نبلاء وعباقرة: شعراء في بلاط أئمة وسلاطين البوسعيد
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
تتميز عُمان بتاريخها الحضاري والثقافي الضارب في القدم، وقد أنجبت عُمان على مرّ العصور الكثير من الأعلام والعلماء وكبار الأدباء الذين أغنوا الثقافة العربية والإنسانية بإسهاماتهم في شتى صنوف الفكر والمعرفة.
وقد شهد عصر الدولة البوسعيدية في عُمان تحولات جذرية على صعيد الثقافة والفكر، باعتباره عصر تنوير وتجديد وانفتاح على ثقافات العالم، ونتيجة لهذا المناخ الإيجابي الذي اتسم به هذا العهد، فقد برزت نخبة كبيرة من حملة العلم والمعرفة وأساطين الأدب والشعر، منذ تولي الإمام أحمد بن سعيد مقاليد الحكم إلى يومنا هذا، ولا تزال هذه الدولة الكريمة تواصل مسيرة العطاء في خدمة عُمان وثقافتها والحفاظ على منجزها العظيم، وصون تراثها الحضاري الخالد، ونشره في ربوع العالم.
وقد سنحت الظروف والأقدار لبعض الشخصيات الأدبية أن يكونوا قريبين من دائرة الحكم، ويتصلوا بأئمة وسلاطين البوسعيد، الأمر الذي نتج عنه منجز ثقافي وأدبي ومعرفي بات من مفاخر الثقافة العمانية، وفي هذه المقالة سنتوقف عند عدد من فحول الشعراء العمانيين الذين جمعتهم علاقات وطيدة مع حكام البوسعيد، وحظوا برعايتهم وعاشوا في كنفهم ونالوا من أفضالهم الكثير، فقدموا عصارة إبداعهم وفكرهم، ولاء لهذه الدولة وخدمة لأهدافها ومشاركة في مساعيها الكبرى، فكان نتاجهم وثائق شاهدة ودلائل ناطقة على ما عايشوه وعاصروه من أحداث ومواقف مرّ بها الوطن.
شاعر الإمام
عُرِف عن أئمة وسلاطين عُمان، ومنهم البوسعيد، حبهم للعلم وتقديرهم للعلماء والأدباء والشعراء، وقد ورث الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، مؤسس دولة البوسعيد هذه الخصال الحميدة، فقد ذكر التاريخ اهتمامه بالعلماء وتقديره للشعراء والمفكرين، ويقول ابن رزيق في (الفتح المبين): «وقصدته شعراء كثيرون من أهل عُمان وغيرهم، فأحسن إليهم وأجازهم، ورفع محلتهم، وكان الشاعر المشهور في زمانه، وأشعر شعراء عُمان على الإطلاق الشيخ الفصيح راشد بن سعيد بن بلحسن العبسي الأعمى الضرير»، ولقد برز اسم هذا الشاعر على عهد الإمام أحمد بن سعيد، وهو الشاعر راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي (ق: هـ12/ 18م).
وقال عنه ابن رزيق في (الصحيفة العدنانية): «راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي، الضرير العينين، البصير القلب، المشهور، كان الشيخ راشد المذكور غاية زمانه، وآية أوانه، له قريحة صافية، وبديهة شافية، ويد في القريض والبديع طويلة، وبنان في البيان دونها الرذيلة، نشأ في زمن الإمام الحميد البوسعيدي أحمد بن سعيد، ومدحه بالحمر والبيض، وحباه حمده لأحمد خالص الوميض، وانقادت محبته من بعده لولده الحميد هلال بن أحمد، فأهدى إليه ثناءه الوسيم، لمّا ساق إليه نواله الجسيم» .
ويقول الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه (العنوان)، في سياق الحديث عن الإمام أحمد بن سعيد: «وكان شاعره الأعمى أشعر الشعراء في زمانه، راشد بن سعيد البلحسني الرواحي، وله فيه مدائح غراء، وقصائد طنانة فيحاء ذكرها التاريخ، وهي من الأدب العماني الشهير».
شاعر بديع الخط
يُعَدُّ الشيخ سالم بن محمد بن سالم الدرمكي، المعروف بأبي الأحول (ق: 12 ـ 13 هـ/ 18 ـ 19م)، أحد الوجوه البارزة في الحقل الأدبي والثقافي في الدولة البوسعيدية، وجاء في الموسوعة العُمانية أنه أديب وفقيه وقاضٍ، وشهد عصر الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي منذ بدايته، وأرّخ بشعره كثيرًا من الأحداث التاريخية في عهد هذا الإمام، ثم برز في عهد السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، الذي استدعاه من إزكي إلى بركاء وجعله قاضيًا بها، وقَرَّبَه إليه، واستمر قاضيًا من بعده في مسقط للسيد سلطان بن أحمد بن سعيد، ثم للسيد سعيد بن سلطان الذي أقره في منصبه.
ويُعدُّ أبو الأحول من أبرز شعراء الدولة البوسعيدية، وكان أبو الأحول صاحب خَطٍّ حسن، وكتب بيده عدة مخطوطات، منها نسخة من ديوان المتنبي، نسخها للسيد طالب بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي.
وقد اشتهر أبو الأحول بنونيته البديعة التي طافت شهرتها الآفاق، وهي في مدح السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، وقد نال الدرمكي «حظوة كبرى، وثقة مطلقة، مع هذا السيد الهمام الكبير، وقد خلع عليه حللًا سنية رفيعة، وبنى له منزلًا أنساه منازله ومرابعه الإزكوية، لما اشتمل عليه من فرش ديباجية، وأوانٍ صينية، وأغذية متنوعة، والأسمى من ذلك كله هو المخاللة مع هذا السيد المفضال».
