د. عبدالله الأشعل

نشأت المحكمة الجنائية الدولية ويحكم عملها (ميثاق روما) في 2002؛ وبذلك تأخر القضاء الجنائي الدولي عدة عقود عن نشأة القضاء المدني الدولي ممثلًا في محكمة العدل الدولية. ونظرت المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن 32 قضية مُعظمها لحوادث في قارة إفريقيا.

بينما عُرضت قضية الإبادة الجماعية في قطاع غزة على المحكمة في أوائل العام الجاري، وهذه المحكمة لا علاقة لها بالأمم المتحدة؛ بينما محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتنظر المنازعات القانونية وحدها بشرط أن تكون بين دول.

أما المحكمة الجنائية الدولية فتختص بثلاث مجموعات من الجرائم هي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة، وجريمة العدوان، وتركز هذه المحكمة على المجرمين وليس لها علاقة بالدول، ومعنى ذلك أن الدولة غير العضو فى المحكمة والتى وقعت فيها الجريمة أو ارتكب مواطنوها هذه الجريمة تختص المحكمة بنظرها فإسرائيل ليست عضوًا فى المحكمة وتصورت عبثًا أن المحكمة غير مختصة كما قالت أيضًا الولايات المتحدة، وهما دولتان حضرتا مؤتمر روما عام 1998 ووقعتا على ميثاق روما، ثم سحبتا التوقيع فى اليوم التالي، ظنًا منهما أنَّ المحكمة غير مختصة بنظر الجرائم التي تقع في الدولة أو من الدولة غير العضو.

المحكمة الجنائية الدولية تختلف اختلافًا جوهريًا عن محكمة العدل الدولية فى جوانب متعددة، ويهمنا جانب واحد وهو أن المجرم فى محكمة العدل الدولية يتمتع بالحصانة إذا كان مسؤولًا فى مستوى مُعين، ولكن المحكمة الجنائية الدولية تنص المادة 27 من ميثاقها على أن اختصاص المحكمة يشمل أي شخص بشرط أن يرتكب جريمة من الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظرها، وفقًا للمادة الخامسة من "ميثاق روما"، وبغض النظر عن مرتبته في سلم الحكم فى بلده، وهو ذات الحكم الذي اعتمدته محاكم نورمبرج في ألمانيا التي نشأت لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين.

والطريف أن السلاح الذى ابتكرته إسرائيل الصهيونية، وهو هذا النص ونفس الجرائم يُطبَّق عليها الآن؛ فالهولوكوست الذي قامت به إسرائيل فى غزة ولبنان ومصر (سابقًا) أخطر من الهولوكوست الذي تمسكت به إسرائيل ضد الزعيم الألماني هتلر، وإذا كان الهولوكوست الألماني تمت روايته من طرف واحد هو إسرائيل، ووقع سرًا ولم يسجل بأي وثيقة، كما إن خبره أحيط بقدسية خاصة، وحُظِر على الباحثين تناوله، فإن الهولوكوست الإسرائيلي تم في العلن على مسمع ومرأى من كل العالم؛ بل إن الجنود الإسرائيليين من شدة اعتزازهم بارتكاب الجرائم سجلوا هذه الجرائم فى فيديوهات نشرت على العلن، كما أن إسرائيل دفنت في سيناء عام 1967 أكثر من 10 آلاف من الجنود والضباط المصريين أحياءً، وعبرت عن اعتزازها بهذا العمل بتسجيله في فيلم. ويعد الرواية الرسمية لإسرائيل عن جرائمها فى حرب 1967 وسمته فيلم "روح شاكيد".

ويبلغ عدد أعضاء المحكمة الجنائية الدولية 124 دولة، علمًا بأن معظم الدول الأفريقية بما فيها جنوب إفريقيا قررت الانسحاب منها واتهمتها بالإغراق في تسييس الجرائم.

والمحكمة الجنائية الدولية تتكون من مستويين من المحاكم؛ المستوى الأول الدائرة التمهدية الأولى والمستوى الثانى هو بمثابة استئناف للحكم ومعلوم أن محكمة العدل الدولية ليس فيها استئناف والدائرة التمهدية الأولى يقدم لها المدعي العام التقارير والتحقيقات الأولية التي أجراها والتى تلقاها من الأطراف الأخرى. وتحريك الدعوى أمام هذه المحكمة يتم بثلاثة طرق وفق المادة 13 من ميثاق روما الطريق الأول إحالة مجلس الأمن القضية إلى المحكمة بقرار يصدر وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ومثاله إحالة مجلس الأمن في القرار 1593 الرئيس عمر البشير ورفاقه إلى المحكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد المواطنين السودانيين في دارفور وقد ناقشنا هذا القرار فى كتابنا الصادر سنة 2009 بعنوان السودان والمحكمة الجنائية الدولية. أما الوسيلة الثانية فهي المُدعي العام. والوسيلة الثالثة هي تقديم دعوى للمحكمة من جانب دولة عضو.

