الحركات الإسلامية وما بعد الإسلاموية.. قراءة في المفاهيم والتحولات
تاريخ النشر: 25th, November 2024 GMT
ظُهور ما يُعرف بــ "الحركات الإسلامية" كأسلوب حياة أو شكل للحكم والسياسة مُرتبط بتنظيم جماعي يعود لنشأة الدولة القومية في العالم الإسلامي والتحرر من الاستعمار الغربي.
يُشير هذا المصطلح إلى الفكر النظري والمُمارسة العملية لفكرة إنشاء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي على أساس المبادئ المُستمدة من الشريعة الإسلامية.
على سبيل المثال، عندما عرّف حسن البنا (1906 ـ 1949) الإخوان المسلمين في كتابه "مجموعة رسائل الإمام حسن البنا"، وهي أكبر الحركات الإسلامية انتشارا في العالم الإسلامي وصفها بكونها: "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية."
هذا فهم واضح وصريح أن الدين يشمل جميع جوانب الحياة.. حسن البنا بطبيعة الحال ليس أول من دعا لتكريس وتطبيق هذا الفهم للعلاقة بين الدين والسياسة. فهناك الكثير من الإسلاميين الذين قدموا مشاريع سياسية مُشابهة على سبيل المثال، أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) قدم فهما مشابها لهذه العلاقة أيضا.
رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.
حاولت كل الجماعات الإسلامية تقريبا أن تُطبق هذا الفهم الشمولي للإسلام في كل نواحي الحياة، كالدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود، وأسلمة المُجتمع، وتأسيس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي على أساس المبادئ الإسلامية. لكن هذه التجارب لم تنجح، مما اضطر الكثير من هذه الحركات إلى تغيير جوهري بفكرها واطروحاتها.
رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.بناءً على هذا، انبعثت من هذه الحركات الإسلامية نوع جديد يُسمى في الأدبيات السياسية وعلم الاجتماع حركات "ما بعد الإسلاموية." والسؤال هنا. هل كان التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية مرده إلى الفشل في تطبيق الإسلام على كل الأصعدة كما كان يرغب أصحاب هذا التوجه؟ أم أن ذلك التغيير الجذري في الأطروحات والفكر كان مجرد مُناورة سياسية وتغييرا في التكتيكات السياسية للوصول إلى السلطة ومن ثم العودة إلى الفكر الإسلامي.
ما بعد الإسلاموية.. حرف الدين إلى التدين
ما المقصود بمصطلح ما بعد الإسلاموية؟ وما هي سمات هذا المصطلح؟ يشير المصطلح بشكل عام لرؤية لعصر جديد وتقديم رؤية جديدة لعلاقة الدين بالسياسة والدولة، بحيث تتحول الحركات الإسلامية إلى حركات ما بعد إسلاموية. وهذا يعني نهاية عصر أو بداية مرحلة تاريخية جديدة. يمكن القول إن هذا المصطلح ظهر كامتداد لرؤية جديدة لكنها مُختلفة تماما لفهم العلاقة بين الدين والدولة.
إن مفهوم ما بعد الإسلاموية يرتبط عادة بـ "المدرسة الفرنسية" في التحليل الإسلامي ـ وبالتحديد أوليفييه روي وجيل كيبيل.
لكن يمكن القول إن "آصف بيات" هو من أوائل الباحثين الذين استخدموا مصطلح ما بعد الإسلاموية كأداة تحليلية في كتاباته. ومن أهم أعماله في هذا المجال كتابه الُمعنون بـ "جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلامي" والذي نُشر في عام 2007. قدم آصف بيات مُصطلح ما بعد الإسلاموية بصفته "مشروعا مُستمرا". يصف عالم الاجتماع المُصطلح باعتباره حالة ليست معادية للإسلام ولا للعلمانية. ويقوم هذا المشروع على أساس دمج التدين والحقوق، والإيمان والحريات، والإسلام والحرية.
تتجلى مرحلة ما بعد الإسلاموية بالإقرار بالُمتطلبات العلمانية، والتحرر مما يسمى بالجمود الديني، وبالتالي الدعوة لكسر احتكار الحقيقة الدينية. أيضا، مشروع ما بعد الاسلاموية يؤكد على المرونة في فهم النصوص الدينية ويركز على المستقبل بدلا من الماضي.