وريث عهد الإمام
يأتي العلامة المؤرخ والشاعر والأديب حميد بن محمد بن زريق بن بخيت النخلي (1198 - 1291 هـ/ 1783 - 1874م) في مقدمة أدباء الدولة البوسعيدية، إن لم يكن أشهرهم، وعاصر ابن رزيق عددًا من أئمة البوسعيد وارتبط معهم بعلاقات وطيدة، وقد عُرف بأعماله الموسوعية التي تربو على 15 سِفرًا.
ويُعَدُّ حميد بن رزيق أحد الأعلام المضيئة في تاريخ الثقافة العمانية، فقد ترك إرثًا عظيمًا في التاريخ والأدب والشعر بوجه عام، وتعد مصنفاته مراجع غاية في الأهمية، لا سيما في تاريخ الدولة البوسعيدية، إذ كان على صلة وثيقة بسلاطين البوسعيد وكبرائهم في زمنه، لا سيما السيد سالم بن سلطان، الذي كانت تجمعه به علاقة ود وصحبة وبأبنائه أيضًا، وكذلك بالسيد ثويني بن سعيد وابنه سالم بن ثويني؛ الأمر الذي جعله قريب الاطلاع على مجريات الأحداث في الدولة، فقام بتوثيقها وتدوينها عن معايشة ومتابعة.
وتمتد علاقة ابن رزيق بالطبقة الحاكمة منذ دولة اليعاربة، إذ كان جده رزيق بن بخيت يعمل في دولة اليعاربة، وبعد قيام دولة البوسعيد، أكرمه الإمام أحمد بن سعيد وعيَّنه مسؤولًا عن الجمارك (الفرضة)، وكتب في ذلك عهدًا يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من إمام المسلمين أحمد بن سعيد إلى كافة أولادي خصوصًا، وإلى الناس عمومًا، أما بعد، لتتركوا بعدي رزيق بن بخيت، ومن تناسل منه، مثل ما تركته في الفرضة (الجمارك) على قلم حساب، وتُتموا له الفريضة كما تممتها له، وهي مرقومة في دفتر السر كار (أمين السر)، وأحسنوا إليه مثلي، فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يُبدلونه، إن الله سميع عليم».
وبعد رزيق، كان ابنه محمد مكان أبيه في الفرضة على قلم الحساب، وكانت له الحظوة والمنزلة عند السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي، إذ كان يستشيره في كل أموره ويكلفه بالأعمال المهمة، وكان أكابر مسقط يجتمعون عنده في بيته، يتدارسون أمورهم ويتشاورون في أحوالهم؛ مما يعني أن ابن رزيق وأسرته خدموا في حكومة البوسعيد وظلوا مخلصين للأسرة الحاكمة.
وكان المؤرخ والأديب ابن رزيق، بحكم قربه من سلاطين السياسة، يحيا حياة هادئة هانئة، متنقلًا بين مجلس العلماء والشعراء وبلاط السلاطين، يجمع من هؤلاء العلوم والمعارف، ويجد من أولئك التشجيع الكبير والمؤازرة الكاملة؛ فكوَّن بذلك حصيلته العلمية العظيمة، التي أودعها في مؤلفاته التاريخية ومصنفاته الأدبية، مؤكدًا قدرته على أن يكون ابن عصره بحق.
مات في حجر الإمام
يبرز العلامة الفقيه والقاضي والشاعر ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي (1778 - 1847 م)، القادم من ولاية العوابي، كإحدى الشخصيات المهمة في عهد الدولة البوسعيدية، ورغم المعاناة التي واجهها في جزء من حياته، نظرًا لبعض الخلافات السياسية التي ثارت في حياة أبيه الشيخ جاعد بن خميس الخروصي واستمرت وقتًا من الزمن، إلا أن الأقدار تبسمت للشيخ ناصر في زمن السيد سعيد بن سلطان، فكان من خاصته ورجال دولته الأوفياء المقربين بقية حياته.
ويذكر السالمي في (التحفة) أن أخبار الشيخ قد عمت جميع الفرق الإسلامية واليهودية والنصرانية والمجوسية، فتأسفوا لما وقع له، واجتمعوا بالسيد سعيد وقالوا له: إنه لا يرضى أحد من الحكام والأمراء مثل هذا الصنيع في علمائهم، فكتب إليه يدعوه للحضور إلى مسقط، «فلما وصل، حباه وكرَّمه وعظَّمه وكساه، ومهما مشى خطوة في حضر أو سفر، أخذه في صحبته، وأطعمه من طعامه، واستشاره في أكثر أموره في طول زمانه»، «وصحبه إلى زنجبار، وسكن بها، وأخذ يتردد على عُمان مرات عديدة، إلى أن توفي في زنجبار سنة 1263 هـ - 1846 م».
ويقول المغيري في (جهينة الأخبار)، في سياق الحديث عن انتقال الإمام سعيد بن سلطان من عُمان إلى زنجبار: «وقد استصحب في معيته من عُمان الشيخ العلامة ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي، ومات بها في المكان المسمى المتوني، وقبره مشهور هناك»، وجاء في كتاب (البوسعيديون حكام زنجبار) لعبدالله الفارسي: «وعندما فاضت روحه، كان رأسه في حجر السيد سعيد، وكان عمره واحدًا وسبعين عامًا يوم وفاته».
