخب قدوة للمجتمع، وخامسها؛ التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى الذي يتعامل مع العراق كدولة ذات إمكانيات هائلة تحتاج إلى توظيفها بشكل عقلاني ومدروس)).
ختاماً ،ما اجده، ان توازن المصالح العليا للبلاد هي الأهداف الأساسية والمبادئ الجوهرية التي تسعى الدولة لتحقيقها والحفاظ عليها لضمان أمنها واستقرارها وازدهارها. فهذه المصالح تكون عادة فوق أي اعتبارات أيديولوجية أو خلافات سياسية وتاخذ الواقعية هنا مساحة كافية في صيانة تلك المصالح و بدرجات من الشفافية و الصدقية والمرونة للحفاظ على حرية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو التبعية لدول أخرى كما نوهنا، فضلاً عن تعزيز المكانة الدولية لبلادنا وبناء علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والعالمية لجعل التأثير والنفوذ الفاعل ليصب في مصلحة البلاد والشعب في آن واحد .
(انتهى )
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات
إقرأ أيضاً:
أمريكا ليست قدراً
أمريكا ليست قدراً، ولم تكن يوما (إلها يعبد)، أمريكا إمبراطورية إمبريالية استعمارية تعيش على نهب دول وشعوب وأنظمة العالم، أمريكا دولة مهاجرين قدموا إليها من إيرلندا وإنجلترا والغرب الأوروبي، وقد وصلوا تحت حماية الجيش البريطاني، وقد استلهمت النخب الأمريكية قيم الاستعمار البريطاني الذي طردوه منها شكلا وجوديا، لكنهم أبقوه فكرا وسلوكا لكي يمارسوا نهجه وسياسته الاستعمارية، وكانت الحركة الصهيونية العالمية قد لعبت دورا في تأسيس هذه الدولة التي زعم قادتها أنها دولة ليبرالية ودولة الحرية والاقتصاد الحر والمفتوح ورفعوا شعاراً ليبرالياً يقول (دعه يعمل.. دعه يمر.. مادام يدفع الضرائب)، غير أن هذا الشعار لم يدم طويلا ولا أفكار (آدم سميث) فيلسوف الليبرالية والحرية دامت أيضا، لأن أمريكا تحولت من دولة ليبرالية إلى أخرى إمبريالية تمارس كل صنوف الاستعمار الهمجي المجرد من القيم ولها تاريخ أسود وقامت بمجازر وحروب استعمارية بشعة لم تقم بمثلها حتى بريطانيا المعروفة بسياسة الاستعمار _ السلس _..!
أمريكا _اليوم _في ذروة حالة الضعف والانهيار والانكسار، بمعزل عن جعجعة قادتها ورموزها، نعم أمريكا تعيش اليوم حالة احتظار وليس انتصاراً.. وما تقوم به الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1990م لا يعكس حقيقة قوتها وتفوقها الحضاري والتقني، بل يجسد حقيقة انهيار القيم الليبرالية وقيم الحريات والأفكار الوردية التي كانت تسوق عنها باعتبارها ( عاصمة العالم الحر)، أمريكا ليست هي عاصمة العالم الحر ولم يعد لها علاقة تذكر بقيم الحرية والعدالة والمساواة، بل أصبحت عاصمة الشر وعدوة للعالم وحريته وقيمه وأخلاقياته ومعتقداته وحقوقه، منذ عام 1990م ومع انهيار دول المعسكر الاشتراكي توهم قادة أمريكا ومفكروها بأن الليبرالية كنظرية فكرية ومشروع حضاري نهضوي انتصرت على الفكر الاشتراكي وعلى قيم الاشتراكية، وهذا غير صحيح بل مجرد وهم وقعت فيه النخب الأمريكية _الغربية، التي حاولت تطوير ذات الليبرالية بطرح أفكار عن مرحلة (النيو ليبرالية) أي الليبرالية الجديدة، لكن هذه النظرية أخفقت، فكانت أن وضعت فكرة أو فلسفة نخبة (المحافظين الجدد) الذين صاغوا أفكارهم الجديدة ممزوجة بمعتقدات (لاهوتية)، أسفرت عن بلورة فكرة _ الصهيونية المسيحية _ وهي فكرة تلغي كل حقوق ومعتقدات ووجود الآخر الحضاري وتؤمن بأن القوة عنوان الوجود.. وحين تصبح القوة خيار أي فكرة حضارية فإن هذا دليل كافٍ على أن الفكرة مجرد