السيد سعيد بن سلطان.. والتسامح الديني
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
توسعت الدولة العمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي (1806- 1856م) لتضم أراضيَ تمتد بين قارتي آسيا وإفريقيا، فتنوعت شرائح المجتمع وتعددت أطيافه وأديانه ومعتقداته، وأصبحت الإمبراطورية العمانية تضمُّ بين مدنها وقراها شعوبا من مختلف الأديان والأعراق. وتعامل السيد سعيد بن سلطان مع هذا التنوع والثراء البشري بحكمة ورجاحة رأي محاولًا الاستفادة من هذا التنوع واستثماره من أجل بناء إمبراطورية غنية اقتصاديا وقوية سياسيا وعسكريا، ويكون هذا التنوع البشري والفكري معول بناء وتعمير، فتعامل مع رعاياه بتسامح وتقدير للجميع؛ لخلق تعايش وتفاهم بين طوائف المجتمع وشرائحه، وقامت سياسته في التسامح والتعايش على عدد من المحاور والأسس، سنحاول في هذا المقال استعراض عدد منها، وتوضيح نتائج هذه السياسية وأثرها على بناء الدولة وازدهارها.
أ - التسامح الفكري: وهو آداب الحوار والتخاطب وعدم التعصب للأفكار، ومنح الحق للجميع في الإبداع والابتكار.
ب - التسامح الديني: هو التعايش بين الأديان، بمعنى حرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتمييز العنصري.
بناء على ذلك سنحاول تقصّي كيف تعامل السيد سعيد بن سلطان مع رعاياه، وما الأسس التي اعتمدها في سياسته الداخلية. وما أهم المحددات التي انتهجها في قيادته، وسيتم التركيز على الجناح الإفريقي من الإمبراطورية العمانية؛ لأن هذا الشق من الدولة شهد تنوعًا كبيرًا واختلافًا مميزًا من حيث الأعراق والأديان، وبالتالي تتضح من خلاله أهم المحددات التي انتهجها السيد سعيد بن سلطان في تسيير الإمبراطورية العمانية، ومن أهم هذه المحددات:
أولا: تعيين الموظفين
بناءً على الكفاءة:
حرص السيد سعيد بن سلطان على المساواة بين الجميع في اختيار الموظفين، فكان الاختيار على أساس الكفاءة، والقدرة العلمية والإدارية العالية، لا على أساس المذهب الديني أو العرقي أو الطائفي. وهذا ما سنلحظه من خلال استعراض أنواع الموظفين الذين عملوا في حكومته، حيث سنلحظ كيف اختلف هؤلاء الموظفون من حيث العرق والدين والمذهب، واتفقوا من حيث الكفاءة والجدارة، ومن أبرز الموظفين:
أ - الوزراء والمستشارون
حوى بلاط السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي على نخبة متميزة من الوزراء والمستشارين من مختلف الأديان والأعراق، ولقد استعان بهم في تسيير أمور الدولة، ومنهم:
-سليمان بن حمد بن سعيد بن حمد البوسعيدي: عيّن السيد سعيد بن سلطان -سليمان بن حمد رئيسًا للوزراء ووزيرا للداخلية، ونائبًا عنه أثناء رحلاته إلى عُمان في الفترة التي كان فيها أولاد السيد سعيد لا زالوا صغارا في العمر. وعرف عن سليمان بن حمد شخصيته القوية المهابة وكلمته النافذة، شارك في المفاوضات التي دارت بين السيد برغش بن سعيد وبريطانيا. - حسن بن إبراهيم الفارسي: ولد سنة 1210 هـ / 1795 م، تلقى تعليمه في بومباي بالهند فأجاد اللغة الإنجليزية، عيّنه السيد سعيد بن سلطان قبطانًا لبعض سفنه التجارية فأظهر براعة كبيرة في ذلك؛ وعلى أثر ذلك عينه أميرًا على الأسطول، وكانت قرارته تنفّذ كما لو كانت صادرة من السلطان سعيد شخصيا، ثم عينه معلما لابنه خالد. وفي عام 1237هـ / 1832 م عينه وزيرا للخارجية ووزيرا للتجارة، توفي في زنجبار أثناء حكم السيد سعيد بن سلطان.
- أحمد بن النعمان بن محسن بن عبدالله الكعبي: ولد في مدينة البصرة بالعراق عام 1789م، من أب عربي من بني كعب وأم فارسية، وحين بلغ سن الرشد انتقل إلى البحرين وفيها تلقى تعليمه، بعدها انتقل إلى شرق إفريقيا، واختير زعيما لطائفة في شرق إفريقيا، تميز بشخصيته القيادية وحسن تسييره للأمور وإجادته اللغتين الإنجليزية والفرنسية، عيّنه السيد سعيد بن سلطان قائدا للأسطول، وبعد وفاة الشيخ حسن بن إبراهيم الفارسي عينه السيد سعيد خلفا للفارسي على وزارتي الخارجية والتجارة، وأرسله في رحلة بحرية على ظهر السفينة «سلطانة» إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1840م. فكان أول سفير عربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما أرسله في سفارة أخرى إلى فرنسا. وظل الشيخ الكعبي في منصبه الوزاري حتى بعد وفاة السيد سعيد حيث أقره السيد ماجد بن سعيد على منصبه، توفي الشيخ الكعبي عام 1867 م في زنجبار.
جمادار تنغاي:
أحد أفراد الجالية الهندية، ومن المقربين للسيد سعيد بن سلطان يستشيره في الكثير من الأمور المالية والسياسية، عينه وزيرا للمالية ومشرفا على السجون، وقائدا للفرقة العسكرية التي تتألف من البلوش.
الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي:
ولد عام 1192 هـ / 1778م بقرية العلياء بوادي بني خروص، ويعد الشيخ ناصر من كبار العلماء الإباضيين في عمان، وكان السيد سعيد يقدره ويستشيره، وحين قرر السيد سعيد الانتقال إلى زنجبار اصطحبه معه، وبلغ من تقديره للشيخ ناصر بن جاعد أن أسكنه في قصر المتوني وكان مستشاره الخاص في العديد من الأمور، وظل كذلك إلى أن توفي الشيخ ناصر في المتوني عن عمر يناهز الحادي والسبعين في يوم الأحد 22 جمادى الأولى 1263هـ / 9 مايو 1778م، وافته المنية ورأسه في حضن السيد سعيد ودفن بإحرام قصر المتوني.
