.. وتقتضي العدالة الربانية كذلك أَنَّ مَنْ ضَلَّ، أو غوى، أو ابتعد عن طريق الله ورسوله ـ فإنه ينال عاقبة بُعْدِهِ، وسوءَ ضلاله، كما كان غيره ممن اهتدى وصلح ـ قد نال ثواب هدايته، وعاقبة صلاحه، فكلُّ مَنْ يحاول مجتهدا أن يطيع الله أعانه الله، ووفقه، وأيَّده، وقوَّاه، ولم يتركه نهبًا للشياطين، وفي النهاية لا يأخذ الله من نصيبه شيئًا، وإنما يُعيد إليه كلَّ اجتهاده، وتعبه، وعمله، وكَدِّه، وكلُّ من اهتدى، وسلك طريق الهدى، وبحث عنه، وسارع إليه ـ كان الله معه، يُعينه، ويساعده على اجتيازه، والوصول إلى غايته، وعلى النقيض من ذلك، وعلى الجانب المقابل من قضية العدل الإلهي، فإن مَنْ كفر، وضل، ولم يلتفتْ إلى دين، ولم يَرْعَوِ بنصيحة، ولم يجعل مطلوبَ الدين بين ناظريه، ونُصْبَ عينيه ـ عاد الوبال، والخزي، والعار، والشنار على نفسه، من غير أن يتحمل عنه أحدٌ شيئا، ولا يزر وازرتَه أحدٌ، قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الزمر ـ 41)، وكذلك في مسألة الإنفاق، والبخل، فإن من أنفق، وانتظر ثوابَ ربه ناله، وعاد إليه هذا الثواب مضاعفًا، ولكنْ مَنْ بخل فإنما يعود بخله على نفسه، لا يتحمل مؤنة بُخْلِهِ أحدٌ، ولا يستطيع غيره تحمُّلَ عاقبة هذا الشحِّ، وذلك البخلِ، قال تعالى:(هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد ـ 38)، فقضية الإنفاق، أو البخل إنما يعود ثوابها، وعقابها على صاحبها، وإنَّ منطق العدل، ومعيار الفضل أن يثيبَ الله تعالى من أنفق، وتصدَّق، ويعاقب مَنْ بخل، وأمسك؛ لأن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، وللمال وظيفة، ورسالة في الحياة، لابد من النهوض بها، وحُسْن القيام عليها، والحرص كل الحرص على طاعة الله فيها؛ لأن المال هو عمود، وحركة الحياة.


وفي قضية الوفاء بالعهد، والمشي وفق مطلوب السماء نجدُ كذلك أنه يعود ثوابه، ويرجع فضله على نفس صاحبه، وأن النُّكْثَ عن الحق، وتنكُّب طريق النور، والسير في طريق الظلام، وسبيل الضلال فإنه كذلك يعود إثم ذلك على صاحبه، وينال سوء مصيره، وفداحة سلوكه، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، فمَنْ أوفى نال الأجر العظيم، والثواب الكريم، ومَنْ نَكَثَ فَنُكْثُهُ على نفسه، لا يتعداه، ولا يمكن أن يتجاوزه، ولا يتحمله عنه غيره، إنها عدالة ربانية، وميزانٌ سماويٌّ، وكذلك فإن مَنْ يكسب إثما جاءه، وعاد عليه سوءً كسبه، وعاقبته الكؤود، ومَنْ يكسب حسنة فله أجرها، والله يزيده عليها، قال تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء110 ـ 111)، إنه معيار لا يتخلف، وهو قانون لا يتبدل.
وفي الأخير فإنّ الله تعالى قال في مقدمة كتابه ما أكَّد هذا الميزان، وقرَّر هذا المعيار، الذي مضى على طول الكتاب العزيز، يقول الله تعالى:(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة 134 ـ 135)، وقال مقرِّرًا ومؤكِّدا ذلك في السورة نفسها بقوله عز وجل:(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة ـ 141)، وقال الله ـ جلَّ جلاله ـ مقرّرًا، ومؤكِّدًا، وخاتمًا في آخر آية في أطول سورة من سور القرآن الكريم، وهي سورة البقرة، هذا الميزان العادل لئلا ينساه الناس، وألا يتجاهله الخلق:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة ـ 286).
د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽
✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: قال تعالى

إقرأ أيضاً:

كيفية تحصين النفس من الفتن؟.. الإفتاء تجيب

أجابت دار الإفتاء المصرية عن تساؤل حول كيف أهذب نفسي وأحفظها من الفتنة في هذا العصر؟

قائلة عبر فتوى تحمل رقم “8395”: لكي يقوى الإنسان على مقاومة الفتن، وحفظ نفسه من مكائد النفس والشيطان، عليه أن يسعى ليكون عبدًا طائعًا مخلصًا لله تعالى، مستعينًا به في كل أموره، ومتوكلًا عليه، ولا يغتر بنفسه أبدًا مهما أكثر من الطاعات، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].

ومن الأمور المعينة على تهذيب النفس وتزكيتها: الإكثار من ذكر الله تعالى، وترسيخ محبته ومحبة النبي صلى الله وهليه وآله وسلم في القلب، ومنها: قراءة القرآن الكريم وتدبره، والتفقه في الدين، ومصاحبة أهل الخير والصلاح، والحرص على أداء الفرائض واجتناب المعاصي لا سيما الكبائر، ومحاسبة النفس، وعدم اليأس من الاستقامة مهما وقع الإنسان في الذنوب أو تكررت فليحسن الظن في عفو الله ومغفرته،وليبارد بترك الذنب وتجديد التوبة منه، قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

 

ومما سبق يُعلم الجواب عما جاء بالسؤال.

 

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

مقالات مشابهة

  • علامات قبول الله تعالى ورضاه على العبد
  • علي جمعة يحذر من أمور تصيب من يفعلها بالبلاء والوباء
  • معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ وسبب نزولها
  • غزة ستنتصر وأعداؤها سيُهزمون
  • قواعد من الحياة.. “مَنْ لمْ يشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يشْكُرِ الله”
  • في خطوتين طريقك إلى محبة الله لسعادة حقيقية
  • حول الآيات| كيف تحرر الشريعة الإنسان من القيود إلى التفكير الحر؟
  • وسط مساعي وقف الحرب.. هوكستين يعود إلى بيروت
  • حكم تحديد جنس المولود في القرآن والسنة
  • كيفية تحصين النفس من الفتن؟.. الإفتاء تجيب