وبالنسبة لإسرائيل، فقد تقدمت جنوب إفريقيا بعد انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك اتفاقية إبادة الجنس البشري لعام 1948. وقد قدمت دعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية من خمس من الدول الأعضاء بينهم دولة جيبوتي العربية بالإضافة إلى فريق قانوني دولي تقدم بتقارير ضد إسرائيل مع فريق قانوني من جنوب إفريقيا في نفس الاتجاه.

فإذا توفرت موجبات التحقيق وتوفرت أركان الدعوى طلب المدعي العام من الدائرة التمهدية الأولى أن تصدر أمرا بالقبض على المتهم لكي تحاكمه .

وإذا كانت المحكمة مختصة بنوع الجرائم وتوفرت الأدلة والوقائع فى هذه الحالة تصدر الدائرة التمهدية الأولى أو غرفة ما قبل المحاكمة المنصوص عليها في المادة 37 من ميثاق روما وغالبًا يصدر أمر القبض على المتهم وتقديمه للمحاكمة بناءً على غلبة الظن أنه ارتكب هذه الجرائم.

القضية ضد إسرائيل

طلب المدعي العام من الدائرة التمهدية الأولى منذ شهور طلبًا لغرفة ما قبل المحاكمة بتقديم اثنين من القيادات الإسرائيلية ومن حماس، رغم أن مجلس النواب الأمريكي أصدر قانونا يهدد بعقوبات على قضاة المحكمة والمدعي العام إذا أصدروا قرار المحاكمة ضد إسرائيل، ولكن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت هذا القرار يوم 21 نوفمبر 2024؛ وهو قرار تاريخي وأطلق عليه نتانياهو "اليوم الأسود" ورفضته إسرائيل والولايات المتحدة فورًا وتعهدت الولايات المتحدة بأن تُحبِط عمل المحكمة امتدادًا لموقفها المُعادي للمحكمة منذ نشأتها. وفي السنوات الأولى من عمل المحكمة هددت الولايات المتحدة بقصف قصر السلام الذي يضم مبنى المحكمة في لاهاي في هولندا.

معنى ذلك أن الولايات المتحدة تبذل كل جهدها لتأكيد إفلات إسرائيل من العقاب وإشاعة الفوضى فى العلاقات الدولية، كما اتهمت إسرائيل المحكمة بأنها ترتكب جريمة معاداة السامية، وهو اتهام يُطلق عادة على كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية، وعند التحليل فإن هذا الاتهام فضفاض وليس له محتوى موضوعى وتطلقه إسرائيل على أي تصرف لا تؤيدها.

أما رد فعل المجتمع الدولي، فقد رحبت به معظم دول العالم؛ بما فى ذلك منسق السياسات الأوروبية، وصدرت تصريحات من وزراء الدفاع والخارجية فى بعض الدول تتعهد بتنفيذ القرار مثل وزير خارجية هولندا ووزير الدفاع الإيطالى ووزير الخارجية الإيرلندي ووزير الخارجية الإسباني ونائبة وزير الخارجية البلجيكي. وبصفة عامة، فإنَّ الدول الواقعة تحت تأثير واشنطن في أوروبا لن تُنفِّذ هذا القرار. أما الدول المستقلة عن النفوذ الأمريكي فقد تعهدت بتنفيذه. ولا يحتمل هذا القرار في الواقع بالنسبة لإسرائيل، ولذلك ينحصر أثر القرار فى التداعيات القانونية والسياسية الآتية:

أولًا: أن القرار يساوي الحكم وهو إدانة إسرائيل ونتنياهو ووزير الدفاع بالذات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وسوف يدفع هذا القرار قدمًا قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. واللافت للنظر أن جميع منظمات حقوق الإنسان رحبت بالقرار وحثت على تنفيذه.

ثانيًا: يُعبِّر هذا القرار عن شجاعة القضاة والمدعي العام، وتحديهما لإسرائيل والولايات المتحدة؛ وبذلك أُعيد الاعتبار إلى هذه المحكمة، ويُتوقع أن يزيد عدد أعضائها خلال أشهر.

ثالثًا: أما آلية التنفيذ على المستوى الدولى فلا تزال عاجزة، خصوصًا فى ظل انحياز واشنطن ومشاركتها لجرائم إسرائيل؛ مما أظهر واشنطن أنها تعيق العدالة الدولية وتحبط الأمل فيها. ولذلك فإنَّ هذا القرار مفيد جدًا في أي دعوى أمام القضاء الأمريكي ضد الحكومة الأمريكية أو ضد الحكومة الإسرائيلية أمام أي من القضاء الغربي.

رابعًا: أن القرار يُسهم فى تبديد الحُجج الإسرائيلية بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأنها تطبق مبدأ سيادة القانون، وبذلك يُعد القرار انتصارًا للقانون الدولي والقضاء الدولي، ويُعيد الثقة في القضاء الدولي، وأن الذى يتحدى إسرائيل بشكل خاص يعمل لمصلحة العدالة الدولية التي أُهدرت على يد إسرائيل والولايات المتحدة.

خامسًا: هذا القرار يحرج العلاقات الإسرائيلية مع معظم دول العالم، كما إنه يًعد انتصارًا للمقاومة، لكن هذا القرار يوقف حملة الإبادة الإسرائيلية وتوحش إسرائيل مادام القتل أصبح هدفا للجنود الصهاينة.

