لجريدة عمان:
2025-02-04@17:14:09 GMT

أمسيات القوافي في عيون الشعراء.. ليست مجرد إلقاء!

تاريخ النشر: 25th, November 2024 GMT

أمسيات القوافي في عيون الشعراء.. ليست مجرد إلقاء!

أسماء الحمادي: الأمسيات دفعتني دفعا للاشتغال على الشِّق الثاني من القصيدة «الإلقاء»

يوسف الكمالي: المشاركات الشعرية توفر بيئة حيوية ومباشرة لممارسة التلقي

صهيب نبهان: التجربة الشعرية تتأثر وتتغير وتتطور بمُزاحمة الشعراء وحضور الأماسي

تكثر الجلسات الشعرية، سواء أكانت أمسية أو أصبوحة، وتشكل مناسبة جاذبة لمحبي الشعر وجمهوره.

وجاء في سياق الألسن أن نقول: «أمسية شعرية» إذ تكثر هذه الجلسات مساءً مقارنة بما يقام منها في الصباح، لترد في ذهني مجموعة أسئلة عما تعنيه الأمسيات الشعرية للشاعر، وكيف تساهم في نقل صوره وإحساسه بشكل مباشر أمام جمهوره؟ بل هل يخفي الشاعر بعضًا من نصوصه أمام الجمهور المباشر، ويمررها في ديوان له إذا قام بإصدار واحد؟ وغيرها من الأسئلة الواردة لدي وأنا أجدول عملي لحضور أمسية شعرية في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والأربعين، التي شارك فيها الشاعر العماني يوسف الكمالي، والشاعرة الإماراتية أسماء الحمادي، وأدارتها أسماء الظنحاني، بتنظيم «دارة الشعر العربي»، وهي مؤسسة ثقافية تأسست في إمارة الفجيرة تهتم بالشعر العربي منذ بزوغه في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية إلى هذا الوقت، كما جاء في تعريفها عن نفسها في صفحتها على إنستجرام.

بل كان من حسن حظي أن تلفت فتاة انتباهي للأمسية الحماسية الجماهيرية الأخرى التي قدمها الشاعر المصري هشام الجخ في أكسبوا الشارقة، سائلة عن موقعها، وقد حضرتها قبل أن تمتلئ الأمسية بالحضور حتى قفلت الأبواب دون سماح للكثير بالدخول.

وكانت الأمسية الأولى التي قصدتها فرصة لاستطلاع رأي المشاركَيْن فيها حول ما تعنيه الأمسيات الشعرية للشعراء، إضافة إلى مشاركة الشاعر صهيب نبهان الذي كان من بين حضور الأمسية.

كان السؤال الأول «ما هو تأثير الأمسيات الشعرية بالنسبة لك، من ناحية تطوير تجربتك الشعرية؟».

وقال يوسف الكمالي في إجابته: «التجربة الشعرية تقوم على جدل الكتابة والتلقي، والمشاركات الشعرية سواء في أماس أو أصبوحات أو ملتقيات، توفر بيئة حيوية ومباشرة لممارسة التلقي. ذلك بلِحَاظ أن أشكال التلقي وإمكاناتها تختلف، فالتلقي السماعي يختلف عن التلقي القرائي، وكلاهما لا غنى عنه في سياق تحويل التجربة الشعرية الخاصة إلى حالة شعرية عامة».

