عسكرة البحار .. تقطيع شرايين
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
كان تشخيصًا ماليزيًّا دقيقًا الذي ورَدَ في أكثر من إشارة إلى أنَّ عسكرة المحيطات والبحار سياسة غير بنَّاءةٍ.
لقَدْ ورَدَ ذلك تعليقًا على الاحتكاكات الأمنيَّة المتكرِّرة بَيْنَ عدَّة أساطيل عسكريَّة جنوب شرق آسيا. وبمعنى مضاف، أُريد ماليزيًّا أن يتمَّ الانتباه إلى مخاطر الأضرار التي يتسبب بها هذا النَّوع من النفوذ العسكري وتأثيره السلبي على المصالح المشتركة التي ينبغي أن تحكمَ العلاقات بَيْنَ الدوَل عمومًا، وبَيْنَ الدوَل المتشاطئة بصورة خاصَّة.
لقَدِ انطلق التشخيص الماليزي بسبب الازدحام العسكري في ذلك الأرخبيل المائي ضِمْن التعاشق الجغرافي بَيْنَ المحيطَيْنِ، الهادي والهندي، امتدادًا من الصين إلى تايوان والكوريتَيْنِ الشماليَّة والجنوبيَّة واليابان والفلبين وميانمار، وفي أقصى الجنوب، إندونيسيا، والأطراف الشماليَّة من أستراليا في فسحة بحريَّة زاخرة بتحالفات يحكم بعضها تناقضات سياسيَّة حادَّة، وصراعات حدوديَّة وانتمائيَّة يَعُودُ بعضها إلى أوائل القرن الماضي، بل وإلى تاريخ القرصنة والاستكشافات الجغرافيَّة.
لا شكَّ أيضًا، أنَّه حين تمَّ التطرُّق إلى ذلك، فإنَّما من مخاطر جيوسياسيَّة وجيواقتصاديَّة أخذت تهيمن على العلاقات الدوليَّة في السَّنوات العشر الأخيرة رغم أن لا فرص أمام العالَم عمومًا، وفي تلك المنطقة بالذَّات إلَّا في الشراكة التجاريَّة والتنمويَّة التي تصون المصالح المشروعة وتحفظ حُريَّة المِلاحة.
لقَدِ اختصر الماليزيون في التشخيص تاركين للحقيقة حيِّزها من الاجتهاد المُقْنع بأنَّ الحسم العسكري لا يُمكِن له أن يديمَ مصالح المنتصرين أيًّا كان ثقل قوَّتهم، وأجزم أنَّ هذه القناعة كانت مغذِّيةً أساسيَّة في الوصول إلى معاهدة قانون البحار والمحيطات لعام 1982 التي (دخلت حيِّز التنفيذ يوم السادس عشر من نوفمبر ـ تشرين الثاني ـ عام 1994). لقَدْ نصَّت تلك الاتفاقيَّة على الإفادة العادلة من المناطق البحريَّة الشاسعة، ولعلَّ ما يجري الآن على هامش المواجهة الروسيَّة الأوكرانيَّة يكشف كيف تصدَّعت حركة تجارة الغذاء؛ جرَّاء الخلاف على استخدام البحر الأسود ممرًّا لتجارة القمح عالميًّا.
إنَّ السِّياسة غير البنَّاءة إذا ظلَّت سائدة في تلك المنطقة الحيويَّة من العالَم ستضرب حتمًا مناطق مائيَّة أخرى نظرًا لتشابك المصالح، بل إنَّ ضغوط تلك السِّياسة سنجد لها آثارًا سلبيَّة في كُلِّ الممرَّات المائيَّة، وإذا كانت الأعاصير العاتية تربك حركة التجارة العالَميَّة، تظلُّ عسكرة المحيطات والبحار مصدر قلق لحقوق المياه الإقليميَّة والمناطق المتاخمة ومتطلبات الجرف القاري، وستضع المزيد من المطبَّات أمام التجارة الدوليَّة، وسيسود منطق الاستئثار بغير وجْه حقٍّ.
إنَّ للعسكرة بهذه النسخة وجْهًا مثقلًا بالنُّدب (جمع نُدبة) التي ستؤدِّي إلى المزيد من التلوُّث البيئي بحُكم فضلات تلك الأساطيل حين تبحر، وتجوب، وتُناوِر، وحين تتقارب خصومةً مع غيرها من الأساطيل.