يمكن القول إن مشروع ما بعد الإسلاموية قلب الأمور رأسا على عقب وذلك بسبب التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات والمسؤوليات. بعبارة أخرى، تُقدم الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص الواجبات على الحقوق. فعلى سبيل المثال، على الفرد أن يحترم الآخرين وألا يقوم بالاعتداء اللفظي أو الجسدي عليهم وبناءاً على هذا الالتزام بهذا الواجب يكون من حق الفرد أن يشارك رأيه مع الآخرين في إطار الآداب في المعاملات. أي أنه عندما يقوم الفرد بواجباته يحصل على الحقوق كنتيجة لذلك.
حيث كانت الحركات الإسلامية تدمج بين الدين والواجبات والمسؤوليات، فإن ما بعد الإسلاموية تركز على التدين والحقوق. بعكس الإسلامية لا تحاول حركات ما بعد الإسلاموية تطبيق الشريعة الاسلامية أو إقامة الحدود، ولا تسعى إلى أسلمة المُجتمع كما هو حال الاسلامية ولا تقوم ما بعد الاسلاموية ببناء مؤسسات ذات طابع إسلامي. إن ما بعد الاسلاموية تقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بفصل الدين عن الدولة.
أسباب التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية
يمكن القول إن كل الحركات الإسلامية فشلت وبشكل واضح وبكل البلاد تقريبا. الحديث أن أسباب فشل الحركات الإسلامية مُتشعب ويحتاج الكثير من المُراجعات، ولعل من أسباب هذا الفشل: أن الحركات الإسلامية حصرت نفسها وفكرها بنظام الدولة القومية، ومعلوم أن نظام الدولة القومية تطور كنتيجة لحرب دينية مسيحية ضروس في أوروبا، راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين قتيل.
ومعلوم أن الدولة القومية كبُنية سياسية واجتماعية واقتصادية لم تكن مُحايدة ولا موضوعية ولا عالمية. بل هي خاصة بتجربة مُعينة في سياق تاريخي وجغرافي وثقافي وديني، بل ومذهبي محدد. مُفكري وقادة الفكر الإسلامي لم يتجاوزوا الفهم الدقيق لهذه الإشكالية. بل وناقشوا الدولة القومية الحديثة كأمر مُسلّم به. ولم يحاولوا تجاوز القطرية. كتاب هبة رءوف عزت والمعنون بـ "الخيال السياسي للإسلاميّين: ما قبل الدولة وما بعدها" والذي نُشر في عام 2015 هو دراسة نقدية لفهم الإخوان المسلمين في مصر لمفهوم الدولة الحديثة على سبيل المثال لا الحصر.
لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.
لعل هذه الإشكالية أيضا ما حفزت المُفكر الفلسطيني وائل الحلاق لكتابة كتابه الشهير "الدولة المستحيلة" ليُبين هذه المُشكلة بالتفصيل. حيث جادل حلاق بحجج متينة نظريا وعمليا أنه لا يمكن إقامة دولة إسلامية ضمن بنية الدولة القومية الحديثة وذلك لأن الإسلام بحسب حلاق رسالة أخلاقية وبنية الدولة القومية الحديثة غير أخلاقية وبالتالي لا يمكن تطبيق هذه المنظومة الإسلامية الأخلاقية داخلها.
أيضا يمكن إضافة أن الحركات الاسلامية تم قمعها، وسجن واغتيال وإعدام وإبعاد الكثير من قادتها من قبل الأنظمة الاستبدادية، والعسكرية في البلاد المُسلمة. ما جعلها لا تستطيع في كثير من الأحيان الاستمرار وتعويض قياداتها الفكرية والاستمرار في العمل السياسي والاجتماعي.
في النهاية نُشير إلى أن هناك من يقول إن الحركات الإسلامية لم تفشل وإنما طورت من خطاباتها السياسية كوسيلة للوصول إلى السلطة أو بالأحرى كمناورة سياسية لكسب الشرعية السياسية للوصول للحكم. ولكننا نقول إنه لا يوجد تجربة واحدة دخلت السياسة كحركة ما بعد إسلاموية ثم عادت وأصبحت إسلامية.