سادسًا: أن القرار يدعم جهود طرد إسرائيل من الأمم المتحدة.

وسوف نتابع تداعيات هذا القرار التي لا تنتهي، خاصة وأن المحكمة ردت على إسرائيل والولايات المتحدة بأنها مُختصة بالجرائم التى ارتكبها نتنياهو ووزير الدفاع السابق جلانت، وأن من ضمن الدول التى رفعت الدعوى دولة فلسطين التى انضمت للمحكمة عام 2015.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ترامب يفرض رسومًا جمركية على السيارات غير الأمريكية.. وأوروبا تأسف

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع السيارات والشاحنات الصغيرة التي لم يتم تصنيعها داخل الولايات المتحدة، في خطوة أثارت ردود فعل أوروبية غاضبة، خاصة من قبل الاتحاد الأوروبي الذي وصف القرار بأنه محبط للغاية.

قرار ترامب وموعد تطبيق الرسوم

خلال تصريح صحفي من البيت الأبيض، أوضح ترامب أن السيارات المصنّعة داخل الولايات المتحدة لن تخضع لهذه الرسوم، بينما سيتم فرض تعرفة جمركية مرتفعة على جميع السيارات المستوردة من الخارج.

وزير الخزانة الأمريكي: ترامب مستعد لزيادة العقوبات على روسيا لتعزيز موقفه التفاوضيمن ليس معي فهو ضدي.. ترامب يهدد بقطع التمويل عن وسائل إعلام أمريكيةإيطاليا تبحث عن أسواق جديدة لمواجهة رسوم ترامبإثبات الجنسـ.ــية.. ترامب يوقع أمرًا يهدف إلى إصلاح شامل للانتخابات الأمريكيةترامب: ندرس المقترحات والشروط الروسية بشأن ضمان الملاحة في البحر الأسودترامب ينفي مشاركة معلومات سرية على "سيغنال" ويبحث أمن التطبيق وسط قضايا أمنية وسياسية متشابكة

وقال ترامب: "ما سنفعله هو فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على كل السيارات غير المصنّعة في الولايات المتحدة"، مضيفًا أن استيفاء هذه الرسوم سيبدأ رسميًا في 3 أبريل المقبل.

الاتحاد الأوروبي يعبر عن استيائه

من جهتها، أبدت رئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون دير لايين أسفها العميق للقرار الأمريكي، قائلة إن الاتحاد الأوروبي يأسف بشدة لهذه الرسوم الجديدة التي قد تؤثر على شركات صناعة السيارات الأوروبية.

وتُعتبر أوروبا أحد أبرز مصدري السيارات إلى السوق الأمريكية، حيث تمتلك شركات مثل مرسيدس، بي إم دبليو، فولكس فاجن، ورينو حضورًا قويًا في الولايات المتحدة، وبالتالي فإن هذه الرسوم قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وتراجع المبيعات، وتوتر العلاقات التجارية بين الجانبين.

انعكاسات القرار على سوق السيارات

يُتوقع أن يكون لهذا القرار تداعيات كبيرة على صناعة السيارات العالمية، حيث قد تضطر الشركات الأجنبية إلى نقل بعض عمليات تصنيعها إلى الولايات المتحدة لتجنب الرسوم الجمركية.

كما يُحتمل أن تتسبب هذه الرسوم في زيادة أسعار السيارات المستوردة داخل الولايات المتحدة، ما قد ينعكس على خيارات المستهلكين الأمريكيين ويؤدي إلى تقليص المبيعات.

في المقابل، يرى محللون أن هذه الخطوة قد تكون جزءًا من استراتيجية ترامب الاقتصادية لدفع الشركات إلى تعزيز التصنيع المحلي، مما يعزز الاقتصاد الأمريكي ويدعم الوظائف المحلية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة.

مقالات مشابهة

  • بعد إلغاء مادتي العربي والتاريخ من المجموع بالمدارس الدولية.. قضايا الدولة تطعن
  • مركز الهدهد للدراسات الأثرية يؤكد أحقية اليمن في اتخاذ الإجراءات القانونية لاسترجاع قطعه المنهوبة
  • جدل حول تأثير المرشحين ذوي السوابق الجنائية على الانتخابات البلدية
  • اللجنة الرئاسية لشؤون الكنائس تدعو إلى تحرك دولي عاجل لوقف الجرائم الإسرائيلية
  • ترامب يفرض رسومًا جمركية على السيارات غير الأمريكية.. وأوروبا تأسف
  • دبلوماسية ولي العهد بالقضايا الدولية.. حكمة وقيادة تعكس مكانة المملكة
  • تفاصيل الطعن على حكم إلغاء إضافة العربى والتاريخ لمجموع المدارس الدولية
  • سعيّد يدعو للقضاء على ظاهرة الهجرة غير القانونية لبلاده
  • تسريب معلومات ضرب الحوثي.. تحالف العيون الخمسة الاستخباراتي يرد ويكشف التداعيات
  • معايير مزدوجة.. هل تستهدف الجنائية الدولية أفريقيا والدول الضعيفة فقط؟