يشهد العالم اليوم سباقاً محموماً نحو التسلح الرقمي، حيث تتنافس الدول الكبرى على تطوير قدراتها التكنولوجية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والحوسبة السحابية. هذا السباق الرقمي لا يقتصر في كونه محاولة لمواكبة التطورات التقنية، بل يمثل استثمار استراتيجي في مستقبل الأمن القومي والنمو الاقتصادي، ويتجاوز ذلك ليؤثر على العلاقات الدولية وموازين القوى بين الدول، بالنظر إلى تأثير السيطرة على التقنيات المتقدمة واستغلالها كأداة في النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي.
كسائر دول العالم، تواجه الدول العربية تحديات جوهرية في مواكبة التطور الرقمي العالمي. ومن أبرز هذه التحديات ما يُعرف بـ"الفجوة الرقمية"، حيث تعاني العديد من الدول العربية من تفاوت كبير في مستويات الوصول إلى التقنيات الحديثة والبنية التحتية الرقمية مقارنةً بالدول المتقدمة. ووفقاً لتقارير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2023، فإن حوالي 45% من سكان المنطقة لا يتمتعون بوصول موثوق إلى الإنترنت، وهو ما يحدّ من قدرتهم على الاستفادة من التحول الرقمي ويعرقل جهود التنمية الاقتصادية. هذه الفجوة التقنية تنعكس أيضاً على نقص الكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع التحديات الرقمية المعقدة، إذ تُظهر الدراسات أن المنطقة العربية تعاني من نقص في الكفاءات المتخصصة، خاصة في مجالات مثل الأمن السيبراني، حيث تبلغ فجوة المهارات حوالي 3.4 مليون متخصص، وهو ما من شأنه أن يترك المؤسسات العربية عُرضة للمخاطر السيبرانية ويفاقم من هشاشة بنيتها التحتية الرقمية.
وإذا ما بحثنا في الأسباب والمُسببات، نجد بأن الإنفاق العربي على البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا لا زال ضئيلاً مقارنةً بالمعايير العالمية. فبينما تخصص الدول المتقدمة ما معدله 2.3% من ناتجها المحلي الإجمالي لهذا القطاع، تخصص الدول العربية نسباً أدنى بكثير، لا تتجاوز 0.8% في بعض الدول. هذا العجز في التمويل يجعل من الصعب على الدول العربية تطوير حلول محلية ومبتكرة للتحديات التقنية، بل ويضعها في وضعية "التابع" لتكنولوجيا الدول الأجنبية.
كما أن غياب الاستراتيجيات الوطنية المتكاملة للتحول الرقمي يشكل تحدي آخر؛ حيث أن العديد من الدول العربية تفتقر إلى رؤية واضحة وشاملة لكيفية توظيف التكنولوجيا لدعم الخطط التنموية، وهو ما يؤدي بدوره إلى تشتيت الجهود وتبديد الموارد، فضلاً عن تحولها عُرضة للتهديدات السيبرانية المتزايدة نتيجة الاعتماد المتواصل على التكنولوجيا دون وجود المعرفة والإمكانات لحماية كافية للبنية التحتية الرقمية.
ورغم كل هذه التحديات، إلا أن الدول العربية تمتلك فرص فريدة يمكن استغلالها. فالتركيبة السكانية في المنطقة العربية تُشكل أحد أهم عناصر القوة، حيث يمثل الشباب حوالي 60% من إجمالي السكان. هذه النسبة المرتفعة للشباب تفتح أبواب واسعة للاستثمار في تدريبهم وصقل مهاراتهم التقنية، وللمساهمة في الارتقاء بالقدرة التنافسية للمنطقة في سوق العمل الرقمي العالمي. إضافةً إلى ذلك، فإن مخصصات الميزانيات الحكومية السنوية لتمويل مشاريع البنية التحتية الرقمية يمكن أن تُحدث فارقاً كبيراً في الحضور الرقمي للدول العربية.
أما في سياق الاستفادة من هذه الفرص، فإن التحول الرقمي في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والزراعة يُمثل مدخلاً مهماً لإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد العربي، وتوفير فرص عمل جديدة، وتحقيق التنوع الاقتصادي. أضف إلى ذلك التعاون الإقليمي بين الدول العربية في مجال التكنولوجيا والذي من شأنه أن يسهم في تبادل الخبرات وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات المشتركة، وتنمية قدرات المنطقة على المنافسة في الساحة العالمية.
