موقع النيلين:
2025-03-04@10:35:13 GMT

(حكاوي) من كريمي والبركل

تاريخ النشر: 25th, November 2024 GMT

(حكاوي) من كريمي والبركل.
عادل عسوم
الحكاية التاسعة.
21/9
معلوم أن “حكاية” تُجمع جمع تكسير على “حَكايا”، وتُجمع جمع مؤنث سالم على “حكايات”، لكنني آثرت تسمية هذه السلسلة ب”حكاوي” ليتاسب الاسم مع اللهجة التي كتبتها بها وهي لهجة أهلي الشايقية.
وهذه الحكايات حقيقية،
وكلها مشاهد علقت بالذاكرة خلال الطفولة والصبا، وقد عمدت إلى تغيير بعض الأسماء وبعض التفاصيل بما يستلزمه النشر.


مسرح هذه الحكايات كريمة والبركل وماحولهما من القرى على امتداد منحنى النيل، والعنوان مقصود لذاته، لكون مفردة كريمي بإمالتها لها وحيها الذي لاتخطئه الأذهان.
عنوان الحكاية التاسعة:
*العبور إلى الشاطئ الآخر.*
عادل عسوم
فرغتُ لتوي من -إعادة- قراءة (مذكرات شيوعي اهتدى) للراحل أحمد سليمان المحامي رحمه الله، لقد حَبَّر الرجل كل صغيرة وكبيرة عن حياته الذاخرة في هذا الكتاب الثمين، كتاب جعل ابتداره بيت الشعر العربي الشهير:
ومشيناها خطى كُتِبَت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها.
ألا رحم الله صاحب الخطى المكتوبة، والرحمة والمغفرة لكل الذين كتب الله لهم الهداية ممن عبروا مثله إلى الضفة الأخرى، ومنهم شاعر الطير المهاجر الديبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم، فقد كتب له الله ذات الهداية بعد الخلاف بينه وبين عبد الخالق محجوب، فأصبحت كتاباته تشي بعبوره إلى الشاطئ الآخر، ووصل به الأمر ارساله رسالته مشهورة إلى الجنرال عمر البشير يشيد فيها بانتصارات الجيش السوداني والدفاع الشعبي في جنوب السودان، كان ذلك في منتصف عام 1992، ودافع صلاح أحمد إبراهيم وقتها عن تلك الرسالة، بل اتبعها بتبرع سخي قدره بخمسة آلاف فرنك دعما لجحافل الجهاد في جنوب السودان،
وفي معية صاحب الطير المهاجر ومريا والأستاذ أحمد سليمان هناك كُثُرٌ كانوا خيارا في ماضيهم الشيوعي ثم أصبحوا خيارا بعد عبورهم إلى الشاطيء الآخر من بعد الهداية، ومن اولئك صديقي هذا الذي ارتحل قبل سنوات، بعد ان خلد إسمه من خلال منابر اسفيرية اتاحها للناس، منابر كم أفاد الناس منها، وبحمد الله تغشته ذات الهداية التي كتب عنها صاحب الخطى، وذلك من بعد خلاف مشهود مع ذات الحزب، فحبّرَ الكثير من رؤاه في ذلك، ثم أتاه قضاء الله ليسلم روحه راضيا مرضيا بحول الله، لا ازكيه على الله فهو حسيبه.
لقد كانت ذكراه -رحمه الله- موحية ودافعة لي لأُحَبِّر هذه الخواطر لأقول:
تمددت في دواخله ظلالٌ من الريبة والتوجس -طوال ماضي عمره- عن الضفة الأخرى، توجُّسٌ تحول بتوالي السنون إلى كُرهٍ نأى به عن هذا الشاطئ عقودا من عمره الذي ناهز الخمسين الاّ قليلا.
هذه الظلال أذكتها في نفسه (قناعاتُ) لوالده الذي تربّى في كنف اليسار طوال عمره المديد إلى أن ارتحل إلى ربه، وبرغم نشأة أخيه الأكبر متيامنا، بل في أقصى اليمين؛ إلا أن اعجاب صديقي بأبيه جعله يُمعن في يساريته، إلى أن تزوج وأنجب البنين والبنات، لكنه بقي متنازعا مابين اعجابه بأبيه وحبه لأخيه الأكبر!…
هذا التنازع أذكى في نفسه شئ (ما) يشده إلى الشاطئ الآخر… البعيد.
أحساسٌ يشبه (الأكولة)، التي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
أعطى اليسار كل عنفوانه، عمرا وفكرا، وظل محاطا بالرفاق دوما، ولكن برغم كل ذلك حرص على انتقاء أصدقاء له من أهل اليمين، أصدقاء يأوي اليهم كلما جنح به مركب الرفاق، أو كبا حصانهم بُعيد ليلة من لياليهم، قال يوما لصديق له من اولئك:
-تعرف يا…..، بالرغم من كرهي للذي بين يديك من (فكر)، الاّ انني أرغب، بل أحب أن تكون صديقي!
فقال له صديقه، وقد آتاه الله بصيرة:
انني ارى نور الهداية في منتهى نفق خواتيمك يا اخي الكريم…
فلا يلبث الا ان يكتنفه إحساس عجيب براحة تتمشى في مفاصله النُعّسِ من بقايا كحول…
سأله ذات الصديق يوما:
ماالذي ينأى بك عنّا ياصديقي؟!
قال: فكركم هذا يقتل الابداع في كل ضروب الحياة، فالغناء عندكم حرام، والتصوير حرام، والحرية على اجمالها عندكم منقوصة، حتى اشكالكم؛ لحى كثّة وعند بعضكم جلاليب قصيرة و…ومسواك!.