*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في اسطنبول صباح الدين زعيم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الحركات الإسلامية السياسة رأيه سياسة رأي العالم الاسلامي أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکات الإسلامیة على سبیل المثال هذه الحرکات الکثیر من لا یمکن نظام ا
إقرأ أيضاً:
في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-
على الأرجح، فالمفاهيم السوسيولوجية والجغرافية والحقائق التاريخية رغم أهميتها على مستوى إعادة تشكيل وبناء الجهاز المفاهيمي المرتبط بالصراع حول الصحراء، إلا أن المفاهيم الأخرى، سواء القانونية المرتبطة بالقانون الدولي أو بعض المفردات ذات الحمولة السياسية، فإنها لا تقل بدورها أهمية على مستوى الترافع عن الوحدة الترابية للمملكة.
المفاهيم القانونية والحقائق السياسية
لم يسلم القاموس التداولي بشأن النزاع حول الصحراء من التحريف والتزييف، إذ جرى ويجري استعمال وتوظيف بعض المفاهيم القانونية بطريقة تفتقر إلى الدقة لا سيما وأن بعضها مرتبط بقواعد القانون الدولي مثل مفهوم « الاحتلال » « واللاجئين » و »الدولة الصحراوية ».
لقد تمكنت الآلة الدعائية الانفصالية من تثبيت بعض المفاهيم المغلوطة في مخيلة الأنصار والتابعين، بل غدت تلك المفاهيم والمصطلحات مؤسسة وتشكل النواة الصلبة في عملية الاستقطاب وتوسيع دائرة التيار الانفصالي.
أولا، المفاهيم والمصطلحات القانونية
تنهل وتعتمد أطروحة الانفصال على قاموس دعائي/تحريضي يرتكز على مجموعة من المفاهيم والمفردات القانونية المرتبطة بقواعد القانون الدولي بمختلف حقوله وتخصصاته. لذا، فإن تفكيك « بنية الخطاب الانفصالي » يستدعي إعادة قراءة ومراجعة المفاهيم والطروحات المؤسسة، لاسيما وأن « الحرب الناعمة » _التي تعرف بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للوسائل العسكرية والصلبة »_ باتت تخاض عبر اعتماد مرجعيات قانونية ودولية، وذلك بغرض المحاججة والترافع في الساحة الدولية والإقناع وإيجاد مناصرين ومتعاطفين مع القضية.
1- مفهوم تقرير المصير
يعتبر تقرير المصير من بين أهم المبادئ التي تم التنصيص عليها في العهدين الدوليين سواء الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أو العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعلن عنها سنة 1966.
إلا أن سياق تضمين هذا المبدأ في العهدين، ارتبط بمحاولة تشجيع الدول خاصة حديثة الاستقلال أو الخاضعة للاحتلال على التوقيع على العهدين. وقد تم تبني هذا المبدأ من طرف المنتظم الدولي في سياق متسم بمناهضة للاستعمار، مما جعل هذا المفهوم خلال الستينات من القرن الماضي يحظى بانتشار وتأييد واسعين من طرف كافة الدول.
هذا المفهوم الذي انتشر قبل ولادة البوليساريو بسنوات، سيصبح بعد انحراف هذا التنظيم عن المبادئ وأهداف التأسيس، من بين أهم الشعارات التي يرفعها رفقة الجزائر ضد المملكة المغربية في المحافل الدولية، وقد جرى تحريف استعمال هذا المبدأ بشكل يتعارض مع أهم المبادئ المؤسسة لميثاق الأمم المتحدة وباقي الصكوك الأخرى وهو مبدأ « وحدة وسلامة الدول ».
كما حاولت الجزائر عبر البوليساريو أن تجعل من الاستفتاء كآلية وحيدة لتقرير المصير، بل إن هذا الاختزال غير الدقيق لمفهوم تقرير المصير وعلاقته بالاستفتاء غدى من بين المسلمات التي توظف للدفاع عن أطروحة الانفصال.
في حين لم يرد ضمن الوثائق المرجعية للأمم المتحدة ما يشير إلى اعتماد الاستفتاء كآلية وحيدة لتقرير المصير، حيث حددت الجمعية العامة أربعة نتائج لاعتماد تقرير المصير دون تحديد الوسيلة أو الطريقة، الشراكة والاندماج والاستقلال (القرار 1541) وحرية اختيار الوضع السياسي (القرار 2625). ومنذ سنة 1945 أشرفت الأمم المتحدة على ما يقارب خمسة استفتاءات (2 نتج عنهما الاستقلال في كل من نامبيا وتيمور الشرقية، وواحد أفضى إلى اندماج ايريان الغربية في إندونيسيا عام 1963، واثنان نتج عنهما رفض قانون الشراكة الحرة المقترح بين طوكلوا ونيوزيلندا سنتي (2006 و2007).