ولكي تتمكن الدول العربية من اللحاق بركب التطور الرقمي، فإنها تحتاج إلى مجموعة من الخطوات الاستراتيجية المتكاملة. أول هذه الخطوات تتمثل في تطوير منظومة التعليم، وتحديث المناهج لتركز على مهارات القرن الحادي والعشرين، مثل البرمجة وتحليل البيانات. ولا يجب الاقتصار هنا على التعليم الأكاديمي، بل أن يمتد إلى تطوير القوى العاملة المستقبلية من خلال الاستثمار في البرامج التدريبية المتخصصة لتأهيل الشباب في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، ولجعلهم قادرين على المساهمة الفعالة في الاقتصاد الرقمي الوطني.
في الوقت نفسه، يتعين على الحكومات أن تستثمر في تطوير البنية التحتية الرقمية، وذلك ببناء شبكات اتصالات سريعة وموثوقة، وتوفير متطلبات الطاقة اللازمة لدعم هذه التقنيات. كما أن توفير بيئة جاذبة للاستثمار في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا سيساهم في تعزيز الابتكار وخلق المزيد من فرص العمل. ومن جانب آخر، يُعد رفع مستوى الأمن السيبراني ضرورة مُلحة في ظل تزايد التهديدات الرقمية، ويتطلب ذلك وضع قوانين صارمة لحماية البيانات الشخصية، وبناء قدرات محلية لمواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة.
من المحاور الأخرى التي لا يمكن الاختلاف عليها هو محور التعاون الدولي والذي يُمثل ركيزة أساسية لتدعيم التحول الرقمي، حيث أن التعاون مع الدول المتقدمة في مجال التكنولوجيا وتبادل المعرفة والخبرات سيُمكّن الدول العربية من الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية. وفي هذا الإطار، يصبح من الضروري وضع سياسات مُحفزة للاستثمار في مجال التكنولوجيا، إلى جانب معالجة العقبات البيروقراطية المعيقة لنمو وتطور القطاعات ذات الأولوية، خاصة المرتبطة منها بالبنية التحتية التكنولوجية، والتعليم الرقمي، وتنمية المهارات البشرية المتخصصة.
ختاماً، السباق نحو التسلح الرقمي لم يعد خياراً مطروحاً بل بات ضرورة استراتيجية، ولا بد للدول العربية أن تضع الإرادة السياسية في صدارة أولوياتها لدفع أجندة التحول الرقمي والتقدم الاقتصادي. وبطبيعة الأمر، يتطلب ذلك توجيه الجهود والموارد نحو تحقيق الأهداف الوطنية والإقليمية، مدعومة برؤية مستقبلية واضحة واستثمارات استراتيجية وخطط تنفيذية مدروسة، لتتمكن من تجاوز التحديات والاستفادة من الفرص كشرط لتحقيق مكانة مؤثرة في الاقتصاد الرقمي العالمي.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فی مجال التکنولوجیا التحتیة الرقمیة الدول العربیة التحول الرقمی فی الاقتصاد
إقرأ أيضاً:
طلاب "سياسة المستقبل" يزورون جامعة الدول العربية
استقبلت جامعة الدول العربية وفدا من طلاب نموذج المحاكاة التي تدعمها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة المستقبل.
جاء ذلك بحضور كل من الدكتورة العميدة سلوى ثابت والدكتورة مي مجيب وكيل الكلية والدكتورة نيللي كمال المشرف على النموذج.
وكان في استقبال الوفد وزير مفوض محمود الماجد مدير إدارة التدريب وتطوير أساليب العمل، وشريف صلاح الدين المسئول عن ملف الشباب والتعاون الدولي وياسر أبو سيدو مسئول التدريب بجامعة الدول العربية.
واشتملت الزيارة على محاضرة ألقاها وزير مفوض دكتور مالك موصلي مدير إدارة الخليج العربي واليمن في قطاع الأمن القومي.
وألقى الضوء على تاريخ إنشاء الجامعة وأبرز قطاعاتها وأهم التحديات التى تواجهها، وتلى ذلك نقاشا مفتوحا مع الطلاب.
وتأتى تلك الزيارة ضمن أنشطة نماذج المحاكاة التي تتبناها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والذي يعتبر نموذج محاكاة جامعة الدول العربية من أقدمها.
وتشتمل أنشطة النموذج -إلى جانب الزيارات- التدريب الصيفي للطلاب المتميزين بجامعة الدول العربية للالمام بدورها وأبرز أدوارها خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.