لجريدة عمان:
2024-11-24@09:40:54 GMT

السلطان قابوس بن سعيد..وعُمان جديدة

تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT

السلطان قابوس بن سعيد..وعُمان جديدة

العقد الوطني

(شعبي.. أتحدث إليكم كـ«سلطان مسقط وعمان»؛ بعد أن خلفت والدي يوم 18 جمادى الأولى 1390هـ الموافق 23 يوليو 1970م. كنت ألاحظ بخوف متزايد وسخط شديد عجز والدي عن تولي زمام الأمور، إن عائلتي وقواتي المسلحة قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص. إن السلطان السابق قد غادر السلطنة، وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها.

أيها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب. كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإنْ عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي، وإني متخذ الخطوات القانونية لتلقي الاعتراف من الدول الخارجية الصديقة، وإني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون الودي مع جميع الشعوب؛ وخصوصًا مع جيراننا، وأن يكون مفعوله لزمن طويل والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا.

أصدقائي.. إني أستحثكم الاستمرار في معيشتكم المعتادة، وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة القادمة، وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به.

شعبي.. إني وحكومتي الجديدة نهدف لإنجاز هدفنا العام.

شعبي وإخوتي.. كان بالأمس ظلام، ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها.

حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق).

جلالة السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الحاكم الثالث عشر من البوسعيديين، والمولود بتاريخ 18 نوفمبر 1940م.. مخاطبًا الشعب العماني في أول صوت يسمعه منه، إذ تم تأهيله من قبل والده السلطان سعيد بن تيمور (ت:1972م) بعيدًا عن الاختلاط بالشعب. ومع ذلك؛ فإنه كان يدرس مجتمعه وشعبه، ويشعر بآماله وآلامه، ويتوق إلى تغيير الأوضاع المضطربة التي دخلت فيها بلاده منذ نهاية حكم الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني عام 1131هـ؛ أي أكثر من قرنين ونصف، شهدت عمان خلالها حروبًا طاحنةً، وانقسامات قبلية متنافسة، وتدخلات خارجية.. بل منذ عام 1913 حتى 1954م انقسمت عمان إلى نظامين: إمامي عاصمته نزوى، وسلطاني عاصمته مسقط، وقد أورثت الانقسامات تغييرًا في اسم البلاد؛ فأصبحت اسمها «سلطنة مسقط وعُمان».

نتيجة هذه الأوضاع.. ساد عمان ثالوث التخلف: الجهل والمرض والفقر، وهاجر كثيرٌ من العمانيين طلبا للرزق ولحياة أفضل. وفي الستينيات الميلادية.. للخلاص من هذه الأوضاع دخلت أفكار ثورية لا تنتمي إلى الأرض العمانية، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع، وأمام الأطماع الدولية كادت تسقط عمان في هاوية التقسيم ومرحلة من الصراع؛ لا يُعرف مداها ومنتهاها. فحانت ساعة الصفر للنهضة التي ينتظرها الشعب بفارغ الصبر، وما إن سمع العمانيون من السلطان قابوس هذا الخطاب من مدينة صلالة حتى انتفضت عمان عن بكرة أبيها من شمالها حتى جنوبها. لقد مثّل خطاب جلالته الأول «عقدًا وطنيًا»، والذي كان بمثابة الإيجاب، في حين مثّل خروج الشعب في مسيرات الولاء والطاعة القبول.

في هذا «العقد الوطني».. خاطب السلطان قابوس بن سعيد العمانيين بألفاظ المساواة والمشاركة والكرامة: (شعبي، أيها الشعب، أصدقائي، إخوتي)، من أول يوم يعلن السلطان انتهاء التمييز في عمان الجديدة، وبداية عهد يقوم على الإنسانية والأخوة والمواطنة. وأعلن فيه.. مسؤوليته قبل مسؤولية الشعب (إني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي)، (وأول هدفي أن أزيل)، (سأعمل بأسرع ما يمكن)، (وإني متخذ الخطوات القانونية). جاء السلطان إلى حكم عمان وهو مدرك تأريخها، كما أنه مصمم أن يستعيد مجدها الماضي: (كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإنْ عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى).

طور جديد لعُمان

عُمان.. ذات عمق حضاري ضارب في القدم، فحضارتها قائمة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، هذا العمق لم يكن حركة تاريخ عابرة.. بل ترك أثره على العماني، فعندما تدرس وضعه المعاصر تجد تراكمات التاريخ وضعت بصماتها عليه. والسلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- كان قارئًا جيدًا للتأريخ العماني، ومن يريد أن يبصر نجاحه في إدارة المجتمع والدولة؛ فما عليه إلا أن يقرأ ما قام به في ضوء التاريخ، لقد كان التاريخ مفتاح السر في إدارة السلطان للدولة العمانية المعاصرة.

لندرك مقدار عمل السلطان قابوس في تأسيس الدولة الحديثة؛ وعظمة ما قام به، علينا أن نقف على السمات الثقافية والحضارية للتاريخ العماني؛ والذي ينقسم إلى سبعة أطوار كبرى:

1. طور ما قبل التاريخ: يبدأ من أول وجود الإنسان على الأرض العمانية حتى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وهذا الطور على امتداده الكبير ما زالت المعلومات عنه قليلة، تنتظر مزيدا من التنقيبات الآثارية والبحوث الحضارية.