قال ذلك واشاح بوجهه، فابتسم الصديق ونهض الى مكتبته ثم عاد وفي يده كتاب، كان اسم الكتاب:
(دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمد عبدالله درّاز، قال الصديق وهو يمدُّ يده بالكتاب:
هذا هديتي اليك، أسألك بالله أن تقرأه ان رأيت ذلك…
قال لي صديقي من بعد هدايته:
بالرغم من كوني لم أقرأ هذا الكتاب، الاّ انه بقي داخل حقيبة ملابسي لسنوات! ثم اضاف: لعل الله أراد لي -بسببه- مآلا موجبا!…
لقد بقي راحلنا طوال سني المرحلة الثانوية وثيق الصلة بصديقه ذاك، لقد كانت صداقة مافتئ رفاقه يلومونه عليها، بل انه استُجْوِب وسئل مرة بسبب (حضوره) بعض حلقات التلاوة، فكان رده: أما رأيتم نصارى لبنان يحفظون القرآن ليزداد اللسان منهم فصاحة؟! وأضاف:
انني أحضرها -لماما- لأنني أجدهم أفصح لغة، وأجمل بيانا، فأتعلم منهم الكثير…
ثم أنهى استجوابهم قائلا:
أما رأيتم العديد من رفاقنا ممن تستاء الآذان من خطابهم، وتتأذى الأعين من كتاباتهم؟!
كان الراحل شجاعا عند إبداء رأيه، وصادما وحاسما لكل من يتقصّده بازجاء، وظلّ ذاك حاله الى أن سافر الى مصر لأكمال تعليمه الجامعي، وجامعاتنا حينها دون اصابع اليدين عددا، ولا مجال الاّ لقلّة من الطلاب للولوج إلى كلياتها.
في مصر، بقي في معية الرفاق كادرا نشطا ينجز كل مايوكل اليه دون كلل أو ملل، لكنه ظلّ أسير حُبّه للفصحى- في كتاباته- دون العامية، وبقي يحبُّ الشٍّعر الجميل، بدءا بأشعار شوقي، والتجاني يوسف بشير، والمجذوب، وانتهاء بأشعار روضة الحاج التي أدمن قراءة قصائدها قصيدة قصيدة، قال لي يوما عن روضة الحاج:
تعرف ياابن عمّي:
(روضة الحاج دي بقرا ليها دايما لمّن أحس بي اني محتاج أشمّ لي هوا نضيف)…
ثم عاد بعد اكماله تعليمه الجامعي إلى أرض الوطن، ووجد له الرفاق وظيفة في احدى الشركات المملوكة لأحد الأقباط السودانيين، وبقي بذات النشاط بين رفاقه القدامى، وحينها كان لليسار حراك بائن في خارطة السياسة السودانية، وقد سيطر الاسلاميون سنيها على السلطة، وشرعوا يضيقون الخناق على الشيوعيين، فادخل الراحل -مع من أدخِل- الى بيوت الأشباح، كتب يحكي عن ذلك في المنتديات، وكانت لتلك التجربة المريرة أثرها في ايغار صدره -أكثر- تجاه الإسلاميين، نال ورفاقه من التعذيب والاذلال الكثير كما قال وكتب، وشكى ذلك الى صديقه بعد اطلاق سراحه، فأبان له صديقه عدم تأييده للنظام في كل ممارساته؛ وان كان إسلاميا، فالنظام لايمثل الإسلاميين حق التمثيل، والسبب في ذلك غلبة العسكريتاريا عليه، فلم يقتنع بتبرير صديقه…
لكنه بقي يرتاد حِلَقَ التلاوة مع غرمائه، وخلال احدى الحلقات تحدث شيخ وقور عن هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه من مكة، فتوقف الراحل كثيرا بين يدي استنكار الحبيب -قبيل هجرته الشريفة- سعي أهله في مكة الىخ أخراجه منها قسرا، قال صلوات الله وسلامه عليه مخاطبا جبريل عليه السلام:
أَوَ مُخرجيّ هم؟!!!…
ثم لم يطب له المقام في السودان، فاستصحب (مواسم) الطيب صالح مهاجرا الى الشمال، فقد حظي بفرصة السفر (جوا) إلى بريطانيا، ويومها:
رمى بنفسه على مقعد الطائرة، وقد أمضى يومين من الحراك المضني لإكمال اجراءات السفر، لم يذق خلالهما طعم النوم، اسبل عينيه والطائرة تقلع إلى مطار هيثرو، ومافتئت وجوه العديد من الرفاق ممن أتوا لوداعه تلوح له، واذا بوجه صديقه يبتسم له في هدوء، واذا بحلقة التلاوة منعقدة وغرماءه يدندنون بالقرآن، فما لبث ان طاف بخياله استنكار رسول الله صلوات الله وسلامه على أهله من قريش:
أو مخرجيّ هم؟!
وبدا وكأن الصوت يتردد في الفضاء:
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
أو مُخرجيّ هم…
وإذا بمشركي قريش يذكرونه بالاسم وهم يسعون لاخراجه!
فعجب لذلك أيما عجب، فهو موقن بأنه ليس رسول الله، لكن من يقنع هؤلاء؟!
وضاق به الحال، واعيته الحيلة كي يجد مهربا، فشرع يبسمل ويحوقل، سمع مناديا يهتف به بأن يا ايها الرسول أقدم، واذا ببساط للريح يسجيه له مَلَكان لهما أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فجلس عليه فطار به الى السماء!…