علي بن ناصر:
أرسله السيد سعيد نيابة عنه إلى لندن على إثر دعوة وجهتها الملكة فكتوريا للسيد سعيد لزيارتها. فأرسل السيد سعيد علي بن ناصر لينقل تحياته للملكة وحمل معه عددا من الهدايا القيمة، وأسفرت المحادثات بين الطرفين عن توقيع معاهدة تجارية، وذلك عام 1839م.
ب: الولاة:
سيف بن محمد بن عبدالله البوسعيدي:
من سمد الشأن تولى منصب الولاية لفترة من الزمن إلا أنه ترك هذا المنصب؛ ليتفرغ للعبادة فقد كان زاهدا يميل للتنسك والصلاة، لذا عرف باسم الزاهد، بنى مسجدا بسمد الشأن عرف باسم مسجد الزاهد، ودفن في قرية الشريعة من أعمال سمد الشأن، اختلف في فترة وفاته قيل إنه توفي في عهد السلطان سعيد بن سلطان، ومنهم من ذكر أنه توفي في عهد السلطان ثويني بن سعيد.
ومن ولاة السيد سعيد كذلك محمد بن شيخ، وعلي بن منصور، وعبيد الحضرمي وسليمان البلوشي وجمدار بن عبدالله البلوشي ومحمد بن عبيد وسليمان بن عبيد.
ج: القضاة:
اشتمل سلك القضاء على قضاة من كافة المذاهب الإسلامية (الإباضية، والسنة، والشيعة) وكان أكثر قضاة زنجبار من السنة، أما بمبا فكان أكثر قضاتها من الإباضية، ومن القضاة الإباضيين:
القاضي عبدالله بن مبارك بن عبدالله النزوي، والقاضي محمد بن علي بن محمد المنذري.
ومن القضاة السنة محيي الدين القحطاني قاضي الشافعية في زنجبار، والمستشار الخاص للسيد سعيد والمرافق له في العديد من أسفاره، وكان السيد سعيد يكن له عميق الاحترام والتقدير. ألف الشيخ القحطاني عددا من الكتب، وبرع في نظم الشعر باللغتين العربية والسواحلية وإليه يرجع الفضل في انتشار الشعر السواحيلي.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الغني الأموي:
ولد في مدينة براوة الصومالية سنة 1248هـ / 1833م، وفيها تلقى تعليمه ثم انتقل إلى زنجبار فتعلم على يد الشيخ محيي الدين القحطاني، وحين بلغ الثامنة عشرة من عمره رشحه الشيخ محيي الدين القحطاني لتولي منصب القضاء على المذهب الشافعي، فعينه السيد سعيد بن سلطان قاضيا على مدينة كلوة.
الشيخ محمد بن فرج الإكواني:
أحد علماء جزر القمر تقلد قضاء زنجبار وعمل في التدريس وظل بمنصبه إلى أن توفي في عهد السيد ماجد بن سعيد.
الشيخ أحمد بن سالم العلوي:
هو أحد علماء جزر القمر تلقى تعليمه في زنجبار على يد الشيخ محيي الدين القحطاني، عين إماما لمسجد الجمعة بالميناء. وتقدم العلويون الشاطريون بطلب للسلطان سعيد يتضمن تعيين الشيخ أحمد قاضيا عليهم، ووافق السلطان على طلبهم. وظل بمنصبه حتى عهد السلطان ماجد بن سعيد الذي كان يحترمه ويناديه بالوالد، وكانت أحكام الشيخ أحمد تلقى دائما القبول سواء من المسلمين أو غير المسلمين.
د: القادة العسكريون:
حرص السيد سعيد على إنشاء أسطول حربي تجاري لتدعيم إمبراطوريته، وإرساء قواعدها ودعم اقتصادها، فانتقى لهذا الأسطول قادة ذوي كفاءة عالية بصرف النظر عن توجهاتهم الدينية أو معتقدهم الفكري، ومن القادة الإباضيين محمد بن جمعة البرواني، وخلف بن ناصر المعولي، والسيد حماد بن أحمد ولد السمار البوسعيدي، أما القادة السنة عبد الله بن سليم الظاهري، وشاهو الزدجالي وشعبان الزدجالي، قائدا فرقة الزدجال في الجيش، وخميس بن وتان بن عثمان الميوبيل وهو من عرب الجزيرة العربية، درس في بريطانيا الملاحة، أتقن عددا من اللغات الأوروبية، عينه السيد سعيد قبطانا للسفينة مونتيس. سعيد قبطانا للسفينة مونتيس، كان نطاق عمله بين جزيرة مدغشقر أوروبا، أرسله السيد سعيد إلى جزيرة مدغشقر ليكون مبعوثه إليها، وممثله في عرض الزواج على حاكمة مدغشقر، وطلب المساعدة العسكرية منها في حربه ضد المزاريع.
أما القادة العسكريون على المذهب الشيعي فمنهم ناصر بن سليمان الإسماعيلي زعيم الطائفة الإسماعيلية في بمبا، عين واليا على بمبا وممباسا. وهلال بن عبدالله المدي قائد السفينة فكتوريا توفي في عهد السيد ماجد. وإلياس بن علي السينسري، ويوسف الشمسي، وقاسم بن محمد السينسري.
موظفو الضرائب:
تولى وظيفة جمع الضرائب الهنود وكان يطلق على هؤلاء الموظفين اسم «بانيان القرمنة»، ومن الشخصيات التي تولت هذا المنصب سيث وات بانيا، ثم انتقلت هذه المهمة في عام 1820م إلى سوجى توبان، ومن بعده إلى ابنه جايارام سوجي توبان. ومن البانيان الذين عملوا في تحصيل الجمارك ليدا وهو من الأشخاص شديدي الولاء للسيد سعيد حيث قالت عنه السيدة سالمة في مذكراتها «وشكرا للصديق العزيز ليدا مدير الجمارك فهو على كونه بانياني فهو شديد الولاء والإخلاص لأسرتنا».
قيادة الحرس:
تولى موسى رباعة وهو من جزر القمر، قيادة الحرس الخاص بالسيد سعيد وسميت فرقة الحرس بفرقة موسى رباعة، وظلت تحمل هذا الاسم حتى عهد السيد حمود بن محمد.
