(حكاوي) من كريمي والبركل.
عادل عسوم
الحكاية التاسعة.
21/9
معلوم أن “حكاية” تُجمع جمع تكسير على “حَكايا”، وتُجمع جمع مؤنث سالم على “حكايات”، لكنني آثرت تسمية هذه السلسلة ب”حكاوي” ليتاسب الاسم مع اللهجة التي كتبتها بها وهي لهجة أهلي الشايقية.
وهذه الحكايات حقيقية،
وكلها مشاهد علقت بالذاكرة خلال الطفولة والصبا، وقد عمدت إلى تغيير بعض الأسماء وبعض التفاصيل بما يستلزمه النشر.
مسرح هذه الحكايات كريمة والبركل وماحولهما من القرى على امتداد منحنى النيل، والعنوان مقصود لذاته، لكون مفردة كريمي بإمالتها لها وحيها الذي لاتخطئه الأذهان.
عنوان الحكاية التاسعة:
*العبور إلى الشاطئ الآخر.*
عادل عسوم
فرغتُ لتوي من -إعادة- قراءة (مذكرات شيوعي اهتدى) للراحل أحمد سليمان المحامي رحمه الله، لقد حَبَّر الرجل كل صغيرة وكبيرة عن حياته الذاخرة في هذا الكتاب الثمين، كتاب جعل ابتداره بيت الشعر العربي الشهير:
ومشيناها خطى كُتِبَت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها.
ألا رحم الله صاحب الخطى المكتوبة، والرحمة والمغفرة لكل الذين كتب الله لهم الهداية ممن عبروا مثله إلى الضفة الأخرى، ومنهم شاعر الطير المهاجر الديبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم، فقد كتب له الله ذات الهداية بعد الخلاف بينه وبين عبد الخالق محجوب، فأصبحت كتاباته تشي بعبوره إلى الشاطئ الآخر، ووصل به الأمر ارساله رسالته مشهورة إلى الجنرال عمر البشير يشيد فيها بانتصارات الجيش السوداني والدفاع الشعبي في جنوب السودان، كان ذلك في منتصف عام 1992، ودافع صلاح أحمد إبراهيم وقتها عن تلك الرسالة، بل اتبعها بتبرع سخي قدره بخمسة آلاف فرنك دعما لجحافل الجهاد في جنوب السودان،
وفي معية صاحب الطير المهاجر ومريا والأستاذ أحمد سليمان هناك كُثُرٌ كانوا خيارا في ماضيهم الشيوعي ثم أصبحوا خيارا بعد عبورهم إلى الشاطيء الآخر من بعد الهداية، ومن اولئك صديقي هذا الذي ارتحل قبل سنوات، بعد ان خلد إسمه من خلال منابر اسفيرية اتاحها للناس، منابر كم أفاد الناس منها، وبحمد الله تغشته ذات الهداية التي كتب عنها صاحب الخطى، وذلك من بعد خلاف مشهود مع ذات الحزب، فحبّرَ الكثير من رؤاه في ذلك، ثم أتاه قضاء الله ليسلم روحه راضيا مرضيا بحول الله، لا ازكيه على الله فهو حسيبه.
لقد كانت ذكراه -رحمه الله- موحية ودافعة لي لأُحَبِّر هذه الخواطر لأقول:
تمددت في دواخله ظلالٌ من الريبة والتوجس -طوال ماضي عمره- عن الضفة الأخرى، توجُّسٌ تحول بتوالي السنون إلى كُرهٍ نأى به عن هذا الشاطئ عقودا من عمره الذي ناهز الخمسين الاّ قليلا.
هذه الظلال أذكتها في نفسه (قناعاتُ) لوالده الذي تربّى في كنف اليسار طوال عمره المديد إلى أن ارتحل إلى ربه، وبرغم نشأة أخيه الأكبر متيامنا، بل في أقصى اليمين؛ إلا أن اعجاب صديقي بأبيه جعله يُمعن في يساريته، إلى أن تزوج وأنجب البنين والبنات، لكنه بقي متنازعا مابين اعجابه بأبيه وحبه لأخيه الأكبر!…
هذا التنازع أذكى في نفسه شئ (ما) يشده إلى الشاطئ الآخر… البعيد.