نظر إلى الأسفل فإذا به يعلو مجرى ماء عرييييض صوب الضفة الأخرى،
وهبط البساط بهدوء على أرض الضفة الأخرى…
ياااااااه
يالهذا الضياء الذي يغمر الأرجاء، ويالهذا العطر والفواح الذي يعم السوح والفضاءات، جال ببصره فإذا بالورود تكتنف الشاطئ على امتداده، فقال يعاتب نفسه:
لِمَ حرمتُ نفسي من العبور إلى هذا الشاطئ من قبل؟!
شرع يمد رجليه ليتمشى على طول هذا الشاطئ، لكنه أحس بخَدَر يسرى في أوصاله ويحول بينه وبين ذلك، لكأنه خارج لتوه من عملية جراحية كبيرة، فأغمض عينيه وأسلم نفسه لحلمه الجميل إلى أن خرج من الطائرة والمطار، ثم انتهى به المقام بعد فترة قليلة في ربوع دولة لايتحدث أهلها الانجليزية، وتيسر له الحصول على اللجوء السياسي،
ومضت به السنون وهو يعطي اليسار كل وقته وجل حراكه، وفي غمرة كل ذلك لم ينسَ صديقه في السودان…
وقدر لي أن ألتقي بهذا الصديق بعد رحيل صاحبي، وسألته عن الذي رآه مختلفا فيه دون غيره من معارفك من الشيوعيين؟!
قال لي:
الرجل كان بخلاف رفاقه لا يُنفّرُهُ احسان مخارج الأحرف لدى المتحدثين، وجل أهل اليسار يحكمون بالتيامن على كل من يُحسن مخارج الأحرف العربية؛ فينأون عن سماعه!
وأضاف الصديق:
فيه – رحمه الله- صفة أخرى تزيّنه:
انه لا يرضى في الحق لومة لائم، وذاك الذي أحسبه سيعجّل بعبوره يوما الى الضفة الأخرى!.
وبالفعل، ظل الراحل ينافح بلسانه ويراعه مؤججا حربا شعواء ضد العديد من رموز الفساد في منظمات تتبع لليسار، وناله لأجل ذلك الكثير من الأذى، ومثُل مرات عديدة امام لجان التحقيق، لكنه عصيا على الانحناء والانكسار…
قال لي الراحل:
بعد ان قدمت استقالتي من الحزب، احسست براحة تغمرني، وإذا اتذكر كتاب (دستور الأخلاق في القرآن)، فجلست أقرأ فيه، فغشيتني نسمات عليلة وكأنها آتية من شاطئ آخر غير الذي أعيش عليه، أسلمت نفسي للنوم فإذا بذات الرؤيا تتكرر، يا لأشجار النخيل السامقات اللائي ينتظمن على طول الضفة، والأزاهر والورود تحف بالروض؛ تعبق السوح والفضاءات باريجها…
أرحت راسي على مقعدي وقد سقط من بين يدي الكتاب، واكتنفني أحساس يشبه الأكولة التي تنتاب المرء في ثنايا جُرح قديم يوشك على البرء…
قال لي:
أمر الأخلاق (يهبش) في دواخلي الكثير من مواطن الإلهام…
وذكر لي عبارة وردت في الكتاب بأن:
(وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!
لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة).
قلت له:
هذا الكتاب أعلمه تلخيص لأطروحة لنيل درجة الأستاذية من جامعة السوربون، جاءها (درّاز) بعيد نيله درجة الماجستير من جامعة الأزهر!…
وظل الراحل يقرأ كل يوم جزءا من الكتاب، فيجد نفسه اسيرا لقدرة الكاتب على ايضاح العديد من المفاهيم المتعلقة بالتاصيل الأخلاقي، مفاهيم كانت تشوبها الكثير من الشوائب في فكره وقناعاته عندما كان على الضفة الأخرى، وعندما وصل الى منتصف الكتاب، اتصل بصديقه وقال:
كم اشكرك على هذا الكتاب…
ثم واصل القراءة الى أن أتم الكتاب، فأحسّ بكم التغيير الذي أضفاه الكتاب علي نفسه…
رقد يومها وقد أيقن بأن الشاطئ الذي يكتنف حراك حياته ليس بالشاطئ الذي يجدر به العيش فيه، ولكن كيف له أن يدع رفاق عاش كل عمره بينهم، كيف له أن يغير نمط حياة ملؤها الذكريات والمشاهد؟!
رقد يومه ذاك واذا به يتذكرها، إنها صبية فيها الكثير من سمت الشاطئ الذي يزينه اصطفاف النخيل، وكانت زوجه ربة منزل وأما صالحة لم ير منها الاّ كل ايجاب، قال لنفسه جاهدا كبت أحساس انتابه بظلم زوجه، لكنه اقنع نفسه بأنه تعرف على الصبية قبل زواجه من ام عياله، وكان يود الزواج منها، ولكن صده عنها عدم حبها لليسار، واتم زواجه الثاني…
وشرع يبتعد بمشاعره يوما بعد يوم عن عوالم اليسار، وبدأ يشتط أكثر في حربه لبؤر الفساد المستشري في العديد من المنظمات التي يديرها الرفاق، فما كان منهم الاّ أن حاربوه حربا شعواء من خلال العديد من الوسائط، ورفعوا عليه الدعاوى القضائية، لكنه بتوفيق الله كسبها، فساءهم ذلك كثيرا، الى أن وصل بهم الأمر الى أخراجه من شاطئه