المفارقة المُرَّة، ليس هناك دَولة تتحدث عن مصالحها دُونَ أن تتعكَّزَ على تلك المعايير القانونيَّة وتطالب بتطبيقها، في حين يظلُّ نفوذ الأساطيل العسكريَّة العملاقة واجهة أغلب الأحداث. بالمطلق، لا شطارة في هذا الشأن إلَّا حين يتمُّ الاقتناع بأن الفرصة المؤاتية تكمُن في الانتباه لحقوق الجميع ضِمْن خطِّ شروع متساوٍ.
في الديباجة التي تصدَّرتْ ميثاق الأُمم المُتَّحدة، هناك نصُّ يدعو (إلى تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي)، والحال أنَّ العالَم، كُلَّ العالَم، بحاجة ماسَّة الآن لتوظيف هذا المنطق بِدُونِ أيَّة مواربة، أو تأجيل.
عادل سعد
كاتب عراقي
abuthara@yahoo.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العال م
إقرأ أيضاً:
عين ترامب على غرينلاند.. طموح تغذيه المصالح والثروات
من جهة يعد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بعالم أفضل، برفعه شعارات لا للحروب، وعزمه وقف كل ما هو مندلع منها، بدءاً من نيران أوكرانيا المشتعلة منذ قرابة 3 سنوات، وجحيم غزة، ومن جهة أخرى، يهدد ويتوعد بلغة ظاهرها هزل وباطنها جد بالسيطرة على جزيرة غيرينلاند وقناة بنما، وأكثر من ذلك بجعل كندا الولاية الأمريكية الـ51.
تلك التصريحات عكست بشكل جوهري كيف ستبدو سياسة ترامب الخارجية تجاه حلفاء الولايات المتحدة التقليدين سواء من كانوا في أوروبا أو حتى في أمريكا الشمالية، كما أظهرت طموحاته بشكل جلي، ومساعيه المتجددة لشراء غرينلاند من الدنمارك لما تعنيه من أهمية للمصالح الأمريكية، ولموقعها البارز، ولكونها مطمعاً تتسابق عليه روسيا والصين، ومنجم ثروات تسيل لعاب رئيس يمجد الصفقات، بحكم خلفيته المالية الشهيرة.
وفي الحقيقة، قطع ترامب وعده بشراء غرينلاند أول مرة في ولايته الأولى عام 2019، مغرياً الدنمارك التي كانت تعاني حينها من أزمة اقتصادية بصفقة عقارية خيالية، لكن مسعاه رُفض بشدة من الدولة الاسكندنافية، وفي عهده الثاني ظل حلم الجزيرة المعزولة ذات الكثافة السكانية المحدودة والثروات اللا محدودة يراود أحلام الرئيس العائد إلى البيت الأبيض والحالم بأمريكا أولاً، وفي هذه المرة سلك ترامب طريقاً آخر حين قال إن سيطرة الولايات المتحدة على الجزيرة يُعد أمراً ضرورياً للأمن القومي، فما هي أهمية غرينلاند لترامب، وأين تقع، وهل يمكن حقاً شرائها؟
أين تقعتقع غرينلاند في شمال المحيط الأطلسي بين أوروبا وأمريكا، وتفصلها عن الجزير الكندية مسافة 28 كيلومتراً فقط، وتبلغ مساحتها أكثر من 2.17 مليون كم مربع، وتغطي الثلوج 80% من أراضيها لوقوع معظمها داخل القطب الشمالي، وهي أكبر من المكسيك، وتتمتع الجزيرة بموقع استراتيجي يجذب أنظار منافسي الولايات المتحدة.
ورغم حجمها الهائل، إلا أن عدد سكانها لا يتجاوز الـ57 ألفاً فقط، وبينهم عربي واحد، ينحدر من أصول لبنانية، ويدعى وسام الزقير (أو الصغير).
