عودة: حان وقت إنهاء المغامرة بهذا البلد من أجل أهداف لا تخصه
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل قال في عظة: "سمعنا في المقطع الإنجيلي أن إنسانا دنا إلى يسوع مجربا، قائلا له: «أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» سؤال هذا الإنسان مهم، لأنه ينتظر جوابا بهدف الخلاص، لكن المشكلة كانت في سبب طرحه.
أضاف: "جاء جواب الرب بأن ميراث الحياة الأبدية يكون عبر تطبيق الوصايا حول علاقة الإنسان بالآخر. طبعا، لا يقصد الرب أن علاقتنا بالله ليست مهمة، إنما علاقتنا بالآخر تحدد علاقتنا بالله. هذا ما يؤكد عليه يوحنا في رسالته الأولى حيث نقرأ: «إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟ ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضا» (4: 20-21). يأتي جواب الشاب سريعا: «هذه كلها حفظتها منذ حداثتي»، لكن الرب يعقب: «يعوزك أيضا شيء»، وكأنه يقول له إن حفظ الوصايا منذ الحداثة لا يعني العمل بها، لذلك ينقص تطبيقها والعيش بموجبها. لقد أتى الشاب طالبا سبيل الحياة الأبدية، فكان الجواب أن الحياة الأبدية تبدأ بمحبة القريب. لم يكتف الرب بجواب نظري، بل أعطى الشاب حلا عمليا طالبا منه أن يبيع كل ما يملك ويوزعه على المساكين ليكون له كنز في السماء، ثم «تعال اتبعني»، موضحا له كيف يكنز في السماء ويربح الحياة الأبدية. جواب الرب لم يأت كما أمل الشاب الذي «حزن لأنه كان غنيا جدا».
وتابع: "المسيحية لا تجرم الغنى الذي هو عطية من الله. نجد في الكتاب المقدس عدة شخصيات غنية بارة كإبراهيم وأيوب ويوسف الرامي وغيرهم. المشكلة لا تكمن في الثروة بل في محبة المال كما يقول بولس الرسول: «محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1تي 6: 10). في مجتمعنا، الممتلكات تحدد علاقتنا بالآخرين. مثلا، عندما يتقدم شاب طالبا الزواج، لا يسأله الأهل عن علاقته بالرب، بل عما يملك، وعن عمله ووضعه الإجتماعي. كذلك من يملك ثروة يستحق الإحترام في أعين معظم الناس أكثر من المعدم. لكن الغنى ليس دائما مصدرا للفرح والسعادة إذ قد يشكل سببا للخوف والقلق. فبعض الأغنياء يصرفون العمر في تجميع الثروة والقلق من إمكانية فقدها فلا تكون مصدرا لسعادتهم أو سعادة غيرهم. يشدد آباء الكنيسة على أن كثرة الأموال تنسي الإنسان تدخل الله في حياته، إذ يظن أنها تستطيع تحقيق كل حاجاته. يقول القديس باسيليوس الكبير: «لم يخبرنا أن نبيع ما لنا لأنها أشياء شريرة بطبعها، وإلا ما كانت من صنع الله. لم يأمرنا أن نلقيها عنا كأمور رديئة بل أن نوزعها. لا يدان أحد لأنه يملك شيئا، إنما لأنه يفسد ما يملكه. لهذا، فإننا بحسب وصية الله نلقي عنا ما لنا لغفران خطايانا والتمتع بالملكوت». أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيقول: «حتى إن كنت غنيا، فالطبيب قادر أن يشفيك. إنه لن ينزع الغنى، إنما ينزع العبودية للغنى ومحبة الطمع في الربح». غنى الشاب كان مصدرا لحزنه لأنه كان عائقا دون وصوله إلى ما يصبو إليه: الحياة الأبدية. قد يظن من يقرأ إنجيل اليوم أن كلام الرب موجه للأثرياء فقط وهذا ليس صحيحا، لأن كل إنسان لديه ما يتعلق به أو يستغني به. فمن طلب ملكوت الله عليه ألا يدع شيئا يتسلط عليه بل أن يجعل المسيح وحده مبتغاه. لذا نحن مدعوون في فترة صوم الميلاد، كما في سائر أيام حياتنا، إلى التحرر من عبودية المال وسلطته، وجعل الله غنانا علنا نرث الحياة الأبدية ونؤهل لأن نقدم أنفسنا هدايا ثمينة للطفل الإلهي المتجسد من أجل خلاصنا".