من خلال استعراض أبرز موظفي حكومة السيد سعيد يتضح لنا جليا وفيما لا يدع مجالا للشك أن السيد سعيد كان يتبع استراتيجية واضحة في تعيين موظفيه، حيث إن المعيار الأساسي لاختيار الموظف هو مدى كفاءته وعلمه وملاءمته للوظيفة، دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى.
ثانيا: توزيع السلطات بين السيد سعيد بن سلطان وبين زعماء القبائل:
حرص السيد سعيد بن سلطان على مشاركة السلطة بينه وبين الزعماء المحليين، فترك لهم السلطة المحلية فيما يتعلق بشؤون القبائل أو شؤون جماعاتهم. فستشعر زعماء الجماعات سواء العربية أو الفارسية أو الإفريقية أو الهندية أن لهم مكانة مرموقة ورأيا مسموعا لدى الحكومة، وأن السلطة الحاكمة تقدرهم وتقدر جماعتهم وتراعي خصوصيتها، وتتضح هذه السياسة في الرسالة التي أرسلها السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي إلى الزعماء المحليين في شرق إفريقيا بعد أن اتخذ من زنجبار عاصمة ثانية لإمبراطورتيه سنة 1832م، حيث قال فيها: «لأننا نحن تاركو الأوطان، وساكنون في هذه البلاد، ليس مطلوبنا إلا الراحة لمن هو محب لنا، ونسأل الله أن يريحنا وإياكم جميعا».
ومن مظاهر احترام القيادات والزعامات التي سبقت البوسعيديين في شرق إفريقيا، حين أمر السيد سعيد بن سلطان أن يقرن اسم الزعيم موني مكو حسن بن أحمد العلوي مع اسم السيد سعيد بن سلطان في خطبة صلاة العيد وصلاة الجمعة، وكما سمح للسلطان العلوي أن يصلي بجماعته صلاة العيدين.
واتبع السيد سعيد مع زعماء القبائل الإفريقية القاطنة البر الإفريقي نفس السياسية التي اتبعها مع موني مكو زعيم القبائل الإفريقية في جزيرة زنجبار في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للقبائل الإفريقية والتجمعات الطائفية المختلفة، وعين شخصا يمثل القبيلة أو الطائفة لدى الحكومة، وينقل احتياجات القبيلة ومطالبها، وأعفى عددا من الزعماء المحليين من الرسوم المفروضة عليهم، وعلى سبيل المثال أعفى سعيد بن ظنين وهو أحد الزعماء المحلين من الرسوم المفروضة عليه وكتب في ذلك رسالة إلى المسؤول عن جمع الضرائب ذكر فيها: «محبنا زيرام، إن المحب الناصح سعيد بن ظنين عنده رسالة من سابق من سمحان العشور، وكذلك مسموح على حساب العادة، لا تأخذ عليه من جميع ماله، والسلام. كتبه سعيد بيده 2 ربيع الثاني 1248هـ».
ثالثا: حضور المجالس السلطانية:
اعتاد السلطان سعيد عقد مجالس أو ما يسمى محليا بالبرزة في القاعة الكبرى بالطابق الأول من قصر بيت الساحل، أو في قصر العلم بمسقط يومي الاثنين والجمعة بالفترتين الصباحية والمسائية، ويحضر هذه البرزة السلطان ومستشاروه ووزراؤه وأبناؤه من الذكور ممن هم فوق سن السادسة عشرة، وموظفو الدولة والأعيان وكل من يرغب في الحضور من عامة الناس ومن جميع الطوائف؛ ليعرض كل فرد طلبه أو حاجته على السلطان، وكان السلطان يستمع للجميع دون أي تمييز، ويتم البت في الأمر وإعطاء كل ذي حاجة حاجته. وفي ختام الجلسة يتناول الجميع القهوة والحلوى العمانية، ثم يلقي السلطان على الحاضرين السلام، ليتوجه إلى قاعة أخرى ليلتقي بالأشخاص الذين يودون طرح قضيتهم بشكل فردي وخاص. ويصف الضابط البريطاني كيبل أحد المجالس السلطانية في مسقط سنة 1821م فيقول: «أشد ما يعجبنا في الإمام دماثة خلقه وعدم تصنعه في الحديث. إن البساطة الأبوية للشخصية العربية كانت بارزة بقوة في كل شيء يتعلق بمجلسه، وفي الديوان اليومي الذي يعقده الإمام، يجلس الجميع سواسية بغض النظر عن مراتبهم، بل الشحاتين يحضرون هذا الديوان ويجدون أذنا مصغية من الإمام لسماع شكواهم».
رابعا: حرية مزاولة التجارة
لجميع الطوائف والأفراد في الإمبراطورية العمانية الحرية في مزاولة التجارة دون تمييز أو تقييد.
ويقول إدموند روبرتس رجل الأعمال والدبلوماسي الأمريكي واصفا السيد سعيد: «إن السلطان معروف بحبه الشديد للعدالة، والتصرف الإنساني، وهو محبوب كثيرا من رعيته. وينظر إلى التجارة نظرة عادلة متحررة؛ فهو لا يكتفي بإزالة العقبات فحسب، وإنما يشجع الأجانب ورعاياه أيضا على ممارستها». ومن الأمثلة على إفساحه المجال لجميع رعاياه بممارسة التجارة وتذليل الصعاب أمامهم ما ذكره المغيري في بيان أصدره السيد سعيد إلى أهالي ممباسا جاء فيه «القاعدة أن جميع البيع والشراء الذي في ممباسا من عاج وغيره ليس ممنوعا من أهل ممباسا، فهو مرخص لهم وصاحب الفرضة لا له بيع ولا شراء، فله عشوره».
وأعفى السلطان سعيد بن سلطان التجار الهنود من الرسوم الجمركية؛ مما أدى إلى ظهور طبقة من الأغنياء تشكلت من جميع طوائف الهنود. ومن الأسر التي عرفت بالثراء أسرة جفاتجي، وبانيان القرمنة أو موظفو الجمارك الذين استطاعوا جمع ثروات من خلال عملهم في التجارة وخاصة تجارة العاج، لدرجة أن أحدهم خلف تركة تقدر 650000 جنيه إسترليني. وعمل الهنود على تمويل القوافل العربية التي كانت تتجه إلى أواسط القارة الإفريقية بحثا عن العاج، واشتغلت عدد من العائلات الهندية في تجارة الأقمشة، وبيع الأحجار الكريمة، وصياغة الذهب، وعرف عنهم مهارتهم الفائقة في الصياغة.