أحساسٌ يشبه (الأكولة)، التي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
أعطى اليسار كل عنفوانه، عمرا وفكرا، وظل محاطا بالرفاق دوما، ولكن برغم كل ذلك حرص على انتقاء أصدقاء له من أهل اليمين، أصدقاء يأوي اليهم كلما جنح به مركب الرفاق، أو كبا حصانهم بُعيد ليلة من لياليهم، قال يوما لصديق له من اولئك:
-تعرف يا…..، بالرغم من كرهي للذي بين يديك من (فكر)، الاّ انني أرغب، بل أحب أن تكون صديقي!
فقال له صديقه، وقد آتاه الله بصيرة:
انني ارى نور الهداية في منتهى نفق خواتيمك يا اخي الكريم…
فلا يلبث الا ان يكتنفه إحساس عجيب براحة تتمشى في مفاصله النُعّسِ من بقايا كحول…
سأله ذات الصديق يوما:
ماالذي ينأى بك عنّا ياصديقي؟!
قال: فكركم هذا يقتل الابداع في كل ضروب الحياة، فالغناء عندكم حرام، والتصوير حرام، والحرية على اجمالها عندكم منقوصة، حتى اشكالكم؛ لحى كثّة وعند بعضكم جلاليب قصيرة و…ومسواك!.
قال ذلك واشاح بوجهه، فابتسم الصديق ونهض الى مكتبته ثم عاد وفي يده كتاب، كان اسم الكتاب:
(دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمد عبدالله درّاز، قال الصديق وهو يمدُّ يده بالكتاب:
هذا هديتي اليك، أسألك بالله أن تقرأه ان رأيت ذلك…
قال لي صديقي من بعد هدايته:
بالرغم من كوني لم أقرأ هذا الكتاب، الاّ انه بقي داخل حقيبة ملابسي لسنوات! ثم اضاف: لعل الله أراد لي -بسببه- مآلا موجبا!…
لقد بقي راحلنا طوال سني المرحلة الثانوية وثيق الصلة بصديقه ذاك، لقد كانت صداقة مافتئ رفاقه يلومونه عليها، بل انه استُجْوِب وسئل مرة بسبب (حضوره) بعض حلقات التلاوة، فكان رده: أما رأيتم نصارى لبنان يحفظون القرآن ليزداد اللسان منهم فصاحة؟! وأضاف:
انني أحضرها -لماما- لأنني أجدهم أفصح لغة، وأجمل بيانا، فأتعلم منهم الكثير…
ثم أنهى استجوابهم قائلا:
أما رأيتم العديد من رفاقنا ممن تستاء الآذان من خطابهم، وتتأذى الأعين من كتاباتهم؟!
كان الراحل شجاعا عند إبداء رأيه، وصادما وحاسما لكل من يتقصّده بازجاء، وظلّ ذاك حاله الى أن سافر الى مصر لأكمال تعليمه الجامعي، وجامعاتنا حينها دون اصابع اليدين عددا، ولا مجال الاّ لقلّة من الطلاب للولوج إلى كلياتها.
في مصر، بقي في معية الرفاق كادرا نشطا ينجز كل مايوكل اليه دون كلل أو ملل، لكنه ظلّ أسير حُبّه للفصحى- في كتاباته- دون العامية، وبقي يحبُّ الشٍّعر الجميل، بدءا بأشعار شوقي، والتجاني يوسف بشير، والمجذوب، وانتهاء بأشعار روضة الحاج التي أدمن قراءة قصائدها قصيدة قصيدة، قال لي يوما عن روضة الحاج:
تعرف ياابن عمّي:
(روضة الحاج دي بقرا ليها دايما لمّن أحس بي اني محتاج أشمّ لي هوا نضيف)…
ثم عاد بعد اكماله تعليمه الجامعي إلى أرض الوطن، ووجد له الرفاق وظيفة في احدى الشركات المملوكة لأحد الأقباط السودانيين، وبقي بذات النشاط بين رفاقه القدامى، وحينها كان لليسار حراك بائن في خارطة السياسة السودانية، وقد سيطر الاسلاميون سنيها على السلطة، وشرعوا يضيقون الخناق على الشيوعيين، فادخل الراحل -مع من أدخِل- الى بيوت الأشباح، كتب يحكي عن ذلك في المنتديات، وكانت لتلك التجربة المريرة أثرها في ايغار صدره -أكثر- تجاه الإسلاميين، نال ورفاقه من التعذيب والاذلال الكثير كما قال وكتب، وشكى ذلك الى صديقه بعد اطلاق سراحه، فأبان له صديقه عدم تأييده للنظام في كل ممارساته؛ وان كان إسلاميا، فالنظام لايمثل الإسلاميين حق التمثيل، والسبب في ذلك غلبة العسكريتاريا عليه، فلم يقتنع بتبرير صديقه…