في حين أجابت الشاعرة أسماء الحمادي على السؤال ذاته قائلة: «أعتقد أن الأمسيات الشعرية دفعتني دفعاً للاشتغال على الشِّق الثاني من القصيدة، الذي لا تكتمل إلا به، ألا وهو الإلقاء، فحين حان تكثيف الحضور والمشاركات في الأمسيات الشعرية، كان لا بد من الالتفات إلى الإلقاء كذلك، إلى جانب موهبة الكتابة الشعرية، حتى وجدت تطوراً في إلقائي، مازال مستمراً متجدداً، الكتابة الحَقَّة لا تكون إلا في لحظات التجّلي، والإلقاء كذلك وجهٌ من وجوه التجلّي، فالإلقاء الجيد يمنح الشاعر الفرصة لتمثُّل القصيدة والتفاعل معها، بل وتعميقها في وجدانه، بينما يكون -في الواقع- يتفاعل مع ذاته، ومن ثَمَّ يمنح المتلقي فرصةً لمعايشة القصيدة بدوره والتفاعل معها». أما الشاعر صهيب نبهان فيجيب من زاوية الجمهور، قائلا: «الشاعر في حضوره للأمسية مرهونٌ بعدة أمورٍ أهمها المذهب الشعريّ للشعراء المشاركين في الأمسية الذي يعكس هوية الشاعر وأسلوبه الفنيّ، يجب أن أكون مُطَّلِعًا على التاريخ الأدبيّ للشاعر حتى أحدد مدى استفادتي من حضور أمسيته، شخصيًا أفضل القصائد الاجتماعية والإنسانية والتي تحاكي الواقع بحُلْوِهِ ومُرِّهِ، والقصائد التي تصف خلاصة تجربة الشاعر في حِلِّه وتِرحاله، وألمه في الغربة وحنينه إلى موطنه، وقصائد النُّصح والحكمة؛ عن القصائد الغزلية التي أجِدُها في غير موضعها وأجدُ في نفسي حرجًا مِن التفاعل معها، إضافةً إلى ذلك؛ قدرة الشعراء على نقل أحاسيسهم الداخلية، واختيار لغة الجسد دون تصنُّعٍ أو مبالغة، والنجاح في التفاعل مع كيمياء الحضور بكل بساطةٍ وعُذوبةٍ وعفويّة، وقراءة وجوه الحاضرين، وترك فكرة إجبار الجمهور على إبداء الإعجاب بصورةٍ معينة أو بيتٍ بعينه، فالحضور إما أن يكون أغلبهم من الشعراء -الذين يصعب إرضاؤهم-، أو من الجمهور الذي يملك قدرًا كافيًا من الذائقة الشعرية، كل هذه العوامل مِن شأنها أن تترك بصمةً واضحةً على تجربتي الشعرية، التي لا شك أنها تتأثر وتتغير وتتطور بمُزاحمة الشعراء وحضور الأماسي، وهذا التطور لا ينتهي إلا بموت الشاعر، فليس هنالك مُنتَهًى للشعر».

التفاعل المباشر

سؤالي الثاني كان «كيف تصف تجربة التفاعل المباشر مع الجمهور، خاصة أنه يقال: إن الشعر الأولى به أن (يُسمع) لا أن (يقرأ)؟».

أجاب الكمالي بقوله: «تعتمد تجربة التفاعل بشكل كبير على ظروف التلقي ونوعية المتلقي، فإلقاء نص في قاعة الشهباء في جامعة نزوى، أو في أمسية من تنظيم جماعة الخليل في جامعة السلطان قابوس بطبيعة الحال ليس كإلقاء نص في فعالية ترفيهية من تنظيم الجمعية العامة للسيارات، ومن باب أولى فإلقاء نص أمام جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- في مسقط رأس الشاعر، وما يرتسم من انفعال وابتهاج على قسمات وجهه ليس كنشر قصيدة وطنية في مواقع التواصل الاجتماعي وتلقي ردود الفعل المكتوبة من عامة الناس، وهذا ليس تخفيضا من أهمية الذائقة العامة التي لا أجد -شخصيا- معيارا أصدق من عفويتها في تقييم التجربة الشعرية والفنية عموما، بقدر ما هي إشارة إلى ضرورة الالتفات إلى بيئة التلقي التي تشكل وسطا حيويا لتفاعل الشاعر مع جمهور الشعر».