وقال: "مرت منذ يومين ذكرى الإستقلال حزينة، فارغة من معناها، لأن معظم اللبنانيين يشعرون بأن وطنهم يضيع واستقلالهم يتقهقر. لبنان مكبل، ضائع، بسبب النزاعات والإختلافات والمصالح والتدخلات وعدم تطبيق الدستور وترك سدة الرئاسة خالية من رئيس هو بمثابة البوصلة والربان. قال الرب: «مرتا مرتا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها» (لو 10: 41). النصيب الصالح هو ما يجب طلبه. لذا على اللبنانيين ألا يصرفوا أنظارهم عن الأمر الوحيد الذي يحميهم وهو وجود دولة قوية عادلة، ديمقراطية، دولة الدستور والقوانين، دولة العدالة والمساواة بين المواطنين، واحترام الحقوق والواجبات. دولة يتولى جيشها القيام بواجباته دون أن يشكك به طرف أو ينتقده آخر. ولكي تتحقق هذه الدولة نحن بحاجة إلى رجال دولة يضعون مصلحة البلد فوق كل المصالح. نحن بحاجة إلى يقظة وطنية لنخلص لبنان من الكارثة. إنقاذه وحمايته تبدآن بانتخاب رئيس يحمل صوت لبنان إلى العالم، وينتزع المبادرة من كل دخيل، ويعمل مع حكومته على تصويب الأوضاع وقيادة المفاوضات ورسم خطة الإنقاذ وبناء المؤسسات وجمع اللبنانيين تحت كنف الدولة التي وحدها تحمي أبناءها وتذود عنهم. لقد حان الوقت لوقف المقامرة بحياة اللبنانيين ومصير أبنائهم."
وختم: "حان وقت إنهاء المغامرة بهذا البلد من أجل أهداف لا تخصه، وإيقاف آلة الموت والدمار. حان وقت القرار الشجاع يتخذه الأمناء لهذا البلد ويعملون على استرجاع الدور كي نستحق استقلالا نحتفل به مرفوعي الرأس، مرتاحي الضمير. فلنتكل على الله الذي لا يخذل محبيه، وعلى ذوي الضمائر الحية والإرادة السليمة".
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: الحیاة الأبدیة
إقرأ أيضاً:
الحياة لمن عاشها بعقل.. خمسٌ تؤدي إلى خمسٍ
سلطان بن ناصر القاسمي
الحياة ليست مجرد أيام تمضي ولا أحداث تتكرر؛ بل هي كتاب مفتوح يخط فيه كل إنسان قصته الخاصة، وفي "كتاب الحياة"- إن جاز التعبير- تأتي الخيارات مثل مفترقات الطرق، بعضها يضيء الدرب ويقود إلى النماء والسعادة، وبعضها ينحدر إلى ما يطفئ البصيرة ويثقل القلب بالندم.
وبين هذه الطرق، تظهر لنا تلك الخمس التي تؤدي إلى خمس أخرى، كأنَّها معادلات الحياة الدقيقة التي يجب أن نتعامل معها بحكمة ووعي. فكما أنَّ العين ترى وتفتح أبوابًا للفرح أو الحزن، فإنَّ الطمع يقود إلى الندم، والقناعة تحمل بين طياتها الراحة والرضا، وكثرة السفر تضيف إلى رصيد المعرفة، والجدل الذي لا يُحسن ضبطه قد ينتهي بالخصام.
إنَّ فهم هذه الخمس ليس مجرد ترف فكري؛ بل هو البوصلة التي تساعدنا على الإبحار في أمواج الحياة المتلاطمة. ولأن الحياة لا تُعاد، فإن استيعاب ما قد تقودنا إليه هذه الخيارات يُعد واحدًا من أعظم أشكال الحكمة التي يُمكن أن يتحلى بها الإنسان. ومن هنا، تصبح هذه الخمس علامات مضيئة، تُرشدنا إلى كيفية العيش بعقل وإدراك، بعيدًا عن التشتت والغفلة. فالحياة تُمنح لنا مرة واحدة، وما نفعله بها هو ما يُحدد قيمتنا ومعناها. فلننطلق في رحلة تأمل هذه الخمس وتأثيراتها، لنفهم كيف يمكن أن نصنع من حياتنا لوحة متقنة مليئة بالألوان البراقة.
أولًا: العين تؤدي إلى التأثير.. إن العين هي نافذة الروح وأداة الإدراك الأولى، وما تراه يمكن أن يبني أو يهدم. فعندما تُستخدم العين بحكمة لتأمل الجمال ونعم الله، فإنها تؤدي إلى شكر النعمة وتعميق الإيمان؛ حيث يصبح الإنسان أكثر تقديرًا لما يمتلكه. كما أن النظر إلى خلق الله بتأمل يعمق الفهم، إذ يقول الله تعالى: "أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" (الغاشية: 17). وعلى النقيض، إذا تُركت العين بلا رقابة، فإنها قد تنجرف نحو المحرمات، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة مثل الزنا أو الحسد. بالإضافة إلى ذلك، العين قد تتسبب في الفرح المفرط الذي يُضر بالآخرين عندما تظهر النعم أمام من يفتقر إليها. لذا، فإن غض البصر عن المحرمات ورؤية الخير بعين الرضا هو السبيل الأمثل لجعل العين وسيلة لبناء حياة مليئة بالطهارة والسكينة. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "غض البصر يحفظ القلب".