لكنه بقي يرتاد حِلَقَ التلاوة مع غرمائه، وخلال احدى الحلقات تحدث شيخ وقور عن هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه من مكة، فتوقف الراحل كثيرا بين يدي استنكار الحبيب -قبيل هجرته الشريفة- سعي أهله في مكة الىخ أخراجه منها قسرا، قال صلوات الله وسلامه عليه مخاطبا جبريل عليه السلام:
أَوَ مُخرجيّ هم؟!!!…
ثم لم يطب له المقام في السودان، فاستصحب (مواسم) الطيب صالح مهاجرا الى الشمال، فقد حظي بفرصة السفر (جوا) إلى بريطانيا، ويومها:
رمى بنفسه على مقعد الطائرة، وقد أمضى يومين من الحراك المضني لإكمال اجراءات السفر، لم يذق خلالهما طعم النوم، اسبل عينيه والطائرة تقلع إلى مطار هيثرو، ومافتئت وجوه العديد من الرفاق ممن أتوا لوداعه تلوح له، واذا بوجه صديقه يبتسم له في هدوء، واذا بحلقة التلاوة منعقدة وغرماءه يدندنون بالقرآن، فما لبث ان طاف بخياله استنكار رسول الله صلوات الله وسلامه على أهله من قريش:
أو مخرجيّ هم؟!
وبدا وكأن الصوت يتردد في الفضاء:
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
وإذا بمشركي قريش يذكرونه بالاسم وهم يسعون لاخراجه!
فعجب لذلك أيما عجب، فهو موقن بأنه ليس رسول الله، لكن من يقنع هؤلاء؟!
وضاق به الحال، واعيته الحيلة كي يجد مهربا، فشرع يبسمل ويحوقل، سمع مناديا يهتف به بأن يا ايها الرسول أقدم، واذا ببساط للريح يسجيه له مَلَكان لهما أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فجلس عليه فطار به الى السماء!…
نظر إلى الأسفل فإذا به يعلو مجرى ماء عرييييض صوب الضفة الأخرى،
وهبط البساط بهدوء على أرض الضفة الأخرى…
ياااااااه
يالهذا الضياء الذي يغمر الأرجاء، ويالهذا العطر والفواح الذي يعم السوح والفضاءات، جال ببصره فإذا بالورود تكتنف الشاطئ على امتداده، فقال يعاتب نفسه:
لِمَ حرمتُ نفسي من العبور إلى هذا الشاطئ من قبل؟!
شرع يمد رجليه ليتمشى على طول هذا الشاطئ، لكنه أحس بخَدَر يسرى في أوصاله ويحول بينه وبين ذلك، لكأنه خارج لتوه من عملية جراحية كبيرة، فأغمض عينيه وأسلم نفسه لحلمه الجميل إلى أن خرج من الطائرة والمطار، ثم انتهى به المقام بعد فترة قليلة في ربوع دولة لايتحدث أهلها الانجليزية، وتيسر له الحصول على اللجوء السياسي،
ومضت به السنون وهو يعطي اليسار كل وقته وجل حراكه، وفي غمرة كل ذلك لم ينسَ صديقه في السودان…
وقدر لي أن ألتقي بهذا الصديق بعد رحيل صاحبي، وسألته عن الذي رآه مختلفا فيه دون غيره من معارفك من الشيوعيين؟!
قال لي:
الرجل كان بخلاف رفاقه لا يُنفّرُهُ احسان مخارج الأحرف لدى المتحدثين، وجل أهل اليسار يحكمون بالتيامن على كل من يُحسن مخارج الأحرف العربية؛ فينأون عن سماعه!
وأضاف الصديق:
فيه – رحمه الله- صفة أخرى تزيّنه:
انه لا يرضى في الحق لومة لائم، وذاك الذي أحسبه سيعجّل بعبوره يوما الى الضفة الأخرى!.
