ميزان العدالة الإلهية «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» «3»
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
.. وتقتضي العدالة الربانية كذلك أَنَّ مَنْ ضَلَّ، أو غوى، أو ابتعد عن طريق الله ورسوله ـ فإنه ينال عاقبة بُعْدِهِ، وسوءَ ضلاله، كما كان غيره ممن اهتدى وصلح ـ قد نال ثواب هدايته، وعاقبة صلاحه، فكلُّ مَنْ يحاول مجتهدا أن يطيع الله أعانه الله، ووفقه، وأيَّده، وقوَّاه، ولم يتركه نهبًا للشياطين، وفي النهاية لا يأخذ الله من نصيبه شيئًا، وإنما يُعيد إليه كلَّ اجتهاده، وتعبه، وعمله، وكَدِّه، وكلُّ من اهتدى، وسلك طريق الهدى، وبحث عنه، وسارع إليه ـ كان الله معه، يُعينه، ويساعده على اجتيازه، والوصول إلى غايته، وعلى النقيض من ذلك، وعلى الجانب المقابل من قضية العدل الإلهي، فإن مَنْ كفر، وضل، ولم يلتفتْ إلى دين، ولم يَرْعَوِ بنصيحة، ولم يجعل مطلوبَ الدين بين ناظريه، ونُصْبَ عينيه ـ عاد الوبال، والخزي، والعار، والشنار على نفسه، من غير أن يتحمل عنه أحدٌ شيئا، ولا يزر وازرتَه أحدٌ، قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الزمر ـ 41)، وكذلك في مسألة الإنفاق، والبخل، فإن من أنفق، وانتظر ثوابَ ربه ناله، وعاد إليه هذا الثواب مضاعفًا، ولكنْ مَنْ بخل فإنما يعود بخله على نفسه، لا يتحمل مؤنة بُخْلِهِ أحدٌ، ولا يستطيع غيره تحمُّلَ عاقبة هذا الشحِّ، وذلك البخلِ، قال تعالى:(هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد ـ 38)، فقضية الإنفاق، أو البخل إنما يعود ثوابها، وعقابها على صاحبها، وإنَّ منطق العدل، ومعيار الفضل أن يثيبَ الله تعالى من أنفق، وتصدَّق، ويعاقب مَنْ بخل، وأمسك؛ لأن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، وللمال وظيفة، ورسالة في الحياة، لابد من النهوض بها، وحُسْن القيام عليها، والحرص كل الحرص على طاعة الله فيها؛ لأن المال هو عمود، وحركة الحياة.
وفي قضية الوفاء بالعهد، والمشي وفق مطلوب السماء نجدُ كذلك أنه يعود ثوابه، ويرجع فضله على نفس صاحبه، وأن النُّكْثَ عن الحق، وتنكُّب طريق النور، والسير في طريق الظلام، وسبيل الضلال فإنه كذلك يعود إثم ذلك على صاحبه، وينال سوء مصيره، وفداحة سلوكه، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، فمَنْ أوفى نال الأجر العظيم، والثواب الكريم، ومَنْ نَكَثَ فَنُكْثُهُ على نفسه، لا يتعداه، ولا يمكن أن يتجاوزه، ولا يتحمله عنه غيره، إنها عدالة ربانية، وميزانٌ سماويٌّ، وكذلك فإن مَنْ يكسب إثما جاءه، وعاد عليه سوءً كسبه، وعاقبته الكؤود، ومَنْ يكسب حسنة فله أجرها، والله يزيده عليها، قال تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء110 ـ 111)، إنه معيار لا يتخلف، وهو قانون لا يتبدل.
وفي الأخير فإنّ الله تعالى قال في مقدمة كتابه ما أكَّد هذا الميزان، وقرَّر هذا المعيار، الذي مضى على طول الكتاب العزيز، يقول الله تعالى:(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة 134 ـ 135)، وقال مقرِّرًا ومؤكِّدا ذلك في السورة نفسها بقوله عز وجل:(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة ـ 141)، وقال الله ـ جلَّ جلاله ـ مقرّرًا، ومؤكِّدًا، وخاتمًا في آخر آية في أطول سورة من سور القرآن الكريم، وهي سورة البقرة، هذا الميزان العادل لئلا ينساه الناس، وألا يتجاهله الخلق:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة ـ 286).
د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽
✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: قال تعالى
إقرأ أيضاً:
هل يجوز أداء قيام الليل بعد صلاة العشاء مباشرة.. أمين الفتوى يوضح
قال الدكتور محمود شلبي، أمين الفتوى بدار الإفتاء، إنه يجوز قيام الليل عقب صلاة العشاء مباشرة، إذ تبدأ الصلاة عقب صلاة العشاء وحتى ما قبل صلاة الفجر، مشيرا إلى أنه من الأفضل أن تؤدى الصلاة في الثلث الأخير من الليل لأنه وقت بركة.
صلاة قيام الليل من العبادات المهمة، وسنة مؤكدة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتواترت النصوص من الكتاب والسنة بالحث عليه.
قيام الليل له شأن عظيم في تثبيت الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، قال تعالى: «يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا» (سورة المزمل:1-6)
والله تعالى مدح أهل الإيمان والتقوى، بجميل الخصال وجليل الأعمال، ومن أخص ذلك قيام الليل، قال تعالى: «إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون».
قيام الليل في رمضان له فضل آخر علمنا إياه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث قال في الحديث الصحيح: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، لأن العبد يقبل على الله تعالى في وقت الليل فلا يراه أحد إلا الخالق -جل شأنه- فيتجلى الإخلاص في هذه العبادة بأسمى معانيها.
وقت صلاة الليل وعدد ركعاتها
يبدأ وقت صلاة الليل من حين الانتهاء من صلاة العشاء، ويستمر حتى طلوع الفجر، ولكن الوقت الأفضل لهذه الصلاة هو الثلث الأخير من الليل؛ لأن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء في الثلث الأخير كما روي في الحديث: «إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح».وفي أي وقت صلى فيه المسلم فإنه ينال الأجر والثواب بإذن الله تعالى.
أما عدد ركعات صلاة الليل؛ فإن المسلم يصلي ما يشاء من الركعات مثنى مثنى، ولو صلى المسلم إحدى عشر ركعة مع الوتر فهو أفضل، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك كما قالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
كيفية صلاة قيام الليل
الأفضل في كيفية صلاة قيام الليل أن تكون مثنى مثنى، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» وأقل الوتر ركعة واحدة يصليها بعد صلاة العشاء، فإن أوتر بثلاث ركعات فالأفضل أن يسلم بعد الركعتين ويأتي بواحدة، وإن أوتر بخمسة فيسلم بعد كل ركعتين ومن ثم يأتي بركعة واحدة، ويراعي في صلاته الطمأنينة وعدم العجلة والنقر، فيخشع في صلاته ولا يتعجل فيها، فأن يصلي عددا قليلا من الركعات بخشوع وطمأنينة؛ خير له مما هو أكثر بلا خشوع.