خامسا: حرية ممارسة الشعائر الدينية
نهج السيد سعيد بن سلطان سياسة السماح لكل طائفة دينية بممارسة دينها بالطريقة التي تناسبها. وفي ذلك يقول إدموند روبرتس الذي التقى بالسيد سعيد بن سلطان سنة 1833م «إن جميع الأديان في المناطق التي يهيمن عليها السلطان، لا تحظى بالتسامح فحسب، وإنما تتمتع برعاية صاحب السمو نفسه».
سادسا: حرية التقاضي
أصدر السيد سعيد بن سلطان أوامره بحرية التقاضي بين جميع المذاهب كل على حدة، حيث يحق لكل فرد التقاضي وفقا لمذهبه. ودعم قراره هذا بإصداره مرسوما سلطانيا يقضي بأن لكل دين ومذهب حرية التقاضي والرجوع إلى من هو أعلم من جماعته. وجاء نص المرسوم على النحو التالي: «من سعيد بن سلطان إلى جناب كافة ربعنا بحال القضاة، كل من حكم وأخطأ يرجع إلى سؤال إلى من أعلم منه، كل مذهب يتبع مذهبه، هذا ما جرت العادة من قديم بذلك والسلام. 2 ربيع الأول سنة 1261 هـ».
وسمحت الحكومة البوسعيدية للجماعات باختيار القاضي الذي يرونه مناسبا، وكان السيد سعيد يعين في هذا المنصب من تختاره جماعته للقضاء فيما بينهم. فحين طلب الشاطريون تعيين الشيخ أحمد بن سالم العلوي قاضيا عليهم، وافق السيد سعيد على طلبهم.
وترك السلطان البوسعيدي الحرية لرعاياه فيما يتعلق بعرض القضية فمن يفضل الذهاب إلى بيت القاضي لعرض قضيته فله ذلك، ومن فضل عرض القضية على السيد سعيد شخصيا فله ذلك. وكانت عدد من القضايا تعرض على السيد سعيد أثناء المجالس السلطانية ببيت الساحل أو في قصر العلم ليبت فيها.
سابعا: عدم تعريض الرعايا للمجازفة الاقتصادية
حين قرر السيد سعيد بن سلطان زراعة القرنفل واعتباره المحصول الأساسي في زنجبار وبمبا، كان المشروع في بدايته مجرد تجربة اقتصاديا قابلة للنجاح أو الفشل؛ لذا وخوفا على فشل المشروع أمر السيد سعيد رعاياه من العرب فقط في زنجبار وبمبا وألزمهم باستبدال كل شجرة جوز الهند التي يملكونها بزراعة ثلاث شتلات من القرنفل، أما باقي رعاياه فهم غير ملزمين بذلك ولهم الحرية في زراعة أشجار القرنفل إن شاءوا ذلك.
النتائج المترتبة على سياسة التسامح:
ترتب على السياسة التي اتبعها السلاطين البوسعيديون في جميع أرجاء الإمبراطورية العمانية القائمة على روح التسامح انتشار الإسلام بين الكثير من القبائل الإفريقية في أوغندا، وأعالي نهر الكونغو، ورواندا، وبروندي، وتنجانيقا (في تنزانيا الحالية)، ونياسا (ملاوي حاليا)، وزامبيا، وموزمبيق. فلقد لامست وعايشت هذه القبائل ما للإسلام من روح المحبة والتآخي والتسامح. ولم ينتشر الإسلام بين هذه القبائل بقوة السلاح، بل بجمال المحبة والتسامح واحترام الآخرين.
وللتجار العمانيين دور بارز في نشر الإسلام عن طريق التحاور والإقناع، ومنهم الشيخ أحمد بن إبراهيم العامري الذي كانت له معاملات تجارية في أوغندا، وكانت له مع ملك أوغندا قصة شيقة، ففي إحدى المرات التي كان فيها التاجر العماني أحمد العامري في أوغندا من أجل بعض أعماله التجارية، وذلك في سنة 1843م صادف وجوده احتفالا لملك أوغندا فحضر العامري هذا الاحتفال فّإذا به يتفاجأ أن الاحتفال عبارة عن تقديم قرابين بشرية للأصنام التي يعبدونها حيث يتم اختيار أفضل شباب المملكة صحة وقوة ويتم قتلهم بوحشية كبيرة ليكونوا قربانا لآلهتهم، لم يتمالك الشيخ العامري نفسه فقام من فوره وقال للملك سنا Sunna الملقب بالكباكبا: «يا أيها الملك إن هؤلاء الرعايا الذين تسفك دماءهم كل يوم بغير حق إنما هم مخلوقات الله سبحانه وتعالى الذي خلقك وأنعم عليك بهذه المملكة». ونجح العامري بعد مناقشته للملك أن يقنعه بدخول الإسلام، واستطاع تحفيظه أربعة أجزاء من القرآن الكريم، ولأن الناس على دين ملوكها فبدخول الكباكبا في الإسلام دخل العديد من سكان مملكته في دين الله تعالى.
وممن كان لهم دور كبير في نشر الإسلام الشيخ خميس بن جمعة فقد عمل على دعوة الملك موتيسا الأول (1856 - 1884م) إلى الإسلام ونجح في إقناعه، كما نجح في أقناع ملك إقيلم بنيو الملك كابريجا في الدخول في الإسلام. وللشيخ سليمان بن زاهر الجابري دور جلي في نشر تعاليم الإسلام في أوغندا، وكان للشيخ عبد الرحمن بن عبيد بن حمود ممثل السيد برغش في بلاط الملك كاباريجا ملك بنيور، دور بارز في نشر الإسلام وبناء المساجد في أوغندا وأواسط إفريقيا، وساهم الشيعة كذلك في الدعوة الإسلامية حيث بنى زعيم الطائفة الشيعية في زنجبار أغا خان مدارس إسلامية في البر الإفريقي، وعين عددا من الدعاة لنشر الإسلام بين الأفارقة. أثرت روح التسامح على السكان في شرق إفريقيا بأن جعلتهم يتوجهون إلى مفردات الثقافة الإسلامية العربية في معيشتهم ومظاهر الحياة كالملبس والمسكن والمأكل والمشرب، فانتشرت الثقافة العربية الإسلامية وطغت مفرداتها على جميع العناصر السكانية. وصاحب انتشار الإسلام انتشار اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم والعبادات وخاصة الصلاة، عدا أنها لغة الدولة الرسمية والمكاتبات الحكومية. ونتيجة لهذا الامتزاج والتلاحم اتسع نطاق اللغة السواحلية وهي عبارة عن امتزاج لغة قبائل البانتو الإفريقية واللغة العربية. فأجاد الكثير من الأهالي التحدث باللغتين العربية والسواحيلية، وشمل نطاق اللغة السواحيلية كل شرق إفريقيا وتوغلت إلى ملاوي والكونغو وروندا وبوروندي وجنوب السودان.