وبدورها قالت أسماء الحمادي: «في ملّتي واعتقادي، الأمسيات الشعرية فرصة للشاعر يحصد من خلالها تفاعل الجمهور مع النص الشعريّ ويستجلي انطباعاته، كما أنها فرصة للمتلقي حيث يستمع إلى النص من أفواه الشعراء مباشرة، فهي تجربة تفاعلية مزدوجة بامتياز، وذلكم تفاعلٌ صوتيّ وبصريّ في آنٍ معا. فالشعرُ يُرى كذلك في ملامح الشعراء أوانَ الإلقاء، وفي ملامح المتلقين أوانَ التفاعل والتماهي».

فيما قال صهيب نبهان: «في حوارٍ مع بعض الأدباء والمفكرين؛ كدنا نتفقُ جميعًا على أنَّ الشعر منه ما يُسمَع، ومنه ما يُقرَأ، بعضُ الشعراء يُحسِن الكتابة ولا يُحسِن التسويق لقصيدته؛ بل ويُفسِد القصيدة بإلقائه، وبعضهم لا تجد لذةً حقيقيةً في شِعره أو متعة في قراءته؛ إلا أنه يرتكب أسلوبًا مميزًا في الإلقاء والحضور يجذبُ به انتباه الجمهور، ورغم أنَّ هذه الحيلة لا تنطلي على الجمهور المتذوق للشعر بل وينفر منها؛ إلا أنَّ لها رواجًا عند مَن يتخذون -لزوم ما لا يلزم- مبدأً، وهناك نوعٌ من الشعراء يُقرأ ويُسمَع بكل لذةٍ واستمتاع، ونوعٌ يفرضه الواقع علينا لا يُقرأ ولا يُسمع».دافعٌ للأمسية

والسؤال الثالث: «هل الأمسيات دافع لكتابة نص جديد مرتبط بمناسبة الأمسية؟».

يقول يوسف الكمالي: «لا أذكر أنني كتبت نصا خاصا بأمسية شعرية، كما لو كانت موعدا ليليا حميما. لكنني أراعي كثيرا شخصية الحضور في الأمسية وأسعى إلى أن أجعل له في نصوص مشاركتي ما يكون مَعنيًّا ومشغولا به، لُغة وموضوعا وعاطفة».

وتقول أسماء: «من تجربتي الخاصة، الأمسيات حافز لاستكمال قصيدة غير مكتملة، وتلك قصيدةٌ يكون الشاعر قد نسِيَها أو انشغل عنها أو تكاسل عن تشطيبها وتنقيحها في ازدحام الأعباء والمسؤوليات وتسارع الأيام، فحين أكون مُقْبِلة على أمسية شعرية، أعود في أحايين كثيرة إلى أوراقي متحفِّزة لإحياء قصيدة لم تُكتب لها الحياة بعد؛ لأصافح بها جمهور الشعر».

أما صهيب فيقول: «الأمسيات بشكل عام مُحفّزٌ جيّدٌ لكتابة الشعر، ورؤيةُ الجمهور وهو يتلذذ بأبيات شاعرٍ آخر، وصوره البلاغية؛ تستثيرني أدبيًّا، خصوصًا مع قدرتي على إخراج ذلك المارد الكامن بأعماقي، الذي لا يوقظه إلا ما يمسُّ كينونتي ويؤثر في داخلي، لذا أعتقدُ أنني أفشلُ دائمًا في أنْ أكون شاعر مناسبات، ربما بسبب قلة ارتكاب هذا النوع من الشعر، هذا إن كان السؤال يقصد الأمسية في موضوعها، أما إن كان الارتباط مكانيًا، فبكل تأكيد؛ المكان وقيمته الثقافية والإعلامية لهما دورٌ كبير في دفعي لأن أترك بصمتي، وهذا ما يصبو إليه جميع الشعراء».

الذائقة العامة

رابع الأسئلة التي طرحت: «كيف تسهم الأمسيات الشعرية في تشكيل الذائقة الأدبية العامة؟»

وهنا أجاب الكمالي قائلا: «كما يتشكل المطر بحسب الأرض التي يهمي عليها، فيصبح نهرا في الوادي، وعشبا في المرعى، وحديقة غناء في البستان، فإن الشعر والشاعر يتشكلان بحسب الوسط الجمالي والوجداني والثقافي الذي ينفعلان به ومعه».