2. طور التأسيس: يبدأ مع نهاية الطور السابق لينتهي برأس الميلاد، وهو طور من أهم الأطوار العمانية؛ إذ فيه تشكلت حضارة عمان الأولى وأنظمتها الثقافية، والتي بقي بعضها إلى عصرنا.

3. طور الانقلاب الثقافي: يبدأ بالميلاد وينتهي بظهور الإسلام، وفيه تحولت عمان من العالم القديم إلى العالم الوسيط، استقبلت فيه هجرات عديدة من عرب الشمال والجنوب، وحصل فيه تحول في الأنظمة الدينية والسياسية والقبلية والثقافية.

4. طور التحول الإسلامي: يبدأ بدخول أهل عُمان الإسلام لينتهي بفتنة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي عام 272هـ، ومعروف الأثر الهائل الذي أحدثه الإسلام في العرب والعالم، وكان العمانيون ممن سارعوا للدخول فيه، وإعادة بناء مجتمعهم وفقا لأنظمته، ومن أهم ما أنجزوه في هذا الطور؛ أنهم ولأول مرة تتشكّل لديهم دولة مركزية، امتد نفوذها إلى خارج الإقليم العماني الكبير.

5. طور الاضطراب السياسي: يبدأ من انهيار الدولة المركزية، ويمتد حتى نهاية الاستعمار البرتغالي، حيث شهدت عمان تدخلات خارجية؛ عباسية وفارسية وسلاجقة وقرامطة وبرتغاليين، وتفككت عُمان إلى إمارات قبلية، لم يستطع العلماء خلاله نظم العمانيين في حكم قوي جامع.

6. طور مواجهة الاستعمار: يبدأ بقيام الدولة اليعربية، حيث قيّض الله لعُمان الإمام ناصر بن مرشد اليعربي؛ فوحّد البلاد وطرد المستعمر البرتغالي، وينتهي بنهاية حكم السلطان سعيد بن تيمور. وهو ينقسم إلى قسمين؛ من حيث القوة والضعف: العهد اليعربي الأول، وما بعد العهد اليعربي الأول، ومن حيث الأسر الحاكمة: اليعاربة وآل بوسعيد، بيد أن المعالم الثقافية والأنظمة السياسية والقبلية كانت متشابهة.

7. طور الدولة الحديثة: الطور الذي نعيشه، بدأ بحكم السلطان قابوس بن سعيد عام 1970م. لقد أدرك السلطان قابوس أن على سلطنة عمان أن تلحق بالركب العالمي، الذي خرج منذ أمد من العصور الوسطى ودخل العصر الحديث، فكان لا بد من إقامة دولة عصرية ذات مؤسسات. كان السلطان ذا رؤية واضحة مكّنته من افتتاح طور كبير في عمان، في سياق التحولات العمانية الكبرى، وعلى غرار ما قام به الإمام ناصر بن مرشد اليعربي والسلطان سعيد بن سلطان.

تجاوز نظريتي

ابن خلدون وولكنسون

عبدالرحمن بن خلدون (ت:808هـ)، في «مقدمته» قرأ الدولة وأنظمتها، وخرج بنظرية مفادها أن أعمار الدول لا تزيد عن 120 عامًا، وطبّق نظريته على بعض الدول التي قامت في العالم الإسلامي. ومن دون الدخول في تفاصيل النظرية؛ فبالإمكان أن نلحظ انطباقها على بعض الدول التي قامت بعُمان. الأولى دولة اليحمد المركزية، التي بدأت عام 177هـ بحكم الإمام محمد بن أبي عفان اليحمدي، وانتهت بعزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي عام 272هـ، استمرت حوالي 95 سنة. والثانية دولة اليعاربة المركزية، ابتدأت عام 1034هـ بحكم الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وانتهت بموت الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني عام 1131هـ، واستمرت حوالي 97 سنة.

وبعد حوالي سبعة قرون جاء المؤرخ البريطاني جون ولكنسون ليتخصص في دراسة تاريخ عُمان والأنظمة السياسية والقبلية والدينية والاقتصادية التي تعاقبت عليها. في كتابه «الإمامة في عمان» درس نظام الحكم فيها، وخرج بنظرية أسماها «دورة الإمامة»، ملخصها أن الإمامة القوية لا تقوم إلا بعد أن تكون هناك صراعات داخلية وتدخلات خارجية وانقسامات قبلية، ثم تقوم دولة قوية تستمر أمدًا حتى تحدث خلافات في أجنحة الحكم فتنهار الدولة، مخلّفةً صراعات مدةً طويلة حتى تقوم الإمامة من جديد. وبرأيي؛ أن الأمر لا يقتصر على الإمامة وحدها.. بل الأجدر أن يقال «دورة الحكم في عُمان».