نجحت سياسة التسامح التي انتهجها السيد سعيد بن سلطان في إيجاد مجتمع متلاحم متراحم مترابط، وأدت هذه السياسة إلى ازدهار الإمبراطورية العمانية فكانت في عهده في أوج قوتها السياسية والاقتصادية، وكان الأسطول العماني القوة الحربية الثانية في المحيط الهندي، أما الاقتصاد العماني خلال فترته فكان من أقوى الاقتصادات العالمية، فحرصت جميع الدول القوية في تلك الفترة على توقيع الاتفاقيات التجارية معه، وتعيين ممثلين سياسيين وتجاريين عنها سواء في مسقط أو زنجبار.
وهذا الازدهار السياسي والاقتصادي أدى إلى ارتفاع مستوى الدخل الفردي فظهرت القصور والبيوت الفخمة، وظهر الاهتمام في مجال الثقافة والتعليم فبنيت المدارس وظهرت بعد ذلك المطابع والجرائد، وتواصل علماء عمان وشرق إفريقيا مع غيرهم من علماء العالم، وظهرت ثقافة السفر بغرض السياحة والتعرف على ثقافة الشعوب. وظهر الاهتمام بالهندام وآداب طاولة الطعام، كل مظاهر الغنى والترف هذه جعلت العديد من المؤرخين يصفون فترة حكم السيد سعيد بن سلطان بأنها العصر الذهبي للإمبراطورية العمانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سعید بن سلطان ا فی شرق إفریقیا السلطان سعید نشر الإسلام الشیخ أحمد بن عبدالله سلطان على العدید من فی أوغندا عهد السید سلیمان بن فی زنجبار محمد بن بن سعید من خلال بن محمد عددا من أحمد بن بن عبد فی نشر بن حمد علی بن عدد من حمد بن
إقرأ أيضاً:
لمحات من التحولات الاجتماعيـــــــة في عهد الدولة البوسعيدية
قبل حكم اليعاربة، عانت عمان من تفكك سياسي وصراعات داخلية، بالإضافة إلى الاحتلال البرتغالي الذي استمر لأكثر من قرن. تصف المدونات عهد الإمام ناصر بأنه: «دانت له جميع البلدان وطهرها من البغي والعدوان... وأظهر فيها العدل والأمان وسار في أهلها بالحق والإحسان». وازدهرت الزراعة بفضل شق الأفلاج، وتطورت التجارة البحرية، مما جعل عمان مركزًا تجاريًا إقليميًا. هذا التحول أدى إلى تحسين مستوى المعيشة وتقليص الفجوات الاجتماعية.
لكن أواخر عهد اليعاربة شهد تدهورًا بسبب الصراعات الداخلية والحروب الأهلية التي استمرت لأكثر من ثلاثين عامًا، ما أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وظهور حالة من الفوضى. مع ظهور الإمام أحمد بن سعيد، بدأت عمان تستعيد استقرارها. وصفه الشيخ نور الدين السالمي قائلاً: «وكان أحمد بن سعيد صاحب همة عالية ومطلب سام وجرأة وإقدام، فصار ملك عمان كله إليه... ودانت له القبائل وسكنت الحركات وأطفأ كثيرًا من الفتن».
ترتيب السلطنة ومفهوم النهضة
الإمام أحمد بن سعيد، أول حكام الدولة البوسعيدية، وصفه المؤرخ ابن رزيق قائلاً: «رتب قواعد السلطنة أحسن ترتيب، وهذبها بأبلغ تهذيب». وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، نُقلت العاصمة من الرستاق، وكان لهذا التحول أثر كبير على الجوانب الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن تنشيط التجارة البحرية عبر ميناء مسقط. وصف ابن ماجد (ت: 906هـ) هذا الميناء قائلاً: «لم يكن في الدنيا مثله، إن له أشاير، وفيه خصائل لم تكن في غيره... وهو بندر عمان من العام إلى العام».
في القرن العشرين، استُخدم مصطلح «النهضة» في عمان بطريقتين: الأولى لوصف النهضة التي ظهرت عام 1913م، والثانية في عام 1970م، لوصف التغيير والتحديث الذي شهدته عمان في عهد السلطان قابوس بن سعيد. في بيانه الأول، قال السلطان قابوس- طيب الله ثراه: «هذا التغيير بداية لعهد جديد متنور ورمز لعزمنا أن يكون شعبنا موحدًا». كان ذلك إعلانًا لعهد جديد من التغيير والتطوير الشامل الذي انعكس على كافة مناحي الحياة. وقد ورد في إحدى المخطوطات التي توثق لحظة تولي السلطان قابوس - طيب الله ثراه- الحكم: «وهذا السلطان قابوس دانت له قبائل عمان جميعهم، من منطقة مسندم وهرمز إلى جزيرة مصيرة، إلى ظفار ومتعلقاتها، فأوسع الناس عطاءً وعفوًا، وعاد كل عماني من الخارج، ودرت خيرات عمان من ثمار ونفط ومعادن، حتى فاضت البيضاء والصفراء».
كانت الجولات وسيلة فعالة استخدمها السلاطين للتواصل المباشر مع الشعب. كان السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد (حكم من 1784-1792م) من أبرز القادة الذين نهجوا هذا النهج، حيث يقول الشيخ نور الدين السالمي في تحفة الأعيان: «كان يطوف عمان باطنة وظاهرة، ثم يأتي على الجوف (الداخلية) والشرقية، يصنع ذلك مرتين في السنة، يتفقد الممالك والرعايا، وحصلت له في القلوب هيبة ومحبة». هذا النهج تم استعادته في عهد السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الذي اعتمد «الجولات السامية» كجزء من أسلوب حكمه، مما عزز التواصل المباشر بين القيادة والشعب وساهم في ترسيخ الأمن والاستقرار.