وياله من يوم!
وجاء اليوم…
تكأكا عليه الرفاق فاخرجوه!
فوقف ينظر الى سنوات خلت أعطى اليسار خلالها كل عنفونه…
ياللؤم القوم!
وتساءل في قرارة نفسه:
من يُخرجُ من؟!!!
هؤلاء الذين سعى إلى فضحهم في الاسافير، وبيان قذارة اياديهم خلال ادارتهم لشئون الرفاق وأموالهم كيف لهم أن يخرجوه؟!
يحسبون انهم مخرجي وهم لا يعلمون كم نفعوني بالخلاص منهم ومن فكرهم، لقد كفر باليسار، وأحس بأنه غريب على شاطئهم ذاك، غريبُ وجهٍ ويدٍ ولسانٍ ثم…مرادات!
فشرع يكتب عن عوار كثيف باليسار…
قال لي صديقه:
أقسم لي الراحل بأن أمر اخراجه قد نزل على قلبه بردا وسلاما…
ولم يرض الرفاق عن كتابات الراحل، ظلوا يرسلون إليه الوفود تلو الوفود كي يسكت عنهم، و…يعود.
لكنه بقي رافضا الانكسار، يرنو إلى الشاطئ الآخر من بعد وضوء!
فاجتمع القوم بليل، لم يجدوا بُدّاً من ذلك وهم الوالغة اياديهم في الدماء!
وعندما بدات الشمس توذن بالمغيب، حط (هدهد) على نخلة بالجوار، وألقى من فيهِ رسالة فضضتها فإذا فيها:
انها من وراء البحار، وانها بسم الله الرحمن الرحيم، ان صاحبك قد مات مسموما!
فلما راى الهدهد في عينيّ ذهولا صفق بجناحيه وطار مودعا، فما لبثت أن هطلت ادمعي غزارا، ولم أنم ليلتها، بقيتُ لساعات طوال أجترُّ حزني النبيل، ولم يزرني النوم الاّ بين يدي ثلث الليل الأخير، فإذا بأعلام الفيافي منكسة على السواري، واذا بالراحل يتقمص صورة الزين وينطلق من كرمكول وهو يهتف في اذن الزمان:
ياناس هووووي…
الزين سمموهو
أيا ناس اقولكم أنا سمموني…
ورددت جنبات الجبال صدى صوته المبحوح…
جبال كورتي
وجبل ابن عوف
وجبل كلم كاكول
وعند جبل البركل، لم يتمالك نفسه من الارهاق والتعب، فماكان منه الاّ أن (توسد) يده ورقد، وأصبح والخيطُ الأبيض قد بدأ يبين دون الأسود من الفجر، وظلال الثلث الأخير من الليل تلملم أطراف ثوبها المتشح بالسواد منحسرة عن المكان، وهناك عند عند خط اقتران السماء بالصحراء؛ اذا بضوء الفجر يتلمس طريقه في ثبات وتؤدة، ورويدا رويدا بدت هامة جبل البركل تبين، بدت وكأنها تغتسل في ضوء الفجر نافضة عنها غبار أزمنة وأمكنة عديدة، بدا الجبل حزينا يرنو بناظريه بعيدا إلى ماوراء التاريخ…
وفجأة، بدا من خلف الأفق غبارٌ كثيف، دونه موكب مهيب يشق عنان السماء ليحط في جلال على هامة الجبل، ويترجل فارسان بلباس الملوك، من بين يديهما الخدم والحشم، فينصب لهما عرشان من خشب الأبنوس وكتل العاج وسبائك الذهب، ويشرع الجنود في قرع الطبول، فتردد جنبات الجبل صدى الموسيقى الملكية الحزينة، ويخرج أهل البركل وكريمة وأنظارهم معلقة بهامة الجبل، وكان ذاك اليوم هو الثالث منذ رحيل صديقي، ويتدافع الناس الى ساحة الجبل، فيتقدم اليهم بعانخي ملوحا بيد وممسكا بيد تهرقا/ترهاقا باليد الأخرى، ويبدأ في الحديث بصوت ملوكي وقور:
(ياأيها الناس ليبارككم الرب الواحد، لقد جئنا لتقديم واجب العزاء في روح الفقيد، فيهتف الناس بصوت واحد:
لا أله الا الله …
ولا حول ولا قوة الاّ بالله…
ويتواصل الهتاف…
لاأله الا الله محمد رسول الله…
فيسجد الملِكان، ثم يتوجهان إلى الحشود ويهتفان مع الناس:
لاأله الا الله محمد رسول الله…
ولا حول ولاقوة الاّ بالله…
وانا لله وانا اليه راحعون.
ثم تختلط الحشود، ويشتد الهتاف وقرع الطبول، ثم يلتفت الملِكان إلى جهة الشمال، ويشير بعانخي إلى النيل،
الذي يشق صدر أرضنا السمراء في عزيمة
وينحني تأدبا في البركل الذي يلي كريمة.
لكأنه الزين الذي كتب عنه طيبنا الصالح رحمه الله وقال:
برغم صورته الجسدية قد توحي بالضعف، فهو نحيل هزيل، كأنه عود يابس، وكانت ساقاه نحيلتين لا تكادان تطيقان حمله، ولكنه مع ذلك يملك قوة بدنية استطاعت أن تكسر حدة ثور هائج، وأن تقلع شجرة سنط، بل كاد يقتل سيف الدين رغم أن الكثيرين أمسكوا به بكل قواهم
لذلك فإن بكاء الزين كان بكاء يتناسب مع قوته لا صورته!
اللهم أرحم صديقي وافتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، واغفر لكل من عبر إلى الشاطئ الآخر، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.