لقد استوعب السلطان قابوس بن سعيد التاريخ العماني، وعمل على ألا تقع عُمان في حتمية تنظير ابن خلدون وولكنسون، ونظر إلى أن تلك الدول؛ وإن كانت قوية إلا أنها لم تشيد لها مؤسسات تحفظ استمرارها، ولذلك؛ عندما يحصل الخلاف سرعان ما تنهار، وتدخل في انقسام عميق بين تيارين متصارعين، كما حصل الانقسام الأول إلى اليمانية والنزارية بعد دولة اليحمد، والانقسام الثاني إلى غافرية وهناوية بعد دولة اليعاربة. لقد وضع السلطان قابوس ما يكفل استمرار الدولة من بعده، وانتقالها السلس إلى خلفه، وهذا ما حصل عام 2020م عندما استلم جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله وأدام مجده- مقاليد الحكم في سلطنة عمان.

وبالحديث عن ترسيخ دولة المؤسسات؛ فبالإمكان أن نرى مرحلتين كبريين ساس بها السلطان قابوس دولته:

بناء الإنسان وتوحيد الرؤية

أدرك السلطان قابوس بن سعيد بسياسته الحكيمة أن الدول لا تقوم إلا بالإنسان، فعمل على إخراجه من ثالوث التخلّف المقيت ليكون عضوًا في شعب يتشارك مع الحكومة في بناء الوطن، وأعلن منذ أول يوم وصل فيه إلى عاصمته مسقط بتاريخ 30 يوليو 1970م: (أن الحكومة والشعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد). وكما كان العمانيون محتاجين إلى الصحة والتعليم والرفاه واليسر؛ فقد كانوا كذلك بحاجة إلى أن تتوحد رؤيتهم لبناء مستقبل أفضل لوطنهم، فقد ورثت الحكومة الجديدة ثقلًا من الماضي المتشعب بالأفكار، المتشتت إلى حد الصراع، فقد وجدت الماركسية والقومية طريقهما إلى سلطنة عمان، فعمل السلطان على توحيد الرؤية بين شعبه، حتى غدا العماني نَفْسًا واحدةً أيًّا كان بلده.. بل ويحمل شعوره العماني في أسفاره.

أما مبادئ الدولة الحديثة التي استوعبها العماني فهي:- الوحدة الوطنية لا تقبل المساس، في ظل قيادة واحدة على رأسها السلطان حاكم البلاد، ولا يسمح أن تتكوّن أية قوى داخلية خارج إطار مؤسسات الدولة وقوانينها، ولا يجوز لمكونات الوطن الارتباط بأية جهة خارجية، من دون أن تنشئه الدولة أو تسمح به.

- الإسلام هو دين البلاد، ومن روحه تستمد الأنظمة والقوانين. والعربية هي اللغة الرسمية التي لا يجوز أن تؤثر عليها أية لغة أخرى.

- الدولة تقوم على التدرج في بناء المؤسسات الدستورية والقانونية والإدارية؛ بغية الوصول إلى مشاركة كافة شرائح الوطن في إدارتها، كلٌ في مجال تخصصه، وفيما يتناسب مع توجهات المجتمع العماني.

- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأن تكون العلاقة معها في أطر الاتفاقيات والمواثيق الدولية، تحت مظلة الأمم المتحدة وهيئاتها.

- التسامح وحرية الفكر والتعبير هي العقيدة الأخلاقية التي يجب أن تسود بين جميع من يقطن عُمان. والسلام والتعاون وعدم المشاركة في الحروب عقيدتها السياسية التي تتعامل بها مع الدول، وفي إطارها تسعى سلطنة عمان للمساهمة في حل النزاعات الدولية.

- عدم التنكر للمنجز العماني عبر التاريخ؛ دينيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، بما في ذلك تجارب الحكم السابقة وتطور نظرياتها السياسية.. وإنما الاستفادة من هذا المنجز ليحقق التوازن في الانتقال إلى الدولة الحديثة، وجعله هُوية تشكّل الثقافة العمانية التي تؤمن بالتعدّد في إطار الوحدة.

- التواصل الحضاري مع الشعوب، وتجنّب العزلة الدولية، عبر التمثيل السياسي، والتبادل الاقتصادي، والاستفادة من التجارب العلمية والتعليمية والثقافية، والحضور من خلال الفعاليات والمناشط الإقليمية والدولية، في كل مناحي الحياة.

- الموازنة في توزيع الثروة لبناء كل محافظات وقطاعات سلطنة عمان، عبر توزيع المؤسسات الخدمية في مختلف الولايات، وتحقيق الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لكل سكان عمان.

صوت الشعب يصل للحكومة

لقد وعد السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- شعبه بإشراكهم في بناء عمان، فصدق فيما وعد، فلم يقتصر على وجودهم العملي في مؤسسات الدولة، إلى حد أنه منع عمل الأجانب في القطاع العام، إلا للضرورة؛ عندما لا يوجد العماني المقتدر على سد الفراغ الوظيفي، وكان ذلك إجراءً مؤقتًا بترقيه في مدارج العلم واكتساب للخبرة، فيحل محل الأجنبي بالتدريج. لم يقتصر على ذلك؛ وإنما سعى منذ العقد الأول من حكمه إلى تشكيل مجلس يشرك فيه فئة من المواطنين استدعى الوضع حينها للاستفادة من رأيهم في إدارة قطاع من مهام الدولة، فصدر مرسوم سلطاني برقم (19/ 79) في21 أبريل 1979م بإنشاء مجلس الزراعة والأسماك والصناعة، وقد ورد التسبيب بإصداره: (حرصًا منّا على إشراك المواطنين في مسؤولية رسم وتوجيه المستقبل الاقتصادي للبلاد، وإيمانًا بأهمية تكاتف وترابط جميع الجهود في سبيل تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين في الحاضر والمستقبل).