وتُجيب أسماء: «لعلَّ الأمسيات الشعرية تُسْهِم في تعريف الجمهور على شعرنا العربيّ المعاصِر، بأشكاله وقضاياه واتجاهاته الرائجة، ثُمّ قد نجدها تؤثِّر بشكل أو بآخر في الوعي الجمعيّ والذوق الأدبيّ السائد، وذلك يكون بشكلٍ تراكميّ، قصيدةً بعد قصيدة، وأمسيةً بعد أمسية».

أما الشاعر صهيب فأجاب: «في مقالة تتحدثُ عن الذائقة الأدبية؛ يُعرِّف الكاتب الذائقة بأنها (كائنٌ حقيقيّ يتطور ويحتاج إلى ما يُغَذيه، وتتطور منهجيتها بتطور الوعي والثقافة لدى الكاتب، وأن يكون ذا وعيٍ ونُضجٍ وثقافةٍ واسعة، وهذه بدورها تُشكل نمطًا استثنائيًا لتطوير الحواس التي تُشكل بدورها تناميًا فعليًّا في تحسين الذائقة لديه أولاً)، أرى أنَّ الشاعر حين يمتلك ذائقةً قويةً وذكيّة، ورؤيةً واسعةً ومعاصرةً للوسط الأدبي، وإلمامًا بالمستوى الثقافيّ عمومًا، يستطيع أنْ يجعل نفسه دائمًا في مرحلة الإقلاع وما قبل الطيران، حيث يأخذك ببساطةٍ إلى عوالم أخرى، ويفتح أمام المتلقي آفاقًا جديدة، تعود بعدها الذائقة أقوى من سابق عهدها، لدرجة أنَّ المُتلَقّي نفسه لن يرضى في قادم الأمسيات بأقل من ذلك الشاعر الذي شكّل أفُقًا أكثر اتساعًا لذائقته الأدبية».

متى يُقال؟ ومتى يُكتب؟

وآخر الأسئلة «متى يفضل الشاعر أن يحتفظ بقصيدة في ديوانه ولا يقرأها أمام جمهور؟ ومتى يحدث العكس؟».

وهنا يجيب يوسف الكمالي قائلا: «سؤال عبقري.. أتعمد نشر بعض النصوص مكتوبةً حين أشعر أنها تخاطب القيعان في عين المتأمل، بمعنى أن تكون بحاجة إلى ما يسمى في علم النفس بنظام التفكير (البطيء) أكثر من حاجتها إلى كيمياء التفاعل اللحظي».

وتقول أسماء الحمادي مجيبة: «لديَّ في دواويني قصائد لم أقرأها يوما في أمسية، ولربما ذلك يعود إلى أنها ليست بقصائد منبرية، فهي من النوع الذي يقرأه القارئ بينه وبين نفسه، في حين أنَّ عندي قصائد أكاد لا أترك أمسية إلا وأقرأها فيها، ولعلَّي أذهب إلى أنّهنّ المُؤنِسات الغاليات، أم ربما هنّ القصائد الرُّؤيَوِيَّات ذوات العمق المُتجدِّد والأسئلة التي لا تنطفئ».

وختاما يقول الشاعر صهيب: «يعود الاختيار هنا إلى مناسبة الأمسية وتوقيتها وموقعها الجغرافي وقيمتها، لكل أمسيةٍ استعداداتٌ خاصة بها، وهناك بطبيعة الحالِ نصوصٌ لا تصلح للأمسيات الشعرية كرسائل الأصدقاء أو رسائل التهنئة أو الأبيات المتفرقة وربما الهجاء، والتي لا تجد إلا الديوان ملاذًا لها، ورغم ذلك ربما أعتبرها حشوًا لا فائدة منه، ويعتبرها بعض الشعراء قطعةً منهم يجب أن تعيش على أوراق دواوينهم، وفي المقابل؛ بعض النصوصِ لا أستطيع أن أتركها حبيسة الورق؛ بل ولا أنشرها قبل أن ألقيها في أمسيةٍ ما، إيمانًا مِنّي بذلك الشعور الذي يخبرني بأنَّ وَقْعًا مُميزًا سيكون لها وأصداءَ قويةً ستظل تتردد لفترةٍ من الزمن».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأمسیات الشعریة التجربة الشعریة أمسیة شعریة التفاعل مع الشعریة ت التی لا التی ت