التركيبة السكانية والأوضاع الاجتماعية
لم تعرف عمان الإحصائيات السكانية بشكل رسمي إلا بعد قيام النهضة في عام 1970م. يعود ذلك إلى غياب المؤسسات المتخصصة في الإحصاء قبل هذه الفترة، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي سادت البلاد. كما أن هناك بعض المواقف الفقهية التي قد تكون ساهمت في غياب الإحصاء، حيث يعكس أحد الأسئلة الموجهة إلى الإمام محمد بن عبدالله الخليلي حول إحصاء النفوس موقفًا متحفظًا، يشير إلى تحفظ ديني أو ثقافي حول عملية الإحصاء في تلك الفترة، وإن لم يكن من الممكن التثبت من مدى تأثيره على الواقع العملي.
هذا الغياب للإحصائيات المحلية حال دون رصد التغيرات الاجتماعية بشكل دقيق. ومع ذلك، ظهرت بعض الإحصائيات التقديرية، لكنها لم تكن من صنع أهل البلد، بل جاءت من المؤسسات الأجنبية، وتحديدًا حكومة بومباي البريطانية. كون الإحصائيات البريطانية المصدر الوحيد المتوفر يجعل من الضروري التعامل معها بحذر، فهي تقدم صورة تقريبية للوضع السكاني، ولكن لا يمكن التسليم بدقتها.
أحد الأمثلة على ذلك هو تقديرات الكابتن مايلز لسكان عمان في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ومع ذلك، ركزت هذه الإحصائيات بشكل أساسي على الرجال القادرين على حمل السلاح، متجاهلة فئات مهمة من المجتمع مثل النساء والأطفال، مما يعطي صورة ناقصة عن التركيبة السكانية الحقيقية.
وفق التقديرات البريطانية، بلغ عدد سكان عمان في عام 1930م حوالي 500 ألف نسمة، منهم 12 ألفًا في مسقط ومطرح. وفي عام 1906م، قدرت الأعداد بأقل من نصف مليون. وهناك بعض الإحصائيات المتعلقة بعدد الأجانب في عمان في عام 1765م بحوالي 1200 شخص، بينما ارتفع العدد في عام 1870م إلى حوالي 2000 شخص، معظمهم تجار يعيشون في المدن الساحلية. يعكس هذا التنوع الثقافي أهمية عمان كمركز تجاري، حيث كانت المدن الساحلية مثل مسقط تشهد نشاطًا اقتصاديًا حيويًا وجذبًا للأجانب.
كان لوجود التجار الأجانب في الموانئ تأثير ليس فقط اقتصاديًا، بل اجتماعيًا أيضًا. فقد كانت المنسوجات الهندية جزءًا من الهوية والمكانة الاجتماعية، لا سيما العمامة الكشميرية التي ذكرها ابن رزيق، حيث كانت رمزًا للوجاهة والتأثير الاجتماعي. يُذكر أن أحد الشخصيات المؤثرة كان لا يتعمم إلا بالشالات الكشميرية.
وحول الحركة العمرانية والاجتماعية في مسقط في منتصف القرن العشرين، قدم سيف بن ناصر اليعربي وصفًا للمدينة قائلا: «مسكد -مسقط- بها قصور عالية، ومدرسة سلطانية، ومساجد عامرة، وسوق معمور يباع فيه الصالح والطالح. وبها سكان من الأهالي والأجانب، إلا أن الأجانب لهم الحظ الوافر». يعكس هذا الوصف تنوع المجتمع وتطوره.
ولم تكن عمان بمنأى عن الصراعات السياسية. خلال القرن التاسع عشر، أدت النزاعات على السلطة إلى استنزاف الموارد وتدهور الأحوال. يصف ابن رزيق هذه الفترة بقوله: «وأخافوها خوفًا شديدًا، باصطلام الأموال غصبًا»، في إشارة إلى نهب الأموال واستنزاف الموارد. كما يصف الشيخ علي بن مسعود العبادي الأثر المدمر للحروب قائلا: «خُربت البلاد وشُردت العباد، وقُتل رجل، ويُتّمت أطفال، وحُرقت المنازل والحروث، وخُشيت النخيل».
التحديات الاجتماعية والصحية والاقتصادية قبل عام 1970م
شهد القرن التاسع عشر خطوة مهمة في المجتمع العماني، حين أصدر السلطان تركي بن سعيد عام 1871م بيانًا يقضي بمنع تجارة الرقيق في جميع أنحاء سلطنة عمان. وفي منتصف القرن العشرين، واجه المجتمع العماني تحديات فكرية، حسب التصريح الذي أصدره السلطان سعيد بن تيمور، كان أبرزها انتشار الأفكار التي وصفها بـ«الشيوعية». وأكد حينها ثقته بوعي المجتمع قائلا: «إننا مطمئنون تمام الاطمئنان بأن لدى أهل بلادنا من الحصانة الدينية ما يكفي لرد مثل هذه الدعايات».
أما التحديات الصحية، فقد أنهكت المجتمع العماني، لا سيما في القرن التاسع عشر الميلادي وجزء كبير من القرن العشرين، وكان من أبرزها انتشار الأمراض المعدية. من بين الأوبئة التي وثقتها المصادر العمانية، ظهر الطاعون عام 1236هـ، وانتشر في السند والهند وبلاد الإنجليز والفرنسيس. وبسبب نقص الخدمات الصحية، قضت هذه الأمراض على جزء كبير من المجتمع العماني. وقد أرّخ عامر بن علي العبادي لعدد المصابين في نزوى وحدها بحوالي 900 نفس، قائلا: «عاش منهم أقل من النصف، فبقيت المنازل بعدهم خاوية، وديارهم خالية».