لم يدم هذا المجلس طويلًا؛ فقد كانت التحولات التي أثبت فيها العماني قدراته سريعة، فصدر مرسوم سلطاني برقم (84 /81) في 18 أكتوبر1981م، بإنشاء مجلس استشاري للدولة، ليضم تحت قبّته: رجال الأعمال والمراكز الاجتماعية، وكبار مسؤولي الدولة الذين أحيلوا إلى التقاعد من الأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية، والخبرات العلمية والعملية، يُعيَّنون بمرسوم سلطاني. وكان من اختصاصاته: إبداء الرأي في القوانين الاقتصادية والاجتماعية، وفيما تعرضه عليه الحكومة من سياسة عامة في مجال التنمية، والنظر فيما يواجه القطاع الخاص المشتغل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي من مشكلات والتوصية بوسائل العلاج المناسب لها.

ويأتي عقد التسعينيات فتكتمل فيه مؤسسات الدولة بسلطاتها الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. حيث صدر المرسوم السلطاني رقم (94 /91) في تاريخ 12 نوفمبر1991م بإنشاء مجلس الشورى، وجاء في تسبيبه: (انطلاقًا من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء وتأكيدًا للنهج الإسلامي في الشورى. واستمرارًا لسياستنا في إعداد المواطنين للمشاركة فيما تبذله الحكومة من جهود في سبيل التنمية الشاملة للبلاد. ورغبةً في توسيع قاعدة الاختيار بحيث تشمل تمثيل مختلف ولايات سلطنة عمان وبما يحقق المشاركة الفعلية للمواطنين في خدمة وطنهم ومجتمعاتهم المحلية).

بتاريخ 6 نوفمبر 1996م صدر مرسوم سلطاني برقم (101/ 96)، بإصدار «النظام الأساسي للدولة»، جاء تسبيب إصداره: (تأكيدًا للمبادئ التي وجهت سياسة الدولة في مختلف المجالات خلال الحقبة الماضية، وتصميمًا على مواصلة الجهد من أجل بناء مستقبل أفضل يتميز بمزيد من المنجزات التي تعود بالخير على الوطن والمواطنين، وتعزيزًا للمكانة الدولية التي تحظى بها عمان ودورها في إرساء دعائم السلام والأمن والعدالة والتعاون بين مختلف الدول والشعوب). وفي 16 ديسمبر 1997م صدر مرسوم سلطاني برقم (86/ 97) قضى بإنشاء مجلس عمان؛ متكونًا من مجلسَي الدولة والشورى. ليكون مجلس الشورى ممثلًا للشعب العماني عبر التصويت الحر والمباشر، ويواصل مجلس الدولة الدور الذي كان يقوم به المجلس الاستشاري.

إن كانت السلطة التنفيذية قد تحددت فلسفتها واستبانت أجهزتها منذ منتصف السبعينيات الميلادية بصدور المرسوم السلطاني برقم (26/ 75) القاضي بتنظيم الجهاز الإداري للدولة، واكتملت السلطة التشريعية منتصف التسعينيات؛ فإنه بنهاية التسعينيات صدر قانون السلطة القضائية برقم (90/ 99) بتاريخ 21 نوفمبر 1999م. وهكذا اكتمل بناء سلطات الدولة الثلاث، لتنتقل الدولة إلى مرحلة جديدة.

التعددية الثقافية

شكّل لقاء السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد -رحمه الله- في جامعة السلطان قابوس بتاريخ 2 مايو 2000م.. يومًا فارقًا في مسيرة الدولة العمانية؛ حيث أعلن جلالته من صرح جامعته العريقة عن تدشين مرحلة جديدة أعقبت مرحلة توحيد الرؤية؛ وهي مرحلة التعددية الثقافية. نشطت في حقبة التسعينيات الميلادية على مستوى العالم دعوة إلى التنوع الفكري والتعددية الثقافية، وكانت سلطنة عمان مستعدة لهذه المرحلة باكتمال هيكلة الدولة فيها، فأعلن السلطان بأن (مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد من أكبر الكبائر، ونحن لن نسمح لأحد أن يصادر الفكر أبدًا، من أي فئة كانت)، وتوجه إلى المخاطَبين بقوله: (فإياكم إياكم من أحد يصادر لكم أفكاركم بأي طريقة كانت؛ أكانت دينية أو غير دينية).

أصبحت سلطنة عمان حينها مستعدة لإعادة النظر في أجهزتها الإدارية، حيث سبق هذا الخطاب في عام 1997م تغيير اسم وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مع إنشاء وزارة خاصة بالعدل. وفي عام 2002م غُيّر اسم وزارة التراث القومي والثقافة إلى وزارة التراث والثقافة، كل ذلك؛ حتى تتمكن الحكومة من توسيع تعاملاتها باتجاه التعددية الثقافية والتنوع الفكري والتسامح الديني. كما فسحت الدولة المجال لمؤسسات المجتمع المدني، حيث أشهرت بتاريخ 23 يونيو 2002م الجمعية العمانية للسينما، وفي21 نوفمبر 2004م أُعلِن قيام جمعية الصحفيين العمانية، وفي 8 أكتوبر 2006م أُشهِرت الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، وفي 25 سبتمبر 2009م أنشئت الجمعية العُمانية للمسرح.