وبالفعل، ظل الراحل ينافح بلسانه ويراعه مؤججا حربا شعواء ضد العديد من رموز الفساد في منظمات تتبع لليسار، وناله لأجل ذلك الكثير من الأذى، ومثُل مرات عديدة امام لجان التحقيق، لكنه عصيا على الانحناء والانكسار…
قال لي الراحل:
بعد ان قدمت استقالتي من الحزب، احسست براحة تغمرني، وإذا اتذكر كتاب (دستور الأخلاق في القرآن)، فجلست أقرأ فيه، فغشيتني نسمات عليلة وكأنها آتية من شاطئ آخر غير الذي أعيش عليه، أسلمت نفسي للنوم فإذا بذات الرؤيا تتكرر، يا لأشجار النخيل السامقات اللائي ينتظمن على طول الضفة، والأزاهر والورود تحف بالروض؛ تعبق السوح والفضاءات باريجها…
أرحت راسي على مقعدي وقد سقط من بين يدي الكتاب، واكتنفني أحساس يشبه الأكولة التي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
قال لي:
أمر الأخلاق (يهبش) في دواخلي الكثير من مواطن الإلهام…
وذكر لي عبارة وردت في الكتاب بأن:
(وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!
لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة).
قلت له:
هذا الكتاب أعلمه تلخيص لأطروحة لنيل درجة الأستاذية من جامعة السوربون، جاءها (درّاز) بعيد نيله درجة الماجستير من جامعة الأزهر!…
وظل الراحل يقرأ كل يوم جزءا من الكتاب، فيجد نفسه اسيرا لقدرة الكاتب على ايضاح العديد من المفاهيم المتعلقة بالتاصيل الأخلاقي، مفاهيم كانت تشوبها الكثير من الشوائب في فكره وقناعاته عندما كان على الضفة الأخرى، وعندما وصل الى منتصف الكتاب، اتصل بصديقه وقال:
كم اشكرك على هذا الكتاب…
ثم واصل القراءة الى أن أتم الكتاب، فأحسّ بكم التغيير الذي أضفاه الكتاب علي نفسه…
رقد يومها وقد أيقن بأن الشاطئ الذي يكتنف حراك حياته ليس بالشاطئ الذي يجدر به العيش فيه، ولكن كيف له أن يدع رفاق عاش كل عمره بينهم، كيف له أن يغير نمط حياة ملؤها الذكريات والمشاهد؟!
رقد يومه ذاك واذا به يتذكرها، إنها صبية فيها الكثير من سمت الشاطئ الذي يزينه اصطفاف النخيل، وكانت زوجه ربة منزل وأما صالحة لم ير منها الاّ كل ايجاب، قال لنفسه جاهدا كبت أحساس انتابه بظلم زوجه، لكنه اقنع نفسه بأنه تعرف على الصبية قبل زواجه من ام عياله، وكان يود الزواج منها، ولكن صده عنها عدم حبها لليسار، واتم زواجه الثاني…
وشرع يبتعد بمشاعره يوما بعد يوم عن عوالم اليسار، وبدأ يشتط أكثر في حربه لبؤر الفساد المستشري في العديد من المنظمات التي يديرها الرفاق، فما كان منهم الاّ أن حاربوه حربا شعواء من خلال العديد من الوسائط، ورفعوا عليه الدعاوى القضائية، لكنه بتوفيق الله كسبها، فساءهم ذلك كثيرا، الى أن وصل بهم الأمر الى أخراجه من شاطئه
وياله من يوم!
وجاء اليوم…
تكأكا عليه الرفاق فاخرجوه!
فوقف ينظر الى سنوات خلت أعطى اليسار خلالها كل عنفونه…
ياللؤم القوم!
وتساءل في قرارة نفسه:
من يُخرجُ من؟!!!
هؤلاء الذين سعى إلى فضحهم في الاسافير، وبيان قذارة اياديهم خلال ادارتهم لشئون الرفاق وأموالهم كيف لهم أن يخرجوه؟!
يحسبون انهم مخرجي وهم لا يعلمون كم نفعوني بالخلاص منهم ومن فكرهم، لقد كفر باليسار، وأحس بأنه غريب على شاطئهم ذاك، غريبُ وجهٍ ويدٍ ولسانٍ ثم…مرادات!
فشرع يكتب عن عوار كثيف باليسار…
قال لي صديقه:
أقسم لي الراحل بأن أمر اخراجه قد نزل على قلبه بردا وسلاما…
ولم يرض الرفاق عن كتابات الراحل، ظلوا يرسلون إليه الوفود تلو الوفود كي يسكت عنهم، و…يعود.