مع دخول المنتجات الأوروبية إلى الأسواق العمانية، شهدت الحرف التقليدية تراجعًا ملحوظًا. يقول صاحب نهضة الأعيان: «لما كثرت منسوجات أوروبا وجُلبت إلى عمان، قصرت همة النساجين في عمان، وراجت المنسوجات الأوروبية». أدى هذا التغير إلى تراجع الاقتصاد المحلي وحرف حركة المجتمع العماني عن مسارها الطبيعي. وفي 26 من ذي القعدة 1362هـ، شهدت عمان أزمة اقتصادية حادة أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية. «بلغ سعر بهار السكر الزين 180 قرشًا، والليمون البهار 775 قرشًا، بينما وصل سعر التمر الباطني إلى 120 قرشًا والعماني إلى 180 قرشًا. كما ارتفعت أسعار الثياب، في حين سجل سعر الصرف 245 روبية مقابل 100 ريال». في ظل هذه الظروف، كان أهل البلاد يقدمون للواحد كيسًا من الحنطة يوميًا لمواجهة الأزمة، ما يعكس حجم المعاناة وشدة الاعتماد على الموارد المحدودة في تلك الفترة.
وفي 1943م، تأثرت عمان بتداعيات الحرب العالمية الثانية، حيث انقطع الأرز عن البلاد، مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية. في تلك الأثناء، دعا السلطان أهل عمان إلى «الزراعة واستخراج فوائد الأرض»، في محاولة لتعزيز الاكتفاء الذاتي وتأمين احتياجات السكان في ظل الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب. وتعكس رسالة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، التي قال فيها: «من اعتمد على زاد عدوه طال جوعه»، رؤيته العميقة لأهمية الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الموارد المحلية، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية.
على الرغم من التحديات الاقتصادية، كان هناك تفاوت كبير في الدخل بين الدولة وبعض الشيوخ. يذكر سعود بن علي الخليلي: «إن دخل دولة سعيد بن تيمور (ت: 1972م) لم يكن يتعدى 50 ألف جنيه إسترليني، في حين أن دخل ثلاثة من شيوخ داخلية عمان كان يوازي دخل الواحد منهم هذا المبلغ أو أكثر». يعكس هذا التفاوت حجم الفجوة الاقتصادية داخل المجتمع. ورغم ذلك، برزت مواقف تضامنية في فترات الأزمات التي تعرضت لهم عمان، كما حدث في عام 1870م، عندما مرت عمان بأزمة مالية خانقة. حينها بادر العديد من رجال الدولة وأهل الأموال إلى بيع ممتلكاتهم دعمًا للدولة، ومن بينهم الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، الذي باع «أمواله الكائنة في بلدة بوشر، وما له في هذه البلدة من خراب وعمار، بأكثر من سبعة آلاف قرش»، من أجل «عز الدولة».
التعليم والثقافة
يُعد التعليم إحدى الركائز الأساسية للنهوض بالمجتمع، ولم تعرف عمان التعليم النظامي بشكل واسع إلا بعد ظهور المدرسة السعيدية في مسقط. تطور التعليم بشكل متسارع بعد عام 1970م. وقد انتقد العديد من العلماء ورجال الفكر تأخر التعليم في عمان، إذ يقول أبو مسلم البهلاني (ت: 1921م) إن الجهل كان من أسباب معاناة عمان، قائلا: «فإن عمان لم تسقط هذه السقطة إلا من جهة الجهل... وبودّي لو ساعدني العلماء على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعلم».
في ظل تراجع التعليم، كانت مسقط تشهد بعض التغيرات الثقافية. بدأت تتشكل بوادر لدخول السينما إلى عمان في فبراير 1913م، عندما قدم السيد بيانكر (Batanker) من بومباي إلى مسقط لتركيب مصابيح كهربائية لقصر السلطان فيصل بن تركي. أثناء زيارته، جلب معه جهاز عرض سينمائي، لتكون هذه بداية تعرف عمان على هذا الفن الجديد.
أثرت النزاعات السياسية في القرن التاسع عشر الميلادي على الإنتاج الثقافي. يقول ابن رزيق عن ديوان الشاعر سيف بن سليمان المعولي: «شهدت أيام حياته كتابًا بخط يده، فيه حكايات وأشعار، وقد رقم فيه نبذة من شعره. وقد سمعت أن هذا الكتاب صار في أيدي عتوب البحرين، وأظن أن أحدهم قد سرقه فباعه عليهم». الوقف وأثره الاجتماعي
الوقف يمثل جانبًا مهمًا من التنظيم الاجتماعي، ويعكس التعاضد والتكافل في المجتمع العماني. رغم رمزيته الدينية، كان دوره الاجتماعي أكثر وضوحًا وتأثيرًا. الوقف في جوهره تعبير عن إحساس عميق بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الفئات الضعيفة والأقل حظًا. تاريخيًا، ارتبط الوقف في عمان ارتباطًا وثيقًا بالأفلاج، التي كانت عصب الاقتصاد الزراعي.
من النادر أن تجد فلجًا في عمان لا يحتوي على حصص موقوفة للخدمات الاجتماعية، مثل تمويل المساجد، والمدارس، وطلبة العلم، إلى جانب توفير الدعم للغرباء، السائلين، والمرضى. لم يقتصر دور الوقف على الخدمات الاجتماعية، بل امتد ليشمل دعم التعليم، واستقبال الضيوف، وصيانة الحصون والأسوار. يعكس هذا الدور الاجتماعي للوقف وعيًا عميقًا بأهمية التضامن والتعاضد. تتجلى هذه الأهمية في كمية الوثائق الوقفية والنصوص التاريخية التي تسجل مختلف أوجه الوقف وأغراضه.
مع دخول عمان عصر النهضة بعد 1970م، بدأت ثقافة الوقف تتراجع تدريجيًا. لم يعد الناس يحرصون على الوقف كما كان أسلافهم يفعلون. في المقابل، ظهرت مفاهيم جديدة للتضامن الاجتماعي، تمثلت في تأسيس الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي لعبت دورًا مهمًا في تقديم الدعم والمساعدة للمحتاجين.