2- مفهوم الاحتلال
يصف دعاة الانفصال المغرب « بدولة الاحتلال » حتى صار هذا التوصيف في مخيلة الشباب في مخيمات تندوف وبعض المناطق الخاضعة للمغرب بمثابة « حقيقة » أو « قناعة » لدى البعض، وذلك نتيجة سنوات من التحريض عبر الآلة الإعلامية.
هذا بالإضافة إلى أن مقولة « الصحراء آخر مستعمرة في إفريقيا » باتت تروج بكثافة حتى صارت بمثابة سردية يرددها البعض في كافة المحافل الدولية والقارية.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي فإن مفهوم « القوة المحتلة » تم تحديده بدقة بموجب قرار لاهاي لسنة 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة الصادرة بتاريخ 12 غشت 1949، حيث تعتبر « القوة المحتلة » وفق هاتين الوثيقتين بأنها تنطبق على استعمار أرض دولة موجودة فعلا خلال نزاع دولي مسلح.
وانطلاقا من هذا التعريف، يلاحظ أن وصف المغرب بالاحتلال، مجرد توصيف دعائي يسائل ضعف وعدم قدرة المملكة على دحض هذه المغالطات وعدم قدرتها على الترافع بشكل عقلاني، لاسيما وأن قرارات مجلس الأمن وتقارير الأمين العام منذ بداية مسار التسوية الأممي لم تصف أو يرد ضمنهما ما يوحي أو يشير إلى اتهام المغرب ب »الاحتلال ».
3- « الدولة الصحراوية »
أعلنت جبهة البوليساريو بإيعاز من الجزائر سنة 1976 بعد توقيع الاتفاق الثلاثي عما يسمى « الجمهورية الصحراوية ». وهذا الإعلان/الادعاء يفتقر إلى أسس وضوابط ومقومات عادة ما يفترض وجودها قبل الإعلان عن « الدولة ».
مفهوم الدولة في القانون الدولي يرتبط بوجود مقومات أساسية وهي شعب، إقليم، سلطة سياسية، سيادة، وهي مقومات غير متوفرة لدى جبهة البوليساريو. وارتباطا، بهذا المعطى القانوني، فإن تفكيك مقومات الدولة في جوانبها القانونية والسوسيولوجية، يجعل هذا التنظيم أبعد ما يكون عن الدولة، وهو ما يبرر عدم اعتراف الأمم المتحدة بهذا الكيان كدولة، بل بالعودة إلى تقارير الأمين العام وقرارات مجلس الأمن يلاحظ أن التوصيف الأقرب من خلال متن ومضمون التقارير والقرارات هو « حركة انفصالية ».
وبالنظر إلى ضرورة التوفر على مرتكزات ومقومات الدولة وفق القانون الدولي، فالبوليساريو حاولت طيلة مسار النزاع أن تقدم إجابات وسد النقائص في هذا الجانب، لكنها فشلت وإن كان الاعتراف بها عضوا في الإتحاد الإفريقي ساعدها قليلا على الأقل من الناحية الدعائية.
وفق هذا الأساس، فالمقومات الأساسية غير موجودة، حيث أن « الشعب الصحراوي » كمرادف لشرط وجود شعب، يعتبر مفهوما غير دقيق كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، أما الإقليم، ونظرا لسيادة المغرب على 80 في المائة من الأراضي المتنازع حولها، فقد عملت الآلة الدعائية على الترويج لما بات يعرف « بالأراضي المحررة »، وهي أراض تقع في المنطقة العازلة خاصة على مستوى بئر الحلو وتفاريتي.
أما شرط وجود « السلطة السياسية »، فلا يمكن اعتبار تنظيم مسلح بالنظر إلى أدبياته وهيكلته المعلنة، على أن له سلطة سياسية، في ظل غياب المرتكزات المؤسسة للشرعية والتمثيلية (الانتخابات)، فالبوليساريو، تنظيم مسلح يعتمد على تراتبية صارمة لا تسمح بالاختيار أو مناقشة الاختيارات وتقرير المصير.
ثانيا، المفاهيم والحقائق السياسية
إن إطالة أمد النزاع حول الصحراء، أفضى إلى تغليب الخطاب الدعائي/التحريضي على حساب الحقيقة والواقع، مما أدى إلى نشر مجموعة من المغالطات تصل لدرجة « الأكاذيب » والمفاهيم والأقاويل غير الدقيقة.