لكنه بقي رافضا الانكسار، يرنو إلى الشاطئ الآخر من بعد وضوء!
فاجتمع القوم بليل، لم يجدوا بُدّاً من ذلك وهم الوالغة اياديهم في الدماء!
وعندما بدات الشمس توذن بالمغيب، حط (هدهد) على نخلة بالجوار، وألقى من فيهِ رسالة فضضتها فإذا فيها:
انها من وراء البحار، وانها بسم الله الرحمن الرحيم، ان صاحبك قد مات مسموما!
فلما راى الهدهد في عينيّ ذهولا صفق بجناحيه وطار مودعا، فما لبثت أن هطلت ادمعي غزارا، ولم أنم ليلتها، بقيتُ لساعات طوال أجترُّ حزني النبيل، ولم يزرني النوم الاّ بين يدي ثلث الليل الأخير، فإذا بأعلام الفيافي منكسة على السواري، واذا بالراحل يتقمص صورة الزين وينطلق من كرمكول وهو يهتف في اذن الزمان:
ياناس هووووي…
الزين سمموهو
أيا ناس اقولكم أنا سمموني…
ورددت جنبات الجبال صدى صوته المبحوح…
جبال كورتي
وجبل ابن عوف
وجبل كلم كاكول
وعند جبل البركل، لم يتمالك نفسه من الارهاق والتعب، فماكان منه الاّ أن (توسد) يده ورقد، وأصبح والخيطُ الأبيض قد بدأ يبين دون الأسود من الفجر، وظلال الثلث الأخير من الليل تلملم أطراف ثوبها المتشح بالسواد منحسرة عن المكان، وهناك عند عند خط اقتران السماء بالصحراء؛ اذا بضوء الفجر يتلمس طريقه في ثبات وتؤدة، ورويدا رويدا بدت هامة جبل البركل تبين، بدت وكأنها تغتسل في ضوء الفجر نافضة عنها غبار أزمنة وأمكنة عديدة، بدا الجبل حزينا يرنو بناظريه بعيدا إلى ماوراء التاريخ…
وفجأة، بدا من خلف الأفق غبارٌ كثيف، دونه موكب مهيب يشق عنان السماء ليحط في جلال على هامة الجبل، ويترجل فارسان بلباس الملوك، من بين يديهما الخدم والحشم، فينصب لهما عرشان من خشب الأبنوس وكتل العاج وسبائك الذهب، ويشرع الجنود في قرع الطبول، فتردد جنبات الجبل صدى الموسيقى الملكية الحزينة، ويخرج أهل البركل وكريمة وأنظارهم معلقة بهامة الجبل، وكان ذاك اليوم هو الثالث منذ رحيل صديقي، ويتدافع الناس الى ساحة الجبل، فيتقدم اليهم بعانخي ملوحا بيد وممسكا بيد تهرقا/ترهاقا باليد الأخرى، ويبدأ في الحديث بصوت ملوكي وقور:
(ياأيها الناس ليبارككم الرب الواحد، لقد جئنا لتقديم واجب العزاء في روح الفقيد، فيهتف الناس بصوت واحد:
لا أله الا الله …
ولا حول ولا قوة الاّ بالله…
ويتواصل الهتاف…
لاأله الا الله محمد رسول الله…
فيسجد الملِكان، ثم يتوجهان إلى الحشود ويهتفان مع الناس:
لاأله الا الله محمد رسول الله…
ولا حول ولاقوة الاّ بالله…
وانا لله وانا اليه راحعون.
ثم تختلط الحشود، ويشتد الهتاف وقرع الطبول، ثم يلتفت الملِكان إلى جهة الشمال، ويشير بعانخي إلى النيل،
الذي يشق صدر أرضنا السمراء في عزيمة
وينحني تأدبا في البركل الذي يلي كريمة.
لكأنه الزين الذي كتب عنه طيبنا الصالح رحمه الله وقال:
برغم صورته الجسدية قد توحي بالضعف، فهو نحيل هزيل، كأنه عود يابس، وكانت ساقاه نحيلتين لا تكادان تطيقان حمله، ولكنه مع ذلك يملك قوة بدنية استطاعت أن تكسر حدة ثور هائج، وأن تقلع شجرة سنط، بل كاد يقتل سيف الدين رغم أن الكثيرين أمسكوا به بكل قواهم
لذلك فإن بكاء الزين كان بكاء يتناسب مع قوته لا صورته!