كعلاقة المتنبي بسيف الدولة
وفي عهد الإمام سعيد بن سلطان أيضًا، تطالعنا شخصية شعرية فذة أخرى، وهو الشاعر والقاضي والفقيه هلال بن سعيد بن ثاني بن عرابة (ق: 13 هـ/ 19 م)، من ولاية دماء والطائيين، وتتلمذ على يد والده، ثم سافر إلى زنجبار حيث تولى منصب القضاء في عهد السيد سعيد بن سلطان، ومن بعده في عهد السيد ماجد بن سعيد، و«قال قصائد عديدة في مدح السيد سعيد بن سلطان، وقد لقَّبه بقمر المعالي، وله فيه وفي أسرته ديوان شعر مطبوع سماه (جواهر السلوك في مدائح الملوك)، وله أيضًا قصائد في الغزل والوصف والهجاء والرثاء».
«ويعكس في الديوان جزءًا من علاقاته الاجتماعية، فإن أولى علاقاته هي مع السلطان سعيد بن السيد سلطان ابن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. وقد خصص له هذا الديوان، إذ كان أغلب شعره قد قيل فيه. واتصل في حياة السلطان أو بعيد وفاته بعدد آخر من البيت الحاكم ومدحهم، ومنهم محمد بن سعيد بن سلطان، وهلال بن سعيد، ومنهم محمد بن سالم بن سلطان».
إن شعر الشاعر في السلطان سعيد كان من طراز خاص، والذي يبدو أن العلاقة الحميدة بين المادح والممدوح كانت من العمق والشدة بحيث نجد فيها الصدق والديمومة والمحبة، فهو لا ينسى ممدوحه وهو بعيد عن الوطن، فيراسله ويمدحه ويعاتبه. وتشبه علاقة الشاعر هلال بالسلطان سعيد، علاقة المتنبي بممدوحه سيف الدولة، إذ جمعت بينهما المحبة والألفة أكثر مما جمعت بينهما المصلحة والمنفعة» .
جامع اللوامع
يعد الشيخ العلامة أبو مسلم البهلاني، ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي، ( 1277 ـ 1339 هـ/ 1860 ـ 1920م)، أحد الرموز الثقافية والشعرية في عهد الدولة البوسعيدية. كان شاعرًا وفقيهًا وقاضيًا وصحفيًا رائدًا. انتقل أبو مسلم البهلاني إلى زنجبار عام 1878م برفقة والده، ثم عاد إلى عمان عام 1883، وبقي فيها عدة أعوام، ليعود بعد ذلك إلى زنجبار ويستقر هناك حتى وافته المنية. عاصر أبو مسلم عدة سلاطين ابتداءً من برغش بن سعيد، ثم خليفة بن حارب وحمد بن ثويني، الذي تقلّد في عهده منصب القضاء، إلى جانب توليه مهام مستشار السلطان. ورافق السلطان حمود بن محمد بن سعيد في رحلاته في إفريقيا الشرقية، وقيّد تلك الرحلات في كتاب بعنوان (اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الإفريقية الشرقية) .
وينحدر أبو مسلم الرواحي من أسرة علمية، «فقد كان جده عبدالله بن محمد البهلاني أحد قضاة الدولة اليعربية على وادي محرم» . وكان والده «واليًا وقاضيًا في دولة الإمام عزان بن قيس. كما يقال إنه ولي القضاء في دولة السيد تركي بن سعيد بن سلطان، قبل أن يشد رحاله إلى زنجبار، ليعمل هناك قاضيا أيضا في دولة السيد برغش بن سعيد بن سلطان». و«لم تقل مكانة أبي مسلم عن تلك المكانة العظيمة التي تمتع بها والده، فيشير لنا التاريخ بأنه وبفضل علمه، فلقد ارتقى علياء المراتب وقدره بذلك ليس عامة الناس فحسب، وإنما علية القوم والسلاطين». «وظفر الشاعر بثقة حكام زنجبار، وكانت له عندهم حظوة، ولا سيما السيد حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان، والسيد حمد بن ثويني بن سعيد. لذلك ولي قضاء زنجبار، ثم رئاسة القضاء فيها. وقدر الشاعر صنيعهم إليه، وجزاهم بما صنعوا مدائح فيهم باقيات، لها في عالم الشعر إذ ذاك مقام مرموق، فقد كان -رحمه الله- شاعر البلاد، وأمير شعراء العصر، غير منازع ولا مدفوع». وقد ترك أبو مسلم إرثًا معرفيًا وإبداعيًا خالدًا، جعله أحد الأعلام المضيئة في تاريخ البشرية.
شيخ البيان
الشيخ الأديب الشاعر محمد بن شيخان بن خلفان بن مانع السالمي، أبو نذير (1284 ـ 1346 هـ/ 1862 ـ 1927م)، من الشعراء الذين كانت لهم علاقات وثيقة جدا بقصر الحكم، خصوصا على عهد السلطان فيصل بن تركي. وقد دوّن في شعره الكثير من الأحداث التي جرت في حياته، حتى بات شعره مرجعًا لمعرفة أحوال الفترة التي عاش فيها. يقول جامع الديوان في مقدمته: «وقد فصلت الديوان أقساما، بادئا بما قاله في مديح السلطان فيصل بن تركي وأنجاله وأهل بيته؛ لأنهم بيت القصيد، إذ كان السلطان فيصل سلطان عمان، ممن يمجد الشعر ويكبر قدر اللغة العربية، فأقام سوقا للشعراء، وراح إليه قريبهم والبعيد». «وفي الحقيقة فإن ابن شيخان كان واحدا من شعراء كثيرين ازدحموا على باب السلطان يتنافسون في الإطراء بقدر ما يتنافسون على العطاء، مما خلق رواجا أدبيا وازدهارا شعريا امتد طوال حكم السلطان فيصل وما تلته من فترة» .