ملامح الشخصية العمانية
قدم الشيخ نور الدين السالمي وصفًا دقيقًا للشخصية العمانية في خطابه للقنصل البريطاني عام 1913م، حيث قال: «لا تظن دولتكم أن أهل عمان قوم أغبياء جهلاء أعراب لا يعرفون قانونًا ولا يحسنون عبارة، فإنهم قوم أذكياء، حلبوا الدهر شطره، وذاقوا حلوه ومره، وعرفوا دواعي الرقي والعمران، وسياسات الدول وغوايلها». هذا التوصيف يعكس مدى وعي العمانيين وفهمهم لمجريات الأمور من حولهم، وهي صفات لاحظها أيضًا الضابط البريطاني في البحرية ريموند ولستد، الذي قال في عام 1835م: «اعتاد أهل عمان على الاستغناء عن الأمم الأخرى، فهم فخورون بأنسابهم، وبأرضهم، وبالحرية التي يعيشونها». كما يتجلى هذا الاعتداد بالنفس في المثل الشعبي: «قحمة في سيح ولا منة من شيخ»، الذي يبرز اعتماد العمانيين على أنفسهم واعتزازهم بكرامتهم.
هذا الاعتزاز بالنفس يظهر أيضًا في وصف الأزكوي، صاحب كتاب كشف الغمة، الذي قال: «وهكذا طبع أهل عمان... لهم الهمم العالية، والنفوس الأبية، لا ينقادون لسلطان، ولا يقرون على هوان»، مما يوضح ميلهم للدفاع عن حقوقهم بشراسة. هذه الصلابة لم تمنعهم من الانفتاح على الوافدين والتعامل معهم بكرم واحترام. في هذا الإطار، وصف ناصر بن سالم البوسعيدي أهل عمان قائلا: «وأهلها -عمان- أهل قناعة عن غيرهم، يحبون الغريب على سائرهم، ويحسنون إليه ويحبون جيرته»، مما يعكس طبيعتهم المتسامحة وقدرتهم على التعايش مع الآخر.
وللمرأة العمانية دور محوري في المجتمع بمختلف جوانب الحياة. تقول موسوعة لاورس الفرنسية (1870م): «العمانيات يعشن مع الرجال على قدم المساواة، وهو أمر غير موجود في أي مكان آخر...». وقد برزت شخصيات نسائية مثل عائشة بنت راشد الريامية في عهد اليعاربة، وموزة بنت الإمام أحمد، وجوخة بنت محمد بن الإمام أحمد، حيث لم تكن هؤلاء النساء مجرد رموز اجتماعية، بل لعبن أدوارًا حقيقية في صنع القرار، مما يؤكد مكانة المرأة العمانية كشريك أساسي في بناء المجتمع.الهجرات الداخلية والخارجية
الموقع الجغرافي لعمان، الذي يطل على المحيط الهندي ويقع عند تقاطع طرق التجارة البحرية القديمة، كان له أثر عميق في تشكيل شخصية الإنسان العماني. هذا الموقع المميز جعل العمانيين روادًا للآفاق، حيث جابوا البحار وعبروا القفار، واستقروا في بلدان مختلفة. وبالرغم من أن الهجرة جزء طبيعي من حركة المجتمعات، فإنها لعبت دورًا محوريًا في تشكيل النسيج الاجتماعي العماني، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
كانت الهجرات الداخلية مستمرة في عمان لأسباب اجتماعية واقتصادية. تنقلت الأسر من الصحراء إلى القرى والبلدان، لا سيما في مواسم القيظ، حيث تتوفر الواحات والموارد المائية والزراعية. كما شهدت عمان حركة تنقل من الداخل إلى المناطق الساحلية بهدف التجارة وتبادل السلع. ساهمت هذه الأنماط من الهجرة في تعزيز التواصل بين مختلف مناطق عمان وإيجاد روابط اجتماعية واقتصادية قوية. ويصف ابن رزيق أحد أسباب هذه الهجرات الداخلية خلال فترة المحل قائلا: «ولما استولى حمد على عمان اشتد المحل... وهرب من المحل أكثر أهل عمان إلى أرض الباطنة ومسقط». يظهر هذا كيف دفعت الأزمات البيئية والاقتصادية العمانيين إلى التنقل بحثًا عن فرص أفضل. ومع تحسن الظروف المناخية والاقتصادية، عاد كثيرون إلى مواطنهم الأصلية، حيث يصف ابن رزيق عودة الخصب قائلا: «لاحت سحابة في السماء... وعمّ الخصب عمان ورجع أكثر من نفي من أهلها إليها».
أما الهجرات الخارجية فقد بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر وحتى العقد السابع من القرن العشرين. كان الاتجاه الأساسي نحو شرق إفريقيا، خاصة بعد أن أصبحت زنجبار تحت السيادة العمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان. أدى هذا الارتباط السياسي إلى انتقال عدد كبير من العمانيين إلى شرق إفريقيا، حيث أثروا في الحياة الاجتماعية والثقافية هناك، وما زال هذا التأثير واضحًا حتى اليوم. ولم تكن هذه الهجرات دائمًا مدفوعة برغبة سياسية فقط، بل كانت أيضًا نتيجة لضيق الأحوال الاقتصادية. يروي محمد بن شامس البطاشي في كتابه إتحاف الأعيان أن السلطان ثويني بن سعيد لم يرحب بهجرة مجموعة من العمانيين إلى شرق إفريقيا عندما أجبرهم القحط على ذلك، واقترح عليهم بدلا من ذلك الاستقرار في ولاية السيب ومنحهم أراضي للزراعة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، دفع ضيق المعيشة بعض العمانيين إلى الهجرة نحو الهند بحثًا عن الرزق. ومع اكتشاف النفط في دول الخليج، خرجت أعداد كبيرة من العمانيين للعمل في تلك البلدان. أحدثت هذه الهجرة تغيرات في النسيج الاجتماعي. ومع تسلم السلطان قابوس بن سعيد الحكم في عام 1970م، دعا هؤلاء العمانيين إلى العودة للمساهمة في بناء وطنهم.
ونختم هذا المقال بالنص التالي الذي يختصر التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي حدث بعد تولي جلالة السلطان قابوس الحكم عام 1970. يقول النص، كما ورد في إحدى المخطوطات وكاتبه من المعاصرين للتحول الذي طرأ على عمان: «وهذا السلطان قابوس دانت له قبائل عمان جميعهم، من منطقة مسندم وهرمز إلى جزيرة مصيرة، إلى ظفار ومتعلقاتها، فأوسع الناس عطاءً وعفوًا، وعاد كل عماني من الخارج، ودرت خيرات عمان من ثمار ونفط ومعادن، حتى فاضت البيضاء والصفراء».