دولة مستمرة ونهضة متجددة

مساء الجمعة 10 يناير 2020م.. رحل السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- عن هذه الحياة، رحل وقلوب العمانيين مكلومة عليه، إذ لم يكن حاكمًا عاديًّا.. بل كان مُفتَتِح طور جديد لتاريخهم، أخرج البلاد من ثالوث التخلّف، وأنقذها من التمزق الذي كادت أن تدخل فيه، وأعادها إلى الواجهة العالمية بعد غياب طويل. واليوم.. ونحن ننظر إلى خمسين سنة من حكمه الرشيد، ندرك أنه أراد ألا تقع بلاده في فخ التضعضع الحضاري، وألا تعود إلى ما كانت عليه قبله، مدركًا التحولات الكبرى في العالم، فبنى دولته على أسس تتجاوز بها ما نبَّه عليه الفلاسفة والمؤرخون من أمثال ابن خلدون وولكنسون من سقوط الدول، فكما أن متوسط عمر البشر تضاعف من خلال المعطيات المدنية، فبالإمكان أن يمتد عمر الدول ما دام أبناؤها يمدونها بأسباب البقاء، فوضع السلطان الراحل أربعة شروط موضوعية لاستمرار الدولة:

- تأهيل الإنسان العماني، وجعله يشعر بعزته وكرامته، واثقًا بقدرته على بناء بلاده؛ بالعِلم والحرية والتمكين.

- بناء دولة المؤسسات والقانون، وقد استكملها في عشرين عامًا، ثم انتقل بها بثقة إلى التفاعل العالمي من خلال التنوع الفكري والتعدد الثقافي.

- جعل السلام المذهب الذي يؤمن به العماني نحو الإنسانية، والتسامح المعتقد الذي يتعامل به مع إخوانه، لتتسع عمان الجميع؛ بمختلف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وثقافاتهم.

- التوصية بسلطان يخلفه، واعٍ بمسار التاريخ العماني، مقتدر على الإبحار بالسفينة العمانية نحو غدٍ أفضل، يتجاوز بها عواصف الزمن وتقلبات الأيام، يُحب الشعب والشعب يُحبه، قريب من نفوسهم، ويرون فيه أملهم، فكانت توصيته بـ«سمو السيد هيثم بن طارق» ليكون سلطانًا على عُمان؛ لأنه رأى فيه الضمانة لاستمرارها قوية عزيزة، رأى فيه السلطان الرحيم الذي يحتوي كل أطياف الشعب، والسلطان الحكيم الذي يحرك النفوس نحو بناء الوطن والإخلاص له، والسلطان القوي الذي يقتلع الفساد من جذوره، والسلطان الملهَم الذي يبصر مستقبل عمان، لتبقى من بعده أدهرًا تواكب فيه التقدم العالمي، فكان صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- وكانت نهضة عمان المتجددة؛ فجاء خطابه إلى شعبه بعد استوائه على عرش سلطنة عمان: (أبناء عمان الأوفياء: إن الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة، فينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه، وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر كافة الجهود، للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى، وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدولة الحدیثة بإنشاء مجلس سلطنة عمان سلطان ا ا الشعب

إقرأ أيضاً:

ملامح من تاريخ تطور التعليم في عهد الدولة البوسعيدية 1744 - 1970

يؤدي التعليم والاهتمام به دورا مهما في تطور المجتمعات وتطور وعيها وفكرها، كما ينعكس ذلك بشكل إيجابي على رصيد التراث الفكري للدول والشعوب. وتأسيسا لذلك، فقد عُرفت عمان بثرائها الفكري المتنوع في شتى فنون العلم والمعرفة، ولا أدل على ذلك من قائمة المؤلفات الكثيرة التي تزخر بها المكتبة العمانية، وقائمة العلماء الذين سطروا بإسهاماتهم العلمية وجها مشرقا للحضارة العمانية، وهو ما يقودنا إلى البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى ذلك، ومن أبرزها الاهتمام بالتعليم الذي حظي باهتمام كبير عبر فترات التاريخ العماني، لا سيما عهد الدولة البوسعيدية التي شهدت ظهور وتطور التعليم الحديث. ومن خلال هذا المقال سنرصد ملامح تطور تاريخ التعليم خلال عهد الدولة البوسعيدية انطلاقا من تأسيسها عام 1744م على يد المؤسس الإمام أحمد بن سعيد، وحتى بزوغ عصر النهضة العمانية عام 1970م. موقنين بأن ما حصل بعد ذلك من تطور كمي ونوعي للتعليم لا يمكن مقارنته بما سبقه. ولا يستوعبه حجم هذا المقال.

كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم من الروح الأمين، لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هي كلمة (اقرأ)، وبما تحمله من دلالات كبيرة، أدرك العمانيون منذ العصور الإسلامية المبكرة، أهمية التعليم، فلا غرابة أن نجد أن الصحابي الجليل مازن بن غضوبة (رضي الله عنه)، بعد أن أسلم، يقوم بتأسيس مدرسته، لتعليم الناس أمور دينهم، في مسجد المضمار الذي بناه في مسقط رأسه بمدينة سمائل. كما تردنا إشارات عديدة حول اهتمام العمانيين بالتعليم، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، مدرسة التابعي الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني الذي رحل إلى العراق وأقام بها، وتتلمذ على يد كبار الصحابة، ونهل منهم العلم، وأسس مدرسته بالبصرة ووفد إليه طلاب العلم. وهي وإن كانت خارج الأرض العمانية، إلا أن مؤسسها من عمان، وتخرج منها علماء من عمان. كما نجد من أقدم المدارس في العصور الإسلامية المبكرة، مدرسة مسجد الشواذنة في نزوى، ومدرسة آل الرحيل في صحار، ومدرسة الضرح في بهلا التي أنشأها أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة السليمي البهلوي، الشهير بابن بركة، وهو من كبار علماء القرن الرابع الهجري. ومدرستا البشير بن المنذر النزواني، ومحمد بن رواح أو روح في نزوى، إضافة إلى مدرسة موسى بن أبي جابر الأزكوي بإزكي، وغيرها الكثير. وقد تخرج من تلك المدارس العديد من العلماء والفقهاء الذين حملوا على عاتقهم بعد ذلك مهمة التعليم ونشر العلم. بل إن مصطلح «حملة العلم» أصبح من المصطلحات المعروفة عند دارسي التاريخ العماني، وهو وإن كان يحمل طابعا دينيا مذهبيا، إلا أن دلالته الاصطلاحية تبين مدى الاهتمام بالتعليم.

أما في عهد دولة اليعاربة (1624 - 1744م) فقد كان اهتمام أئمة اليعاربة جليا بالتعليم منذ عهد مؤسسها الإمام ناصر بن مرشد اليعربي؛ وفي خطوة تاريخية لاحقة شكّلت مدرسة حصن جبرين في عهد الإمام بلعرب بن سلطان (1680-1692م ) نقطة تحول مهمة في تاريخ تطور التعليم في تاريخ عمان الحديث، سواء من حيث نظام التعليم فيها وأسلوبه في ذلك العصر، أو من حيث تنوعه، بتنوع مواد التدريس فيه. وعليه، فليس من المبالغة القول إن هذه المدرسة كانت بمثابة الجامعة في وقتنا الحاضر.

أسهمت عوامل عديدة في تطور حركة التعليم، يأتي في مقدمتها اهتمام حكام عمان به، وإعطائه قدرا كبيرا من الأهمية، بل إن بعضهم كان من العلماء. أيضا يأتي عامل آخر مهم وهو الدور الذي قام به العلماء في النهوض بالتعليم، ولذلك لا غرابة أن نجد معظم المدارس التي أشرنا لها سابقا تحمل اسم العالم أو الشيخ. كما كان للاستقرار والرخاء الذي حظيت به عمان في فترات تاريخية دور في تطور التعليم.

بقيام الدولة البوسعيدية عام 1744م استمر الاهتمام بالتعليم، وبرز ذلك من خلال اهتمامهم بالتعليم وعنايتهم بالعلماء؛ فعلى سبيل المثال، كان مجلس الإمام أحمد بن سعيد يحوي نخبة من العلماء ورجال الفكر من فقهاء، وقضاة، وأدباء، ومؤرخين، وغيرهم. بل إنه كان لا يخرج إلى مكان إلا ومعه ثلة من القضاة وأهل العلم. أما ابنه الإمام سعيد بن الإمام أحمد روي عنه أنه كان شاعرا، ومحبا للشعر والأدب. وابنه السيد حمد، الذي آل إليه حكم عمان من بعده، وانتقل إلى مسقط، كان يقرب إليه أهل العلم، ويكرم منزلتهم.

وواصل حكّام البوسعيد رعايتهم واهتمامهم بالجوانب التعليمية؛ فالسيد سعيد بن سلطان (1804 - 1856م) عندما قرّر اتخاذ زنجبار عاصمة ثانية لعمان عام 1832م اصطحب معه عددا من العلماء من عمان؛ وذلك لمعاونته في تسيير أمور العاصمة الجديدة هناك، والتي كان من ضمنها التعليم، ومن هؤلاء على سبيل المثال: الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي الذي ظل هناك فترة من الزمن ثم توفي هناك، والشيخ سلطان بن محمد البطاشي، والشيخ محمد بن علي المنذري، الذي تولى رئاسة القضاء في زنجبار حتى وفاته في عهد السيد ماجد بن سعيد(1856-1870م).