إقرأ أيضاً:

الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية

العُمانية: «العمل السردي فعل كتابي أناني جدًا، وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وخاصة الشعر. فالشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه فـي قلب الشاعر وفكره».. من خلال تلك العبارة يضع الشاعر والكاتب العُماني محمد قراطاس المهري القارئ والمتابع حيث حقيقة الشعر وبيان الرواية.

وفـي سياق التجربة الإبداعية، والحديث عن الشعر ونتاجه الإبداعي، «ما ورثه الضوء»، «تغريبة بحر العرب»، و«الأعشاب تفقد الذاكرة سريعًا»، مرورًا بالسرد ورواية «الأعتاب»، يتحدث « قراطاس»، عن وقع المواءمة بينهما ويوضح أن التجربة الإبداعية لكل متعامل مع الأدب لابد أن تتشابه فـي كثير من جوانبها ابتداءً من اللحظة الأولى التي يشعر فـيها المؤلف أن لديه جذوة خلّاقة فـي روحه وانتهاء بالكتابة الأخيرة التي رفع فـيها قلمه عن الورقة، ما نختلف فـيه هو الأسلوب والأحداث والزمن الذي حمل هذه الرحلة. وأنا مثل كثير من الكُتّاب بدأت تلك الجذوة بالظهور فـي المراحل الأولى من الحياة، واختلفت عن كثير من مجايلي فـي «ظفار»، إن جذوتي وجدت فـي الشعر الفصيح طريقها، وكان هذا خيارًا صعبا ألزمتني فـيه القريحة الشعرية فـي مجتمع يميل بأغلبه للشعر الشعبي، ومع قلة المرتادين لهذا الطريق فقد كان فـي كثير من الأحيان يشكل عالمًا من الوحدة يخلو من كل شيء ما عدا الكتاب، وبرغم هذا دفعتني الرغبة الجامحة لدي إلى الاستمرار والكتابة بهذا الغالب ومع السنوات بدأت أتعود على هذه الحالة الشعورية وأجد فـيها متنفسًا جميلًا وخلوةً رائعة.

ويشير الكاتب «قراطاس» إلى ما قدمته سياقاته الشعرية الثلاثة، حيث التقاطعات بين تلك الإصدارات، وتفاصيل العمل السردي «الأعتاب» ويؤكد على أن جميع هذه الإصدارات الشعرية تتقاطع فـي نفس الفكرة، وهي أن مصدرها ذات العقل وذات القلب لشاعر واحد. وهي متأثرة بتصاعد فكري ونفسي مع مراحل الشاعر الحياتية. وعلى الرغم من أن الشعر هو كائن به الكثير من الفضاءات إلا أن ظهوره يخضع للظروف الإنسانية التي يمرّ بها الشاعر أو تمرّ به. وذلك لا غرابة فـي أن من سيقرأ الديوان الأول أو الثالث سيشعر بوجود ذات الشاعر بين الجُمل والتفاعيل. أما الرواية فهي كذلك تنصبغ بنفس اللون الخفـي ولكن تحتاج إلى عين ناقدة لتتبع ظهور الشاعر بين حين وآخر والتقاط لمحات منه فـي فصول الرواية.

