كأنَّ الأمور عادت بالقارَّة السَّمراء إلى عهود انقلابات الستينيَّات من القرن الماضي، فقَدْ شهدت منطقة غرب إفريقيا سبعة انقلابات مُتتالية، خلال سنَتَيْنِ، وشهدت دَولة (النّيجر) ثلاث محاولات انقلابيَّة، خلال نَفْس الفترة، فشلت الأولى سنة 2021، قَبل تَولِّي الرئيس محمد بازوم السُّلطة بأيَّام قليلة، وفشلت الثانية في آذار/مارس 2023، خلال زيارة خارجيَّة للرئيس، ثم نفَّذت قوَّات الحرس الجمهوري انقلابها الأخير يوم الأربعاء 26 تموز/يوليو 2023.
النيجر دَولة فقيرة تقع غرب إفريقيا، على مساحة 1,3 مليون كيلومتر مربَّع. دَولة فقيرة مع أنَّها تكتنز في أراضيها الشاسعة على مكامن الخامات والعناصر الثمينة، كاليورانيوم، وامتلاكها أَحَدَ أكبر الاحتياطيَّات العالَميَّة من اليورانيوم الذي تستغلُّه شركات فرنسيَّة مُعَوْلَمَة، إذ يُغطي يورانيوم النيجر 35% من الاحتياجات الفرنسيَّة من هذه المادَّة، ويُمَكِّنُ محطَّاتها النَّوويَّة من توليد 70% من الكهرباء المستخدمة في فرنسا. لكنَّ عهود الاستعمار المُتتالية والانقلابات التي كانت تُعانيها على يد العسكر، فضلًا عن التدخُّلات الخارجيَّة، قَدْ حَدَّت من إمكان تطوُّرها، على المستويات كافَّة لتراوح مكانها كدَولة فقيرة وسط إفريقيا تقريبًا.
قمَّة (المجموعة الاقتصاديَّة لدوَل غرب إفريقيا) المعروفة اختصرًا بـ(إكواس)، حاولت وتحاول الآن لمْلَمَة الوضع في النيجر وإطلاق سراح الرئيس محمد بازوم المعتقل عِند زمرة العسكريين، وقَدْ بدَتْ منسجمة مع مواقف باريس وواشنطن الدَّاعمة بقوَّة، وبتفويض غير مشروط، لمجموعة (إكواس) ولمجموعة الكبار فيها (نيجيريا، غانا، والسنغال تحديدًا) بالتدخُّل العسكري لتسوية الأزمة حال فشلت المساعي السِّياسيَّة. بدعم عسكري وإسناد من دَولة (رواندا) بحسب ما تواتر من معلومات، مع غطاء جوِّي من القوَّات الغربيَّة.
فالثابت هنا أنَّ الولايات المُتَّحدة أدانت رسميًّا الانقلاب في النيجر، وكذلك فعلت حليفتاها بريطانيا وفرنسا، وطالبت بإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، وحمَّلت روسيا مسؤوليَّة التمدُّد في إفريقيا لمقارعة الوجود الأميركي. لذلك، إنَّ واشنطن، وعِند اضطرارها، لا تُخفي نيَّاتها في التدخُّل العسكري وإعادة الرئيس المعتقل إذا لزم الأمْرُ، وإبرام معاهدات عسكريَّة وأمنيَّة جديدة تحابي المصالح الأميركيَّة، فيما توافق مجموعة «إكواس» على التدخُّل العسكري الأميركي في أقرب وقت مُمكن، نقلًا عن رئيس ساحل العاج، الحسن واتارا، وفق ما تمَّ نشره مؤخرًا.