إليك في مرقدك ياخالد الحاج الحسن الحسين رحمك الله:
زوامل احزاني من يوم الرحيل حيرانة
تاهت في الدروب من اللجام فلتانة
هايمة عيونا في اللربع قبل بي اركانة
تاركة الزاد وحتى الري وفاردة بطانة
تبكي عيونا دم منو السدور مليانة
أما كريرا جوة الجوف تقول جبخانة
يتفجر رصاصو مولّع دانة تلحق دانة
قتلها يازوامل احزاني وييييين صبرك؟!
وينو ايمانك المعهود عليك أمانة؟!
اتنخجت بكا وطلقت حبال حزانة
قالتلي ياعسوم:
داخالد المرِق البشيل كم دور
داخالد البنا للخلوق الضُل وختّ السور
دا خالد الخلاّ ابوابو مفتوحات:
للضهبان يشع نورو
وللحيران يفك حيرتو
وللحفيان يلم قدمو
وللعميان يقود رسنو
وللجيعان قداحتو مليانات يجن بالدور
لكنو فات خلاّ البكانات بور
وبي فوتو انكسر المرق اوتشتت المعمور
وعيونَّا من يوم داك كابات شو سنين ودهور

ارقد بسلام ياابن عمي
واهنأ حيث أنت في رحاب الله أيها الصديق.