ولكون «قراطاس» «شاعرًا» و«روائيًّا»، يتحدث أيضا عن الأقرب إليه من هذين الاتجاهين، وأثر كل منهما على تطور أسلوبه الكتابي، والأكثر تأثيرًا فـي المستقبل: السّرد، مثل الرواية أو القصة القصيرة، أم الشعر فـيقول: العمل السردي هو فعل كتابي أناني جدًا. وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وبالذات الشعر. الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه فـي قلب الشاعر وفكره، ولذلك فقد عانيت كثيرًا فـي فترة كتابتي للرواية فـي العودة لكتابة الشعر. والمعاناة هنا ليست فـي امتناع الإبداع عند كتابة الشعر. بل فـي محاولة النثر المتكررة فـي الاستيلاء على ذلك الإبداع وتحويله لحسابها، ويمكن مشاهدة ذلك فـي كثير من الشعراء الذين تخلوّا تماما عن الكتابة الشعرية واتجهوا للرواية، بالنسبة لي فإن الشعر هو الأقرب المتجذر فـي نفسي. ولذلك لو تم تخييري بين الاثنين فأنا أختار الشعر.

ويشير «قراطاس» إلى تطور روح القصيدة العُمانية، مرورًا بالتجديد والتحوّل فـي الشكل والمضمون مقارنة بالكلاسيكيّة منها، والتحدّيات التي تواجه الشعر على مستوى المحيط العربي أو العُماني فـي ظل بيان نَفَس السرد فـيتحدث: لا أتفق مع مقولة روح الشعر (العُمانية) أو (الخليجية) أو أي مُسمى. فالشعر الحقيقي لا يرتبط بالجغرافـيا أو القوميات، بل هو إبداع إنساني محض. ولكن يمكننا التساؤل عن التجربة الشعرية للشعراء العُمانيين وبالنسبة لي أرى أن التجربة الشعرية فـي سلطنة عُمان ظلت لسنوات فـي مستوى واحد، واعتقد بأنها فـي أغلبها ما زالت عند المستوى نفسه. ولسببين، أولًا: حالة الواقع المعاش وما ويتجسد ذلك فـي جوانب اقتصاديّة واجتماعيّة، وثانيهما: التجارب الفكريّة فـي الساحة الشّعرية. فهذان السببان لم يتغيرا كثيرا منذ عقود، ولذلك فظهور أسماء عُمانية ذات تأثير شعري على المستوى الدولي قليل. وطبعا لا أتحدث عن المسابقات، فهي أسوأ مكان يمكن فـيه تقييم التطور الشعري لبلد معين، وإنما أتحدث عن التأثير والتطوير الحقيقي فـي حركة الشعر التصاعدية. وعن نفسي لا أرى أي بوادر تقدم جماعي فـي هذا المجال. فالشعر يزهر فـي المجتمعات ذات الرفاهية المتعدّدة فـي تشكّلها، وهو كذلك يزهر حين لا تكون هناك أدوار قاسية ومعقدة لأفكار وتابوهات فـي المجتمع، وحركة التقليد لقوالب الشعر خارج سلطنة عُمان بدأت تزيد بشكل كبير كنوع من الخروج عن السياق، فأنت إن هربت من مجتمعك فإنك تحاول الانتقال إلى مجتمع آخر عن طريق تقليده فـي كل شيء. لكنك ستظل دائمًا نسخة باهتة مهما تم عرضك.

وفـي سياق الأدب العُماني ومواكبته «مستقصيًا» التحولات الثقافـية والاجتماعية محليًّا، يشير الشاعر «المهري» إلى الأديب فـي سلطنة عُمان وكيف استطاع هو الآخر الحفاظ على الهُوية الثقافـيّة والانفتاح على التجارب خارج نطاقه الجغرافـي فـيقول: لا يدمّر التطور الشعري والإبداعي مثل مقولة المحافظة على خصوصية الثقافة والأدب، وجميع المجتمعات فـي المنطقة الخليجية تنتهج نفس الفكرة العقيمة، ولذلك عالميًّا فـي مجال الإبداعات الإنسانية (نحن) لا نُعتبر مطلقا على الخارطة، فلا تأثير أبدا للأدب الخليجي أو حتى العربي للأسف، وظهور أسماء عربية فـي الكتابات الإنسانية لا تخرج من جهتين، إما كاتب عربي عاش قبل مئات السنين مثل ابن رشد أو ابن العربي أو ابن خلدون، وإما عربي خرج من مجتمعه العربي ونشأ فـي مجتمع غربي كجزء من هُويته مثل أمين معلوف أو جبران خليل جبران، ونحن لسنا بعيدين عن ذلك، نحن نعيش فـي حالة قتال للحفاظ على ما يسمى خصوصيتنا العُمانية العربية والإسلامية، وهنا يبقى الأدب فـي حلقة مفرغة يرفض أن يخرج أحد عن السياق، وطبعا هنا لا أعني مخالفة ما هو متعارف عليه ولكن الوقوف على ذلك والانطلاق إنسانيا إلى آفاق لا تتشبث بالماضي ولكن تنتقل من سماء لأخرى فـي مجال الإبداع الإنساني.