إذ جرى في سياق الصراع، القفز على بعض الحقائق التي تعتبر من جوهر وأدبيات هذا النزاع، من قبل طبيعة النزاع، هل هو إقليمي أم دولي أم محلي، وكذلك مفهوم اللاجئين أو « المحتجزين »، هذا بالإضافة إلى طبيعة عضوية البوليساريو في منظمة الإتحاد الإفريقي.
1- طبيعة النزاع حول الصحراء
تحاول الأطروحة الانفصالية أن تختزل الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو وهي مقاربة خاطئة وغير دقيقة، لأن الصراع في جوهره إقليمي وإن أخذ أبعادا دولية بفعل تحولات وعوامل دفعت في اتجاه تدويل الملف. فالمعطيات التاريخية والحقائق السياسية تؤكد أن النزاع إقليمي ولا يغدو أن يكون امتدادا لصراع الريادة والتوسع بين المغرب والجزائر. لذلك، لا يمكن فهم طبيعة النزاع حول الصحراء دون استدعاء التاريخ خاصة « حرب الرمال »، وغيرها من الأحداث المفصلية.
إن استدعاء التاريخ واستحضار ملف الصحراء ومنطق الزعامة والرهانات الجيو-استراتيجية، تعتبر مفاتيح ومداخل مهمة لتفكيك وفهم وتحليل الوضعية المأزومة التي وصلت إليها العلاقة بين الطرفين، لا سيما وأن الصراع وقواعد الاشتباك الدبلوماسي لم تعد كما في السابق؛ إذ باتت المواجهة المباشرة مطروحة وغير مستبعدة في ظل الاحتقان الموجود.
تعتبر حرب الرمال واقعة أليمة في سجل العلاقة بين الطرفين، إذ تبرر المملكة المغربية تدخلها عسكرياً للرد على استفزازات حدودية من الجيش الجزائري، والجزائر تقول إنها ردّت أطماعا مغربية في أراض على الحدود.
تتعدد وتختلف المسوغات التي يسوقها كل طرف؛ المغرب يبرر موقفه من خلال الدفاع عن حقوقه التاريخية المشروعة في بعض المناطق المتمثلة في بشار وتندوف وأقصى الجنوب الجزائري، بحيث يعتبر أن الاستعمار الفرنسي اقتطعها منه.
وتبعا لذلك، يرى المغرب أن قادة الجزائر لم يوفوا بعهودهم، لا سيما وأن المملكة رفضت ترسيم الحدود الشرقية مع فرنسا وارتأت أن تناقش هذا الأمر مع سلطات الجزائر بعد استقلالها، خاصة بعد تطمينات فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، الذي صرح، بحسب مذكرات قائد الأركان السابق الطاهر زبير « نصف قرن من الكفاح »، بخصوص مطالب المغاربة بالقول: « نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها ». وقال الطاهر زبير في مذكراته: « وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام ».
2- اللاجئين الصحراوين وسؤال التمثيلية
تستعمل جبهة البوليساريو ومن خلفها الجزائر مصطلح « اللاجئين الصحراويين » لتوصيف ساكنة تندوف، بالمقايل تصفهم الآلة الإعلامية المغربية « بالمحتجزين »، وإن كانت الجزائر وفق خلفيات وسياقات ترتبط بالحرب الباردة قد تمكنت من شرعنة مفهوم « اللاجئين » على مستوى تقارير وقرارات مجلس الأمن، إلا أن هذا المفهوم لا يتناسب مع حمولته الإنسانية ومقتضيات الشرعية الدولية. لاسيما وأن الجزائر لاتزال ترفض إحصاء عددهم وإعمال المبادئ المتعلقة بهذه الفئة.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي، فإن اتفاقية 1951 المتعلقة باللاجئين تعتبر الإطار القانوني المرجعي لعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتعرف هذه الاتفاقية « لاجئ »، وتتضمن كافة حقوقه، بما في ذلك حقوقه من قبيل حرية العقيدة والتنقل من مكان إلى آخر، والحق في الحصول على التعليم، ووثائق السفر، وإتاحة الفرصة للعمل، كما أنها تشدد على أهمية التزاماته / التزاماتها تجاه الحكومة المضيفة. وتنص أحد الأحكام الرئيسية في هذه الاتفاقية على عدم جواز إعادة اللاجئين، والمصطلح القانوني هو حظر الطرد أو الرد ـ إلى بلد يخشى/ أو تخشى فيه من التعرض للاضطهاد. كما أنها تحدد الأشخاص أو مجموعات الأشخاص الذين لا تشملهم هذه الاتفاقية.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن بروتوكول سنة 1967، أزال الحدود الجغرافية والزمنية الواردة في الاتفاقية الأصلية التي كان لا يسمح بموجبها إلا للأشخاص الذين أصبحوا لاجئين نتيجة لأحداث وقعت في أوروبا قبل 1 يناير 1951، بطلب الحصول على صفة اللاجئ.