إلى اللقاء ان شاء الله في الحكاية العاشرة.
adilassoom@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الضفة الأخرى هذا الکتاب الکثیر من رحمه الله العدید من رسول الله من بعد قال لی

إقرأ أيضاً:

مناطق ج قلب الضفة الغربية الذي تخنقه إسرائيل

مناطق "ج" هي أكبر مناطق الضفة الغربية في فلسطين، وظلت لسنوات مطمع أقصى اليمين الإسرائيلي. تشكلت مناطق "ج" وفق التقسيم الذي أفرزته اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995، وتمثل 61% من مجموع أراضي الضفة.

تسيطر السلطات الإسرائيلية على الإدارة المدنية والأمنية في مناطق "ج"، الأمر الذي مكنها من استغلال المنطقة من أجل التوسع في مشاريعها الاستيطانية، والتضييق على التجمعات السكانية الفلسطينية.

تعمل إسرائيل على تقويض الظروف المعيشية للفلسطينيين داخل مناطق "ج" عبر منعهم من استغلال الأرض ومواردها، وحرمانهم من تراخيص البناء وعدم تمكينهم من إصلاح وترميم مساكنهم.

كما تخضع تنقلاتهم لنظام معقد من التصاريح والإجراءات الإدارية التي تقيد حركتهم، بفعل امتداد الجدار الفاصل والحواجز العسكرية والمتاريس المنتشرة على الطرق في كل مكان.

في ظل هذه الإجراءات المشددة، يعيش الفلسطينيون في مناطق "ج" حياة قاسية، إذ يحرمون من أبسط الحقوق، ويتعرضون لملاحقات متواصلة من قبل الاحتلال، الذي يفسح المجال بلا قيود للتوسع الاستيطاني.

الموقع

تقع مناطق "ج" في قلب الضفة الغربية وسط فلسطين، بالقرب من المسطح المائي الذي يشمل كلا من البحر الميت ونهر الأردن وبحيرة طبريا، وتمثل هذه المناطق حوالي 61% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية، وتشمل أراضي متفرقة، يقع الجزء الأكبر منها في حدود المجالس المحلية والإقليمية للمستوطنات، وتمثل 70% من مجموع أراضي المنطقة.

إعلان

يحدها الأردن من الناحية الشرقية، بينما يحيط بها جدار إسمنتي يبلغ طوله 713 كيلومترا من باقي الجهات، وهو الجدار الذي تسميه إسرائيل "جدار منع العمليات الإرهابية"، وتطلق عليه الحكومة الفلسطينية "جدار الضم والتوسع"، وقد شرعت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون ببنائه في 23 يونيو/حزيران 2002، على امتداد خط الهدنة لسنة 1949.

السكان

يبلغ عدد الفلسطينيين في مناطق "ج" نحو 354 ألفا، وفق تقديرات فلسطينية عام 2023، وهو ما يمثل 10% من الفلسطينيين في الضفة الغربية كلها، ويعيش ما يقارب 90% الآخرون في المناطق أ والمناطق ب.