جانب مهم لا يمكن إهماله عند الحديث عن تاريخ التعليم وتطوره، والحركة العلمية في عهد الدولة البوسعيدية، وأعطته بصمة خاصة، وميزة فريدة، وهو التسامح الديني الذي عرف به سلاطين البوسعيد، فكان السلاطين يستقبلون في مجلسهم العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، بما في ذلك العلماء الذين كانوا يزورون مسقط أثناء أسفارهم ورحلاتهم للهند أو أماكن أخرى، ويتوقفون في عمان، ومن أمثلة ذلك رحلة العالم هبة الدين الشهرستاني الذي جاء إلى عمان زائرا أثناء رحلته إلى الهند، فوصل مسقط عام 1913م في أواخر عهد السلطان فيصل بن تركي، وقد التقى بالسلطان فيصل وتباحث معه في العديد من القضايا، وتركت هذه الزيارة انطباعا جيدا لهذا العالم، وقد أشار لذلك في أحد كتبه الذي عنونه تيمنا بالسلطان فيصل باسم: «فيصل الدلائل في أجوبة المسائل»، وأورد في هذا الكتاب مادحا السلطان فيصل ما نصه: «سلطان عمان المفخم، جلالة الملك المعظم، فخر أمراء العرب والعجم، مثال طيب الأخلاق وحسن الشيم، حضرة السيد فيصل خان».

لم يقتصر الاهتمام بالتعليم على الأئمة والسلاطين، بل إن كبار رجال الدولة كان لهم إسهام في ذلك، فعلى سبيل المثال كان السيد سالم بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد كما يصفه المؤرخ العماني ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، فيقول: «وكان مجلسه الشريف لا يخلو من عالم فقيه، وناثر وناظم نبيه، وكان يحفظ من أشعار العرب الجاهلية والإسلامية كثيرا، مطلعا على أخبار ملوك العرب والعجم، خبيرا بسياساتهم، ويطول السمر مع سُمّاره العارفين ليذاكرهم في الأحكام الشرعية والفصاحة والعلوم النظرية وسائر العلوم التي حفظها». كما قام السيد حمد بن فيصل البوسعيدي ببناء مدرسة لتعليم القرآن الكريم في صحار، ومدرسة أخرى سميت بمدرسة صحار السلطانية، تقع إلى الشمال من قلعة صحار.

ومع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ وعلى الرغم من التحولات السياسية التي مرت بها المنطقة عموما، وعمان على وجه الخصوص، إلا أن الاهتمام بالتعليم ظل متواصلا. وشهد التعليم خلال القرن العشرين محطات تاريخية مهمة، اختلفت عن جميع المراحل السابقة، لا بد من التوقف عندها بشيء من التفصيل.

استمر التعليم القرآني أو ما يعرف بالكتاتيب مستمرا، ويكاد لا تخلو قرية أو حارة عمانية من هذا النوع من التعليم، ولم يكن لها نظام معين، وإنما المعلم أو المعلمة هم من يضعون نظام التدريس أو اليوم التعليمي، ومعظم هذه الكتاتيب تبدأ بتعليم القراءة والكتابة على الطريقة العمانية القديمة، ثم تتطور إلى إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه. وبعد هذه المرحلة ينتقل الطالب إلى المدارس الدينية التي تمثل مرحلة أعلى، ويتم فيها تدريس العلوم الدينية، كالفقه، والحديث، والتفسير، والعقيدة، إلى جانب العلوم اللغوية، ومن أمثلة هذه المدارس مدرسة مسجد الخور في مسقط أسفل قلعة الميراني، ومدرسة القلعة في نزوى في عهد الإمام محمد بن عبدالله الخليلي.

وعطفا على موضوع التسامح الذي أشرت له سابقا، فقد انعكس ذلك أيضا على التعليم، فقد كانت في مسقط، فإلى جانب المدارس الدينية التي أشرت لها سابقا، والتي كان التدريس فيها يتم على الفقه الإباضي، كانت هناك المدرسة الشافعية في مسقط، والتي عرفت بهذا الاسم لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي. الجدير بالذكر أن حضور الطلاب كان مسموحا من مختلف المذاهب الإسلامية. كما تأتي المدرسة الشافعية أحد الدلائل المهمة في هذا الجانب، بل إن هذه المدرسة تعدّ أحد أقدم المدارس التي وجدت في مسقط ومطرح، وقد عرفت بالشافعية لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي.

حمل النصف الأول من القرن العشرين بداية ملامح التطور للتعليم، ليبدأ الانتقال من التعليم الديني الذي كان سائدا إلى التعليم النظامي الحديث، وبطبيعة الحال، كان هذا التطور تدريجيا ومر بعدة مراحل، وكان مقتصرا على المدارس التي وجدت في مسقط، ومطرح. وتمثل التدرج الذي مرّ به التعليم خلال هذه الفترة في الانتقال من التعليم الديني (التقليدي) الذي كان يتم في المساجد وبعض المدارس التي أنشأها العلماء أو الأئمة، إلى التعليم شبه النظامي، وهي مرحلة كان فيها التعليم مزيجا من التعليم التقليدي والتعليم الحديث، ثم إلى التعليم النظامي الذي بدأ في مسقط بإنشاء المدرسة السعيدية عام 1940م..

أما المدرسة السعيدية بصلالة، فقد افتتحت عام 1936م، وبدأت الدراسة في مبنى مكون من ثلاث غرف، ونظام التعليم بها كان أقرب للتعليم الديني، مع تدريس مبادئ الحساب (العمليات الحسابية الأربع). وفي عام1951م تم افتتاح المبنى الجديد للمدرسة، لتكون مدرسة نظامية حديثة، أسوة بما كان عليه وضع المدرسة السعيدية في مسقط. ثم في مطرح عام 1959م بإنشاء المدرسة السعيدية بها.