ويتحدث «قراطاس» عن الأثر والتأثير، وما مدى أهميته فـي مسيرة الكاتب مع الأدب، وهو المطمئن فـيه والمقلق منه ويؤكد على أن التأثر والتأثير هما أمران واقعان لا يمكننا منعهما، وبالذات فـي الأدب. فالأدب كُتب ليخرج إلى الفضاء المجتمعي حوله ولذلك سيؤثر وسيتأثر مستقبلا بكل التجاذبات الناتجة عنه. ولا أعتقد بأن هناك متأثرًا أو مؤثرًا سيئًا، بل متلقيًا لا يمكن التنبؤ بمدى ردة فعله سواء على المستوى اللحظي أو التراكمي. ومن وجهة نظري فالعملية الإبداعية يكون تأثيرها دائما جيدًا مهما توهّمنا السوء فـي ذلك.

ويتطرق «قراطاس» إلى واقع البيئة وتقاليدها، مرورًا بالتاريخ والجغرافـيا، وأثر ذلك على إبداع الكاتب فـي سلطنة عُمان ونتاجه قائلًا: تأثير التاريخ والمكان على الكاتب هو تأثير جوهري لا يمكن التخلص منه. أذكر فـي رحلة إلى باريس قمنا بزيارة بيت الروائي والشاعر الفرنسي فكتور هوجو، وقام الدليل بإدخالنا للغرفة التي يكتب فـيها. ومن النافذة يمكن رؤية كنيسة نوتردام، ومن المعلوم أن أشهر رواياته أحدب نوتردام. ويتضح هنا مدى انعكاس المكان على مخيلة الأديب بشكل كبير. فالساكن فـي الصحراء أو فـي الأرياف الخضراء سيخرج أدبه مصبوغًا بانعكاسات المكان، كأن يكتب البدوي فـي الصحراء عن جمال الأفق ويكتب القابع فـي الريف عن خيانة الزهرة السامة. وفـي سلطنتنا العزيزة تتنوع الجغرافـيا بشكل كبير، ولذلك تتنوع الإنتاجات الأدبية بشكل كبير، لكن تظل روح المبدع وحالته المزاجية هي المهيمنة على سياق الكتابة، وبالنسبة لي كان لها تأثير كبير فـي كتاباتي وتظهر جلية فـي الشعر وفـي النثر.