ثانيًا: الطمع يؤدي إلى الندم؛ حيث إنَّ الطمع هو آفة النفس التي تدفع الإنسان للسعي المستمر وراء المزيد دون أن يشعر بالرضا. ومن يسيطر عليه الطمع يجد نفسه عالقًا في سباق لا ينتهي مع الرغبات، مما يؤدي إلى التعب والخذلان. بالإضافة إلى ذلك، الطمع لا يقتصر على الجوانب المادية فحسب؛ بل قد يمتد ليشمل العلاقات والطموحات غير المبررة، مما يُفسد سلام النفس ويؤثر سلبًا على الروابط الاجتماعية. فالطمع يُزيل البركة من الرزق ويزرع الخصومات، ويُشوه العلاقات بين الناس. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون لهما ثالث" (رواه مسلم). لذا، فإن الرضا بما قسمه الله والتحلي بالقناعة هو السلاح الأقوى ضد الطمع، وهو مفتاح للسلام الداخلي والرضا. وكما يقول المثل: "القناعة كنز لا يفنى".
ثالثًا: القناعة تؤدي إلى الرضا.. إن القناعة هي الجوهرة التي تمنح الإنسان السعادة الحقيقية. فعندما يرضى الإنسان بما لديه، يعيش حياة هادئة مليئة بالطمأنينة؛ حيث يشعر بأنه يمتلك كل ما يحتاجه بغض النظر عن كميته. كذلك القناعة تجعل الإنسان يركز على ما يملك بدلًا من أن يحزن على ما ينقصه. والأهم من ذلك، أنها تزيد من حب الناس لمن يتحلى بها؛ حيث يصبح شخصية محبوبة بعيدة عن التنافس والحسد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"؛ فالقناعة هي مفتاح للسكينة وسبب لنشر المودة بين الناس، وهي قيمة أساسية لتحقيق الرضا النفسي والتوازن. كما أن الرضا هو جنة الدنيا التي يعيش فيها الإنسان بحالة من السلام الداخلي.
رابعًا: كثرة السفر تؤدي إلى المعرفة؛ فالسفر ليس فقط انتقالًا من مكان إلى آخر؛ بل هو مدرسة متنقلة تعلم الإنسان دروسًا لا تُقدر بثمن. فعندما يسافر الإنسان، يتعرض لثقافات مختلفة وتجارب متنوعة توسع أفقه وتزيد من إدراكه للعالم من حوله. كذلك السفر يعزز من مرونة التفكير؛ حيث يواجه الإنسان طرقًا جديدة للتفكير والحياة. كما أنه يُضيف لرصيد الإنسان خبرات حياتية تُعمق من فهمه لذاته وللآخرين. علاوة على ذلك، السفر يُسهم في تنمية الذكاء الاجتماعي من خلال التفاعل مع الآخرين وتعلم لغاتهم وثقافاتهم. يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" (العنكبوت: 20). ويقول المثل: "في السفر سبع فوائد"، ومن أبرزها المعرفة التي تُنير العقول وتُثري الأرواح، وتمنح الإنسان مرونة نفسية تجعله أكثر تقبلًا للتغيرات.
خامسًا: الجدل يؤدي إلى الخصام، وهو أخطر النتائج التي يمكن أن تترتب على حوارات غير مدروسة. فعندما يتحول النقاش إلى جدل عقيم، فإنه يُفسد العلاقات ويزرع مشاعر الكراهية والغضب بين الأطراف. والخصام الناتج عن الجدل قد يتطور إلى فجور وعداوة، وهو ما ينهى عنه الإسلام بشدة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا" (رواه أبو داود). إضافة إلى ذلك، الجدل المستمر يستهلك طاقة الإنسان العقلية والنفسية، ويُفقده التركيز على الأمور الأكثر أهمية. لذلك، فإن السعي للحوار البناء وتجنب الجدال العقيم هو المفتاح للحفاظ على العلاقات الاجتماعية وتحقيق السلام الداخلي. كما أمرنا الله تعالى: "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125).
وفي الختام.. تتجلى الحكمة في كيفية إدارة هذه المسارات الخمس؛ إذ إننا عندما نختار أن نعيش بعقل، نكتشف أن الحياة تصبح أكثر وضوحًا وتوازنًا؛ حيث ندرك أهمية توجيه حواسنا ورغباتنا نحو ما يُرضي الله ويُحقق الخير لنا وللآخرين. فلنحرص على أن نعيش حياتنا بوعي وإدراك، ونستثمر كل لحظة في بناء أنفسنا ومجتمعاتنا، لنحقق التوازن بين أفعالنا ونتائجها، ونزرع في طريقنا ما يُثمر خيرًا وسلامًا.
الحياة لمن عاشها بعقلٍ ليست مجرد رحلة؛ بل هي لوحة فنية تُرسم بالحكمة، وتُلوَّن بالإيمان، وتُكلَّل بالنجاح والسكينة، لتبقى أثرًا خالدًا في قلوب من عاشوا معنا ومن سيأتون بعدنا.