إلى جانب الفلسطينيين، تضم مناطق "ج" -باستثناء القدس الشرقية– حوالي 386 ألفا من المستوطنين الإسرائيليين إلى حدود عام 2019.

تتولى ما تعرف في إسرائيل بـ"إدارة منطقة يهودا والسامرة" إدارة شؤون المستوطنين اليهود في مناطق "ج"، بينما يتم تدبير شؤون السكان الفلسطينيين من قبل المنسق الإسرائيلي للأنشطة الحكومية في تلك المناطق.

وفق تقرير صادر عن المجلس النرويجي للاجئين في مايو/أيار 2020، تمنع أنظمة التخطيط والتقسيم الإسرائيلية الفلسطينيين من البناء في حوالي 70% من مساحة مناطق "ج" (المناطق التي تدخل في حدود المجالس الإقليمية للمستوطنات)، في الوقت الذي تجعل فيه الحصول على تصاريح البناء في 30% المتبقية شبه مستحيل.

المجمعات السكنية الفلسطينية الواقعة في مناطق "ج" لا تتصل بشبكة المياه، مما يدفع السكان إلى اقتناء المياه المنقولة بالصهاريج، كما أن عمليات الهدم والطرد وحرمان الفلسطينيين من حقهم في السكن، تزيد من وطأة الفقر وقساوة الظروف المعيشية، وهو ما يجعلهم عرضة للتهجير.

التاريخ

ظهرت مناطق "ج" نتيجة لما يعرف بـ"اتفاقية طابا"، وهي اتفاقية مرحلية أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بشأن إدارة الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة، جرت مباحثاتها في طابا بمصر ووقعت رسميا في واشنطن يوم 28 سبتمبر/أيلول 1995، واشتهرت بـ"اتفاقية أوسلو 2″ لكونها أحد ملحقاتها التفصيلية المهمة.

إعلان

قضى هذا الاتفاق بتقسيم الأراضي الفلسطينية إلى ثلاث مناطق مميزة في الضفة الغربية وهي المناطق (أ) و(ب) و(ج)، وهي مناطق تفصل بينها حواجز ومستوطنات ومعسكرات لجيش الاحتلال، ولكل منطقة ترتيبات وسلطات أمنية وإدارية مختلفة عن الأخرى.

تخضع المناطق "أ" للسيطرة الفلسطينية بالكامل، وتمثل حوالي 21% من مساحة الضفة الغربية، وتتشكل من مناطق حضرية بشكل أساسي (مدن وبلدات؛ كالخليل، ورام الله، ونابلس، وطولكرم، وقلقيلية)، تكون فيها صلاحية حفظ الأمن الداخلي للفلسطينيين عبر انتشار دوريات تابعة لشرطة السلطة الفلسطينية في الشوارع.

في حين تخضع المناطق "ب"، التي تشكل ما يقارب من 18% من أراضي الضفة، لتدبير مدني فلسطيني وسيطرة أمنية إسرائيلية، وتتكون من ضواحي المدن والقرى المتاخمة للمراكز الحضرية الواقعة في المناطق "أ".

أما المناطق "ج" فتمثل 61% من مساحة الضفة الغربية، وتقع تحت السيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي، وتشمل المستوطنات والطرق والمناطق الإستراتيجية.

وكان من المفترض -وفق ما نصت عليه اتفاقية أوسلو 2- أن يستمر هذا التقسيم خمس سنوات فقط، تمهيدا لإنشاء الدولة الفلسطينية بضم أراضي المنطقتين "ب" و"ج" لأراضي المناطق "أ"، غير أنه لا شيء من ذلك تحقق على أرض الواقع، بل بسط الاحتلال الإسرائيلي سيطرته الأمنية على المناطق "أ" مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.

موارد طبيعية في خدمة الاحتلال

تتميز مناطق "ج" بكونها من أغنى المناطق الفلسطينية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك مصادر المياه والمحميات الطبيعية، إذ تحتوي على معظم المراعي والأراضي الزراعية، إضافة إلى بعض الأماكن الأثرية.

تزخر مناطق "ج" بإمكانات كبيرة للتنمية الحضرية والنهضة الزراعية في الضفة الغربية، واستغلالها يمكن أن يساهم في تطوير الاقتصاد الفلسطيني وإنعاشه، إلا أن سياسات الاحتلال تمعن في حرمان الفلسطينيين من الاستفادة من هذه الموارد.