شكلت مرحلة التعليم الديني جميع المدارس الدينية التي كانت منتشرة في ربوع عمان، ويمكن رصد قائمة طويلة من هذه المدارس، وكان المسجد، أو بيت الشيخ أو العالم هو مكان التدريس، وعلوم الدين واللغة هي العلوم التي تدرس بها. وعرفت مسقط العديد من هذه المدارس كان أبرزها -إضافة لما تم ذكره سابق- مدرسة الشيخ راشد بن عزيِّز الخصيبي، الذي كان يقوم بالتدريس في بيته بمسقط، ومدرسة مسجد الوكيل، ومدرسة بيت الوكيل، ومدرسة بيت السيد نادر بن فيصل البوسعيدي.

شكلت مرحلة التعليم شبه النظامي مرحلة انتقالية بين التعليم النظامي والتعليم الديني، وبدأ ملامح هذه المرحلة تحديدا، في مدرسة «بوذينة» وهو اسم المعلم التونسي الذي قدم إلى عمان عام 1915م، وعمل في التدريس بداية الأمر في مدرسة الزواوي بمنطقة مغب في مسقط، أسفل قلعة الجلالي، ومنه انتقل للتدريس في مقر استأجرته له الحكومة، وعرف باسمه. وكان يدرس بها القرآن الكريم، واللغة العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، ويعد إدخال هذه المواد في ذلك الوقت نقلة نوعية للتعليم، حيث لم تكن هذه المواد تدرّس في المدارس السابقة، كما أن نظام الدراسة كان يشمل ست حصص يوميا، وكان الدوام يبدأ من الصباح، ويستمر إلى ما بعد الظهر. كم يمكن اعتبار المدرسة السلطانية الأولى التي أنشأت عام 1928م، والثانية التي بدأ التدريس بها عام 1935م، ضمن هذه المرحلة، على الرغم من التحديث الطفيف الذي حصل في نظام التدريس بهاتين المدرستين.

بتولي السلطان سعيد بن تيمور الحكم في عمان خلفا لوالده، أبدى اهتماما كبيرا في بداية حكمه لإصلاح الأمور المالية، وحقق نجاحا جيدا في ذلك، وبعد تحسن الأمور المالية أمر بإنشاء المدرسة السعيدية في مسقط عام 1940م، كمدرسة نظامية. وقد ظلت هذه المدرسة تعمل بوتيرة متواصلة حتى نهاية عهد السلطان سعيد بن تيمور عام 1970م، دون أي تطور نوعي أو كمي للمدرسة، والحال ذاته ينطبق على المدرسة السعيدية بمطرح، وصلالة.

لجأ العديد من أبناء عمان، في ظل محدودية التعليم المقدم في مرحلة ما قبل عام 1970، إلى إكمال دراستهم خارج حدود الوطن، ورغم صعوبة الظروف، وقلة ما في اليد، إلا أن ذلك لم يكن عائقا للعديد منهم من إكمال مسيرة التعليم، موقنين بأن دوام الحال من المحال، بل إن العديد من هؤلاء قامت على أكتافهم نهضة عمان الحديثة. ولبوا نداء الوطن، عند قيام نهضة عمان الحديثة.

ختاما، لا بد من الإشارة إلى بعض الجوانب المضيئة في تاريخ التعليم، وأهمها التعليم الأهلي الذي عرفته مدينة مطرح، من خلال المدارس العديدة التي أسسها أهالي مطرح، وتميزت في تقديم تعليم نوعي، بأبسط الإمكانيات المتاحة، وما زال أهالي مطرح يتذكرون العديد من هذه المدارس. إلى جانب ذلك أسست الإرسالية الأمريكية مدرسة في مسقط، درس بها العديد من أبناء مسقط. كما أسست شركة تنمية نفط عمان مدرسة عمان للمهن الصناعية Oman Technical college عام 1967م لتأهيل الموظفين العمانيين، للعمل في مواقع الشركة المختلفة.

وبانطلاقة النهضة العمانية عام 1970م، كانت عمان على موعد مع القدر، ومع التغيير لغد مشرق، حيث أدرك السلطان قابوس -طيب الله ثراه-، أهمية التعليم في بناء الدولة العصرية، بمقولته التاريخية: «سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر».

مقالات مشابهة

  • الإمـام أحمـد بـن سعـيد .. لحظات التأسيس ودواعيه
  • السيد سعيد بن سلطان.. والتسامح الديني
  • لمحات من التحولات الاجتماعيـــــــة في عهد الدولة البوسعيدية
  • ملامح من تاريخ تطور التعليم في عهد الدولة البوسعيدية 1744 - 1970
  • "لجنة كراسي السلطان قابوس العلمية" تبحث التعاون البحثي مع 16 جامعة دولية
  • موقعة ستمبالا .. كيف ساعدت مصر الدولة العثمانية في السيطرة على تمرد اليونانيين
  • طلبة عمانيون وسعوديون يشعلون أجواء جامعة مصرية بالرقص والغناء باليوم الوطني العماني.. فيديو
  • بتكليف سامٍ.. وزيرة التربية تسلّم جائزة اليونسكو- السلطان قابوس لصون البيئة
  • بتكليف سامٍ.. الشيبانية تُسلّم جائزة اليونسكو "السلطان قابوس لصون البيئة"