وقد «بقي ابن شيخان في كنف السلطان فيصل 17 عاما، وبلغت قصائده في مديح السلطان فيصل بن تركي 30 قصيدة، وثّقت كثيرا من الأحداث السياسية والاجتماعية التي جرت في عهده، من بينها الحرب الأهلية التي جرت بين السلطان وبعض القبائل العمانية. وفي ديوان ابن شيخان قسم خاص بالمدائح التي قيلت في السلطان تيمور، وما يجب ذكره هنا أن تلك المدائح قيلت عندما كان وليا للعهد قبل أن يتولى السلطة».
يتشاطران القصيدة
العلم الآخر الذي كان له حضور كبير في دولة البوسعيد هو أبو الصوفي سعيد بن مسلم بن سالم المجيزي الجابري (ت: 1372 ه/ 1952م)، الذي ولد في مدينة سمائل ونشأ فيها. «أما المجيزي فنسبة إلى بلده مجز الكبرى بصحار موطن آبائه قبل انتقالهم إلى سمائل». كان أبو الصوفي من الشعراء المقربين من قصر الحكم، وقد كتب في سلاطين البوسعيد مدائح بديعة، ووثق الكثير من الأحداث الكبرى التي شهدها عصره.
بدأ علومه بقراءة القرآن الكريم، وعندما أتمها وأجاد القراءة والحفظ، تلقى علوما مختلفة باللغة من نحو وصرف وبيان وعروض وفقه ودراسة لأشعار العرب في عصورهم المختلفة». «وما إن زكى الطفل وشبت مداركه وتوسعت مفاهيمه حتى قرر الرحيل إلى مسقط للتكسب وسد حاجاته ورغباته الملحة».
وقد «أتقن أبو الصوفي فن الكتابة، فكان خطاطا ماهرا، فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي كاتبا له، ثم عمل كاتبا للسلطان فيصل بن تركي، ثم كاتبا للسلطان تيمور بن فيصل، ثم للسلطان سعيد بن تيمور، وعاش حياته شاعرا للبلاط السلطاني، واختصهم بشعره، ولازمهم في أسفارهم».
و«لأبي الصوفي ديوان شعر، طبع لأول مرة عام 1937م، بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية، في مدينة أوساكا باليابان، وظهر باسم (الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة ـ ديوان أبي الصوفي، كتب له السيد تيمور بن فيصل مقدمة وقعها باسم (ت. آل سعيد) . الديوان طبع على نفقة السلطان تيمور، وقد جاءت المقدمة التي أسداها السلطان تيمور للديوان غاية في الروعة والبلاغة، عكس من خلالها عمق ثقافته وانفتاحه وحرصه على نشر الأدب العماني، وولعه بالشعر.
ومن بديع ما اشتمل عليه هذا الديوان بعض الأبيات الشعرية التي جادت بها قريحة السلطان تيمور بن فيصل، والتي اشترك في نظمها أحيانا مع الشاعر أبي الصوفي، فكان يفتتح القصيدة أو شطر البيت، فيطلب من أبي الصوفي أن يجيزه، ويتولى أبو الصوفي تكملة القصيدة.
سكرتير السلطان
ويمثل الشاعر والسياسي السيد هلال بن بدر بن سيف البوسعيدي (1314 ـ 1385 ه/ 1796 ـ 1965م)، أحد أبرز التجارب الشعرية التي كانت مقربة من قصر الحكم، لاسيما في عهد السلطان سعيد بن تيمور. هو شاعر مخضرم، ولد في مسقط ونشأ فيها. كان والده من العاملين في عهد السلطان فيصل بن تركي. و«كان لوالده تأثير كبير على شخصيته، إذ إنه كان يشغل منصبا مهما في دولة السلطان فيصل، وكان في كثير من الأحيان يصحبه معه إلى المجالس وخاصة مجلس السلطان».
«عمل هلال البوسعيدي نائبا لرئيس المحكمة العدلية، ثم سكرتيرا خاصا للسلطان سعيد بن تيمور (حكم: 1350 ـ 139 هـ/ 1932 ـ 1970م)، ثم رئيسا لأول مجلس بلدي في العاصمة مسقط، ثم عين مندوبا للسلطان سعيد وكان مقربا منه، وكان السلطان يكلفه بالقيام بمهمات خاصة، وسافر إلى أوروبا برفقته، ثم سافر معه إلى الهند والبحرين».
وهو من منبت ومحتد كريم، سافر وجال وارتقى في المنصب، وحظي بالقرب من سلطان البلاد. وفي مثل هذا المناخ لابد للقصيدة ـ شاء أم أبى ـ إلا أن تعكس معاني الرخاء والسلاسة والاعتدال واللطف». فقد «كانت له مكانة وحظوة في قصر السلطان سعيد بن تيمور، وكان حقا يمثل نتاج العصر الذي عاش، في مدحه ووصفه وتهانيه وتفاعله وتعاطيه وتعاطفه مع كل الأحداث التي كانت تمر بأبناء أمته قاصيها ودانيا». وله ديوان شعر جامع مدائح لهذا السلطان سعيد وغيره ولفنون شتى من الأدب والتاريخ».