اللهم أرحم صديقي وافتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، واغفر لكل من عبر إلى الشاطئ الآخر، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
…
إليك في مرقدك ياخالد الحاج الحسن الحسين رحمك الله:
زوامل احزاني من يوم الرحيل حيرانة
تاهت في الدروب من اللجام فلتانة
هايمة عيونا في اللربع قبل بي اركانة
تاركة الزاد وحتى الري وفاردة بطانة
تبكي عيونا دم منو السدور مليانة
أما كريرا جوة الجوف تقول جبخانة
يتفجر رصاصو مولّع دانة تلحق دانة
قتلها يازوامل احزاني وييييين صبرك؟!
وينو ايمانك المعهود عليك أمانة؟!
اتنخجت بكا وطلقت حبال حزانة
قالتلي ياعسوم:
داخالد المرِق البشيل كم دور
داخالد البنا للخلوق الضُل وختّ السور
دا خالد الخلاّ ابوابو مفتوحات:
للضهبان يشع نورو
وللحيران يفك حيرتو
وللحفيان يلم قدمو
وللعميان يقود رسنو
وللجيعان قداحتو مليانات يجن بالدور
لكنو فات خلاّ البكانات بور
وبي فوتو انكسر المرق اوتشتت المعمور
وعيونَّا من يوم داك كابات شو سنين ودهور
…
ارقد بسلام ياابن عمي
واهنأ حيث أنت في رحاب الله أيها الصديق.
…
إلى اللقاء ان شاء الله في الحكاية العاشرة.
adilassoom@gmail.com إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الضفة الأخرى هذا الکتاب الکثیر من رحمه الله العدید من رسول الله من بعد قال لی
إقرأ أيضاً:
إبداعات|| الغريب الذي غيَّر مساري.. محمود الجوهري- القاهرة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في إحدى الليالي الشتوية الممطرة، وبينما كنت أعود بسيارتي إلى المنزل بعد يومٍ شاق في العمل، قررت أن أسلك طريقًا مختلفًا.. كان الطريق الذي اخترته مهجورًا، تحيط به الأشجار على الجانبين، ويكاد الظلام يبتلعه بالكامل، لم أكن أعرف لماذا قررت أن أسلك هذا الطريق بالذات، ربما كنت بحاجة إلى الهدوء، أو إلى بعض اللحظات التي أكون فيها بعيدًا عن ضجيج العالم.
بينما كنت أقود، شعرت بشيء غريب، ربما كان شعورًا بالوحدة أو ثقل يومٍ مليء بالقرارات والمشاكل، فجأة، تعطل المحرك وتوقفت السيارة تمامًا وسط الطريق حاولت تشغيلها مرارًا، لكن دون جدوى، بحثت عن هاتفي لأتصل بشخص ما، فقط لأجد أن البطارية قد نفدت، بدت اللحظة وكأنها تتحداني، وكأن العالم يريد مني أن أتوقف وأعيد التفكير في كل شيء.
خرجت من السيارة تحت المطر الخفيف الذي زاد من برودة الجو، وقفت هناك، أنظر حولي بلا أي فكرة عمّا يمكن أن أفعله، الطريق كان فارغًا تمامًا، إلا من صوت قطرات المطر وأوراق الأشجار التي تحركها الرياح، كان شعورًا غريبًا، كأنني الوحيد في هذا العالم.
بعد دقائق، ظهرت من بعيد إضاءة خافتة، كان هناك رجل يسير ببطء، يحمل حقيبة صغيرة، ارتدى معطفًا طويلًا وقبعة سوداء، تخفي ملامحه بشكل جزئي، اقترب مني بهدوء، وعندما أصبح قريبًا بما يكفي، لاحظت أن وجهه كان يحمل تعبيرًا غامضًا، مزيجًا من الحكمة والهدوء.
"تبدو في ورطة"، قال بصوت هادئ.. "السيارة تعطلت، وهاتفي بلا بطارية لا أعرف ما الذي يمكنني فعله الآن".. ابتسم وقال: "ربما توقفك هنا ليس مجرد صدفة أحيانًا، الحياة تعطينا لحظات كهذه لتُرينا شيئًا مختلفًا".