وعليه، إنَّ «يَدَ واشنطن على قَلْبها» خشية من خسارة موقع جديد لها في إفريقيا، وفي دَولة النيجر التي لها قواعد عسكريَّة فوق أراضيها، وتقع في قَلْب البرنامج العسكري الأميركي لإفريقيا (أفريكوم)، وكُلُّ ذلك لصالح روسيا الاتِّحاديَّة أو الصين الشَّعبيَّة، حيث تعمل كُلٌّ من موسكو وبكين على تطوير علاقاتهما الإفريقيَّة، ونلاحظ في هذا السِّياق انعقاد مؤتمر القمَّة الروسيَّة ـ الإفريقيَّة في سان بطرسبورج، بحضور واهتمام لافتَيْنِ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونَحْو 49 من القادة الأفارقة، بَيْنَهم 17 رئيس دَولة. كما نلحظ توسُّع الاستثمارات الصينيَّة في إفريقيا، حيث تحاول بكين زرع مواطئ قَدمٍ لها في مختلف دوَل القارَّة الإفريقيَّة. لذلك قَدْ تخسر الولايات المُتَّحدة وفرنسا مواقع في (دَولة النيجر) أو غيرها من بلدان إفريقيا والعالَم، لصالح الصين أو روسيا، أو الاثنتين معًا، ضِمْن صراعات دوليَّة على النفوذ وتقاسم مناطق العالَم. فالنيجر أصبحت الآن بَيْنَ رحى قطبَي الصراع الأميركي الفرنسي ـ الروسي الصيني.
علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
ali.badwan60@gmail.com
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
الرئيس السيسي: المؤسسات القضائية لها دور مهم في أمن واستقرار إفريقيا
استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسي اليوم، رؤساء المحاكم الدستورية والعليا الأفارقة المشاركين في المؤتمر الثامن الذي تنظمه المحكمة الدستورية العليا المصرية لرؤساء المحاكم الدستورية والعليا والمجالس الدستورية الأفريقية، بحضور المستشار بولس فهمي رئيس المحكمة الدستورية العليا وعدد من قضاة المحكمة.
وصرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بأنّ الرئيس رحب بالحضور، وشدد على الأهمية التي توليها مصر لدعم وتعزيز دور السلطة القضائية في المجتمعات الأفريقية، مؤكدا أنّ تنظيم المؤتمر وانتظام عقد اجتماعاته يعكس وحدة الأهداف والمصير المشترك بين شعوب القارة، التي تمتاز بالالتزام بقيم الحق والعدل، والتطلع لتعزيز مبادئ سيادة القانون، واستقلال القضاء، واحترام الحقوق والحريات.
وأضاف السفير محمد الشناوي المتحدث الرسمي أنّ الرئيس أكد أهمية دور المؤسسات القضائية في ضمان أمن واستقرار دول القارة، فضلا عن دورها الحيوي في مواجهة التحديات المتعددة التي تواجه الدول الإفريقية، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة، مشددا على ضرورة تعزيز دور القانون والمؤسسات القضائية في التصدي للتحديات التي تهدد كيان الدول، مع أهمية العمل الجماعي لوضع قواعد دستورية إفريقية مشتركة لمواجهة التحديات.
وأعرب الرئيس عن تقديره للدور الجوهري للمحكمة الدستورية المصرية، مؤكدا أنّ الدولة حريصة على استقلال القضاء، وتعزيز دوره ومكانته، إيمانا منها بأنّ العدل هو عماد المجتمع وضمانة للأمن والسلم فيه، وأنّ دستور مصر أكد هذه الاستقلالية، وعلى حماية السلطة القضائية وحظر التدخل في شؤونها، وعلى إعلاء سيادة القانون وترسيخ قيم الحق والمساواة والإنصاف.
وذكر المتحدث الرسمي أنّ المستشار بولس فهمي أعرب عن شكره لرعاية الرئيس للمؤتمر، مثمنا حرصه المتواصل على ترسيخ استقلال القضاء، وتعظيم دور المحاكم الدستورية بوصفها ركيزة أساسية لإرساء دعائم الديمقراطية، فضلا عن إسهامها في تعزيز مسيرة التنمية.
وفي هذا الإطار، أكد المشاركون تشرفهم بلقاء الرئيس، وثمّنوا الدور الذي يضطلع به المؤتمر كأحد السبل الفعالة لتعزيز التعاون بين الدول الإفريقية في مجال القضاء الدستوري، معربين عن تقديرهم العميق للتاريخ العريق الذي تتمتع به مصر في هذا المجال، وحرصها على تبادل الخبرات النوعية مع الدول الإفريقية، والتأكيد على دور المحاكم الدستورية والعليا في الحفاظ على سيادة الدول وحماية مقدرات شعوبها خلال الظروف الاستثنائية.