الخاتمة
هذه جملة من أعلام الشعر والأدب الذين عاشوا في ظل العهد البوسعيدي، وعايشوا أحداثه، وشهدوا تحولاته، وشاركوا في وقائعه، ووثّقوا مجرياته، فبات نتاجهم ذاكرة حية ولسانا ناطقا بحقائق زمانهم، ووثائق خالدة تروي للأجيال حكاية أمجاد سطرها هؤلاء الأئمة والسلاطين، الذين قدموا الغالي والنفيس في الذود عن حياض هذا الوطن العزيز، وبذلوا في ذلك النفس والمهج، وسطروا البطولات العظيمة، التي رأى فيها الشاعر محفزا إبداعيا يشحذ همة الكتابة ويوقد شعلة الإبداع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بن سعید بن سلطان السلطان تیمور السلطان سعید راشد بن سعید محمد بن سعید أبو الصوفی من الأحداث إلى زنجبار السید سعید بن محمد بن أبو مسلم سلطان فی سالم بن بن سالم سلطان ا فی دولة کانت له هلال بن إذ کان فی عهد شاعر ا
إقرأ أيضاً:
لمحات من التحولات الاجتماعيـــــــة في عهد الدولة البوسعيدية
قبل حكم اليعاربة، عانت عمان من تفكك سياسي وصراعات داخلية، بالإضافة إلى الاحتلال البرتغالي الذي استمر لأكثر من قرن. تصف المدونات عهد الإمام ناصر بأنه: «دانت له جميع البلدان وطهرها من البغي والعدوان... وأظهر فيها العدل والأمان وسار في أهلها بالحق والإحسان». وازدهرت الزراعة بفضل شق الأفلاج، وتطورت التجارة البحرية، مما جعل عمان مركزًا تجاريًا إقليميًا. هذا التحول أدى إلى تحسين مستوى المعيشة وتقليص الفجوات الاجتماعية.
لكن أواخر عهد اليعاربة شهد تدهورًا بسبب الصراعات الداخلية والحروب الأهلية التي استمرت لأكثر من ثلاثين عامًا، ما أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وظهور حالة من الفوضى. مع ظهور الإمام أحمد بن سعيد، بدأت عمان تستعيد استقرارها. وصفه الشيخ نور الدين السالمي قائلاً: «وكان أحمد بن سعيد صاحب همة عالية ومطلب سام وجرأة وإقدام، فصار ملك عمان كله إليه... ودانت له القبائل وسكنت الحركات وأطفأ كثيرًا من الفتن».
ترتيب السلطنة ومفهوم النهضة
الإمام أحمد بن سعيد، أول حكام الدولة البوسعيدية، وصفه المؤرخ ابن رزيق قائلاً: «رتب قواعد السلطنة أحسن ترتيب، وهذبها بأبلغ تهذيب». وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، نُقلت العاصمة من الرستاق، وكان لهذا التحول أثر كبير على الجوانب الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن تنشيط التجارة البحرية عبر ميناء مسقط. وصف ابن ماجد (ت: 906هـ) هذا الميناء قائلاً: «لم يكن في الدنيا مثله، إن له أشاير، وفيه خصائل لم تكن في غيره... وهو بندر عمان من العام إلى العام».
في القرن العشرين، استُخدم مصطلح «النهضة» في عمان بطريقتين: الأولى لوصف النهضة التي ظهرت عام 1913م، والثانية في عام 1970م، لوصف التغيير والتحديث الذي شهدته عمان في عهد السلطان قابوس بن سعيد. في بيانه الأول، قال السلطان قابوس- طيب الله ثراه: «هذا التغيير بداية لعهد جديد متنور ورمز لعزمنا أن يكون شعبنا موحدًا». كان ذلك إعلانًا لعهد جديد من التغيير والتطوير الشامل الذي انعكس على كافة مناحي الحياة. وقد ورد في إحدى المخطوطات التي توثق لحظة تولي السلطان قابوس - طيب الله ثراه- الحكم: «وهذا السلطان قابوس دانت له قبائل عمان جميعهم، من منطقة مسندم وهرمز إلى جزيرة مصيرة، إلى ظفار ومتعلقاتها، فأوسع الناس عطاءً وعفوًا، وعاد كل عماني من الخارج، ودرت خيرات عمان من ثمار ونفط ومعادن، حتى فاضت البيضاء والصفراء».
كانت الجولات وسيلة فعالة استخدمها السلاطين للتواصل المباشر مع الشعب. كان السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد (حكم من 1784-1792م) من أبرز القادة الذين نهجوا هذا النهج، حيث يقول الشيخ نور الدين السالمي في تحفة الأعيان: «كان يطوف عمان باطنة وظاهرة، ثم يأتي على الجوف (الداخلية) والشرقية، يصنع ذلك مرتين في السنة، يتفقد الممالك والرعايا، وحصلت له في القلوب هيبة ومحبة». هذا النهج تم استعادته في عهد السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الذي اعتمد «الجولات السامية» كجزء من أسلوب حكمه، مما عزز التواصل المباشر بين القيادة والشعب وساهم في ترسيخ الأمن والاستقرار.
التركيبة السكانية والأوضاع الاجتماعية
لم تعرف عمان الإحصائيات السكانية بشكل رسمي إلا بعد قيام النهضة في عام 1970م. يعود ذلك إلى غياب المؤسسات المتخصصة في الإحصاء قبل هذه الفترة، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي سادت البلاد. كما أن هناك بعض المواقف الفقهية التي قد تكون ساهمت في غياب الإحصاء، حيث يعكس أحد الأسئلة الموجهة إلى الإمام محمد بن عبدالله الخليلي حول إحصاء النفوس موقفًا متحفظًا، يشير إلى تحفظ ديني أو ثقافي حول عملية الإحصاء في تلك الفترة، وإن لم يكن من الممكن التثبت من مدى تأثيره على الواقع العملي.
هذا الغياب للإحصائيات المحلية حال دون رصد التغيرات الاجتماعية بشكل دقيق. ومع ذلك، ظهرت بعض الإحصائيات التقديرية، لكنها لم تكن من صنع أهل البلد، بل جاءت من المؤسسات الأجنبية، وتحديدًا حكومة بومباي البريطانية. كون الإحصائيات البريطانية المصدر الوحيد المتوفر يجعل من الضروري التعامل معها بحذر، فهي تقدم صورة تقريبية للوضع السكاني، ولكن لا يمكن التسليم بدقتها.