ردا على ترامب.. تظاهرات في بنما والدنمارك ترفع سقف إنفاقها الدفاعي في غرينلاند https://t.co/zjO85LWQev pic.twitter.com/HeU4k6xsCw
— مونت كارلو الدولية / Monte Carlo Doualiya (@MC_Doualiya) December 25, 2024والجزيرة تقع جغرافياً داخل قارة أمريكا الشمالية، لكنها في الواقع جزء من أوروبا، إذ تعتبر منطقة ذاتية الحكم تابعة للدنمارك، وخضعت لحكم كوبنهاغن في أوائل القرن الـ18 أي قبل أكثر من 200 عام، ويمثلها في البرلمان الدنماركي نائبان فقط.
ثرواتهاوتزخر الجزيرة البيضاء النائية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، حسب الجمعية الملكية للكيمياء، إضافة لاحتوائها على الوقود الأحفوري.
وأكثر ما يميز الجزيرة ثلوجها الدائمة، وشروق الشمس النادر، الذي يتواصل فيها لشهرين متتالين من 25 مايو (أيار) إلى 25 يوليو (تموز)، وفقاً لوزارة الخارجية الدنماركية.
قناة بنما: غرينلاند والقناة ليستا للبيع.. لماذا يهدد ترامب بالاستيلاء عليهما؟ - BBC News عربي https://t.co/BoFXPRw8k7
— BBC News عربي (@BBCArabic) December 25, 2024 كم ستكلف؟يقول الدنماركيون ورئيس وزراء الجزيرة موتى إيجيدي، إن إراضيهم ليست للبيع، وهذا يجعل تخمين سعرها صعباً، لكن الخبراء يؤكدون أن الناتج المحلي الإجمالي لغرينلاند يبلغ أكثر 3.2 مليار دولار، كما أنها تتلقى إعانة سنوية تقدر بحوالي 600 مليون دولار من حكومة الدنمارك، وفق ما ذكره موقع الشرق.
وعلى سبيل المقارنة، فإن تكلفة شراء الولايات المتحدة لألاسكا من الإمبراطورية الروسية عام 1867 بلغت 7.2 مليون دولار، وهو ما يعادل حوالي 150 مليون دولار بالقيمة الحالية، وهي صفقة تُعتبر رابحة للغاية.
أهميتها لأمريكاتربط الجزيرة بين أمريكا وأوروبا وروسيا عبر القطب الشمالي، وتحتفظ الولايات المتحدة فيها بقاعدة بيتوفيك الفضائية. كما تحتل غرينلاند موقعاً استراتيجياً للتجارة حيث تسعى القوى العالمية إلى توسيع نطاقها في الدائرة القطبية الشمالية. وترى روسيا على وجه الخصوص، المنطقة كفرصة استراتيجية، وفق تقرير لـ"بي بي سي".
سوابقلم تقتصر طموحات ترامب التوسعية على غرينلاند وسبقت بتهديدات لإعادة قناة بنما الاستراتيجية إلى السيطرة الأمريكية، كما قال في مقترح ساخر وجهه إلى رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، إن الولايات المتحدة يمكن أن تضم كندا كولاية رقم 51.
قصة قناة بنما.. من روزفلت إلى تهديدات ترامب - موقع 24فتح ترامب جبهة جديدة قبل توليه الرئاسة رسمياً في 20 يناير (كانون الثاني) القادم، بتهديده استعادة السيطرة على قناة بنما المائية الحيوية والتي تربط المحيطين الهادئ بالأطلسي، لكن الحكومة البنمية ردت على لسان رئيسها بالرفض التام، مع التأكيد على أحقيتها المطلقة في السيطرة على أهم ممر تجاري في أمريكا ...لكن عرض ترامب لشراء غرينلاند ليس الأول من نوعه، وسبقه إليه الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان حين طلب شراءها من الدنمارك لقاء 100 مليون دولار أمريكي.
وبالعودة إلى التاريخ، يجد أحدنا أن الولايات المتحدة قدرت من خلال صفقات مالية شراء أراض عديدة، على رأسها ألاسكا، كما اشترت أمريكا إقليم لويزيانا من فرنسا عام 1803 مقابل 15 مليون دولار أمريكي.
وهناك أيضاً سابقة مع الدنمارك، حيث باعت كوبنهاغن للولايات المتحدة جزر الهند الغربية التي تعرف الآن بجزر فيرجن الأمريكية عام 1917 لقاء 25 مليون دولار ذهبي.