إعلان

تسيطر السلطات الإسرائيلية على مقومات الحياة الأساسية، وتستحوذ على حوالي 80٪ من مصادر المياه في الضفة الغربية، مما يحرم معظم الفلسطينيين في مناطق "ج" من الاتصال بشبكات المياه، كما أنها تعمل باستمرار على تقليص مساحات الأراضي الزراعية وتطويق المزارعين الفلسطينيين بـ"دواع أمنية".

في المقابل تشهد مناطق الأغوار والجزء الشمالي من البحر الميت تركيزا استيطانيا كثيفا، وتعمل السلطات الإسرائيلية على تيسير كل سبل استفادة المستوطنين من هذه الأراضي، التي تعد أخصب أراضي الضفة الغربية وأغناها بالمصادر المائية.

سياسة الهدم والتهجير

تمعن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في بسط سيطرتها على المناطق "ج" من خلال سن تشريعات واعتماد سياسات تهدف إلى ضمها والسيطرة عليها. فقد شهدت تلك المناطق في الفترة الممتدة ما بين 2010 و2025 سياسة مكثفة لهدم المنشآت وتهجير السكان.

وتركزت عمليات الهدم الإسرائيلية على مدى 15 عاما أساسا في مناطق "ج"، وإن اتسعت في عامي 2023 و2024 لتشمل مناطق "أ" و"ب".

ووفقا لتقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، للفترة بين 1 يناير/كانون الثاني 2010 و1 يناير/كانون الثاني 2025، فإن الاحتلال الإسرائيلي هدم نحو 8 آلاف و765 منشأة فلسطينية في مناطق "ج"، أغلبها بذريعة البناء دون ترخيص، منها 3107 منشآت زراعية و2025 مسكنا مأهولا ونحو 700 مسكن غير مأهول.

وتسببت عمليات الهدم في مناطق "ج" في تهجير قرابة 10 آلاف فلسطيني، وتضرر نحو 192 ألفا و548 آخرين، وفق الأمم المتحدة.

ووفق المعطيات ذاتها فقد طالت عمليات الهدم 400 منشأة في خربة طانا شرق نابلس، و211 منشأة في خربة حَمصة، و200 منشأة في تجمع أبو العجاج في الجِفتلك، و154 في خربة الرأس الأحمر، و148 في تجمع فصايل الوسطى، وجميعها في الأغوار.

كما شملت عمليات الهدم 146 منشأة في محافظة الخليل جنوبي الضفة، و142 في بلدة عناتا شمال شرق القدس، وتوزعت باقي المنشآت على باقي محافظات الضفة.

إعلان

وإجمالا طال الهدم 2197 منشأة في جميع مناطق الضفة (أ، ب، ج) منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى 1 يناير/كانون الثاني 2025، تسببت عمليات الهدم في تهجير 5 آلاف و371 فلسطينيا، وتضرر نحو 535 ألفا آخرون.

وتركزت عمليات الهدم خارج مناطق "ج" في مخيم طولكرم وطالت 203 منشآت، ثم مخيم نور شمس وطالت 174 منشأة، يليه مخيم جنين وطالت 144 منشأة، وتوزعت باقي العمليات على باقي محافظات الضفة.

وفق تقارير الأمم المتحدة، فإن "معظم المباني التي يتم هدمها في الضفة الغربية يتم استهدافها بسبب عدم حصولها على تصاريح بناء صادرة عن الاحتلال، والتي يكاد يكون من المستحيل على الفلسطينيين الحصول عليها بموجب قوانين وسياسات التخطيط والتصاريح التمييزية الإسرائيلية".

مقالات مشابهة

  • مناطق ج قلب الضفة الغربية الذي تخنقه إسرائيل
  • محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟
  • القارئ الطبيب صلاح الجمل لـ«الأسبوع»: أنا العربي الوحيد الذي سُمح له أن يسجل القرآن في الحرمين النبوي والمكي
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • الطبق الذي كان يفضله الرسول عليه الصلاة والسلام
  • عبد الله: ودعنا اليوم رفيقنا علي عويدات الذي تشهد له الساحات والمواقف
  • التقاطع المزراحي الفلسطيني الذي لا يتحدث عنه أحد
  • دفن طفل من كريمي النسب في ديالى بعد أسابيع من الجدل
  • طريقة عمل السوبيا بمذاق كريمي ولذيذ
  • معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