أحد الأمثلة على ذلك هو تقديرات الكابتن مايلز لسكان عمان في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ومع ذلك، ركزت هذه الإحصائيات بشكل أساسي على الرجال القادرين على حمل السلاح، متجاهلة فئات مهمة من المجتمع مثل النساء والأطفال، مما يعطي صورة ناقصة عن التركيبة السكانية الحقيقية.
وفق التقديرات البريطانية، بلغ عدد سكان عمان في عام 1930م حوالي 500 ألف نسمة، منهم 12 ألفًا في مسقط ومطرح. وفي عام 1906م، قدرت الأعداد بأقل من نصف مليون. وهناك بعض الإحصائيات المتعلقة بعدد الأجانب في عمان في عام 1765م بحوالي 1200 شخص، بينما ارتفع العدد في عام 1870م إلى حوالي 2000 شخص، معظمهم تجار يعيشون في المدن الساحلية. يعكس هذا التنوع الثقافي أهمية عمان كمركز تجاري، حيث كانت المدن الساحلية مثل مسقط تشهد نشاطًا اقتصاديًا حيويًا وجذبًا للأجانب.
كان لوجود التجار الأجانب في الموانئ تأثير ليس فقط اقتصاديًا، بل اجتماعيًا أيضًا. فقد كانت المنسوجات الهندية جزءًا من الهوية والمكانة الاجتماعية، لا سيما العمامة الكشميرية التي ذكرها ابن رزيق، حيث كانت رمزًا للوجاهة والتأثير الاجتماعي. يُذكر أن أحد الشخصيات المؤثرة كان لا يتعمم إلا بالشالات الكشميرية.
وحول الحركة العمرانية والاجتماعية في مسقط في منتصف القرن العشرين، قدم سيف بن ناصر اليعربي وصفًا للمدينة قائلا: «مسكد -مسقط- بها قصور عالية، ومدرسة سلطانية، ومساجد عامرة، وسوق معمور يباع فيه الصالح والطالح. وبها سكان من الأهالي والأجانب، إلا أن الأجانب لهم الحظ الوافر». يعكس هذا الوصف تنوع المجتمع وتطوره.
ولم تكن عمان بمنأى عن الصراعات السياسية. خلال القرن التاسع عشر، أدت النزاعات على السلطة إلى استنزاف الموارد وتدهور الأحوال. يصف ابن رزيق هذه الفترة بقوله: «وأخافوها خوفًا شديدًا، باصطلام الأموال غصبًا»، في إشارة إلى نهب الأموال واستنزاف الموارد. كما يصف الشيخ علي بن مسعود العبادي الأثر المدمر للحروب قائلا: «خُربت البلاد وشُردت العباد، وقُتل رجل، ويُتّمت أطفال، وحُرقت المنازل والحروث، وخُشيت النخيل».
التحديات الاجتماعية والصحية والاقتصادية قبل عام 1970م
شهد القرن التاسع عشر خطوة مهمة في المجتمع العماني، حين أصدر السلطان تركي بن سعيد عام 1871م بيانًا يقضي بمنع تجارة الرقيق في جميع أنحاء سلطنة عمان. وفي منتصف القرن العشرين، واجه المجتمع العماني تحديات فكرية، حسب التصريح الذي أصدره السلطان سعيد بن تيمور، كان أبرزها انتشار الأفكار التي وصفها بـ«الشيوعية». وأكد حينها ثقته بوعي المجتمع قائلا: «إننا مطمئنون تمام الاطمئنان بأن لدى أهل بلادنا من الحصانة الدينية ما يكفي لرد مثل هذه الدعايات».
أما التحديات الصحية، فقد أنهكت المجتمع العماني، لا سيما في القرن التاسع عشر الميلادي وجزء كبير من القرن العشرين، وكان من أبرزها انتشار الأمراض المعدية. من بين الأوبئة التي وثقتها المصادر العمانية، ظهر الطاعون عام 1236هـ، وانتشر في السند والهند وبلاد الإنجليز والفرنسيس. وبسبب نقص الخدمات الصحية، قضت هذه الأمراض على جزء كبير من المجتمع العماني. وقد أرّخ عامر بن علي العبادي لعدد المصابين في نزوى وحدها بحوالي 900 نفس، قائلا: «عاش منهم أقل من النصف، فبقيت المنازل بعدهم خاوية، وديارهم خالية».
مع دخول المنتجات الأوروبية إلى الأسواق العمانية، شهدت الحرف التقليدية تراجعًا ملحوظًا. يقول صاحب نهضة الأعيان: «لما كثرت منسوجات أوروبا وجُلبت إلى عمان، قصرت همة النساجين في عمان، وراجت المنسوجات الأوروبية». أدى هذا التغير إلى تراجع الاقتصاد المحلي وحرف حركة المجتمع العماني عن مسارها الطبيعي. وفي 26 من ذي القعدة 1362هـ، شهدت عمان أزمة اقتصادية حادة أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية. «بلغ سعر بهار السكر الزين 180 قرشًا، والليمون البهار 775 قرشًا، بينما وصل سعر التمر الباطني إلى 120 قرشًا والعماني إلى 180 قرشًا. كما ارتفعت أسعار الثياب، في حين سجل سعر الصرف 245 روبية مقابل 100 ريال». في ظل هذه الظروف، كان أهل البلاد يقدمون للواحد كيسًا من الحنطة يوميًا لمواجهة الأزمة، ما يعكس حجم المعاناة وشدة الاعتماد على الموارد المحدودة في تلك الفترة.