وفـي شأن النقد الأدبي، وما مدى الحاجة إليه فـي خضم التطور التصاعدي الكبير لتفكيك حقيقة القصيدة أو السرد من خلال القراءات النقدية التي تستهدفه بشكل واقعي يقول «قراطاس»: نفتقر إلى المجتمع النقدي الحقيقي الذي يؤثر فـي جودة الإصدارات الأدبية. لدينا نقاد وأغلبهم يحاولون ألا يدخلوا فـي صراع مع الأدباء، وهذا تأثير من السمت العُماني تجاه الآخر. ولذلك أذكر قبل عدة سنوات أن ناقدًا عربيًّا مُقيمًا كتب مقالا نقديا لأحد الشعراء وقامت الدنيا ولم تقعد، فكيف تجرّأ هذا الرجل على انتقاد إبداعات هذا الشاعر، لذلك نحن نعاني من طوبائية الفكر لدى أدبائنا فهم يعتقدون بأن كتاباتهم تتفق مع سياق الآداب السلوكية ولذلك فإن نقدها يعتبر نقدًا للأخلاق العامة، نحتاج إلى نقّاد يقدمون رسالة النقد الحقيقية وفكرًا جديدًا يتحمل النقد الأدبي ولا يعتبره نقدًا شخصيًّا أو مجتمعيًّا. ولا يمكن للأدب فـي عمومه على المستوى المحلي أو حتى العربي التطوّر أو الحضور فـي الأدبيّات الإنسانية دون آلة إنتاج نقدي. وهذا الأمر لا تخلو منه الدول فـي منطقتنا، فإذا ظهر ناقد جلس على مكتبه لينتقد كاتبًا توفـي قبل سنوات طويلة ويخرج كتابًا نقديًّا لقلم لا يمكنه الرد عليه أو تطوير كتاباته المستقبلية. إذا استمرت هذه الكتب النقدية فـي محاولة إحياء الموتى فإنها لن تنجح، يجب أن يكون الناقد حيًّا يكتب فـي نتاجات حية لأدباء أحياء بعد صدور كتبهم مباشرة وليس بعد أن يموت الأديب والقلم والأدب.

ويشير «قراطاس» إلى الفرص التي قد يتيحها الأدب فـي سلطنة عُمان لتحقيق حضور أكبر على الساحة الأدبية العربية والعالمية فـي المستقبل، ومدى قدرته على التأثير فـي الأدب العربي والعالمي مستقبلًا فـيقول: الفرص المتاحة لدخول الأدب العُماني للعالمية لا تنتهي ولن تنتهي، نحن فقط بحاجة إلى ثلاثة أشياء مهمة. أولا خروج الأديب من قوقعة مجتمعه إلى الفضاء الإنساني، والبحث فـي بيئته عن مرتكزات للانطلاق إنسانيا. وإخراج فكرة القدسية عن كتاباته وأنها قابلة للطعن والنّقد، وتقبّل هذا النقد بنية تطوير أدواته وفكره فـي القادم من الكتابات. ثانيا حضور مجتمع واع من النُّقاد العُمانيين فـي جميع اتجاهات الكتابة، وخروجهم عن سياق المجاملات إلى سياق البحث الحقيقي عن نقاط الضعف والقوة فـي متن الكتاب. وتحمّله أمانة النقد ومتابعته للإنتاجات الدولية والمحلية ورسم خارطة نقدية يمكنها أن تدفع الأدب العُماني إلى المسارات العالمية. ثالثا حضور المؤسسات الرسمية المعنية بالجوانب الثقافـية من خلال الدعم الحقيقي النوعي للكاتب، مع بناء التجمعات الحقيقية للأدباء والانطلاق بهم إلى المؤتمرات الدولية لتنمية وتوسيع آفاقهم الكتابية. وأن يتم وضع الأديب وتاريخه الثقافـي فـي سياقه الصحيح الذي سيدفع بالشباب إلى محاولة الحصول على التقدير والمكانة ذاتها.

مقالات مشابهة

  • إضاءات مصرية وعربية في أمسية شعرية بمعرض الكتاب
  • سلطان القاسمي يفتتح "الشارقة للشعر النبطي"
  • سلطان يفتتح الدورة الـ 19 لمهرجان الشارقة للشعر النبطي
  • سلطان القاسمي يفتتح مهرجان الشارقة للشعر النبطي
  • الحلقة الثانية من مسلسل ساعته وتاريخه 2 في عيون الجمهور.. «تناقش قضية مهمة»
  • الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية
  • شعر بادية مطروح والإسكندرية في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب
  • ليست مجرد لعبة.. كيف وثق نادي غزل المحلة دعمه للقضية الفلسطينية؟
  • البريكي: وقلـتُ لـهُ: يا نيلُ، مصرُ صباحُها معي قهوةٌ أخرى بشعري مزعفَرَة
  • حورية النيل والنخيل أمسية في معرض القاهرة الدولي للكتاب