رغم غرابة كلماته، شعرت بالراحة، كان هناك شيء مطمئن في وجوده، وكأن حضوره يزيل بعضًا من التوتر الذي كنت أشعر به.. بدون أن ينتظر إجابتي، بدأ الرجل في فحص السيارة، تحرك بثقة وكأنه يعرف ما يفعل، بينما بقيت أنا واقفًا أراقب، بعد دقائق، رفع رأسه وقال: "المشكلة بسيطة، لكن عليك أن تنتظر قليلًا، المحرك بحاجة لبعض الوقت ليبرد".
جلس الرجل على حافة الطريق، وأخرج من حقيبته قطعة قماش صغيرة مسح بها يديه، نظرت إليه بفضول وسألته: "هل تسير دائمًا في هذا الطريق؟ يبدو مكانًا غير مأهول".. ضحك بخفوت وقال: "أنا هنا دائمًا، لكنني لا أرى أحدًا إلا نادرًا، هذا الطريق ليس لمن يبحث عن اختصار، بل لمن يبحث عن طريق طويل ليعيد التفكير".. كلماته بدت وكأنها تحمل معاني أكبر مما يقول، لكنها أثارت فضولي أكثر.
بينما كنا نجلس ننتظر، بدأ يحدثني عن حياته.. قال إنه كان يعيش حياة مزدحمة، مليئة بالعمل والسعي خلف النجاح، لكنه أدرك في لحظة ما أنه فقد نفسه في الزحام "كنت أركض طوال الوقت، أبحث عن المال والمكانة، لكنني لم أكن سعيدًا، حتى أنني لم أكن أعرف لماذا أفعل كل ذلك، الحياة ليست سباقًا يا صديقي، بل رحلة، وكل ما عليك هو أن تعرف كيف تستمتع بالمحطات".
شعرت وكأنه يتحدث عني، كنت قد قضيت سنوات في السعي وراء أهداف لم أكن متأكدًا من معناها، كل يوم كان يمر وكأنه نسخة مكررة من الذي سبقه.. سألته: "وكيف عرفت أنك بحاجة للتغيير؟".. قال: "عندما توقفت فجأة، تمامًا كما توقفت سيارتك الآن، تلك اللحظة كانت دعوة للحياة أن تقول لي: توقف، فكر، وابحث عن المعنى".
مر رجل آخر بدراجة قديمة، يبدو عليه التعب، لكنه توقف عندما رآنا "تحتاجون إلى مساعدة؟" سأل بصوت خشن.. "لا بأس، الأمور تحت السيطرة"، أجاب الغريب بابتسامة ودودة.
لكن الرجل بالدراجة لم يذهب، جلس بجانبنا وبدأ يشاركنا الحديث، قال إنه يعمل في الحقول القريبة، وإنه يمر من هذا الطريق كل يوم، بدأ يحكي عن حياته البسيطة.. لفت انتباهي تلك الجملة التي كانت نصلًا في روحي "السعادة ليست في الأشياء الكبيرة، بل في التفاصيل الصغيرة"، قال وهو ينظر إلى السماء الممطرة.
بعد حوالي نصف ساعة، حاولت تشغيل السيارة مرة أخرى، وعادت للعمل بشكل مفاجئ، شعرت بالارتياح وشكرت الغريب على مساعدته، لكنه لم يبدُ مستعجلًا للمغادرة، نظر إليّ وقال: "قبل أن ترحل، تذكر شيئًا: كل توقف هو فرصة. فرصة لتعيد التفكير، لتسأل نفسك: هل أنا على الطريق الصحيح؟"، ثم أضاف بابتسامة غامضة: "وأحيانًا، الأشخاص الذين تقابلهم في هذه اللحظات يكونون مجرد رسائل".
ركبت السيارة وبدأت في القيادة، بينما كان الغريب والرجل بالدراجة يلوحان لي، شعرت بشيء غريب، وكأنني غادرت مكانًا ليس مجرد طريق، بل محطة من محطات الحياة.
عندما وصلت إلى المنزل، جلست أفكر في كل ما حدث، الغريب، الرجل بالدراجة، الكلمات التي قيلت، أدركت أنني كنت أحتاج إلى تلك اللحظة، ليس لأن سيارتي تعطلت، بل لأن حياتي نفسها كانت بحاجة إلى إعادة تشغيل.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت أتعامل مع الحياة بشكل مختلف، أصبحت أبحث عن المعنى في التفاصيل، وأتوقف عند كل لحظة لأفهمها "الحياة مليئة بالإشارات، لكننا نحتاج فقط إلى أن نفتح أعيننا لنراها".