وفي 1943م، تأثرت عمان بتداعيات الحرب العالمية الثانية، حيث انقطع الأرز عن البلاد، مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية. في تلك الأثناء، دعا السلطان أهل عمان إلى «الزراعة واستخراج فوائد الأرض»، في محاولة لتعزيز الاكتفاء الذاتي وتأمين احتياجات السكان في ظل الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب. وتعكس رسالة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، التي قال فيها: «من اعتمد على زاد عدوه طال جوعه»، رؤيته العميقة لأهمية الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الموارد المحلية، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية.
على الرغم من التحديات الاقتصادية، كان هناك تفاوت كبير في الدخل بين الدولة وبعض الشيوخ. يذكر سعود بن علي الخليلي: «إن دخل دولة سعيد بن تيمور (ت: 1972م) لم يكن يتعدى 50 ألف جنيه إسترليني، في حين أن دخل ثلاثة من شيوخ داخلية عمان كان يوازي دخل الواحد منهم هذا المبلغ أو أكثر». يعكس هذا التفاوت حجم الفجوة الاقتصادية داخل المجتمع. ورغم ذلك، برزت مواقف تضامنية في فترات الأزمات التي تعرضت لهم عمان، كما حدث في عام 1870م، عندما مرت عمان بأزمة مالية خانقة. حينها بادر العديد من رجال الدولة وأهل الأموال إلى بيع ممتلكاتهم دعمًا للدولة، ومن بينهم الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، الذي باع «أمواله الكائنة في بلدة بوشر، وما له في هذه البلدة من خراب وعمار، بأكثر من سبعة آلاف قرش»، من أجل «عز الدولة».
التعليم والثقافة
يُعد التعليم إحدى الركائز الأساسية للنهوض بالمجتمع، ولم تعرف عمان التعليم النظامي بشكل واسع إلا بعد ظهور المدرسة السعيدية في مسقط. تطور التعليم بشكل متسارع بعد عام 1970م. وقد انتقد العديد من العلماء ورجال الفكر تأخر التعليم في عمان، إذ يقول أبو مسلم البهلاني (ت: 1921م) إن الجهل كان من أسباب معاناة عمان، قائلا: «فإن عمان لم تسقط هذه السقطة إلا من جهة الجهل... وبودّي لو ساعدني العلماء على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعلم».
في ظل تراجع التعليم، كانت مسقط تشهد بعض التغيرات الثقافية. بدأت تتشكل بوادر لدخول السينما إلى عمان في فبراير 1913م، عندما قدم السيد بيانكر (Batanker) من بومباي إلى مسقط لتركيب مصابيح كهربائية لقصر السلطان فيصل بن تركي. أثناء زيارته، جلب معه جهاز عرض سينمائي، لتكون هذه بداية تعرف عمان على هذا الفن الجديد.
أثرت النزاعات السياسية في القرن التاسع عشر الميلادي على الإنتاج الثقافي. يقول ابن رزيق عن ديوان الشاعر سيف بن سليمان المعولي: «شهدت أيام حياته كتابًا بخط يده، فيه حكايات وأشعار، وقد رقم فيه نبذة من شعره. وقد سمعت أن هذا الكتاب صار في أيدي عتوب البحرين، وأظن أن أحدهم قد سرقه فباعه عليهم». الوقف وأثره الاجتماعي
الوقف يمثل جانبًا مهمًا من التنظيم الاجتماعي، ويعكس التعاضد والتكافل في المجتمع العماني. رغم رمزيته الدينية، كان دوره الاجتماعي أكثر وضوحًا وتأثيرًا. الوقف في جوهره تعبير عن إحساس عميق بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الفئات الضعيفة والأقل حظًا. تاريخيًا، ارتبط الوقف في عمان ارتباطًا وثيقًا بالأفلاج، التي كانت عصب الاقتصاد الزراعي.
من النادر أن تجد فلجًا في عمان لا يحتوي على حصص موقوفة للخدمات الاجتماعية، مثل تمويل المساجد، والمدارس، وطلبة العلم، إلى جانب توفير الدعم للغرباء، السائلين، والمرضى. لم يقتصر دور الوقف على الخدمات الاجتماعية، بل امتد ليشمل دعم التعليم، واستقبال الضيوف، وصيانة الحصون والأسوار. يعكس هذا الدور الاجتماعي للوقف وعيًا عميقًا بأهمية التضامن والتعاضد. تتجلى هذه الأهمية في كمية الوثائق الوقفية والنصوص التاريخية التي تسجل مختلف أوجه الوقف وأغراضه.
مع دخول عمان عصر النهضة بعد 1970م، بدأت ثقافة الوقف تتراجع تدريجيًا. لم يعد الناس يحرصون على الوقف كما كان أسلافهم يفعلون. في المقابل، ظهرت مفاهيم جديدة للتضامن الاجتماعي، تمثلت في تأسيس الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي لعبت دورًا مهمًا في تقديم الدعم والمساعدة للمحتاجين.
ملامح الشخصية العمانية
قدم الشيخ نور الدين السالمي وصفًا دقيقًا للشخصية العمانية في خطابه للقنصل البريطاني عام 1913م، حيث قال: «لا تظن دولتكم أن أهل عمان قوم أغبياء جهلاء أعراب لا يعرفون قانونًا ولا يحسنون عبارة، فإنهم قوم أذكياء، حلبوا الدهر شطره، وذاقوا حلوه ومره، وعرفوا دواعي الرقي والعمران، وسياسات الدول وغوايلها». هذا التوصيف يعكس مدى وعي العمانيين وفهمهم لمجريات الأمور من حولهم، وهي صفات لاحظها أيضًا الضابط البريطاني في البحرية ريموند ولستد، الذي قال في عام 1835م: «اعتاد أهل عمان على الاستغناء عن الأمم الأخرى، فهم فخورون بأنسابهم، وبأرضهم، وبالحرية التي يعيشونها». كما يتجلى هذا الاعتداد بالنفس في المثل الشعبي: «قحمة في سيح ولا منة من شيخ»، الذي يبرز اعتماد العمانيين على أنفسهم واعتزازهم بكرامتهم.