كما تعرف المادة الأولى من الاتفاقية بوضوح من هو اللاجئ. إنه شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل / تستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد.
ومن خلال تعريف اللاجئ وحقوقه، وبإسقاطه على « ساكنة تندوف » التي توصف من طرف الجزائر وضمن تقارير الأمين العام ب « اللاجئين الصحراويين »، يتضح أنه هذا المفهوم لا ينطبق على هذه » الفئة »، لاسيما وأن صحراويي تندوف لا تنطبق عليهم مجموعة من المعايير القانونية:
– صحراويي تندوف لم يتعرضوا للاضطهاد وليسوا مضطهدين، خاصة وأن أبناء عمومتهم وعائلاتهم يعيشون بالمناطق الجنوبية تحت السيادة المغربية. بل هناك من يتبنى الفكر الانفصالي ويعبر عن مواقفه وإن كانت مناوئة للوحدة الترابية المغربية.
– حقوق التنقل غير متوفرة في مخيمات تندوف، بحيث تخضع المخيمات لإدارة وإشراف الجيش الجزائري.
– اللاجئ بحسب الاتفاقية هو شخص مدني، والشخص الذي يستمر في الاشتراك في أنشطة عسكرية لا يمكن النظر في منحه اللجوء. وهذا الأمر مناقض لوضعية البوليساريو الذي يعتبر تنظيما عسكريا، بل يتوفر وبشكل علني على مليشيات عسكرية تقدر بالآلاف، وهو ما يطرح علامة استفهام حول هذا الوضع غير القانوني المخالف لقواعد القانون الدولي.
– ساكنة مخيمات تندوف تعيش أوضاع مأساوية نتيجة أزمة العطش التي أخذت هذه المرة منعطفا جديدا، إذ يخرج بين الفينة والأخرى بعض الشبان من داخل المخيمات عبر تقنية الفيديو، لمطالبة الجزائر والمنتظم الدولي بالتدخل لانقاد أرواح الأطفال والشيوخ وإيجاد حلول جذرية لهذه المحنة التي طالت، محنة جاءت لتضاعف معاناة أفراد وأسر، لا ينظر إليها إلا كأرقام إضافية في سوق السياسة والمصالح.
أما سؤال تمثيلية هؤلاء لساكنة الصحراء فهو مخالف للواقع بفعل عدة تحولات، سيما وأن تنظيم البوليساريو كما سبق الذكر هو تنظيم عسكري يعتمد في تركيبته وهيكلته تراتبية صارمة لا مجال فيها للاختيار أو الاختلاف وفق المبادئ الديمقراطية.
انطلاقا من المؤتمرات العامة التي عقدت من طرف تنظيم البوليساريو، فاختيار القادة وانتخاب الهياكل يتم بطريقة صورية ومحسومة سلفا، لاسيما وأن الجزائر تتدخل بشكل مباشر في اختيار وتعيين من يقود هذا التنظيم.
فمسألة التمثيلية مرتبط وفق المبادئ الديمقراطية بالاختيار، وهذا الميكانزيم غير موجود وغير متوفر في مخيمات تندوف، إذ يوظف القمع بطريقة مفرطة تجاه الأصوات الحرة بدعوى أن » التنظيم » في حالة حرب تارة، واتهام كل من يعبر عن مواقف مخالفة ومناقضة للقيادة بخدمة أجندة المغرب وتخوينهم وسجنهم تارة أخرى.
لكن، المفارقة الصارخة، تتجلى في كون أغلبية الصحراويين موجودون بالأقاليم الجنوبية للمغرب، وتشارك في الانتخابات المحلية والتشريعية بشكل دوري، وبالتالي، ادعاء تمثيلية الصحراويين من طرف البوليساريو مسألة مضللة وغير دقيقة.