شماعة خداع للآخر، إذ أن كل فكرة تعتمد في نجاحها على القوة هي فكرة منبوذة اجتماعيا وهذا ما تعاني منه أمريكا، والدول الغربية التي تعيش حالة صدام وتناقض بين ممارسة النخب وتطلعات المجتمعات ورغباتهم.. أمريكا والغرب اجتماعيا وثقافيا لم تعد كما كانت عليه في ظل الحرب الباردة والتوازن القطبي، حيث كانت المجتمعات أكثر توافقا ووئاما مع النخب السياسية بعكس حالها اليوم، حيث شيوع التنافر بين النخب الحاكمة والمجتمعات، وحيث تفشي النزاعات الاجتماعية والصراعات، وحيث الأزمات الوجودية وأزمة الهوية أخذت بالتمدد رأسيا وأفقيا في أوساط المجتمعات وفي تفكيرها، وخير دليل ما حدث في أمريكا والغرب خلال معركة طوفان الأقصى وكيف خرجت الشعوب عن رغبات النخب الحاكمة، إذ شاهدنا كيف انحازت الشعوب للحق الفلسطيني منددة بالوحشية الصهيونية وبمواقف أنظمتها المنحازة للجانب الصهيوني وجرائمه ضد الحق العربي الفلسطيني.. هذا التباين أمريكيا وغربيا لا يجب التعاطي معه بطرق عابرة أو إسقاطه على طريقة تفكيرنا وتعاطينا عربيا وإسلامياً مع الظواهر التي تواجهها مجتمعاتنا والتي تحتكر أنظمتنا طريقة معالجتها بمعزل عن قناعة ورغبات شعوبها، في الغرب وأمريكا الأمر يختلف، وعظمة أمريكا اليوم وهيمنتها لا تستمدها من قوتها الفعلية المكتسبة، بل تستمدها من ضعف وهوان العرب والمسلمين تحديدا..!
إن الأنظمة العربية الحالية هي مصدر هيمنة أمريكا، ومصدر قوتها وغطرستها، فضعف وهوان هذه الأنظمة يمنح أمريكا حق الغطرسة والتظاهر بالعظمة والقوة، والصراع الجيوسياسي المحتدم بين أمريكا وروسيا الاتحادية والصين والاتحاد الأوروبي من أوكرانيا إلى مضيق تايون وبحر الصين الجنوبي وصولا للمحيطات، كل هذا الصراع يدور حول كيفية السيطرة على الوطن العربي أو تقاسم النفوذ عليه، والمواقف الروسية والصينية والغربية والأمريكية التي برزت خلال معركة طوفان الأقصى وطريقة تعاطي هذه الأطراف المتصارعة مع جرائم الصهاينة وحرب الإبادة التي شنت على قطاع غزة ولبنان واليمن وما حدث في سوريا، كل هذه التراجيديا الدرامية الدامية التي وإن بدت أمريكا والغرب شركاء فاعلين فيها، فإن بقية الأطراف لم تكن بعيدة عنها، وإن كانت في مواقفها تريد إظهار أمريكا في أوضاع ومواقف أكثر إحراجا لها على الصعيد الدولي ولدي المعنيين في الوطن العربي الذين تراهن أمريكا عليهم في ديمومة هيمنتها على المنطقة والعالم..!
لقد أثبتت المقاومة في فلسطين ولبنان كما أثبتت اليمن أن من يمتلك الإرادة يمتلك القرار ومن يمتلك القرار يمتلك القدرة على مواجهة الغطرسة مهما كانت قوة المتغطرس ومكانته، ومن تابع المواقف الشعبية في جنوب لبنان وفي قطاع غزة وشاهد الطوفان البشري الذي امتد من جنوب غزة إلى وسطها وشمالها، يدرك معنى أن يمتلك الإنسان الحر قراره، دول الخليج وحدها لو امتلكت قرارها وجسدت ولو لمرة واحدة حقيقة هويتها العربية وانتماءها الإسلامي، لكان موقفها كافٍ لهزيمة الغطرسة الأمريكية الصهيونية، مع الأخذ في الاعتبار أن مصر والأردن اللتين طالبهما (ترمب) باستقبال مواطني غزة والضفة ورفضتا هذا الطلب، حتما ستدفعان ثمن رفضهما قريبا، طالما ودول الخليج تتسابق لإرضاء ترمب وتقدم له كل ما يطلب من مليارات كافية لتعمير الوطن العربي مائة مرة، فلو قالت هذه الأنظمة ( لا) وتمسكت بالقانون الدولي الذي داست عليه أمريكا منذ عقود، فماذا سيكون الحال..؟!
ماذا لو قررت دول الخليج أن تبيع نفطها بأي عملة غير الدولار؟، ماذا لو اتجه النظام العربي والإسلامي نحو الشرق، ولكن بشروط؟