هذا الاعتزاز بالنفس يظهر أيضًا في وصف الأزكوي، صاحب كتاب كشف الغمة، الذي قال: «وهكذا طبع أهل عمان... لهم الهمم العالية، والنفوس الأبية، لا ينقادون لسلطان، ولا يقرون على هوان»، مما يوضح ميلهم للدفاع عن حقوقهم بشراسة. هذه الصلابة لم تمنعهم من الانفتاح على الوافدين والتعامل معهم بكرم واحترام. في هذا الإطار، وصف ناصر بن سالم البوسعيدي أهل عمان قائلا: «وأهلها -عمان- أهل قناعة عن غيرهم، يحبون الغريب على سائرهم، ويحسنون إليه ويحبون جيرته»، مما يعكس طبيعتهم المتسامحة وقدرتهم على التعايش مع الآخر.
وللمرأة العمانية دور محوري في المجتمع بمختلف جوانب الحياة. تقول موسوعة لاورس الفرنسية (1870م): «العمانيات يعشن مع الرجال على قدم المساواة، وهو أمر غير موجود في أي مكان آخر...». وقد برزت شخصيات نسائية مثل عائشة بنت راشد الريامية في عهد اليعاربة، وموزة بنت الإمام أحمد، وجوخة بنت محمد بن الإمام أحمد، حيث لم تكن هؤلاء النساء مجرد رموز اجتماعية، بل لعبن أدوارًا حقيقية في صنع القرار، مما يؤكد مكانة المرأة العمانية كشريك أساسي في بناء المجتمع.الهجرات الداخلية والخارجية
الموقع الجغرافي لعمان، الذي يطل على المحيط الهندي ويقع عند تقاطع طرق التجارة البحرية القديمة، كان له أثر عميق في تشكيل شخصية الإنسان العماني. هذا الموقع المميز جعل العمانيين روادًا للآفاق، حيث جابوا البحار وعبروا القفار، واستقروا في بلدان مختلفة. وبالرغم من أن الهجرة جزء طبيعي من حركة المجتمعات، فإنها لعبت دورًا محوريًا في تشكيل النسيج الاجتماعي العماني، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
كانت الهجرات الداخلية مستمرة في عمان لأسباب اجتماعية واقتصادية. تنقلت الأسر من الصحراء إلى القرى والبلدان، لا سيما في مواسم القيظ، حيث تتوفر الواحات والموارد المائية والزراعية. كما شهدت عمان حركة تنقل من الداخل إلى المناطق الساحلية بهدف التجارة وتبادل السلع. ساهمت هذه الأنماط من الهجرة في تعزيز التواصل بين مختلف مناطق عمان وإيجاد روابط اجتماعية واقتصادية قوية. ويصف ابن رزيق أحد أسباب هذه الهجرات الداخلية خلال فترة المحل قائلا: «ولما استولى حمد على عمان اشتد المحل... وهرب من المحل أكثر أهل عمان إلى أرض الباطنة ومسقط». يظهر هذا كيف دفعت الأزمات البيئية والاقتصادية العمانيين إلى التنقل بحثًا عن فرص أفضل. ومع تحسن الظروف المناخية والاقتصادية، عاد كثيرون إلى مواطنهم الأصلية، حيث يصف ابن رزيق عودة الخصب قائلا: «لاحت سحابة في السماء... وعمّ الخصب عمان ورجع أكثر من نفي من أهلها إليها».
أما الهجرات الخارجية فقد بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر وحتى العقد السابع من القرن العشرين. كان الاتجاه الأساسي نحو شرق إفريقيا، خاصة بعد أن أصبحت زنجبار تحت السيادة العمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان. أدى هذا الارتباط السياسي إلى انتقال عدد كبير من العمانيين إلى شرق إفريقيا، حيث أثروا في الحياة الاجتماعية والثقافية هناك، وما زال هذا التأثير واضحًا حتى اليوم. ولم تكن هذه الهجرات دائمًا مدفوعة برغبة سياسية فقط، بل كانت أيضًا نتيجة لضيق الأحوال الاقتصادية. يروي محمد بن شامس البطاشي في كتابه إتحاف الأعيان أن السلطان ثويني بن سعيد لم يرحب بهجرة مجموعة من العمانيين إلى شرق إفريقيا عندما أجبرهم القحط على ذلك، واقترح عليهم بدلا من ذلك الاستقرار في ولاية السيب ومنحهم أراضي للزراعة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، دفع ضيق المعيشة بعض العمانيين إلى الهجرة نحو الهند بحثًا عن الرزق. ومع اكتشاف النفط في دول الخليج، خرجت أعداد كبيرة من العمانيين للعمل في تلك البلدان. أحدثت هذه الهجرة تغيرات في النسيج الاجتماعي. ومع تسلم السلطان قابوس بن سعيد الحكم في عام 1970م، دعا هؤلاء العمانيين إلى العودة للمساهمة في بناء وطنهم.
ونختم هذا المقال بالنص التالي الذي يختصر التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي حدث بعد تولي جلالة السلطان قابوس الحكم عام 1970. يقول النص، كما ورد في إحدى المخطوطات وكاتبه من المعاصرين للتحول الذي طرأ على عمان: «وهذا السلطان قابوس دانت له قبائل عمان جميعهم، من منطقة مسندم وهرمز إلى جزيرة مصيرة، إلى ظفار ومتعلقاتها، فأوسع الناس عطاءً وعفوًا، وعاد كل عماني من الخارج، ودرت خيرات عمان من ثمار ونفط ومعادن، حتى فاضت